الشيخ منير الغضبان رحمه الله وحركة مجتمع السلم

اللهم إنه عاش مع نبيك في الدنيا فاجعله معه في الآخرة

تعرفنا في حركة مجتمع السلم على علماء ودعاة كثر ولكن الشيخ منير الغضبان لم يكن عالما نعرفه ويزورنا ونزوره ويحبنا ونحبه فحسب. لقد كان الشيخ الفاضل والأستاذ الكبير منير الغضبان واحدا منا، نسر له بأحزاننا، ونشركه في أفراحنا، نستنصحه في ما يطرأ لنا من مسائل صعبة ونوازل معقدة، نأخذ منه المنهج مشافهة، ونتعلم منه العلم بالحدث. أظهر ميله للحركة أثناء محنتها بعد وفاة الشيخ محفوظ نحناح مبكرا، فانحاز للحق الذي رآه فينا، لم يؤثر فيه القيل والقال، ولم تكبر في عينه الأخطاء التي كانت من جانبنا، نظر للأحداث نظرة العالم المتبصر الذي يحكم على أصل القضية ولا ينظر لسفاسفها وتفريعاتها المختلقة، نظرة العالم المتجرد الذي ليس له مصلحة سوى إرجاع الأمور لنصابها، فنافح عنا ودافع عن مؤسساتنا وصدع بالحق في داخل الجزائر وخارجها.

فتحنا له المجال واسعا في حركتنا فكان نعم العالم المعلم للرجال والنساء وللساسة والدعاة، كانت دروسه صنفا آخر من العلم. يجعلك تسمع حدث السيرة النبوية، وقد علمت به من قبل، فكأنك لأول مرة تسمع به. يدقق في التواريخ والأسماء والأماكن والأحداث، يحفظها حفظا، فيعبرها لكل واحد وفق حاجته. إذا تحدث مع الشباب وكأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج خاص لتأهيل الشباب.  إذا خاطب المرأة وكأنه يروي قصة أكبر ملحمة نسوية تحررية لتكريم المرأة في التاريخ.  إذا تناول شأن السياسة أخرج لك من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم  ما يعينك على فهم ما أشكل في أمرها في زمننا الراهن. إذا تحدث عن رحمة الحبيب في دعوة الخلق للحق وحرصه على نجاة الناس أشعرك بالعجز والتقصير وفتح لك آفاقا جديدة للعمل في سبيل الله لم تكن في الحسبان. إذا تناول جهاد العدنان وكفاحه ضد الكفار والمنافقين والمشركين أثار في نفسك حماسة متوثبة تجدد فيك العزيمة بعمق وهدوء.

كان رحمه الله عالما ليس مثله أحد من علماء السيرة النبوية، سخر حياته كلها للعيش مع خير خلق الله كلهم أجمعين، فترك موسوعة كبيرة لا يمكن إحصاؤها في هذا المقال، أنعم علي رحمه الله بأن أهداني مجلدات كثيرة منها أثناء زيارتي له في بيته في مكة المكرمة، وجاءني ببعض منها  حين زارني في بيتي في الجزائر. وكان رحمة يشكو من عدم تمكنه من المرور في الفضائيات للتضييق الحاصل له والمتابعات التي لم تتوقف ضده باعتباره، إلى جانب اهتمامه بالعلم، كان مكافحا ومجاهدا ومناضلا ضد الدكتاتوريات، خصوصا في بلده سوريا منذ عقود من الزمن.  وقد قمت بالاتصال بالدكتور طارق السويدان ليساهم في رفع الحصار عنه فبذل ما يستطيع ودعاه للمشاركة في حصص في قناة الرسالة حين كان مديرا لها، كما أنني أشرفت مع مؤسسة إنتاج جزائرية على تسجيل عشرين حلقة في ” المنهج السياسي للسيرة النبوية” لا يزال تحت الإعداد ولم يبث في أي قناة حتى الآن، وقد تكون هذه الحلقات هي هديتنا للجمهور بمناسبة وفاته في شهر رمضان المقبل إذا يسر الله ذلك.

لقد كانت لي علاقة شخصية متميزة مع العالم الجليل رحمه الله، تعرفت عليه أول مرة في أمريكا سنة 1998 في زيارة لها مع الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله للمشاركة في مؤتمر للجاليات المسلمة. ثم جمعنا الله في عضوية بعض المؤسسات الإسلامية العالمية، ثم صار ضيفا اعتياديا للحركة في جامعاتها الصيفية والملتقيات السنوية للشيخ محفوظ نحناح وبعض الدورات الخاصة في السيرة النوبية. وكان أكبر مشروع تعلق به من مشاريعنا مشروع أكاديمية جيل الترجيح الشبابية، فتحول لشدة ارتباطه بها مستشارا خاصا لها فأثر في منهجها، منح تأصيلا شرعيا لاسمها ” جيل الترجيح” بذكره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” عن ابن عمر قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: “رأيت آنفا كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد فهي المفاتيح فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجحت لهم ثم جيء بأبي بكر فرجع بهم ثم جيء بعمر فرجح بهم ثم جيء بعثمان فرجح ثم رفعت فقال له رجل فأين نحن قال أنتم حيث جعلتم أنفسكم” فأصبح شعار الشباب منذ يومئذ أن عليهم أن يتنافسوا ليجعلوا أنفسهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان فيصبحوا مرجحين في الأمة.

ثم زاد الأكاديمية فضلا فاقترح كتابه المختصر في السيرة النبوية: ” كتاب الأربعين في سيرة سيد المرسلين” ليكون ضمن مقرر العلوم والمعارف في الأكاديمية فكان ذلك وقد تم تناوله كاملا في ثلاث دفعات متتاليات من شباب الأكاديمية بفضل الله، وبقي رحمه الله متعاطفا ومتفاعلا مع هذا المشروع يسأل عنه ويمده بالدعاء والنصائح، وكان يتمنى أن تكون ابنته ضمن هؤلاء الشباب وطلب مني ذات مرة أن أقترح لكل الحركات الإسلامية في الأقطار الإسلامية أن يعتمدوا هذا المشروع الشبابي لما رأى فيه من فائدة وحسن تخطيط وتنظيم وتنوع وفاعلية وواقعية، فقلت له كلاما لم يعجبه بأننا لا يمكن أن نقترح هذا العمل ما لم يحقق نجاحا بينا واضحا في بلادنا، لأن النجاح هو الذي يأخذه الناس ويتأسوا به وليست المشاريع النظرية، ونحن نأمل أن تنال الحركة كلها من بركات هذا الرجل الرباني العالم المجاهد، ولا نزكي على الله أحدا، لحبنا له واستفادتنا منه.

اللهم إنه عاش مع نبيك في الدنيا فاجعله معه في الآخرة.

عبد الرزاق مقري