أرشيف التصنيف: الجزائر

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (7)

أولا – الرد على الشبهات

6 – شبهة: المطلوب جمع المال فقط

يتذرع  بعض النشطاء في القضية الفلسطينية بأهمية بذل المال لها لتسفيه المناشط الأخرى والإقلال من شأنها، وهو تصرف خاطئ ومضر ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية، والمبالغة في هذا الحديث والإصرار عليه يدخل ضمن  سلوكيات التثبيط والخذلان، بقصد أو بغير قصد،  وسنعود لاحقا لشرح مختلف الأسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك.

لا شك أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم الطاعات والقربات، فالزكاة ركن من أركان الدين، و”الصدقة تمحو الخطايا والسئيات كما يطفئ الماء النار” كما جاء في الحديث الصحيح، وهي بركة في الصحة والرزق وتدفع عن صاحبها أنواعا كثيرة من البلاء في الدنيا وفق ما جاء في العديد من النصوص، والحضارة الإسلامية إنما بنيت أساسا بأموال أوقاف المحسنين  في كل المجالات، ومن أعظم أنواع الصدقات “ج” في سبيل الله بالمال، فهو قرين “ج” بالنفس في القرآن الكريم بل مقدم عليه في أغلب الآيات،  ومن ذلك قوله تعالى في سورة التوبة الآية 41:  (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). وفي الآية 20: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). وقد فسر العلماء سبب ذلك في الكثير من التفاسير ومن ذلك ما بينه الألوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة، فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).

ولا فرق في “ج” بالمال بين من غزا ومن جهز غازيا ومن دعم أهله، وقد بيّن رسول الله ذلك في هذا الحديث الصحيح العظيم:  (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا). وعلى هذا كان قادة الثورة التحريرية يعّون الإنفاق على الحاضنة الاجتماعية المساندة لهم التي تلحق بها  الأضرار الكبيرة في الأرياف أهم من الإنفاق على من هم في الجبال (وكلاهما كان مطلوبا)، وعليه نؤكد بلا مواربة بأن الإنفاق على أهل غزة من أقدس الأعمال الصالحة في هذه المرحلة.

غير أن الشريعة الإسلامية لا تخضع لفهومنا الخاطئة مهما كانت نوايانا جيدة، كما لا تحكمها مرامينا السطحية أو أهواؤنا أو إكراهاتنا الشخصية وحبنا للعمل السهل الذي لا مخاطر فيه، فلا تُحدد الأولويات إلا بفهم مقاصدها، ولا ينتفع بها إلا من يفهم مرونتها.

إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء الم”قا&وم’ة  هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت “م” أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين  والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية أما  السفارات الصهيونية والأمريكية والمصرية في العالم، وبتحريك الرأي العام بالعمل الإعلامي والسياسي وتعظيم أعداد المحتجين في الشوارع بالحد الذي تشغل فيه غزة العالم والناس جميعا أكثر من أي قضية أخرى.

لقد بين الإمام الكبير يوسف القرضاوي بأن فقه الأولويات مرتبط ب “فقه مقاصد الشريعة” فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدَف الشرع إلى تحقيقها. فلا يصح في العقل ولا في الشرع ولا في أي عرف أن يكون للتحسيني الأولوية على الحاجي، ولا للحاجي على الضروري. بل للضروريات بكلياتها الأولوية المطلقة على الحاجيات والتحسينيات”

إن نجدة  الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم  واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)

فالمواد الإغاثية من مختلف جهات العالم مكدسة في معبر رفح، ولكن أكثرها ممنوع من الدخول إلى غزة بسبب الحصار، وما يدخل منها لا يسمن ولا يغني من جوع، فالأولى اذن هو العمل على كسر الحصار. وحينما نقول الأولى لا يعني هذا التوقف عن جمع المال والمساعدات، بل وجوبها يظل قائما في كل وقت، وإنما ما يجب بذل المال والوقت والجهد  فيه أكثر هو  كسر الحصار وتوعية الناس بالمآسي التي يتسبب فيها، وتوجيه الجماهير للاحتجاج في الشوارع لرفع معنويات المظلومين والضغط على  الظالمين من الأمريكان وعملائهم وعبيدهم من بلادنا العربية والإسلامية. 

في ذكرى وفاة الشيخ محفوظ، الفصل الخامس من إصدار: “بين المصلحة الوطنية المصلحة الحزبية”

الفصل الخامس: التحليل والخلاصات

هذا الفصل لم يكن ضمن البحث الذي تم تقديمه في ملتقى الشيخ محفوظ رحمه الله في إسطنبول عام 2022  في ذكرى وفاته التاسعة عشرة، ولكنه أضيف قبل الطباعة والنشر في عام 2025  في الذكرى الثانية والعشرين لوفاته رحمه الله لمزيد من الفائدة، وهذه الإضافة هي اختصار للمعلومات التاريخية الواردة في البحث، التي لا تتغير، مع تحليل للمعطيات من زاوية نظر جديدة بعد نهاية عهدتي في هياكل الحركة، وهي أضافة معروضة للنقاش والإثراء.   

حاولت في هذا البحث أن أقترب من فهم علاقة المصلحة الوطنية بالمصلحة الحزبية، مستصحبا تجربة الشيخ محفوظ نحناح وحركة مجتمع السلم بهذا الصدد. 

ألزمني المطلب العلمي أن أضع أولا إطارا تعريفيا لمعنى الحزب والمصلحة الحزبية، ومعنى المصلحة الوطنية وسياقاتها الفكرية والفلسفية. 

فتطرقت إلى مفهوم الحزب في السياق القرآني، وكيف أنه يتناول عبارة الحزب في سياق سلبي كقوله تعالى في سورة المجادلة: (( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ـ 19)) وفي سياق إيجابي كقوله سبحانه في سورة المجادلة: (( أؤلئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون ـ 22))، ثم شرحت أن الحزب هو تنظيم بشري يتحزب فيه أفراده ليقوّي بعضهم بعضا وليتعاونوا على غاية ما، فيكون الحزب صالحا إذا كانت الغاية صالحة، ويكون فاسدا إذا كانت الغاية فاسدة. 

ولا نجد في تراثنا الإسلامي تأصيلا لمفهوم الحزب والتحزب أفضل مما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية (11/92)، فقد بين بكلام شاف كاف بأن الحزب وسيلة لفعل الخير ، ولكن لا يكون أبدا هو الشاهد على الحق أو القائم على الباطل لمجرد وجوده، فالحق يبقى حقا  وهو الشاهد على الحزب والباطل يبقى باطلا بمعزل عن الحزب، ولا تكون موالاة المتحزبين لبعضهم بعضا بالحق والباطل مراعاة للحزب، ولكن يحكم علاقاتهم مراعاة الحق والباطل،  فإن كان الحب والبغض في الحزب وليس في الحق أو الباطل فإن في ذلك انحراف بيّن عن الشريعة الإسلامية. 

ويحسن بنا مراجعة النص كما ورد في الفتاوى، يقول ابن تيمية: (أما لفظ (الزعيم) ؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وأنا بِهِ زَعيمٌ} ، فمن تكفل بأمر طائفة، فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك. وأما ((رأس الحزب))، فإنه رأس الطائفة التى تتحزب، أي: تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل ، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)

بعد ذلك عملنا على تعريف الحزب في المنظمات الدولية والقوانين الحكومية، وتبيين الأسس التي يقوم عليها الحزب، بما يميزه عن غيره من الأحزاب، من حيث الرؤية والبرامج والهياكل والحاضنة الاجتماعية، والوسائل التي يستعملها، والأدوار التي يقوم بها حين يكون في السلطة لخدمة المواطنين من خلال البرامج الحكومية، وأدواره حين يكون في المعارضة للتعبير عن أشواق ورغبات الشعب ومراقبة الشأن العام والضغط على السلطات للاستجابة لمطالبه. 

وبيّنا أوجه الاعتداء على الحزب، في وجوده وحقوقه المختلفة، وحقوق أعضائه،  وأساليب التضييق عليه بما يفقد مصالحه الحزبية فيؤثر ذلك عن المصلحة الوطنية. 

وفي تحديد مفهوم المصلحة الوطنية – ضمن الإطار التعريفي –  اتضح  أن هذا المصطلح لا معنى له في الدول الديمقراطية حين يتعلق بالنقاش السياسي الداخلي إذ لا يوجد فيها مجالٌ يُمنع بخصوصه النقاش السياسي، ولا سقفٌ لمعارضة السلطات الحاكمة، ولا حصانة من النقد لأي مؤسسة سيادية أو حاكم ولو كان رأس الدولة، سوى ما يتعلق أحيانا ببعض الإجراءات التي تُتخذ في ظروف أمنية استثنائية، أو في زمن الحروب،  ضمن ما يسمى ب”la raison d’état” التي تُترجم ب”المصلحة العليا للدولة” أو “مبررات الدولة” وهي إجراءات تتعلق أكثر بالسياسة الخارجية ونادرا ما تُتداول في الدول الديمقراطية في نقاش السياسات الداخلية. 

إنما تستعمل كلمة المصلحة الوطنية في النقاش الداخلي بشكل مبالغ فيه في البلاد غير الديمقراطية، وخصوصا الدول العربية، لتحصين النظام السياسي ورموزه وليس الدولة والبلد، في مواجهة نقد المعارضة، وإرباك هذه الأخيرة وتعقيدها. 

فهي عبارة استُعملت منذ نشأتها في عصر النهضة في أوربا في الإطار الخارجي في مواجهة الدول الأخرى، وتطورت من خلال كتابات العديد من الفلاسفة الغربيين الذين أسّسوا للمذهب الواقعي أمثال ميكيافيلي، وتوماس هوبس، وهانس مورغانتو وغيرهم. وقد اعتمد الملوك والأمراء الأوربيون هذا الاتجاه للتحلل من الأبعاد الدينية والأخلاقية في العلاقات الدولية، في الحروب بينهم وأثناء حركة الاستعمار وشن الحروب على الأمم الأخرى، كما استُعمل مفهوم ” المصلحة الوطنية” لتجاوز حدود المذاهب والاتجاهات الدينية المسيحية ابتداء من رئيس الوزراء الفرنسي أرمان دي ريشليو الكاثوليكي الذي تحالف مع بريطانيا البروتستانتية ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة الكاثوليكية في حروب الثلاثين سنة في القرن السادس عشر. ثم أصبح “المذهب الواقعي”  هو المذهب المهيمن والسائد في السياسة الخارجية الغربية، خصوصا في الولايات الأمريكية المتحدة، وخلت السياسة الدولية عن أي بعد أخلاقي بذلك في الزمن الراهن.

وفي الفصل الثاني المتعلق بالعلاقة بين المصلحة الشرعية والمصلحة الوطنية بيّن البحث أنه لا يجب ترك تحديد المصلحة الوطنية لأهواء الحكام ومصالحهم الشخصية، وإنما تُحدد المصلحة الوطنية بأمرين اثنين أولهما هدي الشريعة الإسلامية وما فيها من كنوز في دراسات “المصلحة الشرعية”، وثانيها بالتشاور والاتفاق الجماعي. 

أما “المصلحة الشرعية” فقد كتب فيها علماء الأمة، بشمول ودقة، أكثر بكثير مما كتبه الفلاسفة الغربيون في تحديد مفهوم “المصلحة العامة” منذ وقت مبكر في تاريخ التشريع الإسلامي إلى يومنا هذا. 

فقد اتفق علماء الأمة، كالغزالي وابن تيمية وابن قيم وغيرهم على أن ” مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكليفها، وتقليل المفاسد وتقليلها”  

وقسّموا المصلحة في الشريعة الإسلامية عدة أقسام للموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض، ومن ذلك تقسيم المصلحة من حيث اعتبار الشرع إلى مصلحة معتبرة شرعا ومصلحة ملغاة شرعا، ومصلحة مرسلة لا معتبرة ولا ملغاة، يُنظر إليها بمدى تحقيق مقصود الشارع، ومن حيث قوتها وأهميتها، وفق ما عرّفها الشاطبي،  إلى مصلحة ضرورية “لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، أو مصلحة حاجية “تحتاجها الأمة لانتظام أمورها على وجه أحسن للتوسعة ورفع الضيق، أو مصلحة تحسينية من قبيل التحسين والتزيين وهي ما كان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر في مرمى بقية الأمم، ومن حيث الشمول إلى مصلحة عامة تتعلق بجماعات في الأمة، كمصلحة فئة معينة أو أصحاب حرفة ما، أو مصلحة خاصة لشخص بعينه، كما يضيفه الطاهر بن عاشور في تعريفاته.

أما عن التشاور والاتفاق، فهو ما حددته الديمقراطية العصرية عبر مفهوم “العقد الاجتماعي” الذي يحدد الواجبات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم و”دولة القانون” التي يشرع فيها ممثلو الشعب، المنتخبون بحرية ونزاهة، ويعيش فيها الناس تحت سلطة القانون، حاكمهم ومحكومهم. 

وقد شدد الشيخ محفوظ نحناح على ذلك كثيرا حينما رأى التعسف الكبير الذي أبانت عليه السلطات الجزائرية في استعمال عبارة ” المصلحة الوطنية” فأطلق عبارة ” المصلحة الوطنية المتفق عليها”، مؤكدا بأن لا التزام بين الحاكم والمحكوم إلا بالمصلحة الوطنية المتفق عليها.

ثم انتهى البحث في هذا المحور إلى وضع معايير أساسية لتحديد “المصلحة الوطنية”  فذكر ، من جهة، ما يدخل فيها ولا يصح الاختلاف بشأنه، كالقضايا التي تتعلق بهوية البلد وثقافته، وبمصالحه الاقتصادية ذات النفع العام على البلاد والعباد، وما يتصل بأمن البلد وأمن السكان، وبالاستقرار الاجتماعي ووحدة البلد،  وما يضمن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية، وما يحمي الدولة و يحقق سلامة مؤسساتها، وما يمنع الفساد وكل أنواع الضرر والغش ومصادرة الإرادة الشعبية، وما يتعلق بصيانة السيادة الوطنية ومنع الخيانة والتبعية. وبيّن، من جهة أخرى، ما لا يدخل في المصلحة الوطنية، مما يُتحمل الاختلاف بشأنه، كالسياسات والقرارات والقوانين والبرامج الحكومية، وشخصية الحاكم وتصرفاته، في أي موقع كان، على المستوى المحلي أو المركزي، وما يتعلق بالتصرفات المهددة للمصالح الوطنية المذكورة أعلاه التي قد يتخذها الحكام، وما يتصل بالعلاقات العادية الداخلية والخارجية التي يقوم بها الأفراد والجماعات التي لا تهدد المصالح الوطنية المذكورة.  

في الفصل الثالث حرص البحث على التأكيد بأن المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية، وكما هي كل حقيقة قد يكون لها استثناء لا يقاس عليه. 

فما دام دور الحزب هو السعي للوصول إلى السلطة، وما دامت غاية السلطة هي تحقيق مصلحة البلاد والعباد، فإن الحزب هو من يجسد ذلك من خلال برنامجه وعمل أفراده الذين يختارهم الشعب لذلك، فالمصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية متداخلتان على هذا الأساس. 

وما يجعل عمل الحزب ينتهي إلى تحقيق المصلحة الوطنية هو ذلك التدافع الذي تؤطره الديمقراطية لكي يكون حضاريا ويضمن تداولا سلميا حقيقيا على السلطة، فإن غاب التدافع حلّ الاستبداد والفساد، حتى وإن وُجدت التعددية الحزبية كما هو حاصل في ديمقراطيات الواجهة. 

وبالرغم من أنه يصعب تصور وجود الديمقراطية في أنظمة الحزب الواحد فإن حزبا واحدا بداخله رقابةٌ على الشأن العام وتدافعٌ حقيقيٌّ حول الأفكار والبرامج والمصالح وتداولٌ فعليٌّ  أفضل من تعددية حزبية دون تدافع ودون رقابة على الشأن العام. ولهذا قد تفُضَّل أحاديةُ الحزب الواحد الصيني بواقع التدافع الحقيقي الحاصل فيه عن التعددية الحزبية الصورية في العالم العربي، التي تحكمها قوى فاعلة من خلف المشهد السياسي لا أحد يستطيع أن يسائلها.   

تؤدي الأحزاب أدوارا مفيدة جدا للأوطان من حيث استيعابها للخلافات وتوجيهها وجهة قانونية إيجابية، ومن حيث تمكينها للمواطنين من المشاركة في الشأن العام ونفع بلدهم بكفاءاتهم، ومن حيث تأهيل النخب وتدريبهم وتكوينهم بالمعارف والتجارب، وتفتيق قدراتهم بالفرص التي تتاح لهم، وصقل شخصيتهم بالقيام بالواجب وتحمل المسؤوليات، ومن حيث التوعية الشعبية ورفع مستوى الجماهير عبر الخطاب السياسي والتنافس على البرامج بين الموالاة والمعارضة، وشرح قرارات ومنجزات الحكومة أو كشف أخطائها وعيوبها وحالات الفساد. 

كما تؤدي الأحزاب أدوار الوساطة بين السكان والحكام، للاستفادة من الخدمات الحكومية ولحل الأزمات وتقريب وجهات النظر بما يحدد المشترك الوطني والتعارف والتفاهم، وأدوار الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية البرلمانية للدفاع عن البلد وبما يحقق مصالحه ويعرّف الغير به وبالفرص المتوفرة فيه في مجالات الاستثمار والتعاون الدولي وما يتصل بذلك. 

ومن أهم ما تقوم به الأحزاب دورها في رسم السياسات الحكومية وتوجيه القرارات الرسمية سواء ما تقوم به أحزاب الأغلبية بشكل مباشر، أو ما تقوم به أحزاب المعارضة بشكل غير مباشر عبر فرص التشريع البرلماني وأدوات الرقابة، ومن خلال وسائل الضغط الشعبي والإعلامي المختلفة، بما يجعل الأغلبية تحاول سحب البساط من منافسيها بتبني المطالب الممكنة. 

ويسجل التاريخ أن كثيرا من الأوطان نهضت بعزمات قيادات سياسية وحزبية نذرت نفسها لرقي بلدانها فكبرت بلدانها وكبرت هي معها. 

ومما يجدر التنبيه إليه أنه قد يحدث تعارضٌ بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية، فإن قدمت القيادات الحزبية في هذه الحالة المصلحة الوطنية تكون قد خدمت مصلحة حزبها، لما تمنحه إياه من مصداقية وسمعة طيبة سيستفيد منها لاحقا. 

غير أن هذا التعارض تعارض استثنائي، يحدث بشكل نادر في زمن الأزمات والحروب. فإذا طُلب في بلدٍ ما من الأحزاب أن تظل تقدم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، فالمشكلة في من يقود الوطن لا في من يقود الأحزاب، لأن استمرار أزمات الوطن دليل على فساد أو عدم أهلية من يقود الوطن، وتصبح المصلحة الوطنية في هذه الحالة منوطة بتغيير من يقود الوطن، وليس في إرهاق الأحزاب بالتخلي الدائم عن طموحاتها.    

وفي الفصل الرابع والأخير ، ركّز البحث على شخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، فذكر بنشأته وركائز بناء شخصيته، ومساهماته الدعوية، وسبقه في العمل السياسي، ومعارضة النظام السياسي الأحاديّ ونهجه الاشتراكي، معارضة صارمة أدت إلى سجنه، وعن مرحلة الثمانينات بعد خروجه من السجن وما تميز به في نهجه الدعوي ومنهجه السياسي المرن والمعتدل المتوائم مع الانفتاح السياسي في عهد الشاذلي بن جديد. 

ثم تم التطرق الى مرحلة التعددية وما صاحبها من استقطاب شديد، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، ومحاولاته، رحمه الله، رأب الصدع بالحوار عبر المبادرات العديدة التي أطلقها في اتجاه الأحزاب بكل توجهاتها والسلطة الحاكمة بكل تناقضاتها، من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وكيف أنه صار مقتنعا بضرورة العودة إلى مسار انتخابي جديد يفصل فيه الشعب في الأمر، خصوصا بعد فشل مبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، وفشل مبادرة الندوة الوطنية التي نظمها النظام السياسي، اللذين شارك فيهما مع ممثلين حزبه ثم انسحب منهما كلاهما لعدم توفر  إرادة اجتماع طرفي الأزمة. 

لقد دفع استحكام الأزمة الأمنية  الشيخ محفوظ إلى تغيير أولياته، بتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، وتأجيل طموحه الشخصي والحزبي إلى ما بعد الأزمة، فتبنى مقاربة المشاركة السياسية والدخول في مؤسسات الدولة، ابتداء من المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 1995 ومختلف الانتخابات  التشريعية والمحلية وفي  العديد من الحكومات، وذلك للمساهمة في وقف سيل الدماء وتحقيق الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، وبلور في هذا الإطار مقاربة التفريق بين النظام السياسي الذي يمكن معارضته عند الاقتضاء والدولة التي يجب صيانتها في كل الأحوال. 

وكان ثمة في هذا السلوك السياسي شيء من المصلحة الحزبية كذلك، من زاوية أنه كان يقصد رحمه الله  من المشاركة السياسية  المحافظة  على بقاء حزبه في الساحة، ولتجاوز مكائد  التيار العلماني الاستئصالي الذي استغل فرصة الأوضاع الأمنية للتحكم في دواليب الحكم، والمحافظة على مناضليه من التهديدات التي كانت تحيط بهم من جهات متعددة،   وصيانة الفرص المستقبلية لمشروع حزبه، وكذا تدرب مناضليه على تسيير الشأن العام ومحاولة التأثير من داخل مؤسسات الدولة. 

غير أن هذا النهج حورب من طرفي الصراع فقتل الإرهاب قرابة 400 فرد على رأسهم نائب الشيخ محفوظ ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله، واستُحكمت سياسات الإقصاء من قبل النظام السياسي عبر مسار التزوير المستدام، وإقصاء إطارات الحركة لأسباب سياسية، ومحاولة التضييق على وجود الحركة في المجتمع المدني ومختلف مكامن القوة في الدولة والمجتمع. 

لقد فاجأ الاحتفاء الشعبي الكبير الذي تمتع به الشيخ محفوظ رحمه الله في الانتخابات الرئاسية عام 1995 النظام السياسي الجزائري، فعمد إلى استعمال العنف في صناديق الاقتراع لتغيير النتيجة، ثم غيّر الدستور في العام الموالي لإخراجه رحمه الله من العمل السياسي وإضعاف فاعلية حزبه. 

لم تشفع  لدى النظام السياسي نفسية العفو التي تعامل بها رحمه الله، وصبره الطويل على التزوير المستدام في كل الاستحقاقات الانتخابية، وعدم اعتماده سبيل التهييج الجماهيري، وبحثه الدائم عن تطمين السلطات حتى تتقبله هو ومناضلي حركته وتسمح لهم بهوامش في المشاركة السياسية تتناسب مع حجمه الشعبي الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية عام 1995 بما يمكنه من المساهمة في تجسيد مطلب المصالحة الوطنية، ونهضة البلد. 

وفي الأخير أدرك عليه رحمة الله أن النظام السياسي القائم ليس شريكا يُعتدُّ به في العمل السياسي الوطني المشترك، ونظر إلى منعه من التشرح في الانتخابات الرئاسية عام 1999 أنه محاولة خبيثة لاغتياله سياسيا، ليس لمصلحة الوطن ومصلحة الدولة كما كان يتشدق به بعض المسؤولين في تبرير مسار التزوير، ولكن لمصلحة شخوص الحكام والمسؤولين، ولمصلحة تيارات علمانية منها من يشتغل لصالح الأجانب. ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فأنهت حياته السياسية رحمه الله إذ انتقم أصحاب القرار من إصراره على الترشح بما جعل إقصاءهم الظالم خادشا لشرعية انتخاب عبد العزيز بوتفليقة في عهدته الأولى خدشا لم يتقبله هذا الأخير أبدا، وقد تمثل الانتقام في طرائق عدة منها زحزحة الحركة من المرتبة  الثانية بعد التجمع الوطني الديمقراطي في برلمان 1997 إلى المرتبة  الرابعة بعد حركة الإصلاح الوطني في الانتخابات التشريعية عام 2002، كما كان تراجع الزخم الشعبي الذي ظهر في هذه الانتخابات مؤلماً له كثيرا، رغم رباطة جأشه التي رأيتها فيه شخصيا حين حدثته بعد النتائج عن تفوق حزب الشيخ عبد الله جاب الله فقال لي: (( أحمد الله أن الذي تجاوزنا حزب إسلامي)). 

لقد أثرت هذه الأحداث المؤلمة كثيرا في قناعاته فبدأ يُفكر في الابتعاد التدريجي عن نظام الحكم، ومن دلائل ذلك ما أشهد به أمام الله مما كان يقوله لنا في الجلسات المغفلة عن انحرافات السلطات الحاكمة الخطيرة بما كان لا يسمح حتى في التفكير فيه. ولئن تجاوز الشيخ محفوظ نحناح عن الذين أقصوه عام 1995 وسمح في حقه، فإنه لم يتجاوز عن الذين أقصوه عام 1999 ، وأظهر سخطه عما حدث له كما لم يفعل مع ما حدث له من قبل، وسمعته بنفسي يعبر عن ذلك لبعض المسؤولين الكبار في الدولة، بل إنه أخذ ينظّر لتغيير الخط السياسي من خلال تأليف كتاب تحت عنوان “الدولة وأنماط المعارضة” ومن غرائب ما حصل بعد وفاته اختفاء مسودة هذا الكتاب وتغييبه نهائيا.  

أضرّت كل تلك الأحداث بمعنويات الشيخ محفوظ وبصحته رحمه الله، فلم يصبح بتلك البشاشة والأريحية في التعامل المعروف بها، وصار يتغيب عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني، وفي سنة 2003 توفاه الله رحمه الله رحمة واسعة. 

بعد وفاته ابتليت حركته بالانشغال بنفسها ومعالجة حالة الانشقاقات والخلافات الكبرى التي وقعت فيها،  ومن دلائل صرف الاختلافات عن الحكمة والعقلانية السياسية  شدة الارتباط بالنظام البوتفليقي الذي باتت كل المؤشرات تدل على إفلاسه واستحالة إصلاحه من الداخل، وقد كان الخطأ الفادح الناتج عن ذلك النهج ( الذي لا علاقة له بنهج الشيخ محفوظ) فتح العهد الرئاسية لصالح بوتفليقة عام 2008. 

لم ينفع النهج الذي اتّبعته الحركة المصلحة الوطنية حيث رأينا جميعا المآل الذي وصلت إليه البلاد وكيف سيطرت عصابات خطيرة على القرار، لم يخلصنا من تغوّلها سوى الحراك الشعبي، كما لم ينفع ذلك النهج المصلحة الحزبية حيث عرفت الحركة انشقاقات خطيرة، وتراجعا في الانتشار وفي الرمزية وفي همة وحماس المناضلين،  وضاعت منها مؤسسة الشبيبة والمؤسسة الطلابية وعرفت مؤسستها الاجتماعية هزات وانشقاقات، وتراجعت في الانتخابات التشريعية عام  2012 رغم التكتل الإسلامي الذي أقامته مع حركة الإصلاح والوطني وحركة النهضة، حيث لم يحقق “تكتل الجزائر الخضراء” النتائج المرجوة على شاكلة نتائج التيار الإسلامي في العالم العربي في أجواء الانتفاضات الشعبية. 

لقد رسّخ هذا النهج – المخالف للتوجهات المؤسسة للحركة الإسلامية في الثمانيات-  توالي الأزمات الخارجية والداخلية منذ بداية التسعينيات، وشعور الجميع بأهمية الحماية داخل مؤسسات الدولة،  حتى صار  مكونا جينيا  يتحكم في فكر وتصرفات أغلب إطارات الحركة. وأحسن من عبر عن هذه الحالة عبد الحميد مهري رحمه الله بقوله: ” لما أصبح الجزائري  يشعر  بالطمأنينة عند رؤيته الدبابة في الشارع معنى ذلك أن الأزمة صارت عميقة جدا” وأستطيع أن أقول أن النظام السياسي نجح في تحويل الأزمة لصالحه، كنظام سياسي،  دون أن ينجح في خدمة البلد من حيث الحريات والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتطور العلمي والتكنولوجي، والحضاري بشكل عام.

ولكن استطاع الربيع العربي عام 2011 ، وانهيار منظومات الحكم المستبدة والفاسدة في عدد من الدول العربية، وكذلك التحركات الشعبية في جانفي من نفس السنة بالجزائر أن يهز  تلك القناعات التي ترسخت في الحركة فجعلت عموم المناضلين يشعرون بأنهم في المكان الخاطئ من التاريخ فسارعوا إلى مغادرة الحكومة بعدما تأكد لمجلس الشورى الوطني أن الإصلاحات التي وعد بها بوتفليقة أُفرِغت من محتواها، وفق ما بيّنه البيان الرسمي للحركة، والبيان الجماعي لتكتل الجزائر الخضراء، ووفق التقرير السلبي جدا عن محصلة التحالف الرئاسي، الذي قدمه رئيس الحركة للمؤسسات وحتى للرأي العام آنذاك. ويكفي النقر في محركات البحث الإلكترونية للحصول على هذه النتائج والتقارير. 

عندما وصلت الحركة إلى هذه الخلاصة، خرجت من الحكومة عام 2012، ثم جاء  مؤتمر 2013  فغيّر النهج السياسي واختار القيادة التي تناسب الخط الجديد، وثبّت الرؤية السياسية التي صدّقتها تقارير الفرصة الأخيرة قبيل الخروج من الحكومة، بتأثير من الأحداث الكبرى التي هزّت القناعات هزّا عنيفا،، مثل  الربيع العربي عام 2012 ثم الحراك الشعبي عام 2019. 

شرعت الحركة ابتداء من 2012 – عند قرار الخروج من الحكومة ثم ابتداء من المؤتمر الخامس الذي حمل شعار ” حركة تتجدد وطن ينهض”  – في إعادة النظر في فهم مدلولات العلاقة بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بالتأكيد بأنه لا يمكن للوطن أن ينهض دون أن تتجدد الحركة في رؤاها وخططها وبرامجها ومواقفها وسياساتها وخطابها، ولا يمكن أن تتجدد  الحركة دون صناعة البيئة التي  ينهض بها الوطن، من خلال الضغط على النظام السياسي، عبر  العمل الشعبي والخطاب الإعلامي والرقابة السياسية والبرلمانية، وغير ذلك. 

ومن تلك اللحظة وعلى أساس هذا الشعار شرعت الحركة في إحداث ثورة على مستوى الفكر  والاستراتيجيات  والمقاربات السياسية والدعوية والتنظيمية والتكوينية، عبر إعادة توزيع الوظائف  الفكرية والسياسية، والدعوية والتربويّة، والاجتماعية والمجتمعية، ثم عبر مقاربة المقاومة السياسية في الخط السياسي والتخصص الوظيفي في الخط الاستراتيجي، فحرّكت الساحة السياسية عبر تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي منذ 2015  وكانت هي الطرف الأساسي في تنظيم تجمع المعارضة التاريخي في مازفران، وكان من نتائج ذلك على مستوى المصلحة الحزبية أن الحركة حققت نموا في النتائج الانتخابية عام 2017 واسترجعت الولايات التي ضاع فيها تمثيل الحركة في انتخابات  2012، ولكن دون المأمول بسبب عدم اكتمال الصورة الجديدة للحركة في ذهن الناخبين والعزوف الانتخابي العام الذي تأثرت به نتائج كل الأحزاب من حيث عدد الأصوات، ولكن وقع النمو اللافت بالضِّعف في الانتخابات التشريعية عام 2021 بزيادة 34 مقعدا على انتخابات 2017، وهي النتيجة التي اقتربت بها الحركة لأول مرة من أعلى نتيجة عام 1997 (69 مقعدا) في زمن الشيخ محفوظ في الوقت الذي كانت فيه الحركة موحدة وكان الإقبال الشعبي على الانتخابات كبيرا. وقد فسَّرتُ هذا الاقتراب من النتيجة التي حققها الشيخ محفوظ كرسالة للمناضلين بأن هذا هو النهج الأصلي الذي بدأت به الحركة من منابعها الإسلامية الأولى، والذي حاول الشيخ محفوظ الرجوع إليه قبيل وفاته، كما شرحنا ذلك أعلاه، ولم تسعفه المنية للأسف الشديد لتحقيق ذلك إذ غادر قبل أن يشرح الخريطة وصار كل واحد من أتباعه يفسرها وفق قناعاته وموقعه وطموحاته. 

أما النتائج التي تحققت لفائدة المصلحة الوطنية فهي حالة الوعي التي تشكلت لدى الجزائريين عبر العمل السياسي المشترك والتي فجرت الحراك الشعبي الذي خلّص الجزائريين من المجموعات المافياوية (التي سماها الحراك “العصابة”) التي تسلطت على البلد أثناء العهد البوتفليقي. 

لم تكن النتائج الإيجابية التي حققتها الحركة بعد تغييرها خطابها وخطها السياسي بين 2013-2023   تتعلق بالانتخابات فقط، فقد تميزت بتحسن رمزيتها وارتفاع سمعتها ومعنويات مناضليها، كما تحقق لها استقرار غير مسبوق ونجحت في إنجاز الوحدة الاندماجية مع جبهة التغيير واستمر النقاش حول موضوع الوحدة مع الحركات الإسلامية الأخرى، ونمت هياكلها التنظيمية، واسترجعت مؤسستها الطلابية واستقر وضع مؤسستها الاجتماعية وأسست فضاءات مجتمعية أخرى بثلاث أضعاف غطت وظائف أساسية للحركة كانت متروكة أو ضعيفة، استطاعت أن تنتشر في كامل التراب الوطني وبعضها وصل الى العالمية، وعاد إلى صفوف الحركة أعداد كبيرة من القادة والمناضلين الذين تركوها، بسبب الوحدة أو للعمل في اختصاصات يميلون إليها صارت متوفرة في المؤسسات الجديدة، كما أن الحركة استرجعت مكانتها الدولية وصار  رجالها قادة في منظمات عالمية مرموقة في العديد من المجالات، وباتت في طليعة الداعمين للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي. 

ويبقى السؤال مطروحا، في الأخير، هل هذا التغيير والتطور الإيجابي الذي وقع في الحركة والذي ثمنه بما يفيد الإجماع مؤتمر 2023 هو تغيير عميق نفذ إلى المركّبات الجينية للحركة التي صنعتها الأزمات فجعلتها تنحو تلقائيا نحو دوائر السلطة؟ أم هو مجرد طفرة شديدة التأثير ولكنها عجزت عن النفاذ إلى المركبات الجينية المحصنة في أعماق نفوس وعقول إطارات الحركة، حتى أولئك الذين شاركوا في قيادة الحركة بين 3013-2023؟ وهل سيتلاشى أثر الطفرة بعد مغادرة رئيس الحركة الذي أحدثها وقادها؟ وهل ستعود الحركة عندئذ لأحضان النظام السياسي، وتندمج فيه من جديد، رغم استمرار حالات الفساد والفشل في تحقيق نهضة البلد، ورغم الأدلة الألف بأن التغيير من الداخل ليس ممكنا، خصوصا بعد فشل مفاوضات تشكيل الحكومة التي أبان فيها النظام السياسي بأنه لم يتغير شيء من  عقليته الإقصائية ونزوعه للهيمنة والتحكم وإضعاف المنافسين والشركاء؟ وخصوصا بعد النتائج الإيجابية، استراتيجيا وسياسيا، التي حققها النهج المعارض المتبصر لصالح المصلحة الحزبية للحركة والمصلحة الوطنية للجزائر؟

إن الأيام والنتائج ستبين، ولئن كان الربيع العربي قد أدى دوره في حدوث صحوة المناضلين في 2011 كما بيّناه أعلاه، كحقنة تطعيم أولى ضد الاستبداد، ولئن كان الحراك الشعبي عام 2019 قد أكد التطعيم كحقنة تذكير  فإن مبررات حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية على ذات المنوال لا تزال قائمة، والخشية أن تجد الحركة نفسها مرة أخرى في المكان الخاطئ من التاريخ، فلا تسلم الجرة في كل مرة! 

تطور الفكر السياسي للشيخ محفوظ نحناح من التأسيس إلى الوفاة: وماذا بعد؟

ملاحظة: لم تسمح لي الظروف المختلفة ان أكتب مقالا جديدا بمناسبة ذكرى وفاة محفوظ نحناح هذه السنة فذهبت إلى نشر هذا المقال القديم الذي هو  جزء من بحث قدمته في ملتقى الشيخ محفوظ نحناح  في إسطنبول نظمه مكتب الحركة في تركيا يوم 25 جوان 2022  تحت عنوان: “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وسيصدر البحث في كتيب في الأيام المقبلة بحول الله.

ولد الشيخ محفوظ في 27 جانفي سنة 1942 وتوفي في 19 جوان 2003. نشأ في بيئة الحركة الوطنية وتحت تأثير الحركة الإصلاحية الباديسية، ووافقه اندلاع الثورة التحريرية وهو شاب في مقتبل العمر فشارك في الجهد النضالي في مدينة البليدة ونواحيها رفقة أقرانه وأصحابه على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. وبعد الاستقلال انخرط في العمل الدعوي والسياسي لاستكمال عهد الشهداء والمجاهدين ومواصلة مسيرة الإصلاح الاجتماعي فأسس جماعته الإسلامية – جماعة الموحدين – وأظهر معارضته الصارمة للتوجه العلماني الاشتراكي الذي سار عليه الرئيس هواري بومدين، ومن مواقفه الشهيرة رسالته ذائعة الصيت ” إلى أين يا بومدين؟” ضد التوجه الأحادي والأيديولوجية اليسارية. ألقي القبض على الشيخ محفوظ وبعض رفاقه سنة 1975 وقضى في السجن خمس سنوات. وفي فترة الثمانينات ركز جهده على العمل الدعوي وتوسيع دعوته إلى مختلف أنحاء الوطن، وانتهج في الشأن السياسي خطابا وطنيا  ونهجا معتدلا في معارضة نظام الشادلي بن جديد الذي انتهج نهجا أكثر انفتاحا من سابقه، فصارت جماعة الشيخ محفوظ الأكثر قوة وانتشارا في مختلف أنحاء الجزائر.
بعد التحول إلى التعددية السياسية سنة 1989 التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر 1988  حاول الشيخ محفوظ نحناح أن يجسد مقاربته التجديدية لخلق تيار سياسي جديد ” إسلامي وطني” مبني على التقارب بين التيارين الإسلامي والوطني اللذين يجتمعان على أرضية بيان نوفمبر ، والذي جسدته مبادرة “التحالف الوطني الإسلامي”،  والتعاون على نهضة الوطن بين  النظام السياسي المتحكم على المستوى الرسمي والمعارضة الإسلامية القوية في الساحة الشعبية،  رغم الاختلافات السياسية بينهما، عبر تأسيس نظام سياسي ديموقراطي جديد.

غير أن الاستقطاب السياسي الشديد الذي فرض نفسه في أجواء الانتخابات المحلية والتشريعية بين 1990 – بداية 1991، ومخاطر الحرب الأهلية التي تلت ذلك، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أدى بالشيخ محفوظ نحناح إلى تغيير أولوياته، وتسخير جماعته وحزبه الناشئ إلى البحث عن سبل توقيف سيل الدماء والمحافظة على التماسك الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية، ولو على حساب المصلحة الحزبية وركوب المخاطر وما يهدد مصيره ووجوده، فكان موقفه واضحا ضد إلغاء الانتخابات من جهة وضد  استعمال العنف في العمل السياسي مهما كانت الأسباب من جهة أخرى، واستعمل مكانته وقربه من كل التيارات وعلاقاته مع القوى الرسمية وقوى المعارضة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال الحوار ، فأطلق بالاستعانة برجاله ورفقائه عدة مشاريع في هذا الصدد منها: مبادرة المصالحة الوطنية، مبادرة السبعة، مجموعة السبعة + 1، مبادرة السلام الوطني، مبادرة الصلح الوطني. وبعد فشل كل مبادرات التوافق التي أطلقها الشيخ محفوظ أو أطلقتها الجهات المتصارعة، كمبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، أو مبادرة الندوة الوطنية التي أطلقتها السلطة اختار رحمه الله الرجوع إلى الشعب والدخول في مسار انتخابي الجديد سنة 1995 والذي قاطعته المعارضة في البداية ثم التحق به جلها ابتداء من سنة 1997.
لقد كانت ضريبة إدانة الإرهاب والعنف الذي انتهجته الجماعات المسلحة من جهة وسياسات الهيمنة وأساليب العنف المختلفة التي انتهجتها السلطة من جهة أخرى كبيرة حيث قتل في صفوف الحركة في حدود 400 من أعضائها على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني، وتعرض الشيخ محفوظ نحناح نفسه لمحاولةالاغتيال، كما بات رحمه الله المستهدف الأول للتيارات العلمانية المحسوبة على المعارضة وامتداداتها القوية داخل النظام السياسي.
بعد أن قاد الشيخ محفوظ حزبه نحو المشاركة في المسار الانتخابي تغيرت أولوياته، إذ أصبح يرى بأن مشاركته في مؤسسات الدولة هو الأنسب لمصلحة الوطن وللمشروع النهضوي الإسلامي الذي يحمله، فأطلق مقاربة فكرية جديدة تدعو إلى التفريق بين الدولة والسلطة، فيكون الحزب خادما للدولة بالضرورة وفي كل الأحوال، ولكن قد يكون مشاركا في السلطة أو معارضا لها حسب مقتضيات كل مرحلة وما يكون أنفع للبلد والدولة، وفي ذات الاتجاه قام الشيخ محفوظ ببلورة العديد من المفاهيم واهتم بكثير من القضايا الفكرية التي لا تزال الحركة تسير عليها وتطوِّرها مثل الوسطية والاعتدال،  مفهوم الشورى والديموقراطية، المشاركة السياسية، قضايا التنمية والتطور، التعايش، الاحترام المتبادل،  المجتمع المدني، الحريات وحقوق الإنسان، حوار الحضارات، توسيع قاعدة الحكم، التداول السلمي على السلطة، حقوق الأقليات ..
لقد مثل بقاء الدولة بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح عنوان بقاء البلد وضامن وحدته وسلامة أهله، وهو ما يُبقي فرصة الاستدراك والإصلاح والنهضة قائمة، وكان يعتقد رحمه الله أن بسقوط الدولة تضيع الوحدة الوطنية وتحل الفتنة والاقتتال والضعف والهوان والسقوط التام في مخططات القوى الأجنبية المعادية للأمة الإسلامية، وعلى هذا الأساس لم يكن يرى الشيخ محفوظ نحناح من حرج في أن يضحي بمصلحة حزبه، وبمكانته وفرصه السياسية خدمة للدولة الجزائرية والمصلحة الوطنية.
غير أن رجال النظام السياسي الذين سكنوا الدولة لم يكونوا في مستوى هذا الأفق العالي للشيخ محفوظ  فتعاملوا معه رحمه الله ومع حزبه وفق مصلحة النظام السياسي وليس مصلحة الدولة، ووفق مصالحهم الشخصية وليس وفق المصلحة الوطنية. فزوروا عليه الانتخابات الرئاسية سنة 1995  التي أظهرت شعبيته العارمة التي كان عليها قبل التعددية الحزبية عبر المهرجانات الضخمة ونتائج الصناديق الانتخابية التي تم قلبها ومصادرتها بالقوة فحرموه وحرموا البلد من قيادته للجزائر نحو نهضتها ، ثم زوروا الانتخابات التشريعية سنة 1997 فحرموه وحرموا البلد من قيادة الحكومة لاستدراك جرم تزوير الانتخابات الرئاسية، ثم زوروا الانتخابات المحلية تزويرا شاملا، وفي سنة  1999 منعوه أصلا من الترشح للانتخابات الرئاسية.
كان بإمكان الشيخ محفوظ نحناح أن يقود قطاعات شعبية واسعة للثورة الشعبية ضد النظام السياسي الذي لم يراع تضحياته وتضحيات حزبه، وحرَمه من حقه، الذي أخذه بإرادة الشعب،  في تسيير البلاد وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق النهضة الوطنية وفق ما رسمه في كتابه: ” الجزائر المنشودة” وعبر خطاباته ومصطلحاته السياسية التي أثرى بها القاموس السياسي الجزائري. لم يتجه رحمه الوجهة المتشددة للدفاع عن حقوقه الضائعة حفاظا على البلد، وحقنا لدماء الجزائريين،  ورحمة بالجزائريين المثقلين بأوزار الفتنة التي طال مداها، وإيثارا للمصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية.
رغم استئثاره بالحكم وسيطرته على مقاليده كلها، لم يستطع النظام السياسي خدمة البلد، ولم يستفد من تضحيات الرجال الوطنيين الذي بذلوا أنفسهم من أجل إيقاف الفتنة، سواء الشيخ محفوظ ورجال الحركة أو غيرهم، من داخل الدولة وخارجها، فبقيت الجزائر تنتج أزماتها، أزمة بعد أزمة جراء سياسات التزوير الانتخابي والفساد والهيمنة،  و أحيانا كثيرة خدمة للمصالح الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية.
لقد أيقن الشيخ محفوظ نحناح رحمه بعد إقصائه المشين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بأنه لا يوجد شريك له في الطرف الرسمي، وأن النظام السياسي متجه بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فبدأ يفكر في تغيير سياسته في التعامل مع النظام السياسي، فأخذ يُحدّث المقربين منه بخطاب غير معهود عنه في رأيه وموقفه من النظام السياسي، وبدأ ينظّر لمرحلة جديدة عبر كتاب جديد لم يكتمل ولم يصدر عنوانه ” الدولة وأنماط المعارضة”، لعله كان يبحث من خلاله سبلا جديدة للتعامل مع نظام سياسي استغل الفتنة واستعملها لإعادة إنتاج نفسه، سبلا  لا تؤدي إلى الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة وما ينجر عن ذلك من زيادة التوتر في بلد مأزوم ومشتت، ولكن في نفس الوقت بما لا يجعل المسؤولين  يتصرفون في البلد كما يشاؤون دون أن يكون ثمة من يعارضهم ويمنعهم من الإضرار بالدولة وبالبلد. لم يتمكن الشيخ محفوظ نحناح من استكمال بناء منهجه الجديد وتوفي رحمه الله حزين القلب معلول الجسد ولكنهترك وراءه حركة كبيرة باتت محل تقدير واحترام جسدت الخطالقويم في التعامل مع ” ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وفق ما نسير به الحركة اليوم بعده، استطاعت بعد مرحلة اضطراب، عادة ما تَحقّ بالمنظمات بعد وفاة المؤسس، أن تجيب عن سؤال: وماذا بعد؟ إذ انتقلت إلى المعارضة السياسية وفق نفس النهج القائم على التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بما كان يأمله الشيخ محفوظ ويحدث به ولم يطل به العمر ليجسده

لقد استطاعت الطبقات القيادية التي خلّفها الشيخ محفوظ نحناح، التي سارت على نهج المقاومة السياسية، أن تثمن التضحيات التي قدمها رحمه الله، وأن تحول ما ضاع من مصالح حزبية في سبيل المصلحة الوطنية إلى مكتسبات حزبية ووطنية معتبرة ومن ذلك:

• ارتفاع سمعة الحركة ورمزيتها ومصداقيتها لدى الجماهير وفي نفوس النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، في المجتمع والدولة، لِما أبانت عليه من جدية ونزاهة وما قدمته من برامج واقتراحات ومبادرات، وبسبب شجاعتها في مواجهة الفساد والرداءة والاعتداء على الحريات، والتزامها أثناء ذلك بالاعتدال والحرص على الاجتماع والتوافق الوطني.

• استقرار الحركة وانتهاء عهد الصراعات الداخلية التي لم تتوقف منذ التأسيس الرسمي، سمحت بالانشغال بالعمل وتوجيه الطاقة لانتشار الهيكلي حيث حقق في ذلك نموا بالضعف، والانفتاح على الطاقات الجديدة حيث أقبل على الحركة موارد بشرية متنوعة خصوصا الأجيال الجديدة من الشباب بأعداد هائلة، وترشح في قوائمنا كفايات وشخصيات مؤهلة وذات سمت أخلاقي  تمثل في حدود 70% من منتخبينا، وامتدت علاقاتنا الخارجية وتمثيلنا وتأثيرها في المنظمات الدولية إلى آفاق لم ندركها منذ التأسيس.

• ما طورته الحركة من أفكار وبرامج خصوصا على مستوى النهج السياسي الذي يرتكز على دراسة السنن الاجتماعية ومقاربة ” المكان المناسب” بتجنب الصدام من جهة ورفض الاحتواء والذوبان من جهة أخرى ومحاولة الاستشراف، والتعامل، بقدر الإمكان،  مع المدخلات السننية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية.  والتنظير والتجسيد الميداني لمقاربة التمييز بين السياسي والدعوي بما يؤهل لبناء حزب سياسي عصري همه نهضة الوطن وتحقيق التنمية من خلال الانتخابات والمدافعة السياسية السلمية دون التفريط في مختلف الوظائف الاستراتيجية الأخرى.

• ابتكار أنماط تسيير جديدة ضمن مقاربة ” التخصص الوظيفي” بتوجيه المناضلين إلى العمل الجمعوي والعمل في مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الشباب والنساء ومختلف الشرائح والاحتياجات المجتمعية، وإحياء وترقية الوظائف الاستراتيجية الحضارية دون إثقال كاهل الحزب بإدارة تلك الوظائف وقد حققت الحركة في هذا المضمار نتائج كبيرة بحمد الله تعالى.

• وبالنسبة للنتائج الرقمية على الصعيد الشعبي فإن الحركة قاربت النتائج الانتخابية التشريعية الأعلى التي حققتها سنة 1997 من حيث عدد المقاعد والرتبة في البرلمان، مع التفوق على نتائج  تلك السنة من حيث الرتبة الحزبية اذ احتلت الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات في 26 ولاية وتأتي بعدها جبهة التحرير التي احتلت المرتبة الأولى في 12 ولاية فقط ثم تأتي بعد جبهة التحرير باقي الأحزاب تباعا، مع فروق جوهرية في الظروف المحيطة ببين الانتخابات في تلك المرحلة وفي الانتخابات الأخيرة حيث كانت الحركة موحدة في انتخابات 1997 ولا ينافسها في محيطها الأقرب غيرها كما هو حاصل اليوم . أما بالنسبة للانتخابات المحلية فقد عادت الحركة إلى النتيجة الأعلى التي حققتها سنة 2007  من حيث عدد البلديات التي تسيرها في حدود مائة بلدية مع التميز في الانتخابات الأخيرة  بتسيير بلديات حضرية كبيرة كبلدية وهران وبلدية عناية وغيرهما . مع فرق جوهري بين المرحلتين حيث لم يكن يشترط للترشح سنة 2007 جمع توقيعات المواطنين في البلديات للتمكن من الترشح كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.

• وكل هذا مع استمرار حالة التزوير الانتخابي التي لولاها لكانت الحركة هي من يسير الحكومة اليوم، وقد قمت بنفسي بشرح البراهين الساطعة عن التزوير لمسؤولين كبار لم يستطيعوا رد تلك الحجج.

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (1)

حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير ، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.

لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ  أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر  سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.

إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.

لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى  لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.

وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير  بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد  استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.

لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغف فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.

إنه علاوة  على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك،  ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.

لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: ” احذر من إذا قال فعل” والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.

لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك  بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام   هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا الى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هو تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا” هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة” فقال: “لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها”، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام”، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.

لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب ” لغة الخشب”، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.

لقد تطلّب تجاوز خطاب “لغة الخشب” نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة “موت السياسة” وشيوع “لغة الخشب” وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف،  الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.

إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة.

شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم  يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))

.. يتبع

في ذكرى تأسيس الحركة (3) : وطن ينهض، حركة تتجدد

لم يكن ُيتصور  بضعة أشهر  قبل الاحتجاجات الشعبية في جانفي 2011 وثورات الربيع العربي بأن الحركة ستراجع توجهاتها السياسية الاندماجية في منظومة الحكم، لقد كاد الارتباط بالحكم أن يتحول إلى عقيدة سياسية لا تتزعزع، والمشاركة في الحكومة حتمية لا تتبدل، وكانّها بصمة وراثية ذات حمض نووي ريبوزي راسخ لا يتغير،   رغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بالحركة في رمزيتها واستقرارها جراء ذلك المنهج، ورغم التقييم السلبي الرسمي الذي قدمه رئيس الحركة الشيخ أبو جرة عن التحالف الرئاسي، ورغم تحول الحركة إلى نوع من “الربيب” بين شقيقين أصليين لرب الأسرة، يشترك في غرم العائلة ولا حظ له في الغنم.

لقد كانت الأصوات المعارضة لذلك التوجه مبحوحة داخل الحركة لا يُسمع لها ولا يُعتد بها، وقد كنتُ ضمن تلك الفئة المعارضة، قد أصابني اليأس في القدرة على فعل شيء ما من داخل الحركة وأخبرت بعض القريبين مني بأن آخر عهدي بهياكل الحركة سيكون بمناسبة المؤتمر الرابع في 2013. غير أنني كتبت ورقة طويلة في ذلك الوقت عرضتها في المكتب التنفيذي الوطني إبراء للذمة، بينت فيها موقفي من الاستمرار في الارتباط بالسلطة عبر المشاركة الهزيلة في الحكومة، المضرة بالحركة والبلاد، ورؤيتي التي تصلح البلاد والحركة.

فإذا بالأوضاع تنقلب رأسا على عقب بعد الاحتجاجات الشعبية في الجزائر والعالم العربي، ويصبح المناضلون يرون أنفسهم بأنهم في الجانب الخاطئ من التاريخ، فيشكلون تيارا جارفا  يريد رؤية متجددة وقيادة جديدة تمكّن من العودة بالحركة إلى أحضان الشعب ومقاومة الفساد والاستبداد، فتجسدت نظرية المكان المناسب عند التحولات السننية، إذ اتجهت أنظارهم إلى الشخص الذي ثبت في الدعوة إلى ذلك الهدف فلم يتغير ولم يتبدل، فكان التقاءٌ بالقدر، لي وللحركة، لم يكن أحد قد خطط له أو سعى إليه، وتلك هي المرحلة الخامسة، أو الطور الخامس من أطوار تطور المنهج.

جاءني أحد المسؤلين في الحركة مبتهجا ذات يوم ينقل لي ما سمعه من مسؤول كبير سابق في الحركة في جلسة استشارة في لجنة تحضير المؤتمر السابق من: “أن ثمة مشروعين في تاريخ الحركة، مشروع الشيخ محفوظ الشيخ محفوظ نحناح ومشروع الدكتور عبد الرزاق مقري”، وكان هذا المسؤول السابق والحالي في الحركة يقول، هو وغيره من بعض المسؤولين السابقين والحاليين،  بأن فترة رئاسة دكتور مقري هي بمثابة تأسيس ثان للحركة. 

لم يكن هذا قولي، ولم أسع أن أناقش مع أحد من القائلين أو المعترضين على هذا القول، فما مرحلتي في ظني إلا مرحلة من مراحل تطوير منهج الحركة، ولم يكن يهمني سوى التجديد الفكري لدى الأفراد والإنجاز في الميدان،  ولكن يبدو أنني وإن نجحت في تحقيق إنجازات في الميدان فأنا لم أفلح في تغيير القناعات في الأفكار، وإذا لم يتحقق تغيير الأفكار فإن الإنجازات ستعود حتما على أصلها بالإبطاال، ما لم تنتقم الأفكار في ظرف مناسب لاحق.  

لقد كان حرصي الكبير في قيادتي للحركة أن يقود الفكرُ الإنجازَ، فمنذ أن رأيت أن ثمة تيارا جارفا يتجه إليّ لم أشأ أن تكون رئاستي للحركة مبنية على رد فعل للربيع العربي يقوم على حالة عاطفية انتهازية، لا سيما أن الخروج من الحكومة جاء بعد نقاش دام سنة كاملة بين 2011 -2012 بعد الاحتجاجات، وقرابة ثمانية أشهر من انتظار تجسيد الإصلاحات التي وعد بها  الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة رحمه الله في 15 أفريل 2011 ولم تتجسد.

ولذلك رجعت إلى الأفكار التي كنت أناضل بها، لا سيما الوثيقة التي سلمتها للشيخ محفوظ عام 1997 والتي اشرت إليها في المقال السابق،   فطورت كل تلك الأفكار ضمن رؤية شاملة للتجديد  في كتاب دخلت به المؤتمر الخامس عام 2013 تحت عنوان ” البيت الحمسي” يتناسب مع شعار المؤتمر ” حركة تتجدد، وطن ينهض”  وفي ما دونته في كتابي “الحركة الإسلامية في الجزائر: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر عن دار الخلدونية عام 2015 ثم  كتاب آخر دخلت به المؤتمر السابع، لعهدتي الثانية، عام 2018 (بعد المؤتمر السابع مؤتمر الوحدة)، تحت عنوان “البيت الحمسي 2 ” وختمت عهدتي الثانية بكتاب يعبر عن رؤية شاملة للعمل الإسلامي في العالم العربي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” الذي لقي بحمد الله  قبولا كبيرا لدى العلماء والمفكرين واعتمده الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين بعد تحكيمه من لجنة من خيار أهل العلم والفكر واعتمدته بعض الحركات الإسلامية في مناهجها التكوينية، علاوة على كثير من النصوص التي قدمتها طيلة العهدتين بمناسبة مجالس الشورى ولقاءات الهياكل والملتقيات والجامعات الصيفية التي جمعت جزء منها  في كتابين، الأول: ” وثائق في الفكر والسياسة والدعوة” صدر عام 2015، والثاني: “أفكار وسياسات: من نصوص العهدة 2013-2018” صدر عام 2018.

لا شك أنه لكل طور من أطوار الحركة الخمسة  نجاحاتها وإخفاقاتها، أما النجاحات في الطور الخامس  فقد كانت بارزة ظاهرة ثمنها المؤتمر السابق بتصويت يفيد الإجماع وثبّتَ محاورَها الكبرى نظريا في الوثائق التي صادق عليها للمرحلة التي تليه، وكان الظن أن هذه المرحلة الجديدة ستكون وفية لتلك النجاحات، ومن تلك الإنجازات :

  • الإنجازات الأخلاقية والقيمية: لا أزعم أننا حققنا نجاحات حاسمة في هذا الجانب كما سأبين أدناه ولكن حاولنا أن نشكل في الحركة اتجاها عاما منافيا للانتهازية السياسية ويرفض استغلال الحركة للطموحات  الشخصية، وعملنا على أن يقوم سلم القيم والقدوة على الاستقامة والتعفف والإنجاز، وكان العمل جادا على رفع قيم التضحية و الشجاعة والوفاء والتجرد وأصبحت ساحة الحركة والنقاشات الدائرة فيها لخدمة الوطن والأمة والقضية الفلسطينية، وأصبح الفرد يفكر داخل الحركة ماذا يعطي لها وليس ما يأخذ منها، وظل من نحسبه كذلك، والله وكيل الجميع، هو الذي يتقدم في الصف ويظهر في المشهد!     
  • الإنجازات الدراسية و الفكرية :  إذ أصبحت الحركة تعتمد على مؤسسات التفكير المتخصصة وبات خطابها السياسي والاقتصادي خطابا علميا مقنعا، وظلت برامجها الانتخابية والتخصصية في مستوى قيادة الدولة  تنتجها  لجان قطاعية متخصصة، ويثني عليها رؤساء حكومات ووزراء وعلماء وأكاديميون.  وعلى المستوى الفكري نظّرنا لعلاقة الدعوي بالسياسي المطروحة للنقاش بإلحاح في الساحة الفكرية الإسلامية وابتكرنا في هذا الشأن مقاربة التخصص الوظيفي و طبقناها بما أضفى فاعلية أكبر في الوظيفة السياسية والوظائف الأخرى الدعوية والاجتماعية وغيرها، فاستوعب هذا التدبير طاقات وكفايات كثيرة وفعّل قدرات بشرية كانت خاملة وأحيا وظائف استراتيجية، كما وضعنا قواعد الانتقال من المشاركة السياسية إلى الشراكة على أساس ميزان القوة – وإن لم نحقق ذلك بسبب اختطاف الحراك الشعبي – واخرجنا الكفاح السياسي من حتمية ثنائية الصدام أو الاندماج إلى الآفاق الرحبة للمقاومة السياسية، وبلورنا رؤى الانتقال الديمقراطي والتأهيل القيادي والاستنهاض الحضاري، وغير ذلك من ورشات النقاش الفكري الواسعة،  و أصبحت الحركة ورجالها ومنتجاتها  وتوجهاتها السياسية والإدارية ومشاريعها ومؤسساتها بحمد الله  من أهم مصادر التطوير والتجديد في الحركة الإسلامية والإصلاحية في  العالم العربي والإسلامي.
  • الإنجازات التنظيمية واستحقاقات الوحدة حيث عرفت الحركة استقرارا كاملا طيلة عهدتَي الطور الخامس، فلم تعرف الحركة صراعات ولا انشقاقات، خلافا للأطوار الأربعة السابقة، بل تم تحقيق الوحدة مع جهتين مهتمين كانتا قد غادرتا الحركة من قبل، وهما جبهة التغيير وطبقة واسعة من القادة والمسؤلين والمناضلين كانوا قد غادروا الحركة على عدة مراحل منذ التسعينات. كما تم تنمية الموارد البشرية من حيث الكم والنوع، فبرز في الحركة جيلان قياديان جديدان هم من يقود الحركة اليوم محليا ومركزيا، وتم التركيز أكثر على الشباب فهم اليوم في مواقع قيادية أساسية في الهياكل والإدارة والمؤسسات.
  • الإنجازات الشورية والديمقراطية حيث أننا انتبهنا بأن الشورى الحقيقية والديمقراطية الحقة هي التي توفر التعبير عن الرأي والرأي الآخر في النقاش أثناء مرحلة صناعة القرار في المشاورات والمداولات المختلفة وأثناء اتخاذ القرار في مؤسسات اتخاذ القرار، وأن المشاورات التي تقيمها الحركة   في مختلف القضايا شكلية يسيطر عليها التنظيم وقادته بما يؤدي إلى تعارض المصالح، وفق المصطلحات العلمية الإدارية المعبرة عن ذلك، وتكون النتيجة حتما لمن يتحكم في التنظيم والمشاورات إذ رأيه هو وحده ما يُشرح ويسوق له باحتكار استخدام وسائل الحركة، وهذا سبب رئيسي للصراعات والانشقاقات والفتور وخسران الكفاءات،  فابتكرنا طرائق جديدة تضمن حضور الرأي المخالف ومن ذلك: دعوة رؤوس الرأي المخالف إلى المكتب التنفيذي الوطني وتقديم آرائهم والدفاع عنها متى شاؤوا وطبقنا ذلك فعليا، واتفقنا مع رؤساء مجلس الشورى الوطني المتتالين  بأن لا يُحدد الوقت لرؤوس الرأي المخالف والقادة السابقين أثناء تدخلاتهم وطبقنا ذلك، وشكلنا هيئة استشارية عليا يُضمن فيها حضور الآراء المختلفة بشكل متوازن كان حضور أصحاب الرأي الآخر قويا ومكثفا، بالإضافة إلى المجالس الاستشارية المتخصصة الشبابية والنسوية ومجلس المؤسسات واللجان القطاعية. وحاولنا أن ننظم مسألة التنافس الداخلي على المناصب لإنهاء عهد الكولسة الخفية والعلنية، ولتكون الحملات الانتخابية الداخلية شفافة يُسمح لكل المرشحين الاتصال بالهياكل التنظيمية والمناضلين باستعمال وسائل الحركة بالعدل والمساواة، فاقترحنا لائحة تنظم ذلك للمؤتمر السابع عام 2018 ولكن للأسف الشديد أسقطها من كان يُفترض أن يستفيد منها، ثم حاولنا الرجوع إليها في المؤتمر الثامن ألأخير فلم نفلح بسبب عدم توفر السند اللائحي ولكن وضعنا هذا السند في قوانيننا بما يسمح بالمنافسة الشفافة والعادلة لاحقا.
  • الإنجازات السياسية: إذ ارتفعت رمزية الحركة بعد ما تضررت صورتها بسبب التوجهات السياسية السابقة، خصوصا بسبب التورط في فتح العهدات ودعم بوتفليقة عدة مرات، وبسبب الانشقاقات والصراعات الداخلية، فبات يُنظر   إلى الحركة  ورموزها بتقدير واحترام، وتجدّدَ الأمل فيها. وقد تجلى ذلك في نتيجة الانتخابات التشريعية والمحلية، حيث نجحنا في بلديات كبرى كانت محرمة علينا سابقا، منها وهران وعنابة، وحصلنا على نتائج في الانتخابات التشريعية الأخيرة تقارب نتائج زمن الألق السياسي في بداية التعددية، وذلك رغم العزوف الانتخابي،  ولم تفلح محاولات التقليص من أهمية النتيجة الانتخابية بإبراز تراجع الكتلة الناخبة للحركة من قبل خصوم خطنا السياسي التقليديين من داخل الحركة آنذاك، والتي بات يرددها بلا أخلاق اليوم خصومٌ جدد  كانوا بالأمس معنا في هذا الشأن خلافا لما يدّعونه اليوم. ويخفي هؤلاء وهؤلاء أن تراجع الكتل الناخبة هو على الأحزاب كلها وليس الحركة فقط، وأن سبب العزوف الانتخابي هو النظام السياسي (الذي يسندونه) من خلال  التزوير المستدام للانتخابات، وأن الحزب الذي يستطيع أن يفرض نفسه ضد العزوف وضد التزوير وضد المرجفين ويحقق المرتبة الحزبية الثانية بعدد النواب يستحق التقدير والثناء وليس الهمز واللمز.   
  • الإنجازات المؤسسية المجتمعية حيث رجعت المؤسسة الاجتماعية إلى استقرارها وكثير من نشاطها وفاعليتها، وأرجعنا النقابة الطلابية إلى حضنها الأصلي، وأضفنا من خلال نظرية التخصص الوظيفي  أربع أضعاف تلك المؤسسات بعضها صار جزء أساسيا من المشهد الوطني، وبعضها بلغ العالمية، وأحيينا بفضل الله كثيرا من وظائف المنهج وصار للمؤسسات التي يقودها رجالنا حظ وافر في خدمة القرآن والدعوة والقضية الفلسطينية وخدمات المجتمع.
  • الإنجازات على صعيد العلاقات الداخلية إذ استطاعت الحركة أن تفرض نفسها في المشهد وأن تفعّل الساحة السياسية لعدة سنوات لخدمة رؤية الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه وبناء ميزان قوة يسمح بتحقيق التوافق الوطني والشراكة السياسية في القرار من أجل نهضة البلاد والمساهمة في نهضة الأمة، فكانت الطرف الأساسي في بناء التنسيقية الوطنية للانتقال الديمقراطي  والاجتماعات التاريخية في مزفران مع كل أطراف المعارضة، وعادت لنفس الرؤية في مبادرة التوافق الوطني وكادت أن تحقق به انتقالا ديمقراطيا حقيقيا من خلال مفاوضاتها مع الرئاسة البوتفليقية في فترة ضعفها الشديد لو لا إحباط المحاولة من جهة قوية في السلطة لصالح العهدة الخامسة فأدت تلك الحركية الجماعية الدؤوبة إلى حالة وعي عامة فجّرت بشكل غير مباشر الحراك الشعبي. لقد صنعت هذه الحركية الدائمة في العلاقات مكانة معتبرة للحركة وقادتها وظلت أبواب الحوار مفتوحة لنا في كل الاتجاهات، في المعارضة وفي السلطة، ولِجناها بكل ثقة وإيمان بأفكارنا ومشاريعنا، وكنا في كل تلك الحوارات نرفع حركتنا بقوة حجتنا،  ولم  نتحدث وراء الأبواب المغلقة – آنذاك – إلا في ما ينفع بلدنا ولا نتورط في التآمر ضد أحد، قريبا كان أم بعيدا، ولو وجد أحد في ما كنا نقوله سعيا لمصلحة شخصية أو تآمرا على أحد أو على جهة ما لأسمعوا العالم بها.
  • الإنجازات في العلاقات الخارجية: كما سبق أن قلنا تسببت حالة الصراع والخلافات داخل الحركة إلى عزلها عزلة تامة دوليا، ولكن استطعنا أن نعود بقوة منذ أسطول الحرية، ثم طورنا علاقاتنا حتى أصبحنا جزء أساسيا في المشهد الإسلامي العالمي، ومع أحرار العالم، سواء في المساهمات الفكرية والإعلامية  أو المشاركة وقيادة المنظمات الدولية الفاعلة، كما وصلت مؤسساتنا المتخصصة إلى مستوى النمذجة و الريادة الدولية خصوصا في مجال التأهيل القيادي الشبابي وفي القضية الفلسطينية

أما عن الإخفاقات فيمكن تصنيفها وفق ما يلي:

  • بالرغم من أن العمل السياسي  ضمن تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي كان جماعيا فإننا لا بد أن نتحمل نصيبنا من المسؤولية في عدم تحويل هذه التنسيقية إلى قوة جماعية ضاغطة على السلطة تؤثر في ميزان القوة من أجل التحول الديمقراطي، وبالرغم من أننا بادرنا باسم الحركة إلى إحيائها مباشرة بعد اندلاع الحراك الشعبي ولم نجد تجاوبا من الشركاء فإنه من الواجب الإقرار بفشلنا جميعا كطبقة سياسية في تشكيل قيادة مشتركة للحراك الشعبي تمنع تفتيته ايديولوجيا ثم استيعابه من طرف السلطة كما تم فعلا. وكانت مبادرة ملتقى الحوار الوطني بعين البنيان أثناء الحراك مبادرة فاشلة أخرى. ولما أخذنا المبادرة وحدنا قبل الحراك عبر مشروع التوافق الوطني عجزنا على الاستشراف بأن الرئاسة لم تكن ضعيفة فقط، بل لم تصبح تزن شيئا فأضعنا وقتنا في الحوار معها و عرّضنا أنفسنا للمخاطر إذ كانت القوة متمركزة كلية لدى قيادة الأركان، وهي التي فرضت العهدة الخامسة. غير أن المحاولة التي قمنا بها إنما كانت عملا صالحا نرجو ثوابها من الله تعالى،  أقمنا بها الحجة أمامه سبحانه و على الجميع، وسيبين التاريخ أن المبادرة التي قدمناها بكل صدق ومهنية هي  الوحيدة التي كانت ستحقق الانتقال الديمقراطي ونهضة البلد لم تم اعتمادها ودعمها.
  • –            ويبدو من خلال التطورات الجارية في الحركة بعد المؤتمر الأخير بأن الإخفاق الكبير التي اتسم به الطور الخامس هو الإخفاق في تغيير القناعات لدى قيادات الحركة، وأن التوجه للمقاومة السياسية ضد الفساد والاستبداد خارجيا، وضد الانتهازية داخليا، الذي وقع بين المؤتمرين السادس والثامن كان أكثره ردة فعل لأحداث الربيع العربي ثم تجاوبا غير مُكلِف مع حالة الضعف التي عرفها النظام البوتفليقي والتأثر بالحراك الشعبي الذي أزاحه، وربما بالنسبة للبعض للمحافظة على المواقع، ولم يكن قناعة عميقة عامة تعين على التضحية إلى غاية تحقيق الهدف ولو طال الزمن، وهو أمر يتطلب تعمقا في الدراسة نعود إليه لاحقا. كما اتضح كذلك بأن القناعة بالتخصص الوظيفي بقيت سطحية والتراجع الفعلي عن مكتسباتها بات ممكنا وسهل المنال. وعليه يمكن لأي دارس محايد أن يقول بأن التحولات العميقة التي وقعت في هذا الطور بقيت تمثل رؤية شخصية لرئيس الحركة قد أخذت تتبدد فور مغادرته موقع القيادة، وقد عبر الشيخ أبو جرة عن ذلك بوضوح حين عبر عن سعادته في مجلس الشورى الأخير بعودة الحركة إلى نهجه الذي كانت عليه قبل عشر سنوات.
  • وحينما نرى تراجع العمل الحزبي ومستوى الأنماط القيادية و زيادة شيوع الآفات السياسية وتحولها إلى خلق عام في الطبقة السياسية كالانتهازية السياسية والزبونية والتزلف واللؤم والغدر والتدليس والكذب والفجور في الخصومة وخلف الوعود ونقض العهود  وتقديم النفعيين على أفاضل الناس، بشكل عام،  علاوة على استمرار الفساد في مختلف مستويات المؤسسات الرسمية والمجتمعية ورسوخ السيطرة والتحكم وغلق هوامش الحريات أكثر من أي وقت مضى  نقول بأن مساهماتنا في أخلقة العمل السياسي وتثمين جدوى العمل الحزبي في التغيير لم تحقق النتائج التي كانت أجيال من السياسيين الصادقين تضحي من أجلها،    كما أننا لم نتوصل داخل الحركة إلى ترسيخ قيمة االثقة بالنفس والاستعلاء الإيمانيّ وقدرتنا على أن نكون قدوة و بديلا لغيرنا بأخلاقنا وفكرنا وبرامجنا وتاريخنا وحضورنا، رغم وجود هذه المعاني في الوثائق، ولم يصبح الانتقال الديمقراطي قناعة تتطلب التضحية والتعرض إليها وفق التحولات السننية، ولم تصبح رؤية السعي إلى الشراكة السياسية سوى اسماً مغلفا للعودة الى المشاركة السياسية التي تسببت في مختلف أعطاب الحركة.

تابع – المقال الرابع: التحليل والآفاق المستقبلية.

في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج ج1

في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج.

إذا اردنا ان ندرس تطورات المنهج الذي حكم حركة مجتمع السلم، بمناسبة ذكرى تأسيسها في 29 ماي 1991، فإننا سنضطر إلى تقسيم تاريخ الحركة إلى خمس مراحل، أو خمسة أطوار: ثلاثة قبل التأسيس الرسمي واثنان بعده. أما قبل التأسيس فإن الحركة قد تعرّف عليها الجزائريون في مرحلتها الأولى في سبعينات القرن الماضي كجماعة ذات معارضة راديكالية لنظام الحزب الواحد  والنهج الاشتراكي الرسمي، وقد وصل المنهج الحدّي لتلك المعارضة إلى استعمال العنف عبر الحادثة التي سميت ب”قطع أعمدة الهاتف”، وقد سبق تلك الأحداث خطاب شديد اللهجة عبر خطب نارية للشيخ محفوظ نحناح رحمه لا تزال  بعض تسجيلاتها متوفرة، وبيانات قوية  العبارات كالبيان المشهور تحت عنوان ” إلى أين يا بومدين؟”، انتهت هذه المرحلة بسجن الشيخ محفوظ رحمه الله والعديد من إخوانه وتشتيت جماعته.

أثناء سجنه نشطت جماعات أخرى في الجامعات، أهمها جماعة الجزأرة التي كان يرأسها د. بن شيكو ثم د. بوجلخة، وجماعة الشيخ عبد الله جاب الله التي عرفت في ذلك الوقت بأنها الجماعة التي تمثل الإخوان المسلمين فكرا وتنظيما.

بعد إطلاق سراح الشيخ محفوظ نحناح سنة 1981 دخلت جماعته في المرحلة الثانية من تاريخها، وهي المرحلة التي تبلور فيه منهج جديد عبر المراجعات التي قام بها الشيخ رحمه الله في السجن، وأساسها الابتعاد نهائياً عن المنهج العنفي لفظا وسلوكا والاعتماد على الخطاب الدعوي الهادي أكثر من الخطاب السياسي الصادم مع المحافظة على خطاب سياسي يعتمد شعار الحركة الإسلامية المركزي آنذاك “الإسلام هو الحل” ويستهدف نقد المناهج المستوردة وعلى رأسها العلمانية والاشتراكية، ولهذا السبب لم يكن الشيخ محفوظ في صدارة الاحتجاجات الكبرى كأحداث الجامعة المركزية عام 1982 وأحداث 5 أكتوبر 1988 رغم الوجود الفعلي للعديد من قادة وأفراد جماعته فيها، واستطاع الشيخ محفوظ أن يتجاوز كل تحديات عشرية الثمانينيات ليكون في أواخرها أهم زعيم سياسي وتكون جماعته أكبر جماعة في الجزائر وقد ساعده على ذلك عدة معطيات منها شخصيته الجذابة وسمته وقدراته الخطابية الفذة، النهج الجديد الذي انتهجه الشاذلي بن جديد القائم على الانفتاح السياسي وبدايات التراجع عن النهج الاشتراكي والذي كان يحتاج بشأنه إلى بروز  جهة معتدلة في التيار الإسلامي، وارتباط الشيخ محفوظ بالاخوان المسلمين الذين كان يمثل منهجهم ومشروعهم وتاريخهم وتضحياتهم نوعا من المرجعية التي تفرض نفسها على شباب الصحوة الإسلامية يرتبطون بها بشكل تلقائي أكثر من غيرها، وكتيار قبل الارتباط بالتنظيم،  مما جعل العديد من الشباب وإطارات الحركة الإسلامية الذين انتظموا في جماعة الشيخ عبد الله جاب الله يتركونه لصالح الشيخ محفوظ لمّا اختلف الرجلان وعُلم بأن الشيخ محفوظ هو من يمثل “الاخوان المسلمون”.

وكذلك التحق بالشيخ نحناح رحمه الله بسبب “الإخوان المسلمون” كثير من رموز وقادة الحركة الإسلامية، وعدد من التنظيمات المحلية ومن مجاميع إسلامية مختلفة خصوصا بعد فشل مساعي الوحدة بين فصائل التيار الإسلامي التي دعا اليها بعض الدعاة بين 1983-1987. وبقي الانتماء للإخوان المسلمين صمام أمان لوحدة جماعة الشيخ محفوظ – بالإضافة إلى شخصيته – إلى أن تراجعت أهمية تلك المرجعية لأسباب عديدة ليس المجال للتفصيل فيها، خصوصا بعد التحول إلى المرحلة الحزبية، فأخذت الاختلافات ثم الانشقاقات تظهر في جسم الجماعة.

مع تغيير الدستور والتوجه نحو التعددية الحزبية دخلت جماعة الشيخ محفوظ نحناح مرحلتها الثالثة، بتأسيس الحزب رسميا في 29 ماي 19991 الذي نتذكر مناسبته في هذا المقال، وكان الدخول عسيرا ليس عليه فقط، بل على الجماعات الإسلامية الثلاث المنظمة المتقاربة فكريا التي لم توفق في تحقيق الوحدة بينها (الشيخ محفوظ/ الجزأرة/ عبد الله جاب الله)، والتي تجاوزها تيار 5 أكتوبر ولم تسبق لتأسيس حزب إسلامي فأدّى ذلك إلى سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج على الساحة السياسية.

تسبب هذا التأخر من قبل هذه الجماعات المنظمة في الاستشراف وفي التعامل مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية التي تلت انهيار أسعار البترول ابتداء من 1986، وتعمّق الفساد في نظام الحزب الواحد، ثم البرسترويكا  فانهيار الاتحاد السوفياتي بين  1987 و 1990 وتراجع زمن الأحادية عالميا إلى ضياع المبادرة والريادة، وأصبحت السياسات والتوجهات والتصريحات هي من أجل الاستدراك واسترجاع المبادرة والمساهمة في المحافظة على نصاعة المشروع وتفويت الفرصة على العلمانيين لاستغلال الظروف وغطاء محاربة الإهاب للإجهاز على كل مرجعية إسلامية في الشأن العام، وكذا من أجل إخراج البلاد من الأزمة.

وقد كان نهج الشيخ محفوظ نحناح أكثر وضوحا من خلال سرعة وقوة المبادرات من أجل الحوار والمصالحة الوطنية، [وقد سجلتُ تلك المبادرات في برنامج مراجعات مع قناة الحوار اللندنية وفي كتابي مبادرات لحل الأزمات]، وخطاب التميز عن التشدد، ثم العمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر العودة للمسار الانتخابي وبداية تجسيد نهج المشاركة الحكومية، ومحاولة بلورة خطاب وطني لتطمين النظام السياسي وتحسين  العلاقة بالمؤسسة العسكرية ومجاهدي حرب التحرير، وكل من له تأثير في القرار السياسي.

أدى هذا النهج إلى نجاحات معتبرة على المستوى الاستراتيجي من حيث المساهمة في وقف سيل الدماء والمحافظة على الدولة وحماية المشروع والحركة الإسلامية وأمن المناضلين وعائلاتهم، وتوفير الفرصة لاستمرار الوجود والعمل، والانتقال للمستقبل بأقل التكاليف وفي أحسن ما يمكن من الظروف، غير أن الإخفاق على المستوى السياسي كان ملازما للمسيرة خلافا للأهداف التي رسمها الشيخ محفوظ وسَمِعتُها منه شخصيا وهو أن ينال دعم المؤسسة العسكرية، تأسياً بتجربة الشيخ حسن الترابي الذي كان نجمه صاعدا في ذلك الوقت، ويكون بديلا لجبهة التحرير التي خرجت للمعارضة مع الأستاذ الكبير عبد الحميد مهري رحمه الله والجبهة الإسلامية التي لم يكن ممكنا التفاهم بينها وبين العسكر، أو على الأقل تجسيد فكرة التحالف الوطني الإسلامي على المستوى الرسمي بعد ما تمت الدعوة إليه باسم جمعية الإرشاد والإصلاح قبل تأسيس الحزب عام 1990.

لقد كانت الخسارة في الانتخابات التشريعية في جانفي 1991 منطقية بسبب السبق الذي استفادت منه جبهة الإنقاذ، ولكن النجاح الكبير والشعبية الهائلة التي ظهرت لصالح الشيخ محفوظ وحزبه في الانتخابات الرئاسية عام 1995 أخافت العسكر وأصحاب القرار.

لم ينفع المنهج التطميني الذي انتهجه الشيخ محفوظ فأُعطيت له الرسالة من قبل النظام السياسي  بأن “بديلنا لست أنت بل نصنعه صناعةً بأيدينا”، فكان تغيير الدستور  عام 1996 لمنع الشيخ محفوظ من الترشح مرة أخرى للانتخابات الرئاسية مدى الحياة، وذلك بسبب قدرته على المنافسة وقيادة البلد، وتغيير  اسم الحزب بنزع كلمة “الإسلامي” ليتحول من “حركة المجتمع الإسلامي – حماس” إلى “حركة مجتمع السلم – حمس”، وإعاقة الحركة بما اعتقده نظام الحكم بأنه عناصر قوة لصالحها، ثم كان تأسيس حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” والتزوير له في الانتخابات التشريعية والمحلية عام 1997، وبعد ذلك منع النحناح رحمه الله وأسكنه فسيح جناته من الترشح عام 1999 وإهانته وضربه في تاريخه وسمعته، ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فتمت معاقبته عن إصراره على الترشح للانتخابات الرئاسية عام 1999  بما اضطرّهم إلى منعه من ذلك تعسفا مما زاد في ضرب مصداقية الانتخابات بالإضافة إلى ما أصابها من خدش في مصداقيتها بعد انسحاب المرشحين الستة، فوضعوا الحركة في تلك الانتخابات التشريعية في المرتبة الرابعة بعد حركة الإصلاح التي أسسها الشيخ عبد الله جاب الله بعد خروجه من حركة النهضة، مع أن ما سهل على النظام إخفاء مكره وقلة وفائه التراجع الشعبي الفعلي الذي أصاب الحركة بسبب تحولها السريع والمفاجئ من معارض لبوتفليقة إلى مساند له في الانتخابات الرئاسية عام 1999. ولا يعني ما نقوله هنا أن حركة الإصلاح تم تقديمها على الحركة بدعم من السلطة، فقد كان تقدمها منطقيا، ولكن المقصود أن الحركة عوقبت بالتزوير ضدها كما هي العادة،  وأنه لو كانت  جزء من السلطة لزورت لها كما تفعل مع أحزاب الموالاة التي تنقذ دوما بالتزوير.

لا يمكن الجدال بأن الكثير من المكاسب الاستراتيجية غطت عن الخسائر السياسية، ومن أهمها البقاء في ساحة المعركة ضد التوجهات العلمانية المعادية للمشروع الوطني الإسلامي، ولكن لا يمكن الجدال كذلك بأن التيار العلماني ألحق بخططنا خسائر كبيرة، ومن ذلك إضعاف التيار الوطني ذاته داخل الدولة، علما بأن المكتسبات الحضارية العربية الإسلامية تحققت في زمن الحزب الواحد بأيدي رجال التيار الوطني وليس في زمن التعددية الحزبية، ومن ذلك قانون الأسرة، والمنظومة التربوية الأصيلة، والتعريب. غير أن الرجال الذين حققوا تلك الإنجازات عبر صراع مرير مع ما كان يسمى “حزب فرانسا” في ذلك الوقت أبعِدوا عن النفوذ داخل الدولة، واستفرد رجال التيار العلماني الذين كانوا يواجهونهم بالقرار، خصوصا داخل المؤسسة العسكرية، ووجدت حركة مجتمع السلم نفسها قريبة من هؤلاء الرجال العلمانيين، رغم تصريح زعيمهم خالد نزار صراحة في مذكراته المنشورة بأن خططهم كانت تستهدف في ظل الأزمة ضرب التيار الإسلامي المتشدد منه والمعتدل.

كما أن الخطر على المنظومة التربوية صار ملموسا من خلال إنشاء لجنة بنزاغو، والتمكين في وزارة التربية والتعليم لتياره، ولو لا المقاومة التي أظهرها رجال التيار الوطني، كأمثال علي بن محمد وعبد القادر فوضيل وعبد الحميد مهري، وتحالفهم في المجتمع مع التيار الإسلامي لكانت الخسائر عظيمة في وقت مبكر. علاوة على التحرش المستمر بقانون الأسرة، والتراجعات الكبيرة في مسيرة التعريب، وفي الاهتمام بالقضية الفلسطينية.   

علم الشيخ محفوظ نحناح بأن النهج السياسي التشاركي مع نظام سياسي مستبد، غير وفي وغير نزيه لن ينفع الحركة فبدأ يبحث عن نهج جديد، وأصبحت أسمع منه – كما سمع غيري – في جلسات خاصة كلاما عن النظام السياسي كان يمنعنا أن نفكر فيه أصلا، وأخذ ينظّر لتوجه جديد في المنهج في كتاب بدأ في تأليفه تحت عنوان ” الدولة وأنماط المعارضة” ولكن فاجأته الوفاة واختفت مسودة الكتاب بشكل غريب.

توفي الشيخ وقد حقق إنجازات استراتيجية جعلت نهجه مدرسة كاملة الأركان، وستبقى تلك الإنجازات التي اشرت إليها – رغم الخسائر المذكورة –  شاهدة له ينالها أجرها وهو في قبره، ولكن كان الأمر يتطلب القيام بمراجعات في النهج السياسي تكمّل المنهج وتزينه ولكن لم يسعفه الأجل رحمه الله، ووجدت الحركة نفسها بعده في مرحلة  رابعة من تاريخها تعمق فيها نهج المشاركة الحكومية، بل تحول إلى منهج اندماجي تام في النظام السياسي رغم التململ  الذي بات واضحا في صفوف الحركة، بل كان يوشك أن يتفجر في وجه الشيخ محفوظ على نحو ما وقع له في لقاء وطني شهير ببومرداس.

لقد كنت من شركاء المسيرة ومن صانعي أبعادها الاستراتيجية ولكن أصبحت غير موافق على الشق السياسي في المنهج في وقت مبكر في زمن الشيخ محفوظ  منذ عام  1997 بعد أن باتت فكرة التحالف مع التيار الوطني وهْما وصار قادة المؤسسة العسكرية [الذين اعتُبر قادتهم في زمن الحراك الشعبي جزء من العصابة ] هم الخطر الأول على مشروعنا وفاعليتنا، وكنت أعبر عن رأيي المخالف بكل حرية، وقد ظهر ذلك للرأي العام لأول مرة عند رفضي التصويت على برنامج أويحيى الحكومي عام 1997 عند رفضه إدخال تعديلاتنا [وتعديلات جبهة التحرير حين كان قادة التيار الوطني الأصلاء هم من يقودها]، وذلك بالرغم  من أنني كنت رئيس الكتلة البرلمانية، كما سميتُ المشاركة الحكومية  “مشاركة عبثية” في أحد الحوارات في جريدة الخبر  في حياة الشيخ محفوظ رحمه الله، وقد قدمت له آنذاك، عام 1997، ورقة حذرت فيها من عواقب ذلك النهج واستشرفت الآفاق المستقبلية في أجل زمني أكدته الثورات العربية وقدمت رؤية بديلة هي التي طبقتُها لاحقا كما سأبينه أدناه.

تابع.. المرحلة الرابعة: “نحو طور جديد”