لا يوجد بلد عربي يتمتع بمساحة معتبرة غير مهدد بتفكيك الدولة الوطنية: الجزائر مهددة، المغرب مهدد، ليبيا مهددة، مصر مهددة، السودان مهدد ( مرة أخرى)، السعودية مهددة، العراق مهدد، سوريا مهددة، الأردن مهدد، أما الدول الصغيرة فهي مهددة بالابتلاع . إنها كلها مهددة، ونحن على أعتاب سايكس بيكو جديد، لا قدّر الله، والخرائط الجديدة لبعض الدول مرسومة، وبعضها معلن. وكل حكام هذه البلدان لا يُقصّرون في إخافة شعوبهم من هذه المخاطر، وكل حاكم يوهم شعبه بأن بلده هو البلد الوحيد المهدد، لما يملكه – بزعمه – من خصائص لا توجد عند غيره! وكل الأحزاب والمنظمات التي تريد التقرب من أصحاب القرار يتفنون في تكرار الخطاب الرسمي بخصوص موضوع التهديد. وكل من يريد أن يقول كلمة في نقد أو نصح الحكام في ما يحفظ البلدان حقا من التهديد، أو يعبر عن وجهة نظر أخرى يُرفع في وجهه – من السلطة والأحزاب والأقربين – هذا الشعار: “خطر تفكيك الدولة الوطنية”، وربما يُتّهم بأنه متواطئ مع القوى الأجنبية التي تهدد الدولة الوطنية.وإذا سألت: من الذي يهدد الدولة الوطنية؟فالسمفونية جاهزة: هي قوى خارجية متربصة بالوطن، ولا أحد يعطيك جوابا شافيا كافيا عن سؤال: من هي بالضبط هذه القوى الأجنبية؟ وتارة يتم التلميح إلى قوى هي الأقرب في الواقع لمن بيدهم الحكم، وتتمتع – وأزلامها – بامتيازات لا يعطيها لهم إلا الحاكم، ولا يوجد من يُلاحَق ويُضطهد في هذا الوطن المهدد أكثر ممن يخاصم تلك القوى الخارجية، فعليا، فكريا وسياسيا وبشكل علني. أما إذا سألت عن حال الجبهة الداخلية وعن التحصينات الوطنية: ما الذي، وكيف، ومن الذي، جعلها تضعف إلى الحد الذي جعل الخطر وشيكا؟يقال لك عليك أن تسكت وتلغي رأيك وآمالك وتصطف وراء الحاكم، فلا رواية في زمن التهديد سوى رواية الحاكم! إن وقوع الدول تحت التهديد مسألة قديمة قدم وجود الدول، لا توجد دولة ليست مهددة في التاريخ، ولم تتوقف الخرائط عن التحرك والتغير عبر الزمن، وفي كل زمن يوجد غالبٌ يُغيّر الخرائط لصالحه ومغلوبٌ تتغير على حسابه. فالسؤال الأهم كيف تكون غالبا وكيف تكون مغلوبا؟ إن التهديدات الخارجية حقيقية، وهي طبيعية، والتصدي الجماعي لها واجب،. ولكن: والله الذي لا إلا هو : إنه لا يوجد من خطر يهدد البلدان سوى خطر الاستبداد فيها.كنت دائما أقول في زمن العهد البوتفليقي بأنه لا خطر على البلاد غير النظام السياسي، وكان الكثير يعدُّون حديثي راديكالية، حتى جاء ” الحراك الشعبي المبارك” فأكد جميع من كان يتهمني مقولتي، ثم ظننا أن البلاد ستقوى بعد الحراك فتسقط على أسوارها كل التهديدات الخارجية فإذا بذات السمفونية تعود، وعلى الجميع أن يسكت فلا حديث غير حديث الحاكم وأعوانه وأزلامه. للأسف الشديد حين تُمارس السياسة بلا فكر ولا علم، ويتصدر المشاهد العقول البسيطة أو المحكومة بالأهواء المقودة بالانتهازية تغيب الحقائق وتتوارى المعايير الحقة التي ثبتها العلماء في الحكم على الأحداث والظواهر. إنه لا يوجد عالم من العلماء الكبار الذين درسوا تاريخ ومجتمعات الدول والأمم والحضارات منذ فجر التاريخ إلى الزمن الراهن لم يتوصل إلى النتيجة الحاسمة: إنما تتهاوى الدول والأمم والحضارات من الداخل. بإمكاني أن أستحضر قانون الأطوار الخمسة والأجيال الثلاثة للعلامة العظيم عبد الرحمن بن خلدون في رسمه مسارات قيام الدولة وأفولها، وحديثه عن “جيل الهدامين” في قصور الحكم الذي يُجهزون على الدولة. وبإمكاني أن أتحدث عن المراحل الثلاث ( مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة) للمفكر الفذ مالك بن نبي وكيف تسقط الحضارات حين يقود البلدان نخب القلة العاجزون الذين تقودهم غرائزهم، وباستطاعتي أن أذكر توصيف ويل ديورانت الموسوعي للدول والحضارات التي تغلبها قوى أخرى من الخارج وتبتلعها لما تتآكل من الداخل ، ولكن سأكتفي بتلخيص مفيد لفكرة المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير أرنولد توينبي، التي تتفرع عن عبارته المشهورة “لا تُقتل الحضارات بعدوان خارجي ولكنها تنتحر انتحارا”
يتبع ….
