أرشيف التصنيف: دراسة

سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآلات.

بدأنا مقالنا الأول عن سوريا  بعنوان “تطور الوضع في سوريا : الواقع والمآل”، فكانت الأحداث أسرع منّا إذ تهاوى النظام السوري بشكل سريع ومذهل، بما يجعلنا نغير العنوان ليصبح : “سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآل”. وقد قصدنا فهم خلفيات السقوط السريع من خلال اِستحضار مختلف التطوّرات الحاصلة على مستوى القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، فبدأنا الحديث عن إيران ووضّحنا التحولات الداخلية والخارجية التي جعلت هذا البلد يُحجم عن نجدة حليفه السوري بشار الأسد، وسنتناول في هذا المقال الخلفيات التي أدّت إلى تحوّل الموقف الروسي وتخليه عن النظام الذي أنقذه من قبل من السقوط، وفي مقالات مقبلة سنتطرق إلى تطورات وخلفيات الموقف التركي، ثم سياسات وطبيعة الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الأحداث، ثم نتحول إلى الحديث عن مكوّنات قوى المعارضة وخلفياتها الأيديولوجية وعلاقاتها مع القوى الأجنبية، لنخلص في الأخير لدراسة السيناريوهات المحتملة للشأن السوري والقضية الفلسطينية والمنطقة كلها. 

2 – روسيا: 

لقد كان للتدخل الروسي في الأحداث في سوريا دور أساسي في حسم الصراع المسلّح لصالح نظام بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة، منذ 30 سبتمبر / أيلول 2015، وكانت حجّة الروس حينذاك محاربة الإرهاب،  ثم اعتبرت أن لوجودها الطويل في سوريا طابعا شرعيا على أساس أنّ قواتها حطّت رحالها في الأرض السورية بطلب من الدولة السورية “الشرعية”. وقد استغلت هذا الوجود القانوني لتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس ليتجاوز وجودها في سوريا الأزمة السورية إلى حماية مصالحها في المنطقة كلّها وكلّ الفضاء الجغرافي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط. 

غير أنّها لم تكن تجهل تناقص المصالح وصراع الإرادات الدولية في بلاد الشام، فما إن أنهت وجود القوى المسلحة في شرق حلب بقوة نارية جبارة ذهب ضحيتها كثير من المدنيين الأبرياء؛ قتلا وتهجيرا، حتى اِتجهت إلى الاِتصالات الدبلوماسية من خلال مسار أستانا مع تركيا وإيران. 

اِكتفت ترتيبات مسار أستانا بالاِتفاق على خفض  التصعيد، وهو ما نقل القضيّة السورية نوعا ما إلى ما بعد بيان جنيف 2012 الذي بني عليه قرار مجلس الأمن 2254 في 2015 المدعوم من أمريكا، والذي اِقترح مشروعا سياسيا كاملا يقوم على تغيير الدستور وبناء نظام سياسي جديد يستوعب كلّ الطوائف وإجراء اِنتخابات حرة ونزيهة. 

لقد كان لروسيا دور كبير في تعطيل المسار السياسي، مدعومة بإيران، ثم زاد البعد عن الحلّ السياسي محاولات تركيا فتح صفحة جديدة مع النظام السوري من أجل حلّ مشكلاتها المتعلقة بالمهاجرين والأكراد، وحين اِنفتحت الدول العربية على بشار الأسد من جديد اِنغلق الأفق السياسي كلية وظنّ بشار بأنّه حسم الأمر نهائيا، رغم بقاء هذه الدول متمسكة بالحلّ في إطار ذات القرار الأممي.

لا شك أنّ قرار مجلس الأمن كان على الهوى الأمريكي ممّا أفقد الثقة فيه عند العديد من الأطراف ولكن لم يُعرض أي بديل له من داعمي النظام، أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، سوى ما صرح به وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مايو 2023 بأنّ “بلده سيطبق ما يهمه من مضامين القرار 2254”!

ولكن بعد كلّ هذه المجهودات لحماية النظام السوري ظهر الموقف الروسي اتجاه التطورات الجديدة باهتا، بشكل مفاجئ وغير مفهوم لدى الكثيرين. وقد بدا عدم الاِهتمام واضحا من الوهلة الأولى عبر طريقة تناول وسائل الإعلام الروسية للأحداث، حيث لم تتحرك البروباغاندا الروسية المعهودة، واِكتفى مذيعو القنوات ووسائل الإعلام الأخرى  بنقل الأخبار ، واِهتم المحلّلون بتقديم التحليلات والتفسيرات فحسب. ثم جاءت تصريحات المسؤولين فأكّدت بأنّ بشار  بات بلا دعم فعلي من صديقه بوتين.

اِكتفى المتحدث باسم الكرملين بالتصريح في اليوم الثاني من هجوم المعارضة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة “السلطات السورية إلى اِستعادة النظام الدستوري بسرعة” مصرحا بأنّ “روسيا تقوم باتصالات مناسبة وتحليل الوضع” وأنّها “ستسعى لتحقيق الاِستقرار في سوريا”، ومؤكدا بأنّ “روسيا قادرة على تقديم المساعدة للنظام السوري اِعتمادا على تقييم الوضع ميدانيا”. وقد تكون هذه التصريحات مؤشرا على أنّ الأمر لا يتعلق بعدم القدرة على تقديم المساعدة وإنّما ثمة توجه آخر يستند على دراسة تطورات الوضع الميداني. 

لا شكّ أنّ هذه التصريحات قد اُلتقطت من قادة الجيش النظامي فعلموا أنّه لا يمكنهم الاِعتماد لا على إيران كما بيّنا سابقا ولا على روسيا، ممّا جعلت معنوياتهم تنهار وصفوفهم تتفكك وأخذوا بالفرار من جبهات القتال. ويمكننا أن نقول بأنّه لم يصرح أي مسؤول دولي تصريحا مهينا للنظام السوري المتهالك ، كما كان تصريح مسؤول روسي مقرّب من الكرملين، وفق ما نقلته وكالة بلومبرغ، الذي قال فيه: “إنّ روسيا لا تملك خطّة لإنقاذ بشار الأسد ولا ترى إمكانية لإيجاد واحدة، طالما اِستمر الجيش في التخلي عن مواقعه”، وحينما دعت السفارة الروسية رعاياها إلى مغادرة دمشق كانت اللعبة قد أغلقت على حليف الأمس.

سارعت كلّ من روسيا وتركيا وإيران إلى الاِجتماع لمناقشة إمكانية تخفيض التصعيد وفق مسار أستانا، ولا شكّ أنّ ما جمعهم هو خوفهم من التدخلات الأمريكية، إذ أشار جميعهم إلى القوى الكردية الحليفة للأمريكيين، بل إنّ لافروف أشار إلى مصلحة الإسرائيليين في تغيير الوضع في سوريا. ثم اِلتحق بهذا الثلاثي مجموعة الدول العربية الخمس، ودخل الجميع في النقاش للعودة إلى القرار 2254، غير أن الذين كانوا في الميدان لم يمهلوا أحدا ودخلوا دمشق وأسقطوا الطرف الذي كان يطلب منه دوليا أن يدخل في المفاوضات من أجل تطبيق القرار، وبعد فرار الأسد لم يبق إلا طرف واحد وهو الطرف المنتصر، ولم يبق شيء يناقَش عن مستقبل سوريا سوى مع هؤلاء. 

لا شكّ أن اِنشغال الروس بالحرب  مع أوكرانيا يمثّل سببا رئيسا في إحجامهم عن التورط مجددا في المواجهة المسلحة في سوريا، وقد يكون بوتن قد أحسّ بأنّه يراد اِستدراجه في جبهة أخرى تستنزفه. غير أنّ  ثمة أسبابا أخرى بالغة الأهمية أثرت في موقف  تراجع الطرف الروسي عن دعم النظام السوري، سوى بعض الطلعات الجوية القليلة غير ذات الجدوى. 

إنّ جذور ذلك قد تعود إلى تغيّر الموقف التركي ورغبته في الحوار مع بشار الأسد لحلّ مشكلة اللّاجئيين والتوصّل إلى تفاهمات بخصوص الملف الكردي، وقد عُقد بهذا الشأن لقاءات رسمية عالية المستوى بين المسؤولين الأتراك والروس، واِتصل بوتن نفسه  ببشار الأسد بهذا الخصوص فرأى تصلبا كبيرا منه. 

وعلاوة على ذلك بات ثمة تفهّم كبير من القيادة الروسية لحاجة الأتراك للتدخّل المباشر في سوريا بغرض كبح جماح منظمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية المسنودة والمسلحة والمحمية من الخصم المشترك؛ الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن التداخل العميق للمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، بين تركيا وروسيا ساعد على تحقيق الاِستقرار في الخطوط الدبلوماسية بين البلدين، ومن ذلك تجنب الاشتباك بين الطرفين بأيّ شكل من الأشكال مهما كانت الصعوبات وحل المشاكل المعقدة وتضارب المصالح بالاِتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية. 

ثمّ إنّ ثمة مصلحة مشتركة أخرى بين البلدين، وهو الرغبة الثنائية في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، حيث أنّ روسيا كانت دائما تعتبر بأنّ إيران هي البلد الوحيد الذي ينافسها فعليا، سياسيا واِقتصاديا، في سوريا ومع النظام السوري ويُعقّد عليها تحكمها في الأوضاع في المنطقة، وقد بين هذا الامتعاض الروسي ما كان يتداوله محللون سياسيون في القنوات الروسية في نقد النظام السوري، واِتهمه البعض أنه يلعب على حبلين. 

ومن جهة أخرى ظلت البرودة في العلاقات بين إيران وتركيا ثابتة رغم الحوار القائم بينهما، ولم يكن أردوغان ينظر إلى تعنت بشار الأسد في الدخول في الحوار إلّا من زاوية أنّه مسنود في موقفه من إيران. وبسبب التطورات الداخلية والخارجية التي حكمت الوضع الإيراني أصبح إخراج إيران من اللّعبة ممكنا، وقد ساعد على ذلك شعور عدد من الدول العربية بأنّ اِنفتاحهم على الأسد كرئيس دولة عربية لم يبعده عن إيران وأنّ مصانع المهلوسات (الكبتاجون) في سوريا التي اِشتهرت بها عائلة بشار والمقربين منه أصبح ترويجها في الدول العربية بمثابة حرب ضدهم. 

وكلّ هذه الاعتبارات تأخذ كثيرا من المصداقية؛ الأخبارُ التي تؤكّد على أنّ تفاهمات روسية تركية كانت قد تمت قبل الهجوم تضمن مصالح روسيا، وخصوصا على مستوى القاعدة العسكرية في حميميم وطرطوس. وممّا يساعد على قبول هذه الأخبار أن المعارضة لم تتعرض للوجود الروسي بأيّ شكل من الأشكال، وأنّه خلافا للقوى الإيرانية وحزب الله اِلتزمت التشكيلات العسكرية والأمنية بدون إجراءات اِستثنائية مواقعها، رغم المشاركة الروسية الكبيرة في ما لحق الشعب السوري من بلاء عظيم.

ولا يمكن من وجه آخر إغفال اِلتزام روسيا بحماية الكيان الصهيونىّ من خلفيات تراجع روسيا عن حماية النظام السوري، فهي لا يهمها أن تعجز إيران عن اِستعمال الأراضي السورية لدعم حزب الله ونقل السلاح إليه، إن كانت تضمن مصالحها. 

وفي كلّ الأحوال، لا يعتقد أنّ روسيا كانت تريد أن يحدث اِنهيار تام للنظام السياسي، وإنّما كانت تريد تغيير شيء من الواقع على الأرض لصالح المعارضة وتركيا لكي يقبل الجلوس على الطاولة بخصوص ضمانات سلامة اللاجئين عند عودتهم وحلّ معضلة علاقته المشبوهة مع القوى الكردية الموالية لأمريكا، ولكنّ الأقدار شاءت غير ذلك، ولم يكن ثمّة من يستطيع وقف زحف قوى المعارضة نحو دمشق حين أتيحت لها الفرصة.

التجربة التركية ودلالات الانتخابات (4\4): المحور الكردي العلوي والحلقة المفقودة

ملاحظة قبل القراءة: لقد قمنا في هذه الدراسة بجمع وتحليل ما نعرفه من معلومات تاريخية ومعطيات فكرية عن التجربة التركية متفرقة في دراسات أخرى، كما ثبتنا الخلاصات التي ستسهّل علينا لاحقا الخوض في الفرضية (الحلقة المفقودة) التي دفعتنا إلى القيام بهذه الدراسة، بما قد يجعل القارئ الذي يصبر على طول هذه المساهمة من غير المتخصصين ينظر إلى التجربة التركية بغير ما ألفه من زوايا النظر.

متابعة قراءة التجربة التركية ودلالات الانتخابات (4\4): المحور الكردي العلوي والحلقة المفقودة

دراسة: التجربة التركية ودلالات الانتخابات: الحلقة المفقودة (2|4)

إن أمان أي مشروع طويل المدى إنما يتحقق نهائيا حينما يصبح التداول الديمقراطي السلمي على السلطة في الإطار الحضاري الواحد الذي تتنافس فيه الأحزاب تنافسا حقيقيا، تختلف بينها اختلافا حقيقيا على البرامج والرجال والأفكار والطموحات، ولكن تسير في اتجاه حضاري واحد … وهذا الذي حققته التجربة الديموقراطية الغربية، كل أحزابها تتنافس في إطارها الحضاري الغربي المادي، وهذا هو المفقود في التجربة الديمقراطية التركية. فأين هي الحلقة المفقودة؟

متابعة قراءة دراسة: التجربة التركية ودلالات الانتخابات: الحلقة المفقودة (2|4)

دراسة: التجربة التركية ودلالات الانتخابات: الحلقة المفقودة (1\4)

مقدمة:

لا شك أن الانتخابات التركية رسمت نموذجا فريدا في العالم، تجاوزت في دلالاتها الديمقراطية الحقة الديمقراطيةَ الغربية المأزومة، التي باتت القوى المالية الرأسمالية هي المتحكم فيها من الخلف فلا تأتي للشعوب بأي تغيير، تتداول الأحزاب على الحكم ضمن مشروع واحد يزداد به الأغنياء ثراء وتتعاظم فيه مشاكل الفقراء. لقد تميزت الانتخابات التشريعية والرئاسية التركية برِهان ديمقراطي حقيقي حقق نسبة عالية من المشاركة وصلت إلى 85% من الناخبين، مما يدل بأن الأتراك مؤمنون بالعملية السياسية في بلدهم، واثقون بمصيرهم داخل وطنهم وبتحسين أحوالهم فيه، قد اقتنعوا بأن مستقبلهم يصنعونه سلميا بأصواتهم، فلا سبيل لليأس، ولا تنازل عن الحقوق، ولا حاجة للعنف، ولا اتكال على قوى خارجية.

متابعة قراءة دراسة: التجربة التركية ودلالات الانتخابات: الحلقة المفقودة (1\4)

الحجاب في مواجهة السياسة الكولونيالية

الموضوع:
لو تحدثتُ عن الحجاب من الناحية الدينية فإني أقول كما يقول المسلم العادي الذي لا يحب أن يصادم المعلوم من الدين بالضرورة والحريص على عقيدته ونجاته يوم الدين، ولو كان مقصرا في التزامه بأحكام الشرع هنا أو هناك، أن حجاب المرأة واجب شرعي انعقد عليه إجماع الأمة ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين من السلف أو الخلف، مع اختلافات متحملة في شكله وشروطه ومسألة النقاب، وحسب أعراف وعادات المجتمعات المسلمة. وكل محارب للحجاب أو مضيق على من تضعه على هذا الأساس هو محارب لله ورسوله.

متابعة قراءة الحجاب في مواجهة السياسة الكولونيالية