أرشيف التصنيف: أخبار

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (2)

لا يمكن فهم كيف ضاعت فرصة الحراك الشعبي دون فهم الأسباب والظروف التي أنشأته، والفواعل السياسية والاجتماعية التي حركته. لم يكن الحراك طفرة مفاجئة نزلت من السماء بلا مقدمات ومسببات، ولكن كان ثمة مسار تراكمي أدى إليه.

حينما كانت أسعار البترول قد بلغت حدا غير مسبوق (تجاوز حد المائة دولار في عام 2008 إلى أن بدأ يتجه إلى الانهيار منذ نهاية عام 2014) كانت معارضة بوتفليقة كمن يسبح ضد التيار، إذ ساهمت البحبوحة المالية في تضخيم فقعات الزبونية والانتهازية، وباتت الشخصيات والمؤسسات الطامعة في الريع تتوالد، ولم يكن ينبه إلى أن الجزائريين كانوا يعيشون وهما كبيرا إلا عدد  قليل من السياسيين، بعضهم يعتمد على خبرته السياسية أو معارضته المبدئية، أو انتباهه إلى تعاظم شبكات الفساد في كل المستويات، وبعضهم يعتمد على الدراسات الاقتصادية والاستشرافات المستقبلية الدالة على انفجار حتمي للفقاعة المالية، وبعضهم يجمع بين هذا وذاك. وقد كنا بحمد الله ممن نبه الجزائريين إلى الخداع الكبير والهشاشة الاقتصادية وتعاظم منظومة الفساد، وتنبأنا بانهيار المنظومة، ومقالاتنا وفيديوهات تصريحاتنا لا تزال منشورة.

لقد فهمنا التفاهمات والتحالفات التي جاءت ببوتفليقة في وقت مبكر، وعلمنا من هي خاصته ومن هم خصومه داخل المنظومة، وكيف مر من العهدة الأولى إلى الثانية المتفق عليها بين من أتوا به، وكيف تفرقوا عند العهدة الثالثة وكيف بدأ الشرخ يتسع بينهم عند العهدة الرابعة. لم تكن العهدة الخامسة هي القطرة الأولى التي أفاضت الكأس، بل كانت قبلها العهدة الرابعة. لقد كانت العهدة الرابعة هي عهدة النزول نحو الهاوية، لذلك عارضناها وخرجنا إلى الشارع  احتجاجاً عليها.

 لقد تأكد ظننا بأن هذه العهدة ستُدخل البلد في وضع خطير جدا، اجتمعت فيها الأزمة المالية بسبب انهيار أسعار البترول، وتحلل السلطة حول الرئيس المريض، وتعاظم صراع الأجنحة، والاحتقان الاجتماعي،  وتحكم  رجال الأعمال المستفيدين والمال الفاسد والفساد المعمم. وفي آخر العهدة بات منصب الرئاسة شاغرا فعليا والصراع على أشده بين أقطاب المؤسسة الأمنية والعسكرية في البلاد، من يملأ الفراغ ومن يتحكم في مسار الاستخلاف، وظل شقيق الرئيس حلقة الوصل وتعلّة الحكم وقابض الأختام.

في ظل هذه الظروف المعقدة استطاعت المعارضة أن تتكتل في تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي ثم في اجتماع لم يعرف له مثيل منذ الاستقلال في  مازفران، وقد كان لنشاطها وتحليلاتها ومشاريعها دور أساسي في تشكيل الوعي لدى الجماهير بما أدى لاحقا إلى الحراك الشعبي الكبير.

تسبب صدود السلطة عن المعارضة ورفضها الحوار معها من أجل الانتقال الديمقراطي إلى تفكك جبهة المعارضين ثم اختلفت وجهتهم بشأن الانتخابات التشريعية 2017، وتوجهت أحزابهم الأساسية إلى المشاركة من أجل البقاء في الساحة السياسية بمنطق محاولة الإصلاح من الداخل وترقب فرص أخرى للتغيير. وفي  2018 تأكد لدينا في حركة مجتمع السلم بأن تحلل السلطة قد بلغ مداه وأن الرئاسة في حالة ضعف شديد وأن تلك هي الفرصة للعودة لفكرة الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه عبر مشروع جديد سميناه التوافق الوطني.

عندما بدأنا بالدعوة الى مبادرة التوافق تفاجأنا بقبول سريع من الرئاسة للحوار، وبعد الحوار مع أحزاب المولاة ثم بعض الشخصيات الوزارية المقربة من الرئيس توصلنا إلى الحوار مباشرة مع الرئاسة في مقرها بزرالدة فتأكد لدينا بأن الرئيس وعائلته لا يريدون العهدة الخمسة وإنما يبحثون عن مخرج آمن يحفظهم، وأنهم تحت ضغط شديد ممن يريدون فرض العهدة الخامسة على الرئيس وقد أُخبِرنا بمن هم أولئك.

لقد كانت تلك الظروف فرصة تاريخية لتحقق الانتقال الديمقراطي على نحو ما وقع في عدد من الدول التي نجحت فيها الديمقراطية بعد حالة ضعف في الحكم أدى الى ميزان قوة مناسب للحوار والتفاوض مع المعارضة. وبالفعل قبلت الرئاسة الورقة  التي عرضناها عليهم كاملة دون أي تغيير، بما يقتضي تغيير الدستور للتحول نحو نظام برلماني أو شبه رئاسي بصلاحيات كبيرة للبرلمان ورئيس الوزراء الذي ينجح حزبه، علاوة على تغيير قانون الانتخابات وتشكيل هيئة وطنية لتنظيم الانتخابات بالتشاور الكامل مع المعارضة، ولم نكن نحتاج إلا لستة أشهر أو سنة لتحقيق كل ذلك لتُنظم عندئذ انتخابات رئاسية لا يترشح فيها الرئيس بوتفليقة وقد تكون معها انتخابات تشريعية متزامنة.

لقد كانت والله فرصة عظيمة، ولم يكن مطلوبا سوى أن تقبل المعارضة بهذا الانتقال السلس وقد كلفت بالاتصال بهم، وأن تقبل قيادة الأركان الخطة وكلف شقيق الرئيس بالاتصال، وإني لأشهد أمام الله  أن المعارضة ليست هي من ضيع الفرصة وإنما رفضُ المخطط الذي اقترحناه و قبلت به الرئاسة  جاء من داخل نظام الحكم، إذ بُلِّغت رسميا في مقر الرئاسة بأن القرار قد اتخذ بالمرور للعهدة الخامسة – خلافا لرغبة الرئيس المريض الفاقد للأهلية – وأنها ستمرر بلا عناء! وكأن الرسائل التي جاءتهم من خنشلة ومن خراطة والعديد من جهات الوطن لم تنبههم.

بعد يأسنا من تحقيق التوافق الوطني قررنا الترشح للانتخابات الرئاسية وأعلنا عن ذلك في 26 جانفي 2019  وكان يدفعنا الى هذا الخيار ما كنا نخشاه من تآمر من جهات عديدة من داخل الحكم وجهات أيديولوجية  على تنظيم استخلاف لبوتفليقة حتى وإن رشح هذا الأخير نفسه، ثم جاء الحراك فتأجلت الانتخابات.

 عندما ُأعلن عن ترشح الرئيس تعمّق الاحتقان بشكل متسارع، وساعد في تضخمه قوى من داخل النظام السياسي ممن كانوا يتصارعون مع مهندسي العهدة الخامسة المسيطرين على الرئاسة.

لقد كانت الأسباب المشكلة للاحتقان كثيرة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن شعور الجزائريين بالهوان أمام الشعوب أن يرأسهم لعهدة جديدة  رئيس غائب لمدة عهدة كاملة سابقة هو الصاعق الذي فجر البرميل.

لقد كنا في حركة مجتمع السلم  أدرى من غيرنا من حالة الضياع التي كانت فيها الدولة. وبعد فشل محاولتنا لتحقيق انتقال ديمقراطي تاريخي على أساس تحول كان جاريا لميزان القوة يعفي بلدنا من مخاطر المواجهة أدركنا بأن الثورة وشيكة،  بنا أو بغيرنا،  فشرعنا في تحضير أنفسنا لها بتعميمٍ لكل هياكلنا بأن يستجيبوا  لدعوة النزول للشارع يوم 22 أبريل، وفي يوم الجمعة الأولى نزلنا ضمن مجموعة قيادية في الساعة الأولى، وكان بعض مناضلينا من الجرحى الأوائل، وطلائع المقبوض عليهم، ومنهم  ابني الذي أصيب في وجهه بشذية كادت تصيب عينه.

قررنا في الحركة أن نشارك في الحراك ولكن لا نتصدر الجموع لكي نحفظ الفرصة من الصراع الحزبي، ولكن كنا ندرك  أن تلك الجموع الهادرة في الشوارع لن تحقق إنجازا إن لم تجتمع القوى السياسية والاجتماعية على رؤية جماعية قائدة، لذلك رجعنا لأقطاب تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي لنستأنف التنسيق، وقلت لرئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية آنذاك بأنكم كنتم تقولون “لا معنى للانتقال الديمقراطي دون النزول للشارع، وحا نحن الآن جميعا في الشارع فلما لا نعود لمشروع مازفران والانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه؟” فقال لي: “لا ننسق إلا مع من يعملون من أجل القطيعة”، وقد اتضح بعد ذلك بأنها كانت رغبة لاحتكار الحراك بسبب حاضنتهم الاجتماعية الكبيرة في الجزائر العاصمة التي تمركزت في ساحات البريد المركزي (خلافا لضعفهم الشعبي في أغلب ولايات الوطن الأخرى) . فكان ذلك الموقف وتلك التصرفات السياسية بداية تفكك الحراك وضياع الفرصة الشعبية العامة.

لم نتوقف عن الحوار والبحث عن المساحات المشتركة مع الأحزاب والمنظمات، وكان اجتماع ” المنتدى الوطني للحوار” في عين البنيان فرصة أخرى ضائعة إذ رغم نجاحه في جمع أعداد هائلة من الأحزاب والجمعيات من مختلف التيارات لم يستطع جمع كلمة المعارضة، بسبب غياب أحزاب التيار العلماني، وبسبب عدم الاهتمام به من قبل السلطات التي تحكمت في الأوضاع بعد حالات الاضطراب في الأسابيع الأولى.

إن الأطراف التي لم تهتم بالملتقى الوطني للحوار، من المعارضة العلمانية والقوة الصلبة في السلطة،  هي التي تسببت في ضياع فرصة تحقيق نتائج الحراك لصالح الجزائر وكل الجزائريين . لقد كان كل طرف من هاذين الطرفين يسعى لاحتوائه  وحده لأسباب سياسية وأيديولوجية. وكان كل طرف من الطرفين، علاوة على ذلك، يتهيب من التيار الإسلامي أكثر من الآخر، ويعمل كلاهما على وضعه في الزاوية المهملة بالرغم من أنه  يمثل الأغلبية الانتخابية المعبر عنها في كل انتخابات لو لا المنع والتزوير الانتخابي. وكان الإسلاميون ذاتهم متفرقين يخاصم بعضهم بعضا حتى داخل الحراك، وبعضهم يستعد أن يُركب ويخدم مشروع غيره من أجل الانتقام أو مصالح حزبية أو شخصية ضيقة للأسف الشديد. فلم تكن المعطيات، لهذه الأسباب وغيرها، مشجعة لتحقق المأمول من الهبة الشعبية. 

ومن غرائب الأحداث أن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة داخل السلطة ( وأنا شاهد أمام الله على ذلك)  وتهجمت على الجماهير في الحراك بنعتهم “شرذمة” هي ذاتها التي تبنته بعد ذلك وضغطت على بوتفليقة لكي يستقيل. لقد أدركت هذه الجهة بأن ثمة جناح آخر من السلطة يستثمر في الحراك وله قدرة على تجنيد  بعض قادة الأحزاب والجمعيات وخصوصا أحزاب التيار العلماني المتمركز شعبيا في ساحات البريد المركزي، فسبقته في تبني الحراك، ولم يكن أحد من هؤلاء أوهؤلاء صادقا في تحقيق المطالب الديمقراطية للحراك، وإنما كانت “لعبة سلطة ونفوذ” أدت  إلى كسر العظام بينهم في الأخير، ولا تزال التدافعات قائمة إلى الآن، ولم يكن رفضنا لاقتراح مرحلة انتقالية يقودها اليامين زروال التي جاء إليها بعض رؤساء المعارضة متحمسين في لقاء تنسيقي عُقد في مقر أحد الأحزاب بزرالدة إلا لعلمنا بتلك اللعبة.

 اشتد الصراع بين الأطراف المتصارعة داخل الحراك، واقحم فيه الصراع العرقي بشكل مقيت أنشأ عداوة جاهلية  بين الجزائريين لم يعرفوها من قبل، وبدل حل كل المشاكل وازالة مخاوف مختلف الأطراف بالحريات والديمقراطية ودولة القانون، أدى الصراع في الحراك إلى تحكم النظام السياسي من جديد في الأوضاع، وفي وقت مبكر قبل كرونا بات واضحا بأن الاستقطاب الشديد داخل وحول الحراك قد ضيّع الفرصة.

رغم تراجع حماس مناضلينا في المشاركة في الحراك  بسبب الاستقطاب بقينا نحافظ على التزامنا بالحضور كل جمعة، وحينما قُرّر تنظيم الانتخابات الرئاسية في 12/12/2019 رُجّح قرار عدم المشاركة بسبب استمرار بقاء الناس في الشارع وللنّأي بالنفس من أن يُسجّل في تاريخنا بأننا كنا من المتسببين في وقف حراك الجزائريين من أجل الحريات، وبقي الاختلاف في الرأي مستمرا طويلا بيننا، هل كان رأينا سديدا أم لا؟

ولكن مهما يكن من أمر لم نتسبب أبدا في تفريق الناس في الحراك، ولا كنا مسؤولين عن الاستقطاب الذي حصل، ومهما كانت خسارة عدم مشاركتنا في الانتخابات الرئاسية فلن يُكتب علينا التاريخ بأننا ممن تسبب في وقف تلك الهبة الشعبية التاريخية،  إلى أن جاءت كورونا فأعطت غطاءً أخلاقيا لمن بقي وفيا دون فاعلية ليتوقف دون تأنيب الضمير .

وفي المحصلة لم ينجح أحد من كل المكونات السياسية، ولئن اعتُقد بأن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة ثم انقلبت عليها بسبب الحراك هي التي نجحت  فقد دارت عليها الدائرة من بعد، ومن كان في الشارع وفي أروقة الحكم يواجهها صار إلى أضعف ما يتصور في تاريخه، وبقيت البلاد كلها تترنح فلم ينجح بضياع فرصة الحراك أحد في البلاد، وتشكل لدى قطاعات واسعة، حتى عند المتحزبين بأن الإصلاح من الداخل أمر مستحيل، وأن بقاء العمل السياسي تحت سقوف التحكم السلطوي ما هو إلا تفاهمات ضمنية بين مكونات الساحة السياسية محصلتها لصالح الأشخاص وليس لصالح البلد ونهضته. ولكن لا ندري لعل الحراك صنع ثقافة عامة كامنة سيصطلح بها العمل السياسي ولو بعد حين، لعل تلك الثقافة تنشئ تيارا شعبيا عاما  يُبدع طرقا سلمية غير تقليدية للتغيير لصالح الجزائر وكل الجزائريين.  

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (2)

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (٢)

حظي المقال السابق “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” الذي نشر في موقع عربي 21 الأسبوع الماضي باهتمام المتابعين، ووردت بخصوصه تعليقات كثيرة تردد فيها السؤال عن الحل، وعدّ بعضها بأن ما ورد في المقال هو بمثابة “مراجعة فكرية أو تراجع عن خط سياسي سابق لحركة مجتمع السلم كنت أحد المسؤولين عنه، بل قدت الحركة به”.

رأيت من المفيد أن أكتب جزء ثانيا للمقال أتفاعل فيه مع هذه الأسئلة والاهتمامات والانتقادات المشروعة، لا سيما أنها صيغت بأساليب محترمة وذات مضمون فكري.

وقبل التطرق الى الموضوع الأهم المتعلق بتصورات الحل، أود أن أؤكّد بأن تناولي لمثل هذه المواضيع لا يتعلق ببلد معيّن أو حركة من الحركات الإسلامية بذاتها، بل هي دراسات وأفكار ومراجعات تتعلق بتجربة الحركة  الإسلامية بمجملها، وأنا أحاضر في هذا المقاربات في العديد من الدول، في الندوات الحضورية والافتراضية. لا شك أن مسيرتي في حركة مجتمع السلم تمثل قاعدة ارتكاز في التجربة، ولكن لا تتعلق بها وحدها، فهي تشملها وتتجاوزها من حيث اطلاعي العميق، النظري والعملي، على كل التجارب في مختلف الدول.

أما ما ذكر أن  هذه الأفكار  هي بمثابة مراجعات عن توجهات سابقة، فإن ذلك أمرا مطلوبا لا مِثلب فيه، فالعقول الراشدة هي العقول القادرة على التطور والمراجعة بحسب ما تتطلبه تطورات البيئات والتحديات والمتطلبات، لا سيما وأننا في أجل مائة سنة على تأسيس الحركة الإسلامية ولا شيء يبقى من أفكار مائة سنة ماضية سوى الثوابت العقائدية والأخلاقية والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة العابرة للأزمنة والأمكنة، والقليل مما بينت التجربة وتوافق المسلمون على استمرار صلاحه. واهتمامي بالتطور الفكري في مناهج الحركات الإسلامية لم يبدأ بمقال ” الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” بل كتبت في ذلك كتبا مشهورة منها كتاب “الحركات الإسلامية: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر في 2015 وقمت فيه بتقييم تجربة حركة مجتمع السلم منذ التأسيس الى تاريخ نشر الكتاب، وكتاب “البيت الحمسي” الأول في 2013، والثاني في 2018، ثم الكتاب المهم الذي نضجت فيه المراجعات والذي صدر في 2023  قبل خروجي من هياكل الحركة بأكثر  من سنة ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” والذي لا أتوقف عن تقديم مضامينه خارج بلادي. علاوة على المشاركات الإعلامية الكثيرة في هذا الشأن منها مشاركي في سبع عشرة حلقة من برنامج قناة الحوار “مراجعات” في 2016

وأود أن أسجل هنا بأن ثمة حدثين مهمين دفعا بي إلى مراجعات عميقة، أولهما في 1997 بعد صدمة تأسيس النظام السياسي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتزوير له تزويرا شاملا في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث ثبت لي أن الرؤية السياسية للشيخ  محفوظ نحناح رحمه لم تصبح قائمة، حيث كان رحمه الله يعتقد – كما سمعته بنفسي منه ودأب عليه العمل –  بأن المؤسسة العسكرية ستقدّر نهجه الوطني وسمته المعتدل وشعبيته القوية التي أكدتها الانتخابات الرئاسية عام 1995 وتقبل أن يكون بديلا على أساس ديمقراطي لجبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ فيكون هو محور بناء تحالف وطني يقود البلد  لمصلحة الجميع. ولكن عكس ذلك كله حدث وكانت رسالة النظام السياسي له واضحة بأنك “لست أنت البديل!” و”بديلنا نصنعه بأيدينا ولو بالقوة وبالتزوير”، و”إن أردت أن تكون على الهامش فمرحبا بك”. لم أخف قناعتي عن الشيخ محفوظ نحناح إذ أفصحت  له  عن رأيي بأنه لا بد من تغيير النهج السياسي والابتعاد عن السلطات الحاكمة والتحول إلى معارضة وطنية واضحة، والاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني، وكتبت له في ذلك عام 1997  مذكرة نشرتها في عدة مناسبات منها كتاب ” مبادرات لحل الأزمات”، وبقيتُ على هذا الرأي إلى اليوم، بل كلما مر الزمن تأكدت التوجهات التسلطية غير الديمقراطية للحكم،  وطورت مقاربات تلك المذكرة – التي هي منبع أفكاري السياسية والاستراتيجية – عبر العديد من المساهمات منها الكتب التي ذكرتها أعلاه.

أما الحدث الثاني فهو فشل المفاوضات بيني وبين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على اثر النتائج الجيدة التي حققناها في الانتخابات التشريعية عام 2021، حيث بذلنا مجهودا كبيرا لتحقيق تلك النتيجة، رغم التزوير والعزوف الانتخابي،  حتى نكون مؤهلين للانتقال من مرحلة المشاركة السياسية التي نكون بها في واجهة الحكم إلى مرحلة الشراكة الفعلية في الحكم وفق نتائج الانتخابات.

  كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في أفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.

لقد أكد لي هذا الحدث بأن العمل السياسي التقليدي في الجزائر  ميؤوس منه وأن العمل الحزبي لن يؤدي وحده إلى التغيير أبدا،  وأن سيرورة الانتخابات المعهودة ستبقى شكلية لا تساهم إلا في تثبيت ديمقراطية الواجهة.

لقد مثل فشل المحاولة  صدمة كبيرة لي أكّدت بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه غير  مناسب لتجنيد الجماهير وصقل إرادة المناضلين من أجل التغيير، وقد صارحت المسؤولين الذين كانوا حولي في قيادة الحركة، و الذين بوّأتهم  بنفسي مواقع المسؤولية العليا فيها،  عدة مرات بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه ليس سقفي وإنما هو سقفٌ توافقي تحريت فيه احترام نفسياتهم و ميولاتهم السياسية، وكذلك أهمية الانسجام ببننا.

لم يكن باستطاعتي المضي أكثر في تنفيذ الأفكار التي دونتها  في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، رغم النتائج الإيجابية التي حققها هذا التوجه في إطاره عام، ولم يكن ضمن خياري إحداث تحول ثوري داخل الحركة لتجسيد فكرة مسارات التغيير الثلاثية الواردة في الكتاب، بسبب بقاء سنتين فقط على نهاية عهدتي، وبسبب الملل الذي شعرت به لطول بقائي في هذه المسارات التقليدية دون نتيجة حاسمة،  فقررت أن أغادر الهياكل طامعا في أن الأجيال التي من بعدي سيكون لديها الوقت لتفهم يوما ما حالة الاحتباس التي فيها العمل السياسي في الجزائر فتتحمس أكثر لكتابة التاريخ بواسطة العمل الحزبي وصناعة ما لم استطع صناعته بنفسي،  وقد تركت لهم المقاربات التجديدية مكتوبة مؤصلة،  واعتقدت أنه سيسعني – من جهتي – الفضاء الفسيح في المجتمع وعلى المستوى الدولي لأواصل النضال الحر دون أي قيد تنظيمي، وأن عملي سيصب في المحصلة لصالح الحركة، وأننا سنصنع معا في الأخير، بشكل تكاملي، نموذجا جديدا ومنهجا متجددا تستفيد منه الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

 لا يجهل أحد  أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة  لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ، ولكن مساهمتي في نشر الأفكار لا تتوقف ولا يحدها الزمان والمكان بحمد لله، راجيا من الله القبول، وأن تثمر في يوم من الأيام في أي مكان كان.

لم يصبح يهمني أن أعارض مناهج التغيير التي تسير عليها التيارات الإسلامية غير الإخوانية، فقد بينت الأحداث بأن المناهج  ليست من الثوابت، وإنما المآلات هي الحاكمة فثمة من كان يسمَّى إرهابيا صار رئيسا لدولة تتنافس الدول للاتصال به وتتباهى الشخصيات السياسية والفكرية، الرجالية والنسائية، المحلية والدولية،  التي كانت تعارضه لأخذ الصور معه،  بل إن بعض الدول التي كان يقاتلها صارت تعقد معه الاتفاقيات.

 غير أنني من جهتي لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية و السقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.

بالرغم من أنني لم أكن راضيا عن السقوف السياسية التي كنت عليها وأنا على رأس حركة مجتمع السلم، وأعترف بذلك دون حرج، ولكن أقدّر بأنني استطعت أن أطبق المعالم الكبرى للمنهج الجديد الذي لم أغادر القيادة حتى صغته في مجمله في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، ولو أتيحت له الفرص ليواصل التجسيد لكان ربما جديرا بأن يصنع نهضة الحركة والبلد ويساهم في نهضة الأمة.

 ولذلك جوابي على من يقولون و”ما الحل؟” في تعليقهم عن الجزء الأول من مقال “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” هو أن يعودوا إلى كتابي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور”، خصوصا الفصل الثاني منه.

 يتضمن الفصل الأول – تحدي العبور –  مضامين فكرية كثيرة عن التحديات الجديدة التي تواجهها الحركات الإسلامية وتمنعها من العبور بالفكرة الإسلامية الى الدولة لتنتقل من مرحلة الصحوة إلى مرحلة النهضة، والتي يجب التجديد فيها. ويتضمن الفصل الثالث – مواضيع العبور – المواضيع ومفاتيح الملفات الكبرى التي تحكم بها الحركات الإسلامية إن وصلت للدولة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وفي العلاقات الدولية. 

أما الفصل الثاني – مسار العبور – فهو الجواب عن سؤال “ما الحل؟” وقد بينت فيه بأن العبور بالفكرة من المجتمع حيث صنعت الصحوة، إلى الدولة لكي تتحقق النهضة ثم الإقلاع الحضاري، يتم عبر ثلاثة مسارات أساسية.

أولها المسار التنظيمي والإداري وما يلزم ذلك من تطوير وتجديد في المنظومات التنظيمية والإدارية والموارد البشرية، لا سيما القيادية منها، على مستوى الفكر والعلوم والمعارف، وعلى مستوى التربية والأخلاق والسلوك، وعلى مستوى الكفاءة والمهارات، وعلى مستوى الإنجاز والفاعلية.

 وثانيها المسار الاستراتيجي وما يتعلق بصناعة القوة الناعمة في إطار قانوني يقوم على المبادرة والنضال  في المجتمع على المستوى الدعوي والاجتماعي والفني والإعلامي والمالي والنقابي والشبابي والنسوي، وغير ذلك، بواسطة شبكات المجتمع المدني الواسعة،  وعبر ما سميته بنظرية ” قطع الحبل السري” للتفريق بين اللجان والأمانات المحلية والمركزية للأحزاب التي تشبه الأعضاء الملتصقة بالجسم من جهة، والمؤسسات المجتمعية التي تشبه الأولاد والذرية من جهة أخرى، والتي يكون نجاحها باستقلالها العضوي عن الجسم مع الاجتماع في الرؤية والرسالة، ولا ضمان في نجاح الأمر سوى وحدة الفكرة وأخلاق الصدق والوفاء والمروءة والمقاصد المشتركة والقدوة والأهلية القيادية الجاذبة وذات التأثير.  وذلك ما يمثل مقاربة “التخصص الوظيفي” لصالح الفكرة الإسلامية في المجتمع بغض النظر عن الأحزاب التي تحملها، بما يضمن مستقبلا توفر رأي عام عميق يجسد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ضمن المشروع الحضاري الإسلامي الواحد، على نحو مازعي عليه الأحزاب في الغرب التي تتداول ضمن المشروع الحضاري الغربي، المسيحي اليهودي، الواحد.

إنه لو قلّدت مختلف قوى الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي  فكرة الخط  الاستراتيجي والتخصص الوظيفي فذلك ما يصنع قوة المجتمع وحماية أصالته، ولا يمكن لأي سلطة ظالمة أن توقف مدها إذ أنها لن تستطيع أن تبرر ضربها لعدم ارتباطها عضويا بالأحزاب، إلا أن تقرر تلك السلطات غلق المجتمع كله، وقتل المبادرة في المجتمع كلية، بما يجعل الأمر ينقلب عليها عاجلا أم آجلا. 

أما مسار العبور الثالث فهو المسار السياسي، ويمكن إيجاز التفاصيل الكثيرة التي وردت في هذا الفصل من الكتاب  بالقول أن شرط الوجوب لهذا المسار وجود قيادة عازمة على التغيير ولا أشواق لديها في عملها أعلى من تحقيق التغيير إرضاء لله تعالى وخدمة لأوطانها وأمتها، ذات كفاءة وصدق ومصداقية، تثق في الله ثم في نفسها و في المؤمنين، تؤمن بأن التأييد الحقيقي هو الذي يكون من الله ومن الشعب مصداقا لقوله تعالى (( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين))،  لا تشعر بأي عقدة تجاه النظام السياسي، لا تخافه ولا تطمع فيه، ولا تحرص على إرضائه أو تحقيق الاعتراف منه بوجودها، تعمل الصواب فحسب، تعتمد المنهج السلمي وتعلن عن حب الوطن لأنها تؤمن بذلك، لا تنافق في الأمر ولا تزايد  إلى حد السماجة ولغة الخشب، خطابها قوي مبني على العلم وكشف الفساد والرداءة بلا تشخيص ولا سباب ولا انتقام، تؤثر العافية كما جاء في الحديث الصحيح،  ولكنها تستعد لتقديم كل التضخيات، ولو بالنفس،  كما جاء في حديث صحيح  آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”، يتمحور عملها السياسي كله حول النضال من أجل تغيير موازين القوة لصالح المجتمع ولصالح فكرتها وأهدافها، وتتجنب أي سلوك سياسي يعين الاستبداد ويزيد في عمره.

أما العبور العملي للفكرة فهو عبر ثلاثة معابر، منفردة أو متوازية: أوله المعبر الديمقراطي الانتخابي بشرط نضال الأحزاب بلا هوادة لجعل الديمقراطية حقيقية والحريات مصونة والانتخابات غير مزورة، وتُقدّم في طريق ذلك أنفس التضحيات، لا تقبل التزوير وتندد به مهما كان مصدره والمستفيد منه والمتضرر به، وتؤهل تلك الأحزاب نفسها لتكون بديلا حقيقيا عبر ما يسمى في الدول الديمقراطية ب ” حكومة الظل” أو ما نسميه نحن ” اللجان القطاعية المتخصصة” ببرامج ناضجة وموارد بشرية جاهزة للحكم. وبغير  هذا النوع من النضال تصبح المشاركة في الانتخابات خدمة مجانية للاستبداد ومساهمة فاعلة في استمراره. وقد بينت التجارب البشرية  بأن النضال الجاد والتضحيات الجسام من أجل الانتقال الديمقراطي يمكن أن تجسد الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول على السلطة. 

والمعبر السياسي الثاني هو التحالفات مع قوى أخرى تريد التغيير، سواء قوى من داخل النظام السياسي أو من خارجه، وهذا المعبر لا يمكن أن ينفتح دون توفر الحركات الإسلامية على القوة والنفوذ بما يجعل القوى الأخرى تطمع في التحالف معها، وذلك عبر تجذرها في المجتمع وتسلحها بأسباب القوة المتنوعة والمتعددة، وعلى رأس تلك الأنواع قوة الفكر وجاذبيتها وصلاحيتها وأهليتها للحكم، وتعاطف أصحاب النفوذ في الدولة والمجتمع مع الفكرة ورجالها. وهذا نهج حقق نجاحات كثيرة، في العصر الحالي، وهو النهج الذي رسّخه المصطفى عليه الصلاة والسلام وسار عليه إلى أن أقام دولته في المدينة.

والمعبر السياسي الثالث، وهو الثورات السلمية الشعبية، التي تَحقق التغيير بواسطتها في العديد من الدول، ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب حقيقية، تتماثل مع المعايير الطبيعية العالمية للأحزاب إلا إذا آمنت إيمانا كاملا بالتغيير السلمي عن طريق الشارع، وهو حق ديمقراطي ثابت دون حاجة للترخيص تؤكده القوانين والدساتير، ولكن تتهرب  منه بعض الحركات الإسلامية إرضاء للحكام وخوفا من المواجهة. وحينما تتهرب الحركات الإسلامية من النضال بقيادة الشارع فهي تفتح المجال لسيناريوهات خطيرة، ذلك أن ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية  تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.

إن عدم تدرب الحركات الإسلامية على قيادة حركة الشارع، وعدم فهم لغة الشارع والحديث بها، سيتيح الفرصة لأربعة سيناريوهات إذا خرج الناس يطالبون بحقوقهم من تلقاء أنفسهم ودون قيادة واعية وذات خبرة، إما احتواء النظام السياسي القائم للمشهد وتسخيره للاستمرار في السيطرة ضد إرادة الشعوب ومصالحهم، أو استغلال التحول الشعبي من طرف قوى سياسية وأيديولوجية معارضة للنظام السياسي القائم وأسوء منه، أو استعمال قوى أجنبية أ استعمارية لحركة الشارع للتدخل والتآمر على البلد، أو حدوث فوضى عارمة لا قيادة تضبطها أو فتنة عمياء والعياذ بالله.

إن أفكار التغيير هذه التي أصلناها في كتاب تحدي العبور والاستنهاض الحضاري ليست نظريات وتخيّلات بعيدة عن الواقع، فقد جرّبناها ووضعناها على محك التجربة في حركة مجتمع السلم بين 2013 – 2023، وحققت نتائج جيدة على مسارات العبور الثلاثة، إذ حققنا إنجازات معتبرة في بناء المؤسسات وفق نظرية ” قطع الحبل السري” ومقاربة ” التخصص الوظيفي”، وتوصلنا إلى نتيجة انتخابية جيدة على المسار الانتخابي و ناضلنا من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي وساهمنا في في تجسيد مفهوم لغة الشارع التي أسقطت العهدة الخامسة، وأخرجنا موارد بشرية فاعلة ومتعلمة و ذات أخلاق ومهارات  هي اليوم منتشرة في مختلف الهياكل والمؤسسات محليا ومركزيا وفي الخارج.

غير أن ما بذلناه بما يكفي لبناء النموذج وتصديره، لم يكن كافيا لتحقيق التغيير المنشود،  وبقي يتطلب استمرارا وتطويرا وتصعيدا أكثر على مستوى المسارات الثلاثة والمعابر الثلاث. ولئن أخطأَت حساباتي في مواصلة تجسيد المنهج على مستوى الحركة بعد خروجي من هياكلها، فإني على يقين بأن الله سيسخر له من يحقق الطموحات عبر تيار عام في الأمة أرى تشكله قد بدأ يلوح في الأفق، كان طوفان الأقصى المسرّع إليه.   

سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآلات.

بدأنا مقالنا الأول عن سوريا  بعنوان “تطور الوضع في سوريا : الواقع والمآل”، فكانت الأحداث أسرع منّا إذ تهاوى النظام السوري بشكل سريع ومذهل، بما يجعلنا نغير العنوان ليصبح : “سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآل”. وقد قصدنا فهم خلفيات السقوط السريع من خلال اِستحضار مختلف التطوّرات الحاصلة على مستوى القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، فبدأنا الحديث عن إيران ووضّحنا التحولات الداخلية والخارجية التي جعلت هذا البلد يُحجم عن نجدة حليفه السوري بشار الأسد، وسنتناول في هذا المقال الخلفيات التي أدّت إلى تحوّل الموقف الروسي وتخليه عن النظام الذي أنقذه من قبل من السقوط، وفي مقالات مقبلة سنتطرق إلى تطورات وخلفيات الموقف التركي، ثم سياسات وطبيعة الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الأحداث، ثم نتحول إلى الحديث عن مكوّنات قوى المعارضة وخلفياتها الأيديولوجية وعلاقاتها مع القوى الأجنبية، لنخلص في الأخير لدراسة السيناريوهات المحتملة للشأن السوري والقضية الفلسطينية والمنطقة كلها. 

2 – روسيا: 

لقد كان للتدخل الروسي في الأحداث في سوريا دور أساسي في حسم الصراع المسلّح لصالح نظام بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة، منذ 30 سبتمبر / أيلول 2015، وكانت حجّة الروس حينذاك محاربة الإرهاب،  ثم اعتبرت أن لوجودها الطويل في سوريا طابعا شرعيا على أساس أنّ قواتها حطّت رحالها في الأرض السورية بطلب من الدولة السورية “الشرعية”. وقد استغلت هذا الوجود القانوني لتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس ليتجاوز وجودها في سوريا الأزمة السورية إلى حماية مصالحها في المنطقة كلّها وكلّ الفضاء الجغرافي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط. 

غير أنّها لم تكن تجهل تناقص المصالح وصراع الإرادات الدولية في بلاد الشام، فما إن أنهت وجود القوى المسلحة في شرق حلب بقوة نارية جبارة ذهب ضحيتها كثير من المدنيين الأبرياء؛ قتلا وتهجيرا، حتى اِتجهت إلى الاِتصالات الدبلوماسية من خلال مسار أستانا مع تركيا وإيران. 

اِكتفت ترتيبات مسار أستانا بالاِتفاق على خفض  التصعيد، وهو ما نقل القضيّة السورية نوعا ما إلى ما بعد بيان جنيف 2012 الذي بني عليه قرار مجلس الأمن 2254 في 2015 المدعوم من أمريكا، والذي اِقترح مشروعا سياسيا كاملا يقوم على تغيير الدستور وبناء نظام سياسي جديد يستوعب كلّ الطوائف وإجراء اِنتخابات حرة ونزيهة. 

لقد كان لروسيا دور كبير في تعطيل المسار السياسي، مدعومة بإيران، ثم زاد البعد عن الحلّ السياسي محاولات تركيا فتح صفحة جديدة مع النظام السوري من أجل حلّ مشكلاتها المتعلقة بالمهاجرين والأكراد، وحين اِنفتحت الدول العربية على بشار الأسد من جديد اِنغلق الأفق السياسي كلية وظنّ بشار بأنّه حسم الأمر نهائيا، رغم بقاء هذه الدول متمسكة بالحلّ في إطار ذات القرار الأممي.

لا شك أنّ قرار مجلس الأمن كان على الهوى الأمريكي ممّا أفقد الثقة فيه عند العديد من الأطراف ولكن لم يُعرض أي بديل له من داعمي النظام، أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، سوى ما صرح به وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مايو 2023 بأنّ “بلده سيطبق ما يهمه من مضامين القرار 2254”!

ولكن بعد كلّ هذه المجهودات لحماية النظام السوري ظهر الموقف الروسي اتجاه التطورات الجديدة باهتا، بشكل مفاجئ وغير مفهوم لدى الكثيرين. وقد بدا عدم الاِهتمام واضحا من الوهلة الأولى عبر طريقة تناول وسائل الإعلام الروسية للأحداث، حيث لم تتحرك البروباغاندا الروسية المعهودة، واِكتفى مذيعو القنوات ووسائل الإعلام الأخرى  بنقل الأخبار ، واِهتم المحلّلون بتقديم التحليلات والتفسيرات فحسب. ثم جاءت تصريحات المسؤولين فأكّدت بأنّ بشار  بات بلا دعم فعلي من صديقه بوتين.

اِكتفى المتحدث باسم الكرملين بالتصريح في اليوم الثاني من هجوم المعارضة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة “السلطات السورية إلى اِستعادة النظام الدستوري بسرعة” مصرحا بأنّ “روسيا تقوم باتصالات مناسبة وتحليل الوضع” وأنّها “ستسعى لتحقيق الاِستقرار في سوريا”، ومؤكدا بأنّ “روسيا قادرة على تقديم المساعدة للنظام السوري اِعتمادا على تقييم الوضع ميدانيا”. وقد تكون هذه التصريحات مؤشرا على أنّ الأمر لا يتعلق بعدم القدرة على تقديم المساعدة وإنّما ثمة توجه آخر يستند على دراسة تطورات الوضع الميداني. 

لا شكّ أنّ هذه التصريحات قد اُلتقطت من قادة الجيش النظامي فعلموا أنّه لا يمكنهم الاِعتماد لا على إيران كما بيّنا سابقا ولا على روسيا، ممّا جعلت معنوياتهم تنهار وصفوفهم تتفكك وأخذوا بالفرار من جبهات القتال. ويمكننا أن نقول بأنّه لم يصرح أي مسؤول دولي تصريحا مهينا للنظام السوري المتهالك ، كما كان تصريح مسؤول روسي مقرّب من الكرملين، وفق ما نقلته وكالة بلومبرغ، الذي قال فيه: “إنّ روسيا لا تملك خطّة لإنقاذ بشار الأسد ولا ترى إمكانية لإيجاد واحدة، طالما اِستمر الجيش في التخلي عن مواقعه”، وحينما دعت السفارة الروسية رعاياها إلى مغادرة دمشق كانت اللعبة قد أغلقت على حليف الأمس.

سارعت كلّ من روسيا وتركيا وإيران إلى الاِجتماع لمناقشة إمكانية تخفيض التصعيد وفق مسار أستانا، ولا شكّ أنّ ما جمعهم هو خوفهم من التدخلات الأمريكية، إذ أشار جميعهم إلى القوى الكردية الحليفة للأمريكيين، بل إنّ لافروف أشار إلى مصلحة الإسرائيليين في تغيير الوضع في سوريا. ثم اِلتحق بهذا الثلاثي مجموعة الدول العربية الخمس، ودخل الجميع في النقاش للعودة إلى القرار 2254، غير أن الذين كانوا في الميدان لم يمهلوا أحدا ودخلوا دمشق وأسقطوا الطرف الذي كان يطلب منه دوليا أن يدخل في المفاوضات من أجل تطبيق القرار، وبعد فرار الأسد لم يبق إلا طرف واحد وهو الطرف المنتصر، ولم يبق شيء يناقَش عن مستقبل سوريا سوى مع هؤلاء. 

لا شكّ أن اِنشغال الروس بالحرب  مع أوكرانيا يمثّل سببا رئيسا في إحجامهم عن التورط مجددا في المواجهة المسلحة في سوريا، وقد يكون بوتن قد أحسّ بأنّه يراد اِستدراجه في جبهة أخرى تستنزفه. غير أنّ  ثمة أسبابا أخرى بالغة الأهمية أثرت في موقف  تراجع الطرف الروسي عن دعم النظام السوري، سوى بعض الطلعات الجوية القليلة غير ذات الجدوى. 

إنّ جذور ذلك قد تعود إلى تغيّر الموقف التركي ورغبته في الحوار مع بشار الأسد لحلّ مشكلة اللّاجئيين والتوصّل إلى تفاهمات بخصوص الملف الكردي، وقد عُقد بهذا الشأن لقاءات رسمية عالية المستوى بين المسؤولين الأتراك والروس، واِتصل بوتن نفسه  ببشار الأسد بهذا الخصوص فرأى تصلبا كبيرا منه. 

وعلاوة على ذلك بات ثمة تفهّم كبير من القيادة الروسية لحاجة الأتراك للتدخّل المباشر في سوريا بغرض كبح جماح منظمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية المسنودة والمسلحة والمحمية من الخصم المشترك؛ الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن التداخل العميق للمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، بين تركيا وروسيا ساعد على تحقيق الاِستقرار في الخطوط الدبلوماسية بين البلدين، ومن ذلك تجنب الاشتباك بين الطرفين بأيّ شكل من الأشكال مهما كانت الصعوبات وحل المشاكل المعقدة وتضارب المصالح بالاِتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية. 

ثمّ إنّ ثمة مصلحة مشتركة أخرى بين البلدين، وهو الرغبة الثنائية في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، حيث أنّ روسيا كانت دائما تعتبر بأنّ إيران هي البلد الوحيد الذي ينافسها فعليا، سياسيا واِقتصاديا، في سوريا ومع النظام السوري ويُعقّد عليها تحكمها في الأوضاع في المنطقة، وقد بين هذا الامتعاض الروسي ما كان يتداوله محللون سياسيون في القنوات الروسية في نقد النظام السوري، واِتهمه البعض أنه يلعب على حبلين. 

ومن جهة أخرى ظلت البرودة في العلاقات بين إيران وتركيا ثابتة رغم الحوار القائم بينهما، ولم يكن أردوغان ينظر إلى تعنت بشار الأسد في الدخول في الحوار إلّا من زاوية أنّه مسنود في موقفه من إيران. وبسبب التطورات الداخلية والخارجية التي حكمت الوضع الإيراني أصبح إخراج إيران من اللّعبة ممكنا، وقد ساعد على ذلك شعور عدد من الدول العربية بأنّ اِنفتاحهم على الأسد كرئيس دولة عربية لم يبعده عن إيران وأنّ مصانع المهلوسات (الكبتاجون) في سوريا التي اِشتهرت بها عائلة بشار والمقربين منه أصبح ترويجها في الدول العربية بمثابة حرب ضدهم. 

وكلّ هذه الاعتبارات تأخذ كثيرا من المصداقية؛ الأخبارُ التي تؤكّد على أنّ تفاهمات روسية تركية كانت قد تمت قبل الهجوم تضمن مصالح روسيا، وخصوصا على مستوى القاعدة العسكرية في حميميم وطرطوس. وممّا يساعد على قبول هذه الأخبار أن المعارضة لم تتعرض للوجود الروسي بأيّ شكل من الأشكال، وأنّه خلافا للقوى الإيرانية وحزب الله اِلتزمت التشكيلات العسكرية والأمنية بدون إجراءات اِستثنائية مواقعها، رغم المشاركة الروسية الكبيرة في ما لحق الشعب السوري من بلاء عظيم.

ولا يمكن من وجه آخر إغفال اِلتزام روسيا بحماية الكيان الصهيونىّ من خلفيات تراجع روسيا عن حماية النظام السوري، فهي لا يهمها أن تعجز إيران عن اِستعمال الأراضي السورية لدعم حزب الله ونقل السلاح إليه، إن كانت تضمن مصالحها. 

وفي كلّ الأحوال، لا يعتقد أنّ روسيا كانت تريد أن يحدث اِنهيار تام للنظام السياسي، وإنّما كانت تريد تغيير شيء من الواقع على الأرض لصالح المعارضة وتركيا لكي يقبل الجلوس على الطاولة بخصوص ضمانات سلامة اللاجئين عند عودتهم وحلّ معضلة علاقته المشبوهة مع القوى الكردية الموالية لأمريكا، ولكنّ الأقدار شاءت غير ذلك، ولم يكن ثمّة من يستطيع وقف زحف قوى المعارضة نحو دمشق حين أتيحت لها الفرصة.

تطور الوضع السوري: الواقع والمآل

في تطورات متتالية وسريعة منذ 27 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي حققت المعارضة السورية تقدما عسكريا كبيرا في الشمال الغربي للبلاد يقدر إلى حد الآن بحدود 22 ٪؜ من الأراضي، سيطرت فيها على محاور استراتيجية ومدن مهمة منها حلب إدلب وحماة وعدة مطارات وكليات عسكرية وثكنات عسكرية وعدد كبير من العتاد العسكري.
بدا هذا التقدم السريع والواسع مفاجئا لكثير من المراقبين، وبات السؤال المتكرر الذي يُطرح هو أين سيصل توسع المعارضة على حساب النظام السوري وما هي آثار ذلك على المنطقة، ويلح المنخرطون والمساندون لطوفان الأقصى والحرب ضد الكيان ما هو مآل ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية.
سنحاول أن نفهم خلفيات هذه التحولات المهمة من خلال تتبع أوضاع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة وأهدافها ومكاسبها وخسائرها. ولكن قبل ذلك لا بد أن نؤكد مسألة مبدئية وهي أن النظام السوري نظام مجرم أوغل في دماء السوريين وهجّر الملايين منهم وسلم البلد للأجانب وأدخل سوريا كلها في مأساة عظيمة، وكان بإمكانه أن يحل الأزمة التي انفجرت في ظروف الثورات الشعبية العربية في 2011 عبر الحوار السياسي والحلول السلمية، لا سيما وأنه دُعي إلى ذلك من قوى المقاومة فرفض واختار القمع والإجرام. وفي كل الأحوال لا يمكن لحاكم فعل في شعبه مثلما فعل بشار الأسد في السوريين أن يستتب له الملك طويلا، ونهايته ستكون مؤكدة سواء في هذه الأحداث أو لاحقا، وأن السكان الذين ظلمهم وهجّرهم من حقهم استرجاع بلداتهم ومنازلهم وإنهاء غربتهم وتشردهم .
إن من أهم أسباب الانتصارات العسكرية التي حققتها المعارضة هو الانهيار السريع للجيش السوري في مواقع الاشتباك ، إذ ما إن تأكد ضباط وجنود هذا الجيش بعدم التدخل القوي لروسيا وإيران و حزب الله لنجدتهم حتى تركوا مواقعهم وعتادهم وفروا إلى الخطوط الأكثر أمنا. وقد أكد هذا الضعف والانهيار بأن النظام كان في طريقه إلى الزوال في وجه الانتفاضات الشعبية السورية، وأن الذين كانوا يديرون المعركة ضد الشعب السوري إنما هو الجيش الروسي والجيش الإيراني ومقاتلو حزب الله، وقد تحولت المعركة في الأرض السورية إلى معركة بالوكالة بين عدة مشاريع : المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، المشروع الروسي، المشروع الإيراني، المشروع التركي. فصار الوضع معقدا بمثابة الفتنة العمياء التي تذر الحليم حيران.
لا نريد أن نتطرق إلى طبيعة هذه الحرب الإقليمية، بل العالمية، بين مختلف المشاريع ولكن نحاول فهم ما يحدث في الوضع الراهن من خلال تطور أوضاع مختلف القوى الإقليمية والدولية، وذلك على النحو التالي:
١ – إيران: ربما يعتبر أهم تطور في المنطقة، كان له أثر على الأحداث القائمة حاليا في سوريا، هو تراجع المشروع الإيراني. ولا يُعزى هذا التراجع فورا إلى الحرب مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله، فقد بينت الضربات الصاروخية المكثفة التي وجهتها إيران لدولة الكيان بأن لها القدرة على الفعل، ولو رغبت في توجيه ضربات صاروخية للمعارضة السورية أثناء تقدمها لفعلت. ولكن ثمة تطورات أعمق تسكن في الداخل الإيراني، حيث أن طول الحصار المضروب على هذا البلد، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، دفعت الى صعود التوجه الذي يريد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية ليصبح هذا البلد بلدا عاديا يهتم بشؤونه الداخلية وحل أزماته الاقتصادية من خلال إنهاء الحصار والتصالح مع المحيط الخارجي، ويساند هذا التيار الإصلاحيون المعروفون في الشأن السياسي، و”البزاريون” وهم معروفون في الشأن الاقتصادي كطبقة قوية من رجال الأعمال الذين ساندوا الثورة في عهد الخميني ثم باتوا الآن يبحثون عن بيئة أعمال أفضل، وقد تُوّج هذا الصعود في الانتخابات الرئاسية السابقة على حساب المحافظين القريبين من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
تعود هذه الخلافات إلى سنوات عديدة سابقة، وتعتبر فترة الرئيس محمد خاتمي محطة مهمة في بروز هذه الصراعات، وقد اطلع الرأي العام على رسالة صارمة وجهها نفر من قادة الحرس الثور، منهم قاسم سليماني، إلى خاتمي يحذرونه فيها من تساهله مع مظاهرات الطلاب في يوليو / جويلية 1999، وبقي الخلاف يتصاعد إلى أن بلغ أشده في الفترة الأخيرة.
عندما تهيكل الخلاف وأخذ طابعا أمنيا توجه الحرس الثوري، خصوصا في عهد قاسم سليماني، إلى فصل قوى المقاومة عن التحولات السياسية داخل إيران، وبدأ يجهز ويدرب القوى الشيعية في مختلف البلدان، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن، لكي تحافظ على قدراتها العملياتية مهما كانت الظروف في الداخل الإيراني. غير أن الخلاف بلغ أشده في السنوات الأخيرة ووصل الى حد بات الاتهام يتداول داخل الشبكات المساندة لمحور المقاومة بأن مقتل قاسم السليماني والرئيس الإيراني السابق ومن كان معه في الطائرة التي سقطت، وكذا إسماعيل هنية ونصر الله كان بتخابر داخلي من قوى تريد إخراج إيران من الصراع، خصوصا الوضع الذي وجدت نفسها فيه بعد طوفان الأقصى دون أن تخطط الدولة الإيرانية لذلك.
لا يتوقع أن تكون المواجهة بين التيارين سهلة، فالتيار الاصلاحي ومن على شاكلته يستفيد من التطورات الإقليمية والدولية، وعلى قوته الاقتصادية، والتمركز المؤسسي ويستند على أغلبية شعبية لا تحكمها الأيديولوجية الصلبة، والتيار المحافظ يملك قوة عسكرية جبارة، وتتجه الشرعية الدينية لصالحه، وله قوة اقتصادية وكتلة مالية كبيرة، ولأنصاره جلد وصبر كبيرين، وهو يستطيع أن يحدث انقلاباً بالقوة لو لا التطورات العميقة في المحيط.
أما عن حزب الله فهو غير قادر على العودة الى المغامرة التي تورط فيها سابقا، من جهة أنه في وضع صعب بالنظر للخسائر التي تلقاها في مواجهته مع الكيان، ومن جهة أن المشروع كله في تراجع كبير والحلفاء الذين احتاجوا اليه سابقا غير راغبين في النجدة العسكرية لبشار الأسد إلى حد الآن، ومن جهة أنه ربما لا يرغب في افساد صورته مرة أخرى بعد أن رمم الكثير منها في انخراطه في طوفان الأقصى نصرة لأهل غزة، ومن جهة أن الأمر لم يصبح مجديا أمام الانهيارات الكبيرة للجيش السوري وهو يرى أن تدخلاته السابقة ذهب مفعولها هباء منثورا.
ضمن هذه التطورات الداخلية، لم يتم نجدة بشار الأسد من قبل ايران بشكل مباشر وقوي، ليس لأن إيران ليس لها القدرة، ولكن لأن القرار السياسي غير موجود، أو ربما غير متفق عليه، بسبب الكلفة الكبيرة المتوقعة، لا سيما أن التدخل الإيراني هذه المرة قد يجلب المواجهة المباشرة مع قوة إقليمية لها مصالح حيوية هي تركيا، والموقف الروسي غير واضح لحد الساعة، فالأفضل لإيران البحث عن حلول دبلوماسية من خلال مسار أستانا مع روسيا وتركيا.
٢ – روسيا
… يتبع ..

لماذا خسر الديموقراطيون الانتخابات في أمريكا؟

حينما يريد الله تعالى الانتقام من الطغاة والظالمين يجعل لذلك أسبابا كثيرة. من حيث يحتسبون ويحاولون تجنبه فيعجزون، ومن حيث لا يحتسبون فتكون مفاجأتهم بحجم الخسران كبيرة، وهي حالة سننية لا يلحظها إلا أولو النهى، والقرآن الكريم عامر بالآيات المعبرة عن كيفية إنذار الظالمين أو إهلاكهم.

ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأرض إنه كان عليما قديرا﴾ سورة فاطر 43-44

فهل رأينا استكبارا أكثر من استكبار الرئيس الأمريكي بايدن وفريقه في الحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم خليفته التعيسة للترشح في الانتخابات الرئاسية كاميلا هاريس، لم تؤثر فيهم صور الدمار الشامل والإبادة الجماعية في غزة، وراحوا يعلنون بلا حياء مشاركتهم في الجريمة، ويتبجحون بيهوديتهم على نحو ما قاله وزير خارجيتهم وانتمائهم العلني للصهيونية كما اعترف بذلك الرئيس نفسه، وقدموا   دعما لا محدودا للمتوحشين الصهاينة، بالسلاح والمال والتغطية السياسية والدبلوماسية والإعلامية، بلا خشية من أي عاقبة ودون أي اعتبار للاحتجاجات العالمية الكبيرة، ولا أي تقدير لأصوات الشباب والطلبة في حزبهم ذاته، والمظاهرات الإنسانية في مختلف أنواع العالم، فظنوا بأن مكرهم السيء لا يقدر على كسره شيء وأن لا قوة فوق قوتهم تقهرهم، فحاق بهم مكرهم، كما بينته الآية، ضمن مساقات سننية ماضية في الإنسان والمجتمعات البشرية، لا تتغير ولا تتبدل، يعرف الراسخون في علم التاريخ كيف عملت في أمم عظيمة قوية من قبل، وصل بعضها إلى التربب وادعاء الألوهية،  وكيف تعمل في كل وقت، ويشهد المؤمنون من خلالها بقوة الله تعالى  الذي لا تعجزه أمريكا، ولا جيوشها ولا جبروتها، وإنما يُمضي حركة السنن وقوانين الكون بعلمه والمقادير التي يريدها دون أن يكون فوق قدرته قادر أبدا، سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

لقد كانت استطلاعات الرأي ترشح الديمقراطيين للفوز رغم تقارب النتائج بين الطرفين، وكان كثير من صناع الرأي يشيعون بأن دونالد ترامب رجل غير سوي، يعتمد الشعبوية ويستند على صعود اليمين المتطرف الأبيض ولن يستطيع هزيمة المؤسسية الأمريكية الراسخة مرة أخرى، فإذا بالخسارة كانت مدوية شاملة تاريخية، ليس على مستوى الرئاسة فقط بل خسارة المجلسين، وخسارة معاقل كانت محتكرة من الديمقراطيين.

إن الله تعالى يسير الكون بالقوانين والسنن، وهو ما نسميه تارة الأسباب، والأسباب التي جعلت كاميلا هاريس تخسر الانتخابات كثيرة منها ما يلي:

  • أهم تلك الأسباب تراجعها في أصوات الناخبين المحسوبين دوما على الديمقراطيين، وهي أصوات السود واللاتينيين،  حيث ارتفع التصويت لصالح ترامب عند السود من 8% إلى 13% وعند اللاتينيين من 32% إلى 45%، وهؤلاء يمثلون أكثر الشرائح الاجتماعية تضررا من الأزمات الاقتصادية للنظام الرأسمالي المتوحش، الذي لا فرق بشأنه بين الديمقراطيين والجمهوريين، إذ كلاهما يشتغل أساسا لصالح اللوبيات المالية والتوجهات الاقتصادية المركزة للثروة في أيادي قليلة من الناس، بل إن أوضاع تلك الشرائح الاجتماعية ساءت أكثر في زمن بايدن مما كانت عليه في عهدة ترامب السابقة، في ما يتعلق بالتضخم وارتفاع مستوى المعيشة، ووقود السيارات، وغير ذلك، رغم الوعود العريضة التي عادة ما يقدمها الديمقراطيون بهذا الخصوص، بل إن العديد من تلك الفئات صارت تشعر بأن حكامهم الديمقراطيين صاروا يهتمون بمصير الإسرائليين أكثر من اهتمامهم بمصير الأمريكيين. كما أن ثمة عامل آخر رصده المتابعون لتوجهات الرأي العام في امريكا، وهو ما يتعلق برفض كثير من اللاتينيين المسيحيين، خصوصا الكاثوليكيين، التوجهات التي باتت تميل اكثر فأكثر إلى ما يخالف قناعاتهم والتزامهم الدينية بخصوص العائلة ومسائل الجندرة والمثلية وغير ذلك.
  • ثم هناك الأداء السيء لبايدن، وحالة الخرف التي ظهر بها، و الانطباع الذي ساد في الأذهان عن حالة ضعفه، وتسلط توجهات متطرفة على قراراته في البيت الأبيض، على رأسهم اللوبي الصهيوني، الذي مثل وزير الخارجية توني بليكن الوجه العلني الأبرز  فيه. وقد كان حرصه على الترشح مخالفا لوعد كان قد قطعه بأنه لا يترشح إلا لعهدة واحدة لضمان حسن الانتقال من المرحلة الكارثية التي مثلها ترامب للمؤسسية الأمريكية، على حد ظنه، ثم كان تراجعه عن الترشح في جويلية 2024 بعد افتضاح ضعف قدراته الذهنية متأخرا جدا لم يعط الوقت لهاريس في الثلاثة أشهر المتبقية لتخرج من عباءته سيئة المنظر، كما أنها هي ذاتها لم تسع لذلك، ولم تتبرأ من أي سلوك سيء السمعة لرئيسها، وهو أمر مهم جدا في الديمقراطية الأمريكية، بل وقعت في خطأ جسيم استغله ترامب بكثافة في خطبه وأشرطته الإشهارية، وذلك حين قالت بعد تردد ” لا شيء يخطر ببالي”  في جوابها على سؤال طرحه عليها مذيع قناة ABC يوم 8 أكتوبر  قائلا: “هل كنت ستتصرفين بشكل مخالف لجو بايدن في الأربع سنوات من رئاسته” وكان يقصد القضايا الاقتصادية والهجرة ودعم إسرائيل. وقد كشف فريق كامالا هاريس عن قناعتهم وحملوا بايدن مسؤولية الخسارة، ولكن بعد فوات الأوان حين دوّت الهزيمة التاريخية. كما أن كثيرا من المتخصصين أكدوا ذلك، مثل الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة فرجينيا لاري ساباتو الذي بين بأن المعركة كانت خاسرة منذ أن قرر جو بايدن الترشح وعمره ثمانين سنة، وكيف أن الاستبدال الذي وقع في آخر لحظة لم يكن ناجحا، حيث لم تدخل هاريس بأي برنامج يخصها.
  • وعلاوة على ذلك ساهم تيار ” غير ملتزم” الذي تشكل من القواعد النضالية للحزب الديمقراطي، من الطلبة والشباب البيض خاصة، ومن معهم من العرب والمسلمين، على إثر الجرائم التي شارك فيها قادة حزبهم في غزة،  وقد نشط هؤلاء كثيرا في الجامعات، من خلال التظاهرات والاعتصامات في كلياتهم، والاحتجاجات المتواصلة ضد أي مساهمة لإدارتها ومشاريعها في دعم الكيان الصهيونى، وقد تمكن هؤلاء من تشكيل تيار فاعل لعدم التصويت، وقد مثل ذلك إعاقة إضافية لهاريس وحزبها، بدأت ملامحها تظهر منذ  الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي حين خسر بسببها جو بايدن نصف مليون صوت ولكن لم تصحح هاريس هذا المعطى المهم فدفعت ثمنه.
  • الحملة الانتخابية الجيدة لدونالد ترامب، حيث عرف كيف يصوب نقده إلى نقاط ضعف الديمقراطيين والأداء السيء  لبايدن، ومن ذلك تحميلهم تراجع مستوى المعيشة وإظهار المقارنات الرقمية بين عهدته وعهدة الديمقراطيين بعده، كما عرف كيف يدافع عن برنامجه بخصوص الهجرة غير القانونية التي تثير ناخبيه البيض كثيرا، دون أن يخيف الناخبين من غير البيض، بتركيزه على العامل غير الشرعي للهجرة، وتصويرها بأنها تتسبب في تضييع فرص عمل السود واللاتينيين، وأن هجرة هؤلاء إلى أمريكا مرحب بها في إطار القانون. ومن جهة أخرى رسم لنفسه صورة الشخصية السياسية المرتبطة بالشعب البسيط وسكان الأرياف، حيث ترك المجمعات السكنية الكبرى لتوجهاتها الانتخابية الاعتيادية وذهب لزيارة السكان التجمعات الهامشية وفي الأطراف والأرياف الذين لا يلتقي بهم الساسة بشكل مباشر عادة، وهو الخطأ الذي وقعت فيه هاريس كذلك. علاوة على خطابه الاعتيادي المتعلق بالوعود الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة، والحديث المثير للنزعة القومية كإعادة مجد أمريكا، ومكانتها الدولية وضبط الفوضى في العالم وتحقيق السلام وإنهاء الحروب.
  • وبخصوص الناخبين العرب والمسلمين، فإنه يمكن القول بأنه وقع تحول تاريخي في سلوكهم الانتخابي من زاويتين، من حيث عدم التصويت  للديمقراطيين، على غير العادة، بالمقاطعة أو التصويت لمرشحة حزب الخضر جيل ستاين الداعمة بقوة لفلسطين،  أو التصويت لترامب  ، ومن حيث الأثر الذي تحقق بتحويل ولاية ميشيغان التي يتركز فيها صوت العرب والمسلمين أكثر لصالح المرشح الرئاسي الجمهوري، والمساهمة في جلب كل ” الولايات المتأرجحة لصالح ترامب وكسر ما يسمى بالجدار  الأزرق. وقد كان السبب الرئيسي لتحول الناخبين العرب والمسلمين العدوان على غزة وتورط البيت الأبيض بقيادة الديمقراطيين في الجريمة، وقد عرف ترامب كيف يستغل هذا الوضع بانتقاله بنفسه للسكان العرب والمسلمين والحديث معهم ومع زعمائهم الدينيين ووعدهم بأنه سيوقف الحرب لغزة، خلافا لهاريس التي تهتم بهم ولم تزرهم ولم تتحدث معهم.

لا شك أن انتخاب ترامب لن يمثل تحولا جذريا لصالح القضية الفلسطينية بشكل تلقائي، حيث أن الجمهوريين في الكونغرس والرئاسة منحازين كلية لدولة الكيان ، ولكن الذي سيفعل ذلك هو طوفان الأقصى وبطولات المقاومة وثبات السكان في غزة ولبنان، فهم المعطى السنني الأساسي الذي سيحدث التحولات التي تفرض على ترامب وغيره في العالم وقف الحرب وتغيير نظرتهم للقضية الفلسطينية، وقد أحسن قادة حماس حين وضحوا ذلك في تصريحهم بعد ظهور النتائج بالقول : “تعقيباً على نتائج الانتخابات الأميركية التي تُظهر فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب، فإن على الإدارة الأميركية الجديدة أن تعي أن الشعب الفلسطيني ماضٍ في مواجهة الاحتلال، وأنه لن يقبل أي مسار ينتقص من حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”

ماذا يعني اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة؟

  • إنّ استشهاد قائد كبير في حركة جهادية مقاوِمة مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس أمر عادي فذلك هو مصير من رشّح نفسه لهذه المهمة النبيلة، وهذا الذي حدث في الثورة التحريرية الجزائرية، إذ أغلب القيادات الكبيرة اُستشهدت كمصطفى بن بولعيد، والعربي بن مهيدي، وعميروش وسي الحوّاس وغيرهم الكثير.
  • لقد فاز الشهيد إسماعيل هنيّة بأعظم منحة يتمناها مؤمن صادق، فهو حي يرزق عند ربه وفق قول الله تعالى في سورة آل عمران: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ – 169)).
  • لا يؤثر قتل القادة الكبار في مسيرة الحركات المقاومة لتحرير بلدانها، بل يزيدها قوّة وتماسكا وانتشارا، فقد قُتل المؤسس والمسؤول الأول في حركة حماس الشيخ أحمد ياسين والعديد من قادة الصفّ الأوّل، فجعل ذلك الحركة هي مرجع الكفاح والنضال في الساحة الفلسطينية وفي العالم بأسره، وهي اليوم تُعجز الكيان الصهيوني وكل حلفائه إلى درجة التشكيك في إمكانية استمرار الكيان نفسه.
  • يعتبر اغتيال الشهيد أبي العبد هنيّة إعلان الكيان بأنّه يريد استمرار المواجهة فعلى المقاومة في فلسطين أن تأخذ علما بذلك وأن تستعد لجولة طويلة من الجهاد إلى غاية التحرير، وعلى الشعب الفلسطيني كله أن يأخذ علما بأنه لا يراد له أن يعيش بكرامة وأنه يراد معاقبته دون تمييز على كل محاولة لأخذ حقوقه، فالبارحة استشهد ياسر عرفات لأنه أراد بعض الحقوق عن طريق المفاوضات واليوم يستشهد إسماعيل هنية لأن حركته أرادت أخذ الحقوق عن طريق المقاومة، فالاستشهاد بكرامة على طريق الجهاد هو السبيل الأوحد الذي حررت به الشعوب بلدانها، فلا حل للشعب الفلسطيني إلاّ أن يتحد وراء المقاومة من أجل حريته وصناعة مجده كما فعلت شعوب أخرى، وكل تردد واِرتعاش أمام جبروت الاحتلال هو مزيد من الإذلال واِستمرار الاحتلال.
  • على الدولة الإيرانية أن تتحمل مسؤوليتها بالرد المناسب على هذه الجريمة التي وقعت على أرضها والشهيد اِستهدف وهو في ضيافتها، ويجب أن تستعد لمواجهة واسعة من الكيان، لأنه بات واضحا بأن ذلك ما يريده قادة الاحتلال من أجل التغطية على الهزيمة التاريخية النكرة التي حلت بهم في طوفان الأقصى.
  • على الأمة العربية والإسلامية بمختلف طوائفها أن تكون جاهزة للتحولات الكبيرة المتوقعة على إثر هذه الجريمة الشنعاء، وعلى الحكومات أن تكون في صف المقاومة بلا مواربة وأن لا تغرق أكثر في الخنوع والاستسلام للإرادة الأمريكية الصهيونية، فإنها في كل الأحوال لن تهنأ بسلطانها ما دامت فلسطين تحت الاحتلال، ومادام الكيان موجودا، وعلى النخب والشعوب أن تتحمل مسؤوليتها وأن لا تقبل بسقوف الخور والهوان الذي تفرضه الأنظمة ضمن هذه التحولات التاريخية العظيمة. إنّ طوفان الأقصى سيفصل في الأمة بين طائفتين، طائفة في المكان الصحيح من التاريخ مع المقاومة الفلسطينية، وطائفة في المكان الخاطئ من التاريخ يجتمع فيه من هم ضد المقاومة مع المثبطين ومع من لا يبالون بما حدث ومن يغرقون في حساباتهم الشخصية ومصالحهم الضيقة.
  • على أحرار العالم والقوى الدولية المدركة لخطورة الفوضى التي ترعاها أمريكا بإطلاق أيادي حليفها الصهيوني أن تنصرف لوقف هذا التدحرج المستمر نحو الهاوية والمواجهة الشاملة التي يريدها المجرم نِتِنْياهو لإنقاذ نفسه ويريدها تجار الحروب والمتخصصون في التحكم في العالم بواسطة الفوضى.