أولا – الرد على الشبهات
6 – شبهة: المطلوب جمع المال فقط
يتذرع بعض النشطاء في القضية الفلسطينية بأهمية بذل المال لها لتسفيه المناشط الأخرى والإقلال من شأنها، وهو تصرف خاطئ ومضر ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية، والمبالغة في هذا الحديث والإصرار عليه يدخل ضمن سلوكيات التثبيط والخذلان، بقصد أو بغير قصد، وسنعود لاحقا لشرح مختلف الأسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك.
لا شك أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم الطاعات والقربات، فالزكاة ركن من أركان الدين، و”الصدقة تمحو الخطايا والسئيات كما يطفئ الماء النار” كما جاء في الحديث الصحيح، وهي بركة في الصحة والرزق وتدفع عن صاحبها أنواعا كثيرة من البلاء في الدنيا وفق ما جاء في العديد من النصوص، والحضارة الإسلامية إنما بنيت أساسا بأموال أوقاف المحسنين في كل المجالات، ومن أعظم أنواع الصدقات “ج” في سبيل الله بالمال، فهو قرين “ج” بالنفس في القرآن الكريم بل مقدم عليه في أغلب الآيات، ومن ذلك قوله تعالى في سورة التوبة الآية 41: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). وفي الآية 20: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). وقد فسر العلماء سبب ذلك في الكثير من التفاسير ومن ذلك ما بينه الألوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة، فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).
ولا فرق في “ج” بالمال بين من غزا ومن جهز غازيا ومن دعم أهله، وقد بيّن رسول الله ذلك في هذا الحديث الصحيح العظيم: (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا). وعلى هذا كان قادة الثورة التحريرية يعّون الإنفاق على الحاضنة الاجتماعية المساندة لهم التي تلحق بها الأضرار الكبيرة في الأرياف أهم من الإنفاق على من هم في الجبال (وكلاهما كان مطلوبا)، وعليه نؤكد بلا مواربة بأن الإنفاق على أهل غزة من أقدس الأعمال الصالحة في هذه المرحلة.
غير أن الشريعة الإسلامية لا تخضع لفهومنا الخاطئة مهما كانت نوايانا جيدة، كما لا تحكمها مرامينا السطحية أو أهواؤنا أو إكراهاتنا الشخصية وحبنا للعمل السهل الذي لا مخاطر فيه، فلا تُحدد الأولويات إلا بفهم مقاصدها، ولا ينتفع بها إلا من يفهم مرونتها.
إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء الم”قا&وم’ة هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت “م” أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية أما السفارات الصهيونية والأمريكية والمصرية في العالم، وبتحريك الرأي العام بالعمل الإعلامي والسياسي وتعظيم أعداد المحتجين في الشوارع بالحد الذي تشغل فيه غزة العالم والناس جميعا أكثر من أي قضية أخرى.
لقد بين الإمام الكبير يوسف القرضاوي بأن فقه الأولويات مرتبط ب “فقه مقاصد الشريعة” فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدَف الشرع إلى تحقيقها. فلا يصح في العقل ولا في الشرع ولا في أي عرف أن يكون للتحسيني الأولوية على الحاجي، ولا للحاجي على الضروري. بل للضروريات بكلياتها الأولوية المطلقة على الحاجيات والتحسينيات”
إن نجدة الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)
فالمواد الإغاثية من مختلف جهات العالم مكدسة في معبر رفح، ولكن أكثرها ممنوع من الدخول إلى غزة بسبب الحصار، وما يدخل منها لا يسمن ولا يغني من جوع، فالأولى اذن هو العمل على كسر الحصار. وحينما نقول الأولى لا يعني هذا التوقف عن جمع المال والمساعدات، بل وجوبها يظل قائما في كل وقت، وإنما ما يجب بذل المال والوقت والجهد فيه أكثر هو كسر الحصار وتوعية الناس بالمآسي التي يتسبب فيها، وتوجيه الجماهير للاحتجاج في الشوارع لرفع معنويات المظلومين والضغط على الظالمين من الأمريكان وعملائهم وعبيدهم من بلادنا العربية والإسلامية.