أرشيف التصنيف: أخبار

صلاح الدين مقري: التنافس على الخير وقسوة القرعة

ابني صلاح الدين مناضل صادق، ومثقف شجاع، وصاحب حجة وقلم، كان متفوقا طيلة فترة دراسته إلى أن تخرج من المعهد العالي للهندسة المعمارية بالحراش، تدرج في المسؤوليات النضالية منذ صغره، من خريجي مدارس جمعية الإرشاد وكتاتيب القرآن الكريم في المسيلة، ومن قادة العمل الطلابي في الحي الجامعي بباب الزوار كعضو في مكتب المؤسسة الطلابية، ومن مؤسسي أكاديمية جيل الترجيح للتأهيل القيادي، وهو الآن الأمين البلدي لأمانة التنظيم في حركة مجتمع السلم بادرارية. سكنت فلسطين قلبه كما هو حال كل العائلة، كان من رفقائي في حملة من حملات كسر الحصار البرية لإغاثة أهلنا في غزة، من أكثر المناضلين فاعلية في بلديته في تجميع المساهمات لصالح فلسطين، ومن الرافضين لقتل القضية في وجدان الناس ب”سكوت القبور” أمام الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، ورفض المسيرات والوقفات أمام السفارة الأمريكية، قبض عليه عدة مرات بسبب محاولاته الخروج، لم يسكت قلمه الفصيح في جبهات النضال الفكري والسياسي لصالح القضية الفلسطينية أبدا.

حينما قررنا المشاركة في أسطول الصمود عزم أن يكون عضوا فيه، لم أكن أريد أن يشارك من الأسرة اثنان، والحاجة إليه كبيرة في عدة مجالات، ولكنه أصر، وقال لي: ” لا أستطيع أن أفعل شيئا يُهدئ من غضبي تجاه الظلم الواقع على أهلنا في غزة، من الأعداء ومن القريبين، سوى المشاركة في الأسطول، وإن لم أذهب لا أتحكم في نفسي في ما يمكن أن أقوم به”. لم تساعدني أمه في إقناعه، إذ فصلت في الموضوع بخصوصي وخصوصه، بأنه “لا يُنهى أحدٌ عن القيام بالواجب، ولا يحدث إلا ما يريده الله، ولا يقتل سوى الأجل”.

وكانت زوجته رغم خوفها عليه تشجعه على الذهاب، تارة تدمع عينيها ولكن في كل الأحوال تصر على تشجيعه. ولكن حينما التقيت به في تونس ضمن الوفد الجزائري الكبير بقيادة الأستاذ مروان بن قطاية دعوته أن يقيم معي في نفس الحجرة فاستنأست به، وفرحت بانخراطه الكامل مع الفريق المشرف مع المايسترو المؤدب القدير زكريا شريفي .

ولكن حينما تغير شعوري وصرت أحرص أن يكون معي في هذه المهة سمعت قبيل ركوبي السفينة الجزائرية التي عُيّنت لركوبها نحو غزة، بأنه حُرم من الركوب في السفينة الجزائرية الأخرى التي كان من المفروض أن يكون فيها مع مروان وزكريا فحزنت وتأسفت كثيرا. ورغم الأسف حدث في سياق حرمان صلاح الدين من الذهاب ما يفرح له قلب المؤمن، وهو التنافس الشديد بين أعضاء الوفد السبعين الذي جاؤوا من الجزائر لركوب سفن أسطول الصمود حين تأكد بأن عدد البواخر المتاح وسعة المراكب المسموح لها بالإبحار لا يسمح بمشاركة الجميع في المهمة.لم يتنازل أغلب الأفراد فكان لا بد من إجراء القرعة، وحينما فصلت القرعة عمّ الحزن المقصيين ودمعت أعينهم، فارتفعت مقاماتهم جميعا في نفوس الجميع وتذاكرنا معا بشأنهم قوله تعالى في سورة التوبة: ((وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ – 92))، فكان ذلك شهادة لهم على مكانتهم وإن لم يتحقق لهم مرادهم، بل ثمة من ذكّر بقوله سبحانه في نفس السورة: (( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) فهم بنص القرآن الكريم وكأنهم معنا، يأخذون نفس الأجر لمن صدُقت نيته بإذن الله تعالى.

غير أن سبب إقصاء صلاح الدين ابني لم تكن القرعة العادلة، ولم يكن من المشاركين الذي قُبلوا بالصفة (الشخصيات الاعتبارية، الأطباء، الصحفيون)، ولكن الاجتهاد القيادي للقائد الفذ زكريا شريفي هو الذي فصل في أمره بكل مسؤولية وحب، إذ رأى بأنه على الشباب المسؤول في التنظيم أن يُعطي القدوة بالتنازل لغيرهم للمحافظة على الأجواء الطيبة، علاوة على أن صلاح الدين غاب أثناء القيام بالقرعة لمهمة كُلف بها، وحينما عاد ووجد بأن القرعة قد تمّت احتج على إقصائه، ولكن حين رأى الإرباك في وجوه من أنصفتهم القرعة تجنب إحداث إرباك مضاعف واضطر إلى الانسحاب وهو في غاية الحزن.لا أُخفي على الإطلاق بأنني تعاطفت كثيرا مع ابني صلاح الدين، وكرهت كثيرا أن أفتقده فلا أراه بجانبي في هذه المهمة التاريخية النبيلة، ولكن عساه يأخذ أجر الذين ذكرهم الله تعالى في الآيتين السابقتين، وأجر الصبر على عدم استفادته من القرعة، وأجر الإيثار في عدم إحزان إخوانه والله نسأله القبول من الجميع.

أسطول الحرية: لبيك غزة.

وصيتي الدائمة لأفراد عائلتي وفي محاضراتي أن لا تتركوا اليأس والأسى يشل إرادتكم لما ترونه من صور الإبادة الجماعية والقتل بالقصف والجوع والعطش والأمراض وصور التشريد والإهانة والتحطيم النفسي لأهلنا في غزة، ولا تسمحوا للغضب أن يفقدكم توازنكم  أمام المشاركة  الغربية الأمريكية الكاملة في الجريمة، وما يقابلها من خذلان النخب والحكومات  في العالم العربي الإسلامي  لهؤلاء الأبطال الذين يقاومون الاحتلال ببسالة لم يعرف لها التاريخ مثالا، ولهذا الشعب الذي  يقدم التضحيات التي لا تطيقها الجبال  من أجل التمسك بأرضه وبلده.

وإنما حوّلوا الحزن والغضب إلى عمل دائم وثابت ومؤثر ومستمر لنصرة فلسطين وأهلها بما يحقق التحرير حينا، أو بعد الحين.

لقد قدم أهل غزة كل شيء، ولم يبق شيءٌ يُطلب منهم أكثر مما يقدموه، إنهم يقاتلون ويصمدون من أجل بلدهم ومن أجل الأمة العربية والإسلامية، بلدا بلدا،  ومن أجل البشرية كلها، فإن أعجزوا الصهاينة فذلك طريق التحرير، وتلك هي نهضة الأمة، وذلكم هو تحرير العالم من الأقليات الاستعمارية التي تسيطر عليه، وإن كانت الأخرى – لا قدر الله – فسلام على القدس وفلسطين إلى حين، وستعيش بلداننا، كلها دون استثناء، ذليلة تحت هيمنة “إسرائيل الكبرى”، إلى قرن مقبل سيكون “قرن المهانة”، وستشتد قبضة القوى الشيطانية المسيطرة على أرزاق الناس وعقولهم وحكامهم في العالم نحو حتف البشرية كلها.

أنا متفائل جدا بأن الطوفان حالة سننية ستنتهي في الأخير لصالح تحرير فلسطين والأمة والبشرية. إن الله قادر على تحقيق النصر دون أسباب، وهو خالق الأسباب، وإنما يبتلينا الله لنسير على خطى من اصطفاهم الله في غزة لهذه المهمة العظيمة وفق قوله تعالى في سورة محمد: ((ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) )).

إن أصناف النصرة كثيرة، ينتقل الصادقون بين أصنافها صنفا صنفا بقدر فرصهم واستطاعتهم، وإن حملات كسر الحصار لمن أعظم الأصناف، فلا هي  تهوّر ولا استعراض ولا تبذير  للمال، كما يتشدّق  به المخذّلون، إنما هو جهاد في سبيل الله فيه من الفوائد عظيمها وأكثرها نفعا للقضية.

علاوة على أنه الطريق الذي يسلكه الغاضب الحزين ليلتحق بأهل غزة، نصرة وإغاثة، سواء وصل أم لم يصل، عذرا بين يدي ربه، سواء رجع إلى أهله أم لم يرجع.

وهو كذلك النبأ العظيم الذي يفرح به المظلومون إذ يدركون أن ثمة من إخوانهم في الدين وفي الإنسانية من يكترث لحالهم ويركب المخاطر لإغاثتهم.

وهو فضيحة صارخة تعرّي الصهاينة وحلفاءهم الظالمين بين الناس أجمعين، وحجة كاشفة على المنافقين والمتخاذلين، وهو دليل على بقية باقية من الحياة في المسلمين،  ومن ضمائر  الناس في العالمين، من ركب الأسطول فسار بنفسه لمقابلة العدو لعله يصل إلى الأحبة، أو الذي فكّر ونظّم وجهّز وشرح، وروّج للخير وفرح بالمنجَز ودافع عمّن ركبوا وسهر على بعث الأساطيل حملة بعد حملة، أو دعا وشجّع من بعيد، أو على الأقل لم يثبّط ولم يلمز النشطاء ولم يتّهمهم.

إننا ونحن نستعد لركوب السفن إلى غزة، قائلين “لبيك غزة”، متوكلين على الله، نتوقع المحاسن كلها، إما أن نصل غزة ونسلِّم اليسير من مواد الإغاثة، أو يقطع طريقَنا الصهاينة فيصيبنا شيء من العدوان ثم نرحل لبلداننا أكثر عزما على العودة كما كان حالنا مع إخواني في سفينة مرمرة عام 2010 وما لحقها من محاولات أخرى مع نشطاء آخرين عديدين كان آخرها سفينة حنظلة، أو يُلقى علينا القبض ويطبق الصهاينة تهديدهم الذي أطلقوه هذه المرة بإبقائنا في السجون فننال شرف الأسر من أجل أقدس قضية، ولو كنا لذلك كارهين، سائلين الله أن يرزقنا الصبر والثبات والرضا والتحمل حتى يقضي الله ما يشاء فينا، ونساهم إلى ذلكم الحين في تعظيم متاعب الظالمين ورفع معنويات المظلومين وتحريك شبكات عالمية من النشطاء والمتعاطفين، أو أن يُعجّل الله لنا بالشهادة التي هي أسمى أمانينا كمثل السائرين على درب الدعوة إلى الله والعودة الحضارية للأمة، وتحرير فلسطين والأمة والبشرية أجمعين، ولعل دماءنا تكون وقودا لتحريك الشعوب نحو  عالم أفضل أكثر رحمة وعدلا، يكون فيه المسلمون أعزاء ظاهرين.

إن الصهاينة خاسرون في كل هذه الحالات، ولئن كانت سفن صغيرة محدودة العدد قد ألهبت مشاعر الناس وفضحت الوجه القبيح للكيان فإن الغزوة المباركة التي يخط طريقها في البحر  سفن هذا الأسطول الكبير  من شأنها  أن تقرّب سقوط الطغيان .. هكذا ينبغي أن يكون الأمر، وهذا الذي يجب على المسلمين والنشطاء والأحرار في العالم الذي يسندون الحملة ولم يركبوا السفن أن يعملوا  من أجله معنا وبعدنا.

التخلي عن الواجب خوفا من ضياع المكتسبات (2)

التعسق في استعمال صلح الحديبية:

يستعمل  القادة بعض القادة كثيرا أحداث صلح الحديبية في إقناع أتباعهم بالتنازلات الخادمة لتكتيكاتهم الآنية والمضرة باستراتيجياتهم بعيدة المدى.

لقد اضطرّ رسول الله صلى عليه وسلم أن يقدم في صلح الحديبية تنازلات كبيرة للحفاظ على الدعوة واستمرار المسيرة، ومن ذلك القبول بحرية من يرتد عن الإسلام  والتحاقه بالكفار في  مكة فلا يردوه، وتسليم من يسلم ويهاجر  صوب المدينة إلى قريش.

أسلم أبو بصير ( عتبة بن أسيد) في مكة ولكن حين هاجر إلى المدينة أرسلت قريش رجلين لطلبه  فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم معهما وفق الاتفاق، وأثناء الطريق قتل أبو بصير  أحدهما وعاد إلى المدينة يتوسل رسول الله ألا يرده إلى الكفار يفتنوه عن دينه، فقال له:  (يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا)،  و حين سمع أبو بصير المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول عنه: “ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد”. ففهم الرسالة بأن لا مُقام له في المدينة وأنه عليه أن يبحث له عن دور خارجها يكون لصالح المسلمين.

انطلق هذا البطل خارج المدينة فورا، وتمركز  على ساحل البحر الأحمر في منطقة تسمى سيف البحر، وبات كل من سمع إيحاء رسول الله لا يأتي إليه حين يُسلم بل يلتحق بأبي بصير، حتى صار جمعهم جيشا قوامه ثلاثمائة رجل يغيرون  على قوافل قريش يقتلون من فيها ويأخذون أحمالها. وممن التحق به  الصحابي الجليل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ومعه سبعون فارسا ممن أسلم بعد الحديبية، وسهيل  بن عمرو أبوه هو مفاوض قريش في الصلح، أخذ ابنه  بنفسه من بين يدي رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي جندل حين استغاثه: (( اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا))،

لقد كانت هذه المبادرة الاستراتيجية، من أبي بصير وأبي جندل، التي لا تتحمل جماعة المسلمين في المدينة عبأها هي المخرج والفرج، ليس لأصحابها فقط بل للجماعة كلها ولمستقبل الإسلام.

فبعد أن تضررت قريش من فاعلية هؤلاء الشباب الأبطال الذين صنعوا مصيرهم بأيديهم، دون أخذ الإذن من الجماعة ومن الرسول القائد، جاءت تتوسل إلى رسول الله أن يُسقط ذلك البند الظالم وأن يُبقي عنده من يأتي إليه مسلما، فأرجع المصطفى عليه الصلاة والسلام أبطال جيش أبي بصير  وأبي جندل إلى الجماعة في المدينة معززين مكرمين،  ولم يصبح الناس، بما فعله هؤلاء،  يخافون من بطش قريش فكثر الوافدون على الإسلام جهارا وما هي إلا  سنتان حتى نقضت قريش الصلح فأدى ذلك إلى فتح مكة ونهاية حكم الشرك فيها.

إن العبرة الأساسية التي نستشفها من هذا الحدث في السيرة النبوية في الرد على من يريد كتم أنفاس الأتباع، خصوصا الشباب، ليكون الناس جميعا على عقليتهم ونمطهم القيادي، بدعوى المحافظة على المكتسبات، لا يملكون الفهم الصحيح للأداء الاستراتيجي، بأن يكون على يمينهم من يمكن أن يرفعوا سقف النضال والمقاومة،  دون أن يُتهموا بالمزايدة على القادة، حتى وإن لم يستشيروا في الأمر، خصوصا في زمن الإكراهات وما دامت أعمالهم تتجه إلى نصرة الإسلام وقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

إن القائد الاستراتيجي هو الذي يكون على يمينه، من الرجال والمؤسسات،  من يجب أن يرفع السقف أكثر مما تطيقه القيادة في ظرف من الظروف، كما قد  يكون على يساره من يخفّض السقف أدنى مما يصح أن تنزل إليه القيادة، ويخوض القائد الاستراتيجي معركة الكر والفر بين هاذين السقفين بما يخدم استراتيجية الجماعة والرؤى المتوسطة والبعيدة، لا استراتيجيات الأفراد وطموحاتهم. وبذلك فقط يتم المحافظة على المكتسبات. أما الجمود على نمط واحد من الأداء والمكوث في مساحة ضيقة من الفعل هو  ذلك ما يضّيع المكتسبات، هذا الذي تعلمناه من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد شرحنا هذه الأفكار في بعض كتبنا ومقالاتنا ودرّبنا عليها أجيالا قيادية وحققت نتائج محمودة بإذن الله وتوفيقه.

٢- إن مما يرد شبهة التخلي عن الواجب والتضييق على من يقوم بالواجب خوفا من ضياع المكتسبات، أن مستقبل القضية الفلسطينية لا يرتبط بالتنازل على القيام بالواجب الكامل تجاهها، وإنما يرتبط كليا بالمآل الأخير لطوفان الأقصى، فلو –  لا قدر الله- تم كسر  المقاومة والسيطرة على غزة نهائيا سيعمّم التطبيع على كل البلاد العربية والإسلامية، ومخرجات المبادرة السعودية الفرنسية في الأمم المتحدة تدل عل ذلك، وإذا وقع هذا سينتقل الدور إلى الفكرة التي أسست المقاومة في كل أنحاء العالم، وسيكون الثمن الذي تدفعه الحركة الإسلامية عندئذ فادحا يجعلها تندم على التنازلات التي قدمتها وعلى تجنب الاشتباك السلمي دفاعا عن المقاومة وأهلنا في غزة.

إن المحافظة الحقيقية على المكتسبات تتحقق حينما يعرف الحكام بأن لا سقف يحكمنا بخصوص القضية الفلسطينية، وأن التخلي عنها من قبل الأنظمة سيحوّلها الى مشكلة داخلية في كل بلد.

علاوة على أن سياسة الخوف من ضياع المكتسبات أدت إلى نتائج عكسية في العديد من تجارب الإسلاميين بشكل عام. فالحركات الإسلامية التي سايرت الأنظمة المحلية والإقليمية والقوى الدولية للحفاظ على المكتسبات تراجعت وضعفت وتم السيطرة عليها وعلى مؤسساتها من قبل الاستبداد ولم تصبح آمنة على مستقبلها وتقهقر تأثيرها، وبعضها تعرضت لانشطارات وانسحابات وفتور  واسع لدى مناضليها، حدث ذلك في المغرب والجزائر وتونس واليمن والأردن، بأشكال مختلفة وبعضها مشترك، وزاد في نفس الوقت في هذه البلدان وغيرها سيطرة الاستبداد، وتضييق هوامش الحرية،  وانتشار الفساد، وتعمّق في بعضها التطبيع وفقدان السيادة لصالح الصهاينة والقوى الاستعمارية، وتواطأت كلها على خذلان غزة واكتفت بالتصريحات والبيانات والمساعدات التي بات لا يصل أكثرها، وما وصل لا يسمن ولا تغني من جوع.

التخلي عن رفع السقف في القضية الفلسطينية خوفا على المكتسبات (1)

يتخلى بعض نشطاء القضية الفلسطينية، خصوصا على مستوى الحركات الإسلامية في العالم العربي،  عن واجبات أساسية في نصرة القضية الفلسطينية، بما يتناسب مع حجم المخاطر والمأساة،  بقولهم أنهم يحافظون بذلك على مكتسبات ثابتة في بلدانهم.

فيقولون في المغرب مثلا بأنهم لا يرفعون سقف الاحتجاج ضد التطبيع ولا يستعملون الوسائل السلمية الصارمة ضد وجود السفارة الصهيونية في بلادهم للمحافظة  على البعد الديني للملكية وإمارة المؤمنين، والسماح لهم بالمسيرات الضخمة في المدن المغربية لصالح فلسطين.

ويقولون في الجزائر بأنهم يتخلون عن المسيرات والوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الأمريكية ولا ينخرطون علانية وعمليا في أسطول الحرية، ويتساهلون مع التقصير الرسمي في نصرة القضية،  وغير ذلك،  للمحافظة على الموقف الرسمي الرافض للتطبيع وتساهل السلطات مع العمل الخيري والإنساني الشعبي لصالح القضية.

وقد كانوا يقولون في الأردن، قبل حظرهم ومنعهم من التعبير،  بأنهم لا يتعاملون بصرامة مع السفارة الصهيونية، ولا يرفعون سقف احتجاجاتهم بما يتناسب مع حجم مأساة قومهم وأهلهم، ولا يزحفون سلميا نحو الحدود،  ولا يعملون على دعم تصعيد المقاومة، خصوصا في الضفة، ويتبرؤون من المتطوعين الذين يُلقى عليهم القبض بسبب المحافظة على رصيدهم التاريخي في البلاد وعلى نشاطهم في مختلف المجالات، وعلى الهوامش الشعبية المتاحة لدعم القضية الفلسطينية، ولو لا الخوف من الإطالة لتوسعت في ضرب الأمثلة في العديد من دول العالم العربي والإسلامي ( وقد يتطلب الأمر التوسع في دراسة هذا الموضوع في إطار أشمل من القضية الفلسطينية بإعداد بحث تفصيلي خاص يرصد الحقائق ويتعمق في دراسة الأسباب ويحلل النتائج ويستشرف المستقبل ويقدم الحلول والبدائل العامة والقطرية).

غير أن الرد على الحجج التي يقدمها المقصرون في القيام بالواجب سهل جدا، هم ذاتهم يعرفونه في قرارة أنفسهم، ورفض توجهاتهم موجود في النقاش الداخلي على مستوى مناضليهم، ولكن الذي يفرض التخاذل إنما هم القادة لأسباب خاصة بهم نذكرها لاحقا.

وبسبب الطبيعة التنظيمية “العسكراتية” وغلق فضاءات التعبير  بالقدر الكافي لقادة الرأي الآخر في مؤسساتهم، وبسبب ضعف البنية الفكرية القاعدية، ومخاوف الأتباع من الاستهداف ضد التنظيم وقيادته ووحدة الصف، الوهمية والحقيقية، تتجسد “نظرية القطيع” التي يصفها المتخصصون في علوم الإدارة والمنظمات وحركات الحشود وعلم النفس وعلوم الاجتماع، فيُترك بسبب ذلك كثير من الواجبات ويتم تجاوز الحق، والتواطؤ الجماعي على الخطأ.      

لو سلمنا فرضا بأن كل المكتسبات المعبر عنها مكتسبات حقيقية وثابتة وقابلة للصمود، فإن ما يدفع إلى خفض سقوف النصرة للقضية الفلسطينية بسببها يدل على ضيق الأفق، وضعف الأهلية القيادية، وقلة الكفاءة في بناء الرؤى والاستراتيجيات الشاملة، وعدم توفر المهارة في بناء فرق العمل وتوزيع الأدوار والتكامل في الأدوار، للمحافظة حقا على المكتسبات. وأخطر ما في ذلك، عند بعض القادة، ما تنطوي عليه نفسياتهم من ضعف تربوي ينم عن رفض الحق إن لم يكن تحت قيادتهم، والخوف على مواقعهم من الفعل الذي لا يُوضع فورا وبشكل مباشر في كفتهم، وبُغض من يشتغل خارج إرادتهم، والنزوع لاحتكار المشهد ونجومية الفعل، وحسد المُجدين واتهام نواياهم ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالقضية ذاتها، بل الإضرار بحركاتهم وجماعاتهم ومنظماتهم وأحزابهم وبلدانهم نفسها.

إنه من العجب فعلا أن يعتقد بعضنا، ونحن في حالة الضعف التي نحن فيها، أننا نحن مركز العالم وكل ما يحدث مما يخالف توجهاتنا وقراراتنا هو باطل يجب التحرز منه، وتعميم التوجيهات للابتعاد عنه وعدم المشاركة فيه، وإن كان في ما يحذرون منه خدمة للإسلام والأوطان والمقدسات، ولعمري إن في ذلك ما ينافي سلامة القلب، التي تجعل الإنسان يفرح بالخير وإن لم يكن له فيه مصلحة محققة، كما بينه ابن قيم في تبيان أمارات صاحب القلب السليم على لسان صاحبه حين يقول” وأسمع بالقطر ينزل في أرض ليست لي فيها سائمة فأفرح”

ولو اتبع هؤلاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرائقه لإدارة الصراع لأدركوا حجم أخطائهم في فرض نمطيتهم الواحدة، ففي سيرته عليه الصلاة والسلام نماذج كثيرة في استيعابه  لمختلف الفواعل المتناقضة واحتوائه المشاهد المعقدة في زمن الإكراهات وإدخالها ضمن استراتيجياته واستعمالها لتحقيق أهدافه.

ومن ذلك حوادث صلح الحديبية، التي يستعملها القادة المتخاذلون كثيرا في إقناع أتباعهم بالتنازلات الخادمة لتكتيكاتهم الآنية والمضرة باستراتيجياتهم بعيدة المدى.

يتبع …

فوضى التجارة وأزمة الاستيراد

لم تصبح الأخطاء والأزمات  التي يعرفها عالم التجارة في بلادنا، حالات عابرة متحملة، بل صارت حالات مزمنة دائمة، الخطأ يتلوه الخطأ، والأزمة تتلوها الأزمة، أزمة السيارات، أزمة الحافلات، أزمة قطع غيار السيارات، أزمة زيت المحركات، أزمة العجلات،  أزمة الموانئ، أزمة الرحلات الجوية ، أزمة المواد الطبية، أزمة مواد البناء، أزمة مواد الجراحة العامة وجراحة الأسنان، أزمة المواد الأولية للقطاع الصناعي والفلاحي،  أزمة الحليب، أزمة البطاطا، أزمة البقوليات،  أزمة المواد الطبية ….. وأزمة مستدامة وفوضى عارمة في الاستيراد.

وفي كثير من الأحيان تَصنع هذه الأزمات التي تنشئها السلطات أزمات في المجتمع ثم يحاول المسؤولون إلصاق الأسباب بالمواطنين الذين ضغطت عليهم تلك الأزمات وجعلت بعضهم يقع في المخالفات، وما كان عليهم أن يكونوا على تلك المخالفات لو كان البلد تحكمه الكفاءة والرشد والحكمة. 

فلو تحدثت مثلا عن أزمة الاستيراد أقول  في هذا المقال ما قلته  لمسؤول في الدولة حين كنت رئيسا لحركة حمس. بيّنت له بالحجج العلمية  بأن المنع الموسع للاستيراد لا تقول به أي قاعدة في علم الاقتصاد ولا تنتهجه أي دولة في تجارب الناس.

إن منع الاستيراد لا تنتهجه الدول إلا لوقت محدد في فروع قليلة من فروع الإنتاج من أجل ترقية صناعة منتج من المنتجات أو حماية محصول محدد من محاصيل القطاع الفلاحي، بل إن التوجه الأفضل من هذا المنع المحدود في الحكومات الأكثر رشدا، أنه لا يتم منع الاستيراد ولكن تقوم الدولة بحماية خطتها الإنتاجية بالحوافز التي تمنحها للإنتاج الوطني وبالرسوم التي تفرضها على المواد المستوردة المنافسة للمنتج الوطني المحدد.

إنه لا يعقل البتة أن يُمنع الاستيراد بشكل موسع لمواد صناعية وفلاحية وتكنولوجية وحتى خدمية  لا ينتجها البلد. إن الحاكم الذي يفعل هذا يحرص على استمرار حكمه وليس على استمرار الدولة، يحرص على نفسه ولا يحرص على البلد. إنه يفعل ذلك للمحافظة على الميزان التجاري بمعزل عن أي رؤية أو خطة اقتصادية، ليحافظ على السيولة النقدية وليس على الاقتصاد الحقيقي، ليحافظ على احتياطي الصرف حتى لا يقع في التوقف عن الدفع في فترة حكمه.. دون اكتراث حقيقي بالرؤى والخطط والعمليات الاقتصادية الجادة التي تضمن توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات على أساس تصدير الإنتاج الوطني من الصناعة والفلاحة والخدمات،  وليس بالاعتماد بنسبة عالية جدا على تصدير المحروقات، التي توفر سيولة نقدية بالعملة الصعبة تتأثر تأثرا كبيرا بتقلبات السوق الطاقوية. 

ولا يمكن أن تنطلي على متوسط الثقافة في المجال الاقتصادي أن المقصود من التوسع في منع الاستيراد  هو حماية البلد من المديونية. لا شك أن البلد المدين ضعيف، ولكن سبب الضعف ليس المديونية ولكن العجز عن دفع الديون، إذ الدول ذات الاقتصاد المنتج تتحمل هامشا من المديونية الداخلية أو الخارجية لتحريك الإنتاج وصناعة الثروة، فما الديون عندئذ إلا رأس مال من أجل الاستثمار ولصالح ميزانيات التجهيز ، كمثل ذاك التاجر الناجح الذي يستلف من أجل الربح ثم رد الديون من أرباحه. أما إن كانت المديونية من أجل ميزانية التسيير،  كدفع أجور العمال ونحوه، فتلك هي المديونية القاتلة المدمرة للسيادة التي ينتهجها الحكام الفاشلون الفاسدون.

إن المنع الموسع للاستيراد، في غياب السلع في الأسواق يصنع أزمات متتالية وآفات متعاظمة، وأول هذه الأزمات الندرة، والندرة هي أم الآفات الاقتصادية الأخرى. ومن ذلك التضخم وارتفاع الأسعار، إذ السلعة الناقصة المطلوبة في السوق يرتفع سعرها ويعجز أغلب المستهلكين بعد مدة عن اقتنائها، وإذا انتهجت السلطات سياسة طبع النقود المزمنة الرعناء  من أجل الاستهلاك  لا يصبح ثمة قيد يوقف التضخم حتى تصبح العملة بعد فترة لا قيمة لها. ومما تصنعه الندرة كذلك التهريب، إذ التجارة كلها مغامرة، فيستغل التجار الفرصة ويغامرون لتوفير السلع عبر  شبكات التهريب، فإن طال أمد منع الاستيراد دون تطور  إنتاج السلع الممنوعة يصبح التهريب قاعدة التعامل فتضطر السلطات للتعامل معها ومحاولة تقنينها، وللتهرب من الرقابة على بيع المنتوجات محظورة الاستيراد يتوسع القطاع الموازي وينتج عنه التهرب الجبائي.

ولتوفير السلع للزبائن أو لرفع قيمتها تتطور المضاربة وتتوسع. ومن آثار منع الاستيراد الموسع انتشار الفساد وتهيكله، إذا لا تهريب بدون فساد، ولا تهرب جبائي بدون فساد، ولا مضاربة بدون فساد،  وإذا تم انتهاج سياسة رخص الاستيراد ووضعها في يد جهة محددة، تعاظم الفساد وأدى إلى صناعة عصابات ومافيا داخل الدولة تصبح مع تعاظمها مدمرة للاقتصاد الوطني، ومفسدة للحياة السياسية والاجتماعية، ومهلكة للقيم والأخلاق.

وحين تكثر هذه الآفات وتتعاظم يُحصَّنُ فيها كبار الفاسدين والمهربين والمضاربين ممن يسيّرون أمورهم بعلاقاتهم وشراكاتهم مع الموظفين الكبار  في الدولة في المستويات العليا، أو ممن يشرون رجال الأمن والقضاء ومدراء المصالح وأجهزة الرقابة في المستويات الدنيا.

إن الفوضى التي تعيشها الجزائر في مجال التجارة صنعتها الدولة ولا ضحايا لها سوى المواطنين، ولإظهار نشاط المصالح المختصة أو لابتزاز التجار  الذين يعملون في البيئة السيئة التي صنعتها الدولة يتم بين الحين والحين ضرب بعض صغار المهربين والـمضاربين والمتهربين جبائيا، والمتورطين في الفساد الصغير.

لقد رأينا فعلا كيف أن أناسا محترمين حكم عليهم بأحكام غليظة جدا من أجل عمليات تجارية خاطئة لا تستحق تلك الأحكام، وما كان لها أن تكون لو لا الأزمة التي صنعها المسؤولون، ومن أجل تصرفات إنما جعلتها البيئة الفاسدة مدانة، ولو كنا في بيئة مفتوحة سليمة لكانت تصرفات عادية، وبعض هؤلاء الذين دمرت حياتهم أصحاب شهادات عليا ومقامات اجتماعية مرموقة لا يوجد في سجلهم أي مخالفة قانونية أو أخلاقية  تذكر، وإنما هم ضحية بيئة صنعها غياب الرشد في الحكم والقرارات الخاطئة في الحكم.

إن الأبداع الذي كان مطلوبا من الحكام هو النجاح في التنمية الاقتصادية وتحقيق اقتصاد منتج يوفر السلع والخدمات التي تستطيع أن تنافس منتجات الدول الأخرى، بل تقتحم أسواقهم، وليس عرقلة الإنتاج بمنع استيراد المواد التي تحتاجها الصناعة والفلاحة في بلادنا، وليس بإرهاق المواطن بالندرة وغلاء الأسعار بالتوسع في منع الاستيراد، وليس خلق الفوضى والتهريب والمضاربة والفساد، وليس بظلم التجار بوضعهم في حالة خسران مؤكد تضطرهم لمخالفة القواعد الخاطئة المفروضة.

رداءة في المطار.

في كل مرة يجب أن تكون مشكلة في المطار تذكرنا بأننا على مسافة بعيدة من التطور والتحضر، وفي كل مرة أقول: “لِأصبر كغيري من المسافرين ولا داعي للتفاعل!” حتى لا يُقال بأننا نبحث عن السلبيات.

لم أكن في فترة شبابي أثناء أسفاري بهذا الهدوء. كنت دائما أحتجّ عن التأخر الطويل للرحلات، وعن تدهور الخدمات وسوء التعامل. اذكر أنني قدت مسيرة كبيرة للحجاج في مطار جدة، وكنت يومئذ نائباً في البرلمان، احتجاجا على تأخر عدة رحلات ليلا كاملا تم التخلي فيه عن الحجاج تخليا تاما، بلا أكل ولا ماء، ولا مكان للنوم، حتى أخذنا حقوقنا كلها. وفعلت ذات الشيء في رحلة عادية في مطار بدولة أجنبية أخرى، وكثيرا ما كان الناس يطلبون مني أن أتدخل، يحدث أحيانا أن يؤدي الاحتجاج إلى التلاسن مع المسؤولين في المطار أو الخطوط ولكن في  أغلب الأحيان تكون ردود الأفعال من المسؤولين جيدة، إذ أغلب الناس محترمون، ولكن فساد المنظومة هي التي تفسد الناس.

مع التقدم في السن، وبسبب حالة من السأم، وشيء من اليأس في أن تصلح أمور البلد، لم أصبح أتحمس للاحتجاج،  وأصبحت أوطّد نفسي على الصبر، لا سيما أنه لم تصبح لي أي مسؤولية نيابية أو رسمية أو حتى حزبية، فلم أصبح أشعر  بالمسؤولية تجاه غيري لما أراه  أثناء أسفاري، بالرغم من أنني أعلم في قرارة نفسي بأنه شعور شيء  وغير مقبول! ولكن الله غالب، الأمر أصبح هكذا.

ولكن في هذا اليوم بالذات حدث شيء لم أعهده حرّك فيّ الغضب وجعلني أحصي كل المظاهر الخائبة التي عشتها في المطار في نفس الرحلة.

أما الأمر الذي استفزني وأغضبني هذه الصبيحة في المطار فهو تكرار الإعلانات الصوتية بالفرنسية دون  العربية لمدة معتبرة، لم يكن هذا يحدث من قبل، أو ربما لم أكن أنتبه إليه، أو ربما حدث بسبب شخص ما على غير العادة، غضبت غضبا شديدا عن ضياع السيادة وهيبة البلد في مكان يرمز الى السيادة وهو المطار.

لا يتوقف امتعاضي من غلبة اللغة الفرنسية في شوارع عاصمة البلد على لافتات الأغلبية الساحقة من المحلات، وغياب مذهل للغة الوطنية في المحيط، دون أي اهتمام من السلطة الحاكمة ( التي لا تفهم معنى السيادة وهيبة الدولة إلا في الأمور الأمنية والتحكم في أنفاس أصحاب الرأي المخالف)، ولكن أن يكون هذا في المطار فهو لعمري أمر غير مقبول، ولو لوهلة من الزمن، وهذا دون الإشارة الى حصرية اللغة الفرنسية على لسان الموظفين في شركة الطيران الجزائرية حين يتحركون بين المسافرين ينبهونهم للتوجه للركوب وفي حديثهم مع المسافرين أثناء تقديم الطعام في الطائرة، وعن لافتات محلات المطار التي تشعرك وكأنك في فرنسا وليس الجزائر، وأسوء ما في الأمر هو تحول كثير من المسافرين إلى الحديث باللغة الفرنسية، لغة فرنسية رديئة جدا جدا!

أما عن العيوب الأخرى التي صبرت عليها مرات عديدة ولكن اذكرها اليوم بدافع ما أصابني من افتزاز بسبب قهر اللغة الفرنسية لمشاعري فمنها:

  • الوقوف في طابور لم يتحرك أثناء التسجيل لأقول بلا مبالغة بأنني لم أتقدم لساعة كاملة بضع  سنتيمترات، وحين تكدس الناس في الطابور جاء أحدهم يوجّهنا إلى مكتب تسجيل آخر، وكان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك منذ البداية.
  • وكإجراء اعتدت عليه، كان على الشرطي الذي يطبع الجواز أن يوقفني اكثر من المسافرين الآخرين ثم عليه أن يستشير ضابطا أعلى منه قبل الختم، لم يزعجني الانتظار فلم يكن طويلا، ولكن ما يزعجني في كل مرة هو إشعاري  وكأنني شخص خارج القانون دون جريرة اقترفتها طول حياتي بحمد الله، ولا يخفف عني هذا الشعور بالظلم سوى الأدب الجم الذي يتعامل به معي رجال الشرطة، خصوصا المسؤولون،  جزاهم الله خيرا، فالمشكلة ليست فيهم ولكن في المنظومة.
  • وعند وصول وقت دخول الطائرة أخبرونا بأن الرحلة متأخرة لمدة ساعتين، وبعد الساعتين تأخرت ساعة أخرى، ويا ليتهم أعطوا المسافرين شيئا من الإكراميات والماء تطييبا لخواطرهم كما تفعل شركات الطيران في العالم حين يتسببون في التأخر.
  • وحين يطول بك المقام فتقرر أن تتجه لأحد المقاهي من أجل فنجان قهوة تقابلك قارورات الخمر، فتبحث عن مقهى آخر لا يبيع الخمر، معتقدا بأنهم “ربما قد فكروا في الأقليات مثلنا ! فجعلوا لهم مكانا لشرب القهوة لا يباع فيه الخمر” فلا تجد، والغريب في الأمر هو أنني تأملت من بعيد هل هناك من يطلب الخمر من هذه الأماكن فلم يظهر لي أحد يفعل ذلك، مما جعلني أشعر بأنني ربما لست من الأقليات في المطار، والحمد لله، وسألت نفسي: حتى وإن تجاوزوا المحذور الشرعي في بلد مسلم، لماذا إذن يضعون قارورات الخمر، إنه لا يطلبها أحد!
  • حين تزور أماكن الحاجة والوضوء تستغرب كيف يتدهور المكان بسرعة مقارنة بالمطارات الأخرى في العالم ولماذا لا يتم إصلاح ما يُكسر أو يتعطل بسرعة وإتقان، مع الاعتراف بأن التنظيف على قدم وساق والحمد لله.
  • وعندما حان وقت الركوب غيّر الموظف تسجيل بطاقة الركوب رقم مقعدي بالقلم، فبعد أن تحركت لمكتب التسجيل ثلاث ساعات قبل الوقت لآخذ مكانا مناسبا في المقدمة حتى أتجنب الطابور عند الوصول إذا بالموظف يرجعني إلى آخر رقم في مؤخرة الطائرة، والحجة كانت أنهم غيروا الطائرة فتغيرت الأرقام، ولا أدري كيف لم يراعوا تسلسل التسجيل.
  • ولا يفوتني أن أذكر بما هو معتاد كذلك وهو الانتظار الطويل عند تسلم الأمتعة في العودة وهو ما لا أراه في أغلب مطارات الدول الكثيرة التي زرتها بما جعلني أضيّق على نفسي فلا أحمل في أسفاري إلا حقيبة اليد حتى أتجنب الانتظار الطويل.
  • بعد طول انتظار وفوضى تغيير أرقام المقاعد، خاصة أرقام العائلات، وبسبب التعب، وقلق الأطفال، وعدم تشغيل المكيف بدأ المسافرون يرفعون أصواتهم، وتكلمت امرأة حرة أشجع مني تقول: “اتكلموا يا ناس، لاه ساكتين!” فتكلمت امرأة أخرى: “عيطولنا للمسؤول نهدرو معاه” والغريب في الأمر أن كل من احتج نساء، كلهن نساء، لم يحتج أحد من الذكور. حاولت أن أكون رجلا حين غضب موظف الطائرة من تصاعد الاحتجاجات محذرا من تجاوز الحدود فقلت:” لا تغضب، انت بالذات عليك أن تصبر”، بمعنى اديت “زعما” دور “الرجل الحكيم” خلافا لغضب النسوة وتميزا عن سكوت الذكور.  

تمنيت لو بقيت هادئا مستسلما تاركا لحقي في المطالبة بالحقوق وتحسين الأوضاع كما هو حال أغلب الجزائريين، فلا أكتب هذا المقال ولا أحاول محاولة محتشمة تهدئة مضيف الطائرة، ولكن للأسف غلب استفزازي معنويا حالة السكوت المعتادة عن الحقوق المادية، فأرجو أن يسامحني من أزعجته بمقالي هذا! وأرجو أن يساهم هذا المقام في التحسين ولو شيئا قليلا … على كل حال هذا ما يجب أن يفعله التدافع منطقيا حين نكون أسوياء.