في ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة للدولة (2)

حينما نتأمل في ما ذكرناه في المقال السابق المتعلق بالأحداث الكبرى التي سبقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ندرك بأن المطلوب من صاحب الرسالة بذل الجهد لنشر دعوته وركوب كل المخاطر للتمكين لفكرته. فهذا المصطفى المجتبى المؤيد بالوحي قد عمل في السر ثلاث سنوات لبناء القاعدة الصلبة التي يشيد  عليها المشروع، وتقوم عليها الدعوة،  وتنطلق منها الرسالة، ثم خرج للعلن يصدع بما أمره الله مدة سبع سنوات، فلقي هو ومن آمن معه من الصد والإيذاء ما يجعل من يقرأ  قول الله في نبيه: (( إلا تنصروه فقد نصره )) التوبة 40، ((إنّا كفيناك المستهزئين)) الحجر 95، ((إن شانئك هو الأبتر)) الكوثر 3 ، يفقه بأن الوعد بالنصر لا يعفي من الابتلاء على الطريق، حتى وإن كان المعني هو خير خلق الله أجمعين الذي قرن الله  واجب توقيره سبحانه بتوقيره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقال: (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) الفتح:8-9. ورفع الله ذكره  وشهد الله بالخُلق العظيم بين خلقه.

وحين اشتد عليه الكرب وزاد عليه القهر والصد، في السنة العاشرة بعد البعثة، راح يعرض نفسه على القبائل خارج مكة من غير قريش، فوجد من الأذى عند ثقيف في الطائف ما تزعزعت له الجبال حتى كاد الملَك المتصرف فيها من قبل الله أن يطبق عليهم الأخشبين، وتَتابع إنكار القبائل لحديثه ودعوته،  تصديقا منهم لخذلان قومه له،  ولِما يُروّجه عليه عمُّه “أبو لهب” من الأكاذيب والأراجيف.  وحتى حينما استمال القبيلتين الكبيرتين في السنة الحادية عشرة من البعثة قبيلتي  ” بنو عامر” و “بنو شيبان” اشترط  قادتها شروطا تخالف أمر ربه – كما بيناه سابقا – فتركهم. 

ولئن كان العجب كبيرا أن يبذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك الجهد فلا يفلح في أي مسلك سلكه في دعوة تلك القبائل كلها، فإن العجب الأكبر أن الظروف التي فتحت له يثرب لم يكن له فيها يد ولا سابق جهد سوى لقائه مع ستة من شباب الخزرج في مكة لم يكونوا ضمن الخطة والبرنامج.

بعد أن غادر رسول الله صلى عليه وسلم، مع صاحبه أبي بكر  زعماء بني شيبان، التقى دون سابق ترتيب ستة من الخزرج بمكان يسمى العقبة،  فلم يجعله لقاؤه السابق مع قبيلة عظيمة وقادة كبار يزهد في الحديث مع  ستة من شباب يثرب ليعرض عليهم دعوته. سألهم رسول الله صلى الله عليه عن قبيلتهم وعما بينهم وبين اليهود من أحلاف، سؤال من يعرف ما يدور في بلاد بعيدة عن بلاده. غير أنه لم يسألهم هو، أو أبو بكر، عن مكنتهم أو قدرتهم على حمله ونصرته، كما كان قد فعل مع القبائل قبلهم، وإنما اكتفى بأن “شرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعضهم: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا”الرحيق المختوم/ المباركفوري، رجع هؤلاء الشباب إلى قومهم في يثرب فدعوهم فأجابهم كثيرون، وفي العام الموالي، في السنة الثانية عشرة، أقبل على  رسول الله في نفس المكان بمكة اثنا عشر رجلا ، اثنان من الأوس والبقية من الخزرج منهم خمسة من الستة الأول.

 بايع هؤلاء المحظوظون  رسول الله، بيعة العقبة الأولى، وكانت  بيعةٌ لا شيء  فيها عن الجهاد والأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، سميت بيعة النساء ( على ما كانت عليه بيعة النساء لاحقا)،  ورَد نصُّها عن عبادة بن الصامت في الحديث الذي رواه البخاري:    (( تعالوا: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال:  فبايعناه  على ذلك)). وكأنّ رسول الله غيّر الخطة، حين أعرضت القبائل الكبرى وقادتها العظام عنه، فبات يبحث عن تشكيل وضع اجتماعي يمثل  حاضنة خاصة بالدعوة، تأتمر بأمره، قد قطعت علائقها مع أعراف الجاهلية بالقناعة الشخصية والالتزام الطوعي بتعاليم الهدي الجديد، والاتباع المستنير غير المشروط، وبالاتفاق مع قادة محليين على فروع صغيرة من القبيلتين الكبيرتين الأوس والخزرج.

بعد أن عاهد الاثنا عشر رجلا رجعوا إلى أهلهم ليكملوا البناء وفق الرؤية الجديدة يرافقهم سفير رسول الله الشاب مصعب بن عمير ( ومعه في روايات ابن أم مكتوم) ليعلمهم شرائع الإسلام ويرشدهم في حركة الدعوة وتهيئة البيئة لبناء الدولة، التي رجع هدفها في خطة المصطفى في السنة الموالية في العام الثالث عشر  من البعثة.

جاء في السنة الثالثة عشر إلى مكة  ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من يثرب قد أسلموا، يقصدون الحج مع قومهم المشركين، واتفقوا مع رسول الله على أن يلتقوا به سرا في ظلام الليل بشعب العقبة في أوسط أيام التشريق، يبحثون معه إنهاء مرحلة القهر والطرد وما كان يكابده رسول الله من قومه في مكة،  فكانت بيعة العقبة الثانية، التي دخل فيها العهد على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان نص البيعة على نحو ما رواه الإمام أحمد عن جابر قال: ((على ما نبايعك يا رسول الله))،  فقال: (( على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة))، وفي رواية عن ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت زاد: ((ألا ننازع الأمر أهله)).

إن أمر هذه البنود في البيعة لعظيم، ولذلك استوثق بضعة رجال من القوم قبل أن يبسطوا أيديهم، هم عمّ النبي العباس بن عبد المطلب، وهو على دين قومه لم يسلم بعد،  أراد التأكد من جدية أهل يثرب حتى يطمئن بنو هاشم على ابنهم، واثنان من الرعيل الأول الذين أسلموا في يثرب، هما العباس بن عبادة حرص على أن يعلم القوم أنهم “سيحاربون الأحمر والأسود من الناس” إن حملوا رسول الله إلى رحالهم، وأسعد بن زرارة نبههم على أن في إخراج النبي من مكة “فراق العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف”.

لم يكن الأمر يتعلق بدعوة عادية، ولكنه عهدٌ على بناء دولة وبعث أمة ستواجه الأمم كلها برسالتها، وبعد أن عُلمت بنود البيعة، واستعد الناس لتحمّل الأعباء وركوب المخاطر، وعلموا أن المقابل الجنة قالوا: (( فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها))، فصاروا هم الأنصار ودُونت صفتُهم بهذا الاسم العظيم في القرآن والسنة.

إن المتأمل في توالي الأحداث بين السنة العاشرة والثالثة عشرة بعد البعثة يدرك أن الله قد جازى نبيه على خذلان قومه ورفض القبائل الأخرى لدعوته، بعد أن استفرغ الجهد كله في تبليغهم رسالته، طاعةً لمولاه وثقة فيه بأنه لن يخذله،  مصداقا لقوله سبحانه:  ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) المائدة 67، فأكرمه سبحانه بحدثين  عظيمين منه وحده، بحوله وقوته، لا قبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، أولاهما في السماء مع الملائكة والأنبياء، والثانية في الأرض بين الناس في يثرب.

أما الأولى فهي حادثة الإسراء والمعراج، بين السنة الحادية عشرة والسنة الثانية عشرة،   التي ربط فيها الله تعالى التهيئة للهجرة من مكة إلى المدينة لإقامة دولة الإسلام، بالإسراء برسول الله من المسجد الحرام بمكة  إلى المسجد  الأقصى بالقدس،  حيث صلى بالأنبياء، ثم بالمعراج إلى السماء حيث رأى آيات الله الكبرى،   ليبقى الربط بين المساجد الثلاثة ربطا أبديا، يشهد عليه أهل السماء،   يدل على إمامة رسول الله للعالمين في الدنيا وفي يوم الدين.

أما الثانية فهي الأحداث الكبرى في يثرب التي كانت تتهيأ من تلقاء نفسها لتلتقي بالهجرة النبوية، كحالة سننية، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حيالها في المكان المناسب، ولم يكن له في حدوثها أي دور.  وهي معركة بعاث، بين الأوس والخزرج،  التي صنعت نتائجها الفرصة التي أحسن رسول الله استغلالها منذ أن التقى بالخزارجة الستة.

لم  تتوقف الحروب بين الأوس والخزرج منذ مائة وأربعين سنة، وكانت معركة بعاث آخر المعارك،  انتصر فيها الأوس على غير العادة لتحالفهم مع يهود بني النضير وبني قريظة، وهلك في الحرب زعماء الحيين، منهم عمرو بن النعمان زعيم الخزرج، وحضير بن السماك زعيم الأوس. وقد فهمت السيدة عائشة من ذلك تدبير الله لتهيئة الأمر لرسول الله فقالت في ما ورد في صحيح البخاري:   (( كانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في دُخُولِهِمْ في الإسْلَامِ)) .

أراد اليهود اغتنام الفرصة لاستئصال شأفة الخزرج، وشرعوا يلاحقون فلول المنهزمين، فلم يطاوعهم الأوس لعلمهم بخطورة استفراد اليهود بالقوة في يثرب، وقالوا قولتهم : “يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب”. وبعد الفراغ الذي خلّفته الحرب الضروس  في مختلف المجالات في يثرب، بما يهيئ الظروف لليهود وحدهم،  اتفق رجال من الطرفين  على الصلح واجتمعوا على عبد الله بن أبي بن سلول كما لم يجتمعوا على أحد منهم من قبل،  لقربه من الأوس وعلاقته باليهود، ولكونه خزرجيا عارض الحرب ولم يشارك فيها، وقبيل الهجرة كانوا يعدون له الخرز ليتوجوه عليهم ملكا.   

غير أن أولئك الذين كانوا يسعون لإعادة بناء المنظومة من الأعلى على أعراف ومعتقدات السابقين، لم يدركوا بأن شبابهم، ومنهم أبناء الزعماء الذين قتلوا في بعاث منهم أسيد بن حضير بن السماك،  قد صنعوا واقعا جديدا صار يفرض نفسه من الأسفل، منذ التقاء الستة برسول الله، فبيعة العقبة الأولى ثم العقبة الثانية.

ولما آن أوان الهجرة ودخول محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام المدينة، في العام الثالث عشر من البعثة، يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ما يوافق 27 سبتمبر عام 622 ميلادية على عمر يناهز الثالث والخمسين، كانت الفرصة قد ضاعت من عبد الله بن أبي ومن بقي يتبعه من المشاركين، وحين رأى هؤلاء بأن الإسلام قد غلب في المدينة دون حرب ولا اتفاق مع زعيم من الزعماء، وأن إعادة الأمر على ما يرجونه بحرب أو اتفاق غير ممكن، وأن ثمة دولة ناشئة قوية صلبة لا تُغلب، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ونشأت ظاهرة سياسية واجتماعية وعقائدية غير مسبوقة في بلاد العرب هي ظاهرة النفاق، فصل القرآن في إظهار خصائصها وحذر منها المؤمنين إلى يوم الدين.

ومما يمكن قوله في الأخير أن بناء الدولة كان مشروعا قائما في رسالة  رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثته، حاول أن يحمله معه قومه في مكة فأرادوا له الملك دون الرسالة ثم حاربوه على تمسكه بالفكرة والرسالة، ثم سعى ليتكفل بنصرته قبيلةٌ من غير أهله من أولي القوة والمنعة بين العرب، منهم ثقيف التي أخرجته من الطائف بالحجارة والأذى، ومنهم من أعرض عنه وعيّبه لإعراض قومه عنه، ومنهم الذين قبلوه ولكن اشترطوا عليها شروطا لا يقبلها الله ورسوله، كبني عامر وبني شيبان، إلى أن جاءه من أكرمهم الله به فدخلوا به مدينتهم بعد قرابة سنتين من الحوار والعهود والدعوة والإعداد، وكانت المحصلة ثلاث عشرة سنة، من المسير نحو المدينة، ثلاث سنوات في السر وسبع سنوات في العلن، منها ثلاث سنوات مفاوضات سرية مع القبائل.

وبعد الهجرة شرع رسول الله في بناء دعائم الدولة، ابتدأها بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتمتين الجبهة الداخلية، وبناء المسجد للعبادة والتعليم والقضاء والقيادة، والوثيقة الدستورية لتبيان الحقوق والواجبات وطبيعة الدولة، ثم السوق لتسكين النموذج الاقتصادي الاجتماعي الجديد.