الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (2)

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (٢)

حظي المقال السابق “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” الذي نشر في موقع عربي 21 الأسبوع الماضي باهتمام المتابعين، ووردت بخصوصه تعليقات كثيرة تردد فيها السؤال عن الحل، وعدّ بعضها بأن ما ورد في المقال هو بمثابة “مراجعة فكرية أو تراجع عن خط سياسي سابق لحركة مجتمع السلم كنت أحد المسؤولين عنه، بل قدت الحركة به”.

رأيت من المفيد أن أكتب جزء ثانيا للمقال أتفاعل فيه مع هذه الأسئلة والاهتمامات والانتقادات المشروعة، لا سيما أنها صيغت بأساليب محترمة وذات مضمون فكري.

وقبل التطرق الى الموضوع الأهم المتعلق بتصورات الحل، أود أن أؤكّد بأن تناولي لمثل هذه المواضيع لا يتعلق ببلد معيّن أو حركة من الحركات الإسلامية بذاتها، بل هي دراسات وأفكار ومراجعات تتعلق بتجربة الحركة  الإسلامية بمجملها، وأنا أحاضر في هذا المقاربات في العديد من الدول، في الندوات الحضورية والافتراضية. لا شك أن مسيرتي في حركة مجتمع السلم تمثل قاعدة ارتكاز في التجربة، ولكن لا تتعلق بها وحدها، فهي تشملها وتتجاوزها من حيث اطلاعي العميق، النظري والعملي، على كل التجارب في مختلف الدول.

أما ما ذكر أن  هذه الأفكار  هي بمثابة مراجعات عن توجهات سابقة، فإن ذلك أمرا مطلوبا لا مِثلب فيه، فالعقول الراشدة هي العقول القادرة على التطور والمراجعة بحسب ما تتطلبه تطورات البيئات والتحديات والمتطلبات، لا سيما وأننا في أجل مائة سنة على تأسيس الحركة الإسلامية ولا شيء يبقى من أفكار مائة سنة ماضية سوى الثوابت العقائدية والأخلاقية والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة العابرة للأزمنة والأمكنة، والقليل مما بينت التجربة وتوافق المسلمون على استمرار صلاحه. واهتمامي بالتطور الفكري في مناهج الحركات الإسلامية لم يبدأ بمقال ” الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” بل كتبت في ذلك كتبا مشهورة منها كتاب “الحركات الإسلامية: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر في 2015 وقمت فيه بتقييم تجربة حركة مجتمع السلم منذ التأسيس الى تاريخ نشر الكتاب، وكتاب “البيت الحمسي” الأول في 2013، والثاني في 2018، ثم الكتاب المهم الذي نضجت فيه المراجعات والذي صدر في 2023  قبل خروجي من هياكل الحركة بأكثر  من سنة ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” والذي لا أتوقف عن تقديم مضامينه خارج بلادي. علاوة على المشاركات الإعلامية الكثيرة في هذا الشأن منها مشاركي في سبع عشرة حلقة من برنامج قناة الحوار “مراجعات” في 2016

وأود أن أسجل هنا بأن ثمة حدثين مهمين دفعا بي إلى مراجعات عميقة، أولهما في 1997 بعد صدمة تأسيس النظام السياسي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتزوير له تزويرا شاملا في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث ثبت لي أن الرؤية السياسية للشيخ  محفوظ نحناح رحمه لم تصبح قائمة، حيث كان رحمه الله يعتقد – كما سمعته بنفسي منه ودأب عليه العمل –  بأن المؤسسة العسكرية ستقدّر نهجه الوطني وسمته المعتدل وشعبيته القوية التي أكدتها الانتخابات الرئاسية عام 1995 وتقبل أن يكون بديلا على أساس ديمقراطي لجبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ فيكون هو محور بناء تحالف وطني يقود البلد  لمصلحة الجميع. ولكن عكس ذلك كله حدث وكانت رسالة النظام السياسي له واضحة بأنك “لست أنت البديل!” و”بديلنا نصنعه بأيدينا ولو بالقوة وبالتزوير”، و”إن أردت أن تكون على الهامش فمرحبا بك”. لم أخف قناعتي عن الشيخ محفوظ نحناح إذ أفصحت  له  عن رأيي بأنه لا بد من تغيير النهج السياسي والابتعاد عن السلطات الحاكمة والتحول إلى معارضة وطنية واضحة، والاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني، وكتبت له في ذلك عام 1997  مذكرة نشرتها في عدة مناسبات منها كتاب ” مبادرات لحل الأزمات”، وبقيتُ على هذا الرأي إلى اليوم، بل كلما مر الزمن تأكدت التوجهات التسلطية غير الديمقراطية للحكم،  وطورت مقاربات تلك المذكرة – التي هي منبع أفكاري السياسية والاستراتيجية – عبر العديد من المساهمات منها الكتب التي ذكرتها أعلاه.

أما الحدث الثاني فهو فشل المفاوضات بيني وبين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على اثر النتائج الجيدة التي حققناها في الانتخابات التشريعية عام 2021، حيث بذلنا مجهودا كبيرا لتحقيق تلك النتيجة، رغم التزوير والعزوف الانتخابي،  حتى نكون مؤهلين للانتقال من مرحلة المشاركة السياسية التي نكون بها في واجهة الحكم إلى مرحلة الشراكة الفعلية في الحكم وفق نتائج الانتخابات.

  كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في أفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.

لقد أكد لي هذا الحدث بأن العمل السياسي التقليدي في الجزائر  ميؤوس منه وأن العمل الحزبي لن يؤدي وحده إلى التغيير أبدا،  وأن سيرورة الانتخابات المعهودة ستبقى شكلية لا تساهم إلا في تثبيت ديمقراطية الواجهة.

لقد مثل فشل المحاولة  صدمة كبيرة لي أكّدت بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه غير  مناسب لتجنيد الجماهير وصقل إرادة المناضلين من أجل التغيير، وقد صارحت المسؤولين الذين كانوا حولي في قيادة الحركة، و الذين بوّأتهم  بنفسي مواقع المسؤولية العليا فيها،  عدة مرات بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه ليس سقفي وإنما هو سقفٌ توافقي تحريت فيه احترام نفسياتهم و ميولاتهم السياسية، وكذلك أهمية الانسجام ببننا.

لم يكن باستطاعتي المضي أكثر في تنفيذ الأفكار التي دونتها  في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، رغم النتائج الإيجابية التي حققها هذا التوجه في إطاره عام، ولم يكن ضمن خياري إحداث تحول ثوري داخل الحركة لتجسيد فكرة مسارات التغيير الثلاثية الواردة في الكتاب، بسبب بقاء سنتين فقط على نهاية عهدتي، وبسبب الملل الذي شعرت به لطول بقائي في هذه المسارات التقليدية دون نتيجة حاسمة،  فقررت أن أغادر الهياكل طامعا في أن الأجيال التي من بعدي سيكون لديها الوقت لتفهم يوما ما حالة الاحتباس التي فيها العمل السياسي في الجزائر فتتحمس أكثر لكتابة التاريخ بواسطة العمل الحزبي وصناعة ما لم استطع صناعته بنفسي،  وقد تركت لهم المقاربات التجديدية مكتوبة مؤصلة،  واعتقدت أنه سيسعني – من جهتي – الفضاء الفسيح في المجتمع وعلى المستوى الدولي لأواصل النضال الحر دون أي قيد تنظيمي، وأن عملي سيصب في المحصلة لصالح الحركة، وأننا سنصنع معا في الأخير، بشكل تكاملي، نموذجا جديدا ومنهجا متجددا تستفيد منه الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

 لا يجهل أحد  أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة  لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ، ولكن مساهمتي في نشر الأفكار لا تتوقف ولا يحدها الزمان والمكان بحمد لله، راجيا من الله القبول، وأن تثمر في يوم من الأيام في أي مكان كان.

لم يصبح يهمني أن أعارض مناهج التغيير التي تسير عليها التيارات الإسلامية غير الإخوانية، فقد بينت الأحداث بأن المناهج  ليست من الثوابت، وإنما المآلات هي الحاكمة فثمة من كان يسمَّى إرهابيا صار رئيسا لدولة تتنافس الدول للاتصال به وتتباهى الشخصيات السياسية والفكرية، الرجالية والنسائية، المحلية والدولية،  التي كانت تعارضه لأخذ الصور معه،  بل إن بعض الدول التي كان يقاتلها صارت تعقد معه الاتفاقيات.

 غير أنني من جهتي لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية و السقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.

بالرغم من أنني لم أكن راضيا عن السقوف السياسية التي كنت عليها وأنا على رأس حركة مجتمع السلم، وأعترف بذلك دون حرج، ولكن أقدّر بأنني استطعت أن أطبق المعالم الكبرى للمنهج الجديد الذي لم أغادر القيادة حتى صغته في مجمله في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، ولو أتيحت له الفرص ليواصل التجسيد لكان ربما جديرا بأن يصنع نهضة الحركة والبلد ويساهم في نهضة الأمة.

 ولذلك جوابي على من يقولون و”ما الحل؟” في تعليقهم عن الجزء الأول من مقال “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” هو أن يعودوا إلى كتابي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور”، خصوصا الفصل الثاني منه.

 يتضمن الفصل الأول – تحدي العبور –  مضامين فكرية كثيرة عن التحديات الجديدة التي تواجهها الحركات الإسلامية وتمنعها من العبور بالفكرة الإسلامية الى الدولة لتنتقل من مرحلة الصحوة إلى مرحلة النهضة، والتي يجب التجديد فيها. ويتضمن الفصل الثالث – مواضيع العبور – المواضيع ومفاتيح الملفات الكبرى التي تحكم بها الحركات الإسلامية إن وصلت للدولة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وفي العلاقات الدولية. 

أما الفصل الثاني – مسار العبور – فهو الجواب عن سؤال “ما الحل؟” وقد بينت فيه بأن العبور بالفكرة من المجتمع حيث صنعت الصحوة، إلى الدولة لكي تتحقق النهضة ثم الإقلاع الحضاري، يتم عبر ثلاثة مسارات أساسية.

أولها المسار التنظيمي والإداري وما يلزم ذلك من تطوير وتجديد في المنظومات التنظيمية والإدارية والموارد البشرية، لا سيما القيادية منها، على مستوى الفكر والعلوم والمعارف، وعلى مستوى التربية والأخلاق والسلوك، وعلى مستوى الكفاءة والمهارات، وعلى مستوى الإنجاز والفاعلية.

 وثانيها المسار الاستراتيجي وما يتعلق بصناعة القوة الناعمة في إطار قانوني يقوم على المبادرة والنضال  في المجتمع على المستوى الدعوي والاجتماعي والفني والإعلامي والمالي والنقابي والشبابي والنسوي، وغير ذلك، بواسطة شبكات المجتمع المدني الواسعة،  وعبر ما سميته بنظرية ” قطع الحبل السري” للتفريق بين اللجان والأمانات المحلية والمركزية للأحزاب التي تشبه الأعضاء الملتصقة بالجسم من جهة، والمؤسسات المجتمعية التي تشبه الأولاد والذرية من جهة أخرى، والتي يكون نجاحها باستقلالها العضوي عن الجسم مع الاجتماع في الرؤية والرسالة، ولا ضمان في نجاح الأمر سوى وحدة الفكرة وأخلاق الصدق والوفاء والمروءة والمقاصد المشتركة والقدوة والأهلية القيادية الجاذبة وذات التأثير.  وذلك ما يمثل مقاربة “التخصص الوظيفي” لصالح الفكرة الإسلامية في المجتمع بغض النظر عن الأحزاب التي تحملها، بما يضمن مستقبلا توفر رأي عام عميق يجسد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ضمن المشروع الحضاري الإسلامي الواحد، على نحو مازعي عليه الأحزاب في الغرب التي تتداول ضمن المشروع الحضاري الغربي، المسيحي اليهودي، الواحد.

إنه لو قلّدت مختلف قوى الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي  فكرة الخط  الاستراتيجي والتخصص الوظيفي فذلك ما يصنع قوة المجتمع وحماية أصالته، ولا يمكن لأي سلطة ظالمة أن توقف مدها إذ أنها لن تستطيع أن تبرر ضربها لعدم ارتباطها عضويا بالأحزاب، إلا أن تقرر تلك السلطات غلق المجتمع كله، وقتل المبادرة في المجتمع كلية، بما يجعل الأمر ينقلب عليها عاجلا أم آجلا. 

أما مسار العبور الثالث فهو المسار السياسي، ويمكن إيجاز التفاصيل الكثيرة التي وردت في هذا الفصل من الكتاب  بالقول أن شرط الوجوب لهذا المسار وجود قيادة عازمة على التغيير ولا أشواق لديها في عملها أعلى من تحقيق التغيير إرضاء لله تعالى وخدمة لأوطانها وأمتها، ذات كفاءة وصدق ومصداقية، تثق في الله ثم في نفسها و في المؤمنين، تؤمن بأن التأييد الحقيقي هو الذي يكون من الله ومن الشعب مصداقا لقوله تعالى (( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين))،  لا تشعر بأي عقدة تجاه النظام السياسي، لا تخافه ولا تطمع فيه، ولا تحرص على إرضائه أو تحقيق الاعتراف منه بوجودها، تعمل الصواب فحسب، تعتمد المنهج السلمي وتعلن عن حب الوطن لأنها تؤمن بذلك، لا تنافق في الأمر ولا تزايد  إلى حد السماجة ولغة الخشب، خطابها قوي مبني على العلم وكشف الفساد والرداءة بلا تشخيص ولا سباب ولا انتقام، تؤثر العافية كما جاء في الحديث الصحيح،  ولكنها تستعد لتقديم كل التضخيات، ولو بالنفس،  كما جاء في حديث صحيح  آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”، يتمحور عملها السياسي كله حول النضال من أجل تغيير موازين القوة لصالح المجتمع ولصالح فكرتها وأهدافها، وتتجنب أي سلوك سياسي يعين الاستبداد ويزيد في عمره.

أما العبور العملي للفكرة فهو عبر ثلاثة معابر، منفردة أو متوازية: أوله المعبر الديمقراطي الانتخابي بشرط نضال الأحزاب بلا هوادة لجعل الديمقراطية حقيقية والحريات مصونة والانتخابات غير مزورة، وتُقدّم في طريق ذلك أنفس التضحيات، لا تقبل التزوير وتندد به مهما كان مصدره والمستفيد منه والمتضرر به، وتؤهل تلك الأحزاب نفسها لتكون بديلا حقيقيا عبر ما يسمى في الدول الديمقراطية ب ” حكومة الظل” أو ما نسميه نحن ” اللجان القطاعية المتخصصة” ببرامج ناضجة وموارد بشرية جاهزة للحكم. وبغير  هذا النوع من النضال تصبح المشاركة في الانتخابات خدمة مجانية للاستبداد ومساهمة فاعلة في استمراره. وقد بينت التجارب البشرية  بأن النضال الجاد والتضحيات الجسام من أجل الانتقال الديمقراطي يمكن أن تجسد الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول على السلطة. 

والمعبر السياسي الثاني هو التحالفات مع قوى أخرى تريد التغيير، سواء قوى من داخل النظام السياسي أو من خارجه، وهذا المعبر لا يمكن أن ينفتح دون توفر الحركات الإسلامية على القوة والنفوذ بما يجعل القوى الأخرى تطمع في التحالف معها، وذلك عبر تجذرها في المجتمع وتسلحها بأسباب القوة المتنوعة والمتعددة، وعلى رأس تلك الأنواع قوة الفكر وجاذبيتها وصلاحيتها وأهليتها للحكم، وتعاطف أصحاب النفوذ في الدولة والمجتمع مع الفكرة ورجالها. وهذا نهج حقق نجاحات كثيرة، في العصر الحالي، وهو النهج الذي رسّخه المصطفى عليه الصلاة والسلام وسار عليه إلى أن أقام دولته في المدينة.

والمعبر السياسي الثالث، وهو الثورات السلمية الشعبية، التي تَحقق التغيير بواسطتها في العديد من الدول، ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب حقيقية، تتماثل مع المعايير الطبيعية العالمية للأحزاب إلا إذا آمنت إيمانا كاملا بالتغيير السلمي عن طريق الشارع، وهو حق ديمقراطي ثابت دون حاجة للترخيص تؤكده القوانين والدساتير، ولكن تتهرب  منه بعض الحركات الإسلامية إرضاء للحكام وخوفا من المواجهة. وحينما تتهرب الحركات الإسلامية من النضال بقيادة الشارع فهي تفتح المجال لسيناريوهات خطيرة، ذلك أن ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية  تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.

إن عدم تدرب الحركات الإسلامية على قيادة حركة الشارع، وعدم فهم لغة الشارع والحديث بها، سيتيح الفرصة لأربعة سيناريوهات إذا خرج الناس يطالبون بحقوقهم من تلقاء أنفسهم ودون قيادة واعية وذات خبرة، إما احتواء النظام السياسي القائم للمشهد وتسخيره للاستمرار في السيطرة ضد إرادة الشعوب ومصالحهم، أو استغلال التحول الشعبي من طرف قوى سياسية وأيديولوجية معارضة للنظام السياسي القائم وأسوء منه، أو استعمال قوى أجنبية أ استعمارية لحركة الشارع للتدخل والتآمر على البلد، أو حدوث فوضى عارمة لا قيادة تضبطها أو فتنة عمياء والعياذ بالله.

إن أفكار التغيير هذه التي أصلناها في كتاب تحدي العبور والاستنهاض الحضاري ليست نظريات وتخيّلات بعيدة عن الواقع، فقد جرّبناها ووضعناها على محك التجربة في حركة مجتمع السلم بين 2013 – 2023، وحققت نتائج جيدة على مسارات العبور الثلاثة، إذ حققنا إنجازات معتبرة في بناء المؤسسات وفق نظرية ” قطع الحبل السري” ومقاربة ” التخصص الوظيفي”، وتوصلنا إلى نتيجة انتخابية جيدة على المسار الانتخابي و ناضلنا من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي وساهمنا في في تجسيد مفهوم لغة الشارع التي أسقطت العهدة الخامسة، وأخرجنا موارد بشرية فاعلة ومتعلمة و ذات أخلاق ومهارات  هي اليوم منتشرة في مختلف الهياكل والمؤسسات محليا ومركزيا وفي الخارج.

غير أن ما بذلناه بما يكفي لبناء النموذج وتصديره، لم يكن كافيا لتحقيق التغيير المنشود،  وبقي يتطلب استمرارا وتطويرا وتصعيدا أكثر على مستوى المسارات الثلاثة والمعابر الثلاث. ولئن أخطأَت حساباتي في مواصلة تجسيد المنهج على مستوى الحركة بعد خروجي من هياكلها، فإني على يقين بأن الله سيسخر له من يحقق الطموحات عبر تيار عام في الأمة أرى تشكله قد بدأ يلوح في الأفق، كان طوفان الأقصى المسرّع إليه.   

الهجرة في سبيل الله سعةٌ

قد يشعر المرء وهو يسير في طريق الإصلاح وصناعة الخير بكثير من الضيق والأسى حين تعترضه المصاعب والعواقب وتحيط به الخيبات، أو تثقل كاهله المظالم، أو حين يدرك حجم تأثير ما وقع فيه من تقديرات خاطئة واختيارات مجانبة للصواب على حياته ورسالته فيها، وقد يصل به الإحباط للتحول إلى كتلة من السلبية يسجن فيها نفسه، حتى لا يكون ثمة من قيد له سوى السجن الذي بنى حيطانه حول نفسه بنفسه.
غير أن الله سبحانه جعل للمؤمن مخارج كثيرة من هذه الحالة المدمرة، يحوّل بها هذا الضيق الى سعة، ومنها الهجرة في سبيل الله وفق قوله سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)). ومعنى الآية كما بيّنه المفسرون، أن الله يهب المهاجر أنواعا من التأييد بما يتحصن به وما يراغم به الأعداء، ويبسط له ويوسع له في الرزق.
والهجرة تكون لأسباب كثيرة، بالقلب والفكر وبالجسد.
– أما الهجرة بالقلب، أن يهجر المؤمن النوايا السيئةَ والمقاصد السفليةَ، وأن يغادر بقلبه سفساف الأمور ، ودرن الآفات الدفينة ويسافر بفؤاده نحو السماء إلى معالي الهمم، وعزائم الأمور الرفيعة.
– وأما الهجرة بالفكر أن يترك المرء بفكره البيئة السلبية التي تفسد دينه وتكون خطرا على أخلاقه، والمعيقة لتطوره ومواصلة طريقه، فيقطع صلته عقليا بالأجواء الفاسدة التي لا يستطيع تغييرها في الحين، والتي يعسُر عليه في الآن إمضاء الخير الذي يرومه فيها، وينتقل إلى التفكير في الأعمال الصالحة ومشاريع الإصلاح التي لا تحكمها البيئات المنحطة أبدا، ويتحرر من قيود الحاضر بأن يطلق العنان لخياله لكي يرحل إلى مستقبل مشرق يرسمه في ذهنه فيذهب إليه مسرعا غير ملتفت إلى الخلف حيث البيئات المضللة.
– وأما الهجرة بالجسد فهي أن يغادر المسلم المكان الذي تغلبه فيه نفسه، حيث تجرّه نزواته إلى المهالك، أو حيث دواعي العجز والكسل، أو آثار الآثام والظنون والهواجس التي تمنعه، أو تعطله، عن العمل الصالح للارتقاء بنفسه ومجتمعه إلى مدارج الخير والبر والرضوان.
وهذا ما يؤكده الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو : ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ‏))، وكلما كانت الظروف صعبة والبيئة فاتنة وثمن الالتزام كبيرا، كان الثبات على الدين بمثابة الهجرة المتجددة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما بيّنه الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن معقِل بن يسار عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: ((الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ))
وقد تكون الهجرة انتقال دائم أو مؤقت لسبب البحث عن فضاءات أرحب وفرص أفضل، يُقدَّرُ فيها مقامُك ومقدراتك، وتحصل فيها على أدوات أنسب لتطور ذاتك، وتجسيد رسالتك والاقتراب أكثر من رؤيتك.
وقد تكون الهجرة بسب المنع والتضييق أو الملاحقة والاضطهاد، لا لشيء إلا لأنك تؤمن بالله، أو لأنك تدعو إلى الله، أو لأنك تريد أن تخدم بلدك في سبيل الله، لتحرره من الفساد والاستبداد، ولتجعل أهله ينعمون بالحرية والكرامة والعيش الرغيد.
يكون الانتقال والهجرة بالجسد من مكان الى مكان آخر، قريب أو بعيد، من حي إلى حي، أو من قرية إلى إلى قرية، أو من مدينة إلى أخرى، أو من بلدك إلى بلد آخر، بعيد أو قريب، لا يهم في ذلك إلا البيئة التي تساعدك على حفظ نفسك وأسرتك وخدمة دينك وأمّتك، ولا معيار للهجرة التي يجزل بها الله تعالى الأجر والثواب إلا أن تكون في سبيل الله كما جاء في الحديث الصحيح المشهور : (( إِنَمَا الأَعْمَالُ بِالنِيَاتِ))، وأن تبقى في سبيل الله، مبررة دوما بالمقاصد النبيلة، لا تغامر فيها بدينك وأخلاقك ومروءتك، مهما كان المجال الذي ستشتغل فيه ومهما كانت الوجهة التي تقصدها.
إن من أهم الدروس التي نستلهمها من الهجرة النبوية أن أصحاب الرسالات لا يجب أن يتوقفوا عن العمل لرسالتهم ورؤيتهم مهما كانت الصعوبات والتحديات والخيبات، ومهما كان الصد الخفي والعلني، والمباشر وغير المباشر، ومهما كانت صلابة وضخامة القوى المضادة، فالمجتمع فسيح وأرض الله واسعة،(( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا))
وقد تكون الهجرة جزئية إلى بلد غير معادٍ يتم فيها انتقال جزء ممن أرهقهم الأذى أو ممن يجب حمايتهم لأهميتهم أو لأهمية ما يحملونه من خصائص تحتاجه الجماعة الساعية للتغيير، أو لصناعة منصة خارجية للدعوة إلى الله ولنشر الفكرة ضمن رؤية حضارية مستقبلية، كما حدث في الهجرة الأولى الى الحبشة.
أو تكون الهجرة كلية، بخروج الجماعة الساعية للتغيير كلها حين تصبح أرض النشأة مستعصية بالمجمل على التغيير، للتحول إلى بلدة أو بلاد أخرى مرحبة ومستعدة لقبول الفكرة الجديدة وحمايتها والتضحية من أجلها، كما حدث في الهجرة النبوية التي نحتفل بها كل سنة في الأول من محرم، ثم تكون العودة إلى البلاد التي بزغت فيها الفكرة بعد أن تمكنت في بلاد أخرى هاجرت إليها، أو استُكملت فيها العدة النفسية والفكرية وهُيِئت الأسبابُ للرجوع إلى بلد المنبع.
لا هجرة بعد فتح مكة، من مكة إلى المدينة، وفق ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة، ومن حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ((لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا))، ولكن الهجرة تبقى عملا صالحا إلى يوم القيامة وفق ما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَى تَنْقَطِعَ التَوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَوَبَةُ حَتَى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرَبِهَا))، وذلك إذا أضطر المسلم إلى ترك الإقامة في بلاد غير المسلمين إذا خشي على دينه، ودين أبنائه وعائلته، ليقيم حيث يستطيع المحافظة على عقيدته والالتزام بواجباته الدينية هو ومن هم تحت مسؤوليته، أو إذا هاجر إلى بلاد أخرى، مسلمة أو لغير المسلمين، إذا ارتبطت هجرته بنية خالصة لوجه الله تعالى، أو من أجل أعمال مفيدة للنفس والأهل أو للوطن أو الأمة أو من أجل القضية الفلسطينية أو دفاعا عن أي قضية مقدسة أو عادلة.
بل إن الهجرة تبقى دوما واجبة من حيث هجر أذيّة المؤذين وسوء المسيئين والصبر عليهم حين لا يكون تغيير مناكرهم ممكنا ولا تزيد رفقتهم إلا منقصة في التدين والأخلاق كما بين الله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا- 10)) المزمل.
وتكون الهجرة كذلك واجبة في كل وقت من أجل المحافظة على الدين وحفظ النفس والأهل من بطش الظالمين والاستضعاف في الأرض لمن قدر عليها ووجد طريقها وملك وسائل الحياة الكريمة الحرة عبرها في بلاد أخرى، إلا من عجز فإن الله تعالى يرحمه ولا يؤاخذه، وذلك ما قصدته الآية الكريمة في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا- 98-99)) النساء.
لقد جعل الله الهجرة من أعظم الأعمال الصالحة وامتدحها في كتابه العزيز، ما تعلق منها بالهجرة الى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في المدينة حين خرج من مكة مهاجرا إليها، كما جاء عنها في العديد من الآيات التي ربطها سبحانه بالإيمان والجهاد ومنها قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيم))، وما عظُم أمر المهاجرين إلا لما حققوه من تحول تاريخي عظيم بدأ معه عدّ قيام أمة الإسلام ودولة الإسلام وحضارة المسلمين وقد أعطوا في سبيل ذلك كل ما يملكون، وما نحن المسلمين جميعا إلا حسنات جاريات في رصيدهم رضي الله عنهم أجمعين وعلى مصدر الخير فيهم سيدنا محمد أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أو ما تعلق منها بهجرة الذنوب والمعاصي، حيث عدها رسول الله أفضل الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن عمرو بن عبسة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ….قال: فَأَيُ الإِيمَانِ أَفْضَلْ؟ قال: ((الهِجْرَةُ))، قال: فَمَا الهِجْرَة؟ قال: ((تَهجُر السُوءَ))..))
أو ما تعلق بهجرة الأوطان لحفظ الدين، وتجنبًا للظلم والبطش والعدوان، كما وقع في عصرنا للعديد من المسلمين الذين تم تهجيرهم بسبب الفتن والحروب أو الذين تم التنكيل بهم من قبل الأنظمة الاستبدادية أو المليشيات الإجرامية، في مصر وسوريا والعراق واليمن ونحو ذلك كما بين الله تعالى في محكم التنزيل: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ – 41))النحل
أو ما تعلق بأي غاية نبيلة تدخل فيها نية صالحة، ويُحفظ فيها الدين والعرض والخلق، كطلب العلم كما جاء في صحيح أبي داود عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ))، أو الضرب في الأرض وراء الرزق كما جاء في الآية: ((هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُشُور – 15)) الملك، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البيهقي مرفوعا عن ابن عباس: ((سَافِرُوا تَصِحُوا وَتَغْنَمُوا)).
إن في الهجرة خير كثير حين تكون واجبة لحفظ الدين أو النفس أو العرض، وحينما تكون مباحة لمصلحة عامة نبيلة في أي مجال من المجالات أو لمصلحة خاصة مما يتقوى به المؤمن الصالح في ما لا تتاح له الفرصة في بلده، لعلم أو خبرة أو رزق، وفق قول المصطفى في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: ((المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ)).
فالهجرة بهذه المعاني خير كله وفق ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي وصححه الألباني، عن كَثير بن مُرَّة أن أبا فاطمة حدَّثه، أنه قال: يا رسول الله، حدِّثني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَليكَ بالهجرةِ فإنَّهُ لا مِثلَ لَها)).
وما فضل الهجرة إلا لما يقدمه صاحبها من تضحيات بترك الديار والأهل والأحباب وركوب المخاطر والتحرك في المجهول، وربما ضيق الرزق وقلة الزاد، قبل أن تستقر له الأمور بما يمنحه الله تعالى له من مراغمة وسعة وعد بها سبحانه في الآيات وأحاديث نبيه عليه الصلاة والسلام.
وجمل الإمام الشافعي فوائد التغرب عن الأوطان في أبيات بديعة يقول فيها:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد

في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج ج1

في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج.

إذا اردنا ان ندرس تطورات المنهج الذي حكم حركة مجتمع السلم، بمناسبة ذكرى تأسيسها في 29 ماي 1991، فإننا سنضطر إلى تقسيم تاريخ الحركة إلى خمس مراحل، أو خمسة أطوار: ثلاثة قبل التأسيس الرسمي واثنان بعده. أما قبل التأسيس فإن الحركة قد تعرّف عليها الجزائريون في مرحلتها الأولى في سبعينات القرن الماضي كجماعة ذات معارضة راديكالية لنظام الحزب الواحد  والنهج الاشتراكي الرسمي، وقد وصل المنهج الحدّي لتلك المعارضة إلى استعمال العنف عبر الحادثة التي سميت ب”قطع أعمدة الهاتف”، وقد سبق تلك الأحداث خطاب شديد اللهجة عبر خطب نارية للشيخ محفوظ نحناح رحمه لا تزال  بعض تسجيلاتها متوفرة، وبيانات قوية  العبارات كالبيان المشهور تحت عنوان ” إلى أين يا بومدين؟”، انتهت هذه المرحلة بسجن الشيخ محفوظ رحمه الله والعديد من إخوانه وتشتيت جماعته.

أثناء سجنه نشطت جماعات أخرى في الجامعات، أهمها جماعة الجزأرة التي كان يرأسها د. بن شيكو ثم د. بوجلخة، وجماعة الشيخ عبد الله جاب الله التي عرفت في ذلك الوقت بأنها الجماعة التي تمثل الإخوان المسلمين فكرا وتنظيما.

بعد إطلاق سراح الشيخ محفوظ نحناح سنة 1981 دخلت جماعته في المرحلة الثانية من تاريخها، وهي المرحلة التي تبلور فيه منهج جديد عبر المراجعات التي قام بها الشيخ رحمه الله في السجن، وأساسها الابتعاد نهائياً عن المنهج العنفي لفظا وسلوكا والاعتماد على الخطاب الدعوي الهادي أكثر من الخطاب السياسي الصادم مع المحافظة على خطاب سياسي يعتمد شعار الحركة الإسلامية المركزي آنذاك “الإسلام هو الحل” ويستهدف نقد المناهج المستوردة وعلى رأسها العلمانية والاشتراكية، ولهذا السبب لم يكن الشيخ محفوظ في صدارة الاحتجاجات الكبرى كأحداث الجامعة المركزية عام 1982 وأحداث 5 أكتوبر 1988 رغم الوجود الفعلي للعديد من قادة وأفراد جماعته فيها، واستطاع الشيخ محفوظ أن يتجاوز كل تحديات عشرية الثمانينيات ليكون في أواخرها أهم زعيم سياسي وتكون جماعته أكبر جماعة في الجزائر وقد ساعده على ذلك عدة معطيات منها شخصيته الجذابة وسمته وقدراته الخطابية الفذة، النهج الجديد الذي انتهجه الشاذلي بن جديد القائم على الانفتاح السياسي وبدايات التراجع عن النهج الاشتراكي والذي كان يحتاج بشأنه إلى بروز  جهة معتدلة في التيار الإسلامي، وارتباط الشيخ محفوظ بالاخوان المسلمين الذين كان يمثل منهجهم ومشروعهم وتاريخهم وتضحياتهم نوعا من المرجعية التي تفرض نفسها على شباب الصحوة الإسلامية يرتبطون بها بشكل تلقائي أكثر من غيرها، وكتيار قبل الارتباط بالتنظيم،  مما جعل العديد من الشباب وإطارات الحركة الإسلامية الذين انتظموا في جماعة الشيخ عبد الله جاب الله يتركونه لصالح الشيخ محفوظ لمّا اختلف الرجلان وعُلم بأن الشيخ محفوظ هو من يمثل “الاخوان المسلمون”.

وكذلك التحق بالشيخ نحناح رحمه الله بسبب “الإخوان المسلمون” كثير من رموز وقادة الحركة الإسلامية، وعدد من التنظيمات المحلية ومن مجاميع إسلامية مختلفة خصوصا بعد فشل مساعي الوحدة بين فصائل التيار الإسلامي التي دعا اليها بعض الدعاة بين 1983-1987. وبقي الانتماء للإخوان المسلمين صمام أمان لوحدة جماعة الشيخ محفوظ – بالإضافة إلى شخصيته – إلى أن تراجعت أهمية تلك المرجعية لأسباب عديدة ليس المجال للتفصيل فيها، خصوصا بعد التحول إلى المرحلة الحزبية، فأخذت الاختلافات ثم الانشقاقات تظهر في جسم الجماعة.

مع تغيير الدستور والتوجه نحو التعددية الحزبية دخلت جماعة الشيخ محفوظ نحناح مرحلتها الثالثة، بتأسيس الحزب رسميا في 29 ماي 19991 الذي نتذكر مناسبته في هذا المقال، وكان الدخول عسيرا ليس عليه فقط، بل على الجماعات الإسلامية الثلاث المنظمة المتقاربة فكريا التي لم توفق في تحقيق الوحدة بينها (الشيخ محفوظ/ الجزأرة/ عبد الله جاب الله)، والتي تجاوزها تيار 5 أكتوبر ولم تسبق لتأسيس حزب إسلامي فأدّى ذلك إلى سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج على الساحة السياسية.

تسبب هذا التأخر من قبل هذه الجماعات المنظمة في الاستشراف وفي التعامل مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية التي تلت انهيار أسعار البترول ابتداء من 1986، وتعمّق الفساد في نظام الحزب الواحد، ثم البرسترويكا  فانهيار الاتحاد السوفياتي بين  1987 و 1990 وتراجع زمن الأحادية عالميا إلى ضياع المبادرة والريادة، وأصبحت السياسات والتوجهات والتصريحات هي من أجل الاستدراك واسترجاع المبادرة والمساهمة في المحافظة على نصاعة المشروع وتفويت الفرصة على العلمانيين لاستغلال الظروف وغطاء محاربة الإهاب للإجهاز على كل مرجعية إسلامية في الشأن العام، وكذا من أجل إخراج البلاد من الأزمة.

وقد كان نهج الشيخ محفوظ نحناح أكثر وضوحا من خلال سرعة وقوة المبادرات من أجل الحوار والمصالحة الوطنية، [وقد سجلتُ تلك المبادرات في برنامج مراجعات مع قناة الحوار اللندنية وفي كتابي مبادرات لحل الأزمات]، وخطاب التميز عن التشدد، ثم العمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر العودة للمسار الانتخابي وبداية تجسيد نهج المشاركة الحكومية، ومحاولة بلورة خطاب وطني لتطمين النظام السياسي وتحسين  العلاقة بالمؤسسة العسكرية ومجاهدي حرب التحرير، وكل من له تأثير في القرار السياسي.

أدى هذا النهج إلى نجاحات معتبرة على المستوى الاستراتيجي من حيث المساهمة في وقف سيل الدماء والمحافظة على الدولة وحماية المشروع والحركة الإسلامية وأمن المناضلين وعائلاتهم، وتوفير الفرصة لاستمرار الوجود والعمل، والانتقال للمستقبل بأقل التكاليف وفي أحسن ما يمكن من الظروف، غير أن الإخفاق على المستوى السياسي كان ملازما للمسيرة خلافا للأهداف التي رسمها الشيخ محفوظ وسَمِعتُها منه شخصيا وهو أن ينال دعم المؤسسة العسكرية، تأسياً بتجربة الشيخ حسن الترابي الذي كان نجمه صاعدا في ذلك الوقت، ويكون بديلا لجبهة التحرير التي خرجت للمعارضة مع الأستاذ الكبير عبد الحميد مهري رحمه الله والجبهة الإسلامية التي لم يكن ممكنا التفاهم بينها وبين العسكر، أو على الأقل تجسيد فكرة التحالف الوطني الإسلامي على المستوى الرسمي بعد ما تمت الدعوة إليه باسم جمعية الإرشاد والإصلاح قبل تأسيس الحزب عام 1990.

لقد كانت الخسارة في الانتخابات التشريعية في جانفي 1991 منطقية بسبب السبق الذي استفادت منه جبهة الإنقاذ، ولكن النجاح الكبير والشعبية الهائلة التي ظهرت لصالح الشيخ محفوظ وحزبه في الانتخابات الرئاسية عام 1995 أخافت العسكر وأصحاب القرار.

لم ينفع المنهج التطميني الذي انتهجه الشيخ محفوظ فأُعطيت له الرسالة من قبل النظام السياسي  بأن “بديلنا لست أنت بل نصنعه صناعةً بأيدينا”، فكان تغيير الدستور  عام 1996 لمنع الشيخ محفوظ من الترشح مرة أخرى للانتخابات الرئاسية مدى الحياة، وذلك بسبب قدرته على المنافسة وقيادة البلد، وتغيير  اسم الحزب بنزع كلمة “الإسلامي” ليتحول من “حركة المجتمع الإسلامي – حماس” إلى “حركة مجتمع السلم – حمس”، وإعاقة الحركة بما اعتقده نظام الحكم بأنه عناصر قوة لصالحها، ثم كان تأسيس حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” والتزوير له في الانتخابات التشريعية والمحلية عام 1997، وبعد ذلك منع النحناح رحمه الله وأسكنه فسيح جناته من الترشح عام 1999 وإهانته وضربه في تاريخه وسمعته، ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فتمت معاقبته عن إصراره على الترشح للانتخابات الرئاسية عام 1999  بما اضطرّهم إلى منعه من ذلك تعسفا مما زاد في ضرب مصداقية الانتخابات بالإضافة إلى ما أصابها من خدش في مصداقيتها بعد انسحاب المرشحين الستة، فوضعوا الحركة في تلك الانتخابات التشريعية في المرتبة الرابعة بعد حركة الإصلاح التي أسسها الشيخ عبد الله جاب الله بعد خروجه من حركة النهضة، مع أن ما سهل على النظام إخفاء مكره وقلة وفائه التراجع الشعبي الفعلي الذي أصاب الحركة بسبب تحولها السريع والمفاجئ من معارض لبوتفليقة إلى مساند له في الانتخابات الرئاسية عام 1999. ولا يعني ما نقوله هنا أن حركة الإصلاح تم تقديمها على الحركة بدعم من السلطة، فقد كان تقدمها منطقيا، ولكن المقصود أن الحركة عوقبت بالتزوير ضدها كما هي العادة،  وأنه لو كانت  جزء من السلطة لزورت لها كما تفعل مع أحزاب الموالاة التي تنقذ دوما بالتزوير.

لا يمكن الجدال بأن الكثير من المكاسب الاستراتيجية غطت عن الخسائر السياسية، ومن أهمها البقاء في ساحة المعركة ضد التوجهات العلمانية المعادية للمشروع الوطني الإسلامي، ولكن لا يمكن الجدال كذلك بأن التيار العلماني ألحق بخططنا خسائر كبيرة، ومن ذلك إضعاف التيار الوطني ذاته داخل الدولة، علما بأن المكتسبات الحضارية العربية الإسلامية تحققت في زمن الحزب الواحد بأيدي رجال التيار الوطني وليس في زمن التعددية الحزبية، ومن ذلك قانون الأسرة، والمنظومة التربوية الأصيلة، والتعريب. غير أن الرجال الذين حققوا تلك الإنجازات عبر صراع مرير مع ما كان يسمى “حزب فرانسا” في ذلك الوقت أبعِدوا عن النفوذ داخل الدولة، واستفرد رجال التيار العلماني الذين كانوا يواجهونهم بالقرار، خصوصا داخل المؤسسة العسكرية، ووجدت حركة مجتمع السلم نفسها قريبة من هؤلاء الرجال العلمانيين، رغم تصريح زعيمهم خالد نزار صراحة في مذكراته المنشورة بأن خططهم كانت تستهدف في ظل الأزمة ضرب التيار الإسلامي المتشدد منه والمعتدل.

كما أن الخطر على المنظومة التربوية صار ملموسا من خلال إنشاء لجنة بنزاغو، والتمكين في وزارة التربية والتعليم لتياره، ولو لا المقاومة التي أظهرها رجال التيار الوطني، كأمثال علي بن محمد وعبد القادر فوضيل وعبد الحميد مهري، وتحالفهم في المجتمع مع التيار الإسلامي لكانت الخسائر عظيمة في وقت مبكر. علاوة على التحرش المستمر بقانون الأسرة، والتراجعات الكبيرة في مسيرة التعريب، وفي الاهتمام بالقضية الفلسطينية.   

علم الشيخ محفوظ نحناح بأن النهج السياسي التشاركي مع نظام سياسي مستبد، غير وفي وغير نزيه لن ينفع الحركة فبدأ يبحث عن نهج جديد، وأصبحت أسمع منه – كما سمع غيري – في جلسات خاصة كلاما عن النظام السياسي كان يمنعنا أن نفكر فيه أصلا، وأخذ ينظّر لتوجه جديد في المنهج في كتاب بدأ في تأليفه تحت عنوان ” الدولة وأنماط المعارضة” ولكن فاجأته الوفاة واختفت مسودة الكتاب بشكل غريب.

توفي الشيخ وقد حقق إنجازات استراتيجية جعلت نهجه مدرسة كاملة الأركان، وستبقى تلك الإنجازات التي اشرت إليها – رغم الخسائر المذكورة –  شاهدة له ينالها أجرها وهو في قبره، ولكن كان الأمر يتطلب القيام بمراجعات في النهج السياسي تكمّل المنهج وتزينه ولكن لم يسعفه الأجل رحمه الله، ووجدت الحركة نفسها بعده في مرحلة  رابعة من تاريخها تعمق فيها نهج المشاركة الحكومية، بل تحول إلى منهج اندماجي تام في النظام السياسي رغم التململ  الذي بات واضحا في صفوف الحركة، بل كان يوشك أن يتفجر في وجه الشيخ محفوظ على نحو ما وقع له في لقاء وطني شهير ببومرداس.

لقد كنت من شركاء المسيرة ومن صانعي أبعادها الاستراتيجية ولكن أصبحت غير موافق على الشق السياسي في المنهج في وقت مبكر في زمن الشيخ محفوظ  منذ عام  1997 بعد أن باتت فكرة التحالف مع التيار الوطني وهْما وصار قادة المؤسسة العسكرية [الذين اعتُبر قادتهم في زمن الحراك الشعبي جزء من العصابة ] هم الخطر الأول على مشروعنا وفاعليتنا، وكنت أعبر عن رأيي المخالف بكل حرية، وقد ظهر ذلك للرأي العام لأول مرة عند رفضي التصويت على برنامج أويحيى الحكومي عام 1997 عند رفضه إدخال تعديلاتنا [وتعديلات جبهة التحرير حين كان قادة التيار الوطني الأصلاء هم من يقودها]، وذلك بالرغم  من أنني كنت رئيس الكتلة البرلمانية، كما سميتُ المشاركة الحكومية  “مشاركة عبثية” في أحد الحوارات في جريدة الخبر  في حياة الشيخ محفوظ رحمه الله، وقد قدمت له آنذاك، عام 1997، ورقة حذرت فيها من عواقب ذلك النهج واستشرفت الآفاق المستقبلية في أجل زمني أكدته الثورات العربية وقدمت رؤية بديلة هي التي طبقتُها لاحقا كما سأبينه أدناه.

تابع.. المرحلة الرابعة: “نحو طور جديد”

Le Déluge d’Al-Aqsa est un phénomène sunnanite

Malik Bennabi, que Dieu lui fasse miséricorde, souligne l’importance du point à partir duquel l’histoire commence  la construction d’une civilisation, et il considère que l’une des conditions de la renaissance est que l’homme reconnaisse ce moment historique et en fasse le début du changement fondamentale dans l’histoire, de sa propre vie, de sa nation et de la condition humaine en générale. C’est ce genre d’événements qui permet à la Oumma de sortir du complexe d’infériorité et d’avancer vers l’histoire.

Il est certain que le déluge d’Al-Aqsa constitue un de ces moments décisifs dans notre histoire en tant que Oumma islamique, et spécifiquement dans  l’histoire de la question palestinienne, comme il aura un impact majeur sur le changement du monde.

Il faut bien souligner qu’avant le déluge la situation de la nation islamique, et de la question palestinienne en particulier, étaient à un stade critique, nous pouvons dire sans hésitation que « Tou changement radicale sera dans notre intérêt », notamment après toutes les tentatives  de réformes politiques et sociales sans issues, pour rendre nos pays développés où les gens prospérèrent dans un environnement de justice, de liberté, et de dignité humaine.

La question palestinienne, elle même, était en situation de stagnation et de blocage dans ses différents  dossiers: 

⁃ La perpetualité du siège de Gaza avec tout le lot de souffrance qui s’en suit.

⁃ les brigades d’Al-Aqsa se sont transformées en armée de Gaza seulement, et ce du moment qu’il n’y’avait pas de possibilité de libérer un autre centimètre de la terre de Palestine.

⁃ l’expansion des colonies dans la Cisjordanie avait mis fin à toute possibilité d’établir la prétendue solution à deux États. 

⁃ La partition  temporelle entre juifs et musulmans dans la mosquée Al-Aqsa s’était manifestement concrétisé, et le passage forcé vers la partition spatiale était en préparation, et le détruire plus tard, à Dieu ne plaise, en serait la  conséquence si le marasme Arabe et musulman allait continuer.

⁃ Les Palestiniens à l’intérieur de la Ligne Verte vivaient et vivent toujours dans une sorte d’apartheid sous le régime coloniale sioniste.

⁃ Et enfin le rythme de la normalisation et de l’abandon collectif arabe de la question palestinienne était dans son extrême accélération, notamment avec la normalisation qui était imminente avec l’Arabie Saoudite, et qui serait suivie en cas de sa concrétisation par la normalisation de tout les pays du monde musulman .

 Face à toutes ces graves dérives, restait-il quelque chose qui nous fasse craindre les conséquences d’une escalade de la résistance ?

Le déluge d’Al-Aqsa est une situation sunnanite qui profite à la Palestine, à la Oumma islamique et à l’humanité.

Si nous énumérons les gains stratégiques que le déluge d’Al-Aqsa a obtenus jusqu’à présent, nous serons certains que le déluge d’Al-Aqsa était un fait sunnainite béni qui s’est produit par la bienveillance  d’Allah.

Le déluge d’Al-aqsa est un de ces fait historique et cosmiques qui dépasse la capacité de perception des humains qu’Allah  initie lorsque l’injustice s’impose sur la Terre et que l’échelle des valeurs se bouleverse,   le bien se transforme en mal et   Le mal en bien, et ce, afin de punir les oppresseurs et mettre sous épreuve les opprimés. 

Quant aux oppresseurs, Dieu Tout-Puissant les a déjà punis par le déluge d’Al-Aqsa, avant la fin de la bataille, et il les a mis dans  une tourmente  qu’ils n’avaient jamais connu auparavant, notamment :

– La profonde déstabilisation du récit erroné utilisé pour la création et le maintien de l’état  sioniste et l’attention particulièrement manifestée dans le monde qui en a découlé, notamment en occident au profit des juifs , et l’amalgame fabriqué de toute pièce entre les juifs et l’état d’Israel. 

– L’image de l’entité israélienne s’est beaucoup détériorée  dans l’opinion publique internationale, passant d’une entité offerte à un peuple opprimé soumis au génocide dans le passé et aujourd’hui assiégé par ses voisins arabes, à une entité injuste et criminelle poursuivie par la Cour internationale de la justice,  et dans la conscience humaine pour ses crimes génocidaires , et boudé par de nombreux pays, dont certains sont des gouvernements occidentaux.

– L’éveil d’une grande partie de la population des pays occidentaux, en particulier de la jeunesse, concernant l’hypocrisie de leurs dirigeants et la grande tromperie dont ils ont été victimes dans leur compréhension du monde sous l’influence des médias contrôlés par les lobbies sionistes, et ceux qui les soutiennent.

– La chute du mythe de la supériorité des renseignements israéliens le jour du 7 octobre, et l’humiliation de l’armée sioniste, que l’on croyait invincible, à cause de son incapacité totale à atteindre aucun des objectifs déclarés dans sa guerre contre Gaza et les civiles palestiniens, dont la majorité des victimes sont des enfants et des femmes.

– L’approfondissement du déchirement de la société israélienne et des contradictions de sa classe politique, comme si nous voyons devant nous la concrétisation de la parole d’Allah Tout-Puissant dans le Coran à propos des enfants d’Israël : « Vous pensez qu’ils sont tous unis, alors que leurs cœurs sont divers», et même La Maison Blanche s’est inscrite dans la ligne de ces divergences pour tenter de faire pencher la balance en faveur du mouvement laïc proche d’elle qui a fondé l’État sioniste après le désaccord croissant avec Netanyahu et ses alliés du mouvement religieux gouvernemental.

– Le retour du discours sur  la prétendue solution à deux États sur la scène internationale après qu’elle ait été presque complètement enfouie sous la terre, une solution qui n’a jamais abouti à travers les longues années du processus des négociations.

– la déstabilisation des nouvelles priorités stratégiques internationales des américains de  faire baisser leur présence au moyens orient afin de  faire face essentiellement à  la Chine, croyant que la region allait se stabiliser définitivement  pour   L’intérêt d’Israel par le processus accéléré de la normalisation, notamment avec l’Arabie saoudite.

– Le déluge d’Al-Aqsa a créé un grand éveil des conscience populaire aux États-Unis d’Amérique, ce qui a créé une pression sur le Parti démocrate au pouvoir et a conduit à l’émergence de graves désaccords au sein de celui-ci et dans les institutions de l’État. – La société américaine était déjà en train de se diriger vers l’incertitude dans la vie politique avec la montée de Trump et le déluge a entraîné une forte baisse de la popularité de Biden en raison de ses positions dans la guerre contre Gaza. Et de toute façons que ce soit Trump qui gagne ou Biden, la vie politique connaîtra des développements majeurs qui accentueront le perte de vitesse des États-Unis d’Amérique sur la scène internationale.

Les opprimés.

Quant aux opprimés, ils se divisent en deux groupes face à ce phénomène sunnainite  :

– 1 – Le premier groupe est constitué de ceux qui étaient en harmonie avec ce grand événement historique, ceux qui étaient responsable de son déclenchement, et ceux qui  l’ont soutenu et à leur tête se trouvent  les héros de la résistance Palestinienne qui se sont bien préparés, et se sont mis à l’endroit approprié de l’histoire et des fait sunnanique  dont les règles ne changent jamais.

Le déluge d’Al-Aqsa a montré comment l’armée israélienne peut être  humiliée vaincue et désorientée par les moyens des plus simples en comparaison avec ses moyens gigantesques lorsque c’est les hommes de la foie qui font face à l’ennemi , ceux là qui ne craignent  pas la mort et qui prennent au sérieux la préparation de la confrontation.

Les héros de la résistance palestinienne sont déjà victorieux dans au moins douze batailles jusqu’à présent, avant la fin de la guerre:

● Ils ont réussi l’opération historique du 7 octobre, qui a stupéfié le monde, et qui laissée  l’ennemi abasourdi ne comprenant pas ce qui lui est arrivé. 

● Ils ont réussi dans l’affrontement terrestre, rendant l’armée d’occupation incapable d’atteindre aucun objectif, tuant ses soldats et officiers et détruisant ses véhicules de guerres de la façon jamais vue au cours de toute son existence depuis l’occupation.

● Ils ont réussi à faire échouer le plan de déplacement  massif de la population grâce à la fermeté des Gazaouis à rester dans leur patrie malgré la tragédie qui a dépassé toutes les limites de l’endurance humaine.

● Ils ont réussi à préserver les prisonniers et à les traiter conformément à la morale islamique et aux lois internationales, ruinant ainsi les plans qui œuvraient à salir les résistants et qui ont été réfutés par les prisonniers israéliens eux-mêmes après leur libération dans le cadre de la trêve conclue.

● Ils ont réussi à gérer les négociations et à ne pas être affectés par les pressions criminelles israéliennes et américaines et par les pressions de certains pays arabes.

● Ils ont réussi à maintenir l’unité des factions participant au déluge et à gérer le front intérieur à Gaza.

● Ils ont réussi à gérer les relations  avec les parties palestiniennes qui se cachent et coopèrent avec les pays arabes et occidentaux pour liquider la résistance et à ne pas s’impliquer dans le conflit avec eux, tant souhaité par les Israéliens.

● Ils ont réussi à annuler les plans d’après-guerre des Israéliens et des Américains qui tentaient de remplacer le gouvernement de Gaza avec des chefs de tribus et certains éléments employés par les renseignements israéliens et ceux de l’Autorité palestinienne.

● Ils ont réussi à maintenir les relations avec les régimes arabes et leurs dirigeants malgré leur connaissance des mauvaises intentions de nombre d’entre eux et la contribution de certains d’entre eux aux tentatives de liquidation définitive de la résistance.

● Ils ont réussi leur performance médiatique grâce aux interventions d’Abu Ubaida, devenu une icône mondiale, et grâce aux interventions de divers porte-parole palestiniens dans les médias et grâce aux grands efforts déployés au niveau des réseaux sociaux pour informer l’opinion publique mondiale de la réalité du terrain et des événements.

● Ils ont réussi à gérer les alliances avec l’axe de la résistance en termes d’opérations, de positions et de discours.

● Ils ont réussi leur travail diplomatique, en tirant profit  des contradictions et des conflits d’intérêts à l’échelle internationale , et en usant intelligemment les décisions des institutions internationales.

Quant aux doutes soulevés par les incapables et les mauvais intentionnés , ils sont tous rejetés, dont quatre soupçons fondamentaux, comme suit :

● Quant aux pertes humaines, existe-t-il une occupation dans l’histoire qui n’a pas massacré ceux qui lui résistaient ? En Algérie, par exemple, le colonialisme français a tué un million et demi d’Algériens en sept ans, au cours de la guerre de révolution entre 1954 et 1962, à raison de plus de deux cent mille chaque année pendant sept ans, et lorsque l’Algérie a obtenu son indépendance, ces sacrifices sont restés dans la mémoire des Algériens et entre les nations comme un honneur pour le pays et le tout peuple,  et tous ced martyrs seront des intercesseurs pour leurs familles, si Dieu le veut, pour le Paradis, et les blessés et ceux qui ont perdu leurs familles, leurs proches et leurs biens seront récompensé tôt ou tard ici bas et à l’au delà inchallah.

● Quant à la destruction complète de Gaza, il y a des pays qui sont sortis de la guerre complètement détruits. Cepandant ils ont en fait un défi pour leur renaissance, tel que l’Allemagne, le Japon et la Corée du Sud. Et tout les peuples musulmans seront à  côté des palestiniens si les gouvernants seront à la hauteur de la responsabilité vis à vis de nos frères soumis à l’injustice. 

Les palestiniens sont bien conscient qu’une  vie d’honneur dans des tentes au-dessus des décombres de leurs maisons est plus propice à la poursuite de la résistance et plus digne et meilleure que la vie dans des villes huppées construites pour faire égarer  les Palestiniens afin qu’ils abandonnent leur cause sacré, tel que voulu par certains autres Palestiniens soumis et engagés dans les projets de reddition.

● Quant aux allégations qui prétendent que le déluge d’Al-Aqsa a  donné aux Israéliens le prétexte pour occuper à nouveau Gaza, d’abord la bataille n’est pas encore terminée et puis Gaza se trouvait dans une situation de prison à ciel ouvert semblable à la colonisation, sans que les israéliens n’en paye le prix de subvenir aux besoins du peuple colonisé en tant que force d’occupation conformément au droit international.  

● Quant à leur affirmation selon laquelle le déluge d’Al-Aqsa mettra fin à l’autorité du Hamas sur Gaza, le lendemain de la guerre n’est pas encore arrivée, et même si cela se produit, il pourrait être bénéfique pour la résistance  en réduisant ses obligations de subsistance envers la population et en se consacrant entièrement à la résistance dans la logique d’une guérilla globale dans toute la Palestine, en tenant compte, bien entendu, des leçons de la guerre en cours.

– 2 – Quant au deuxième groupe d’opprimés, ce sont ceux qui se sont retrouvés en contradiction avec cet événement capital de l’histoire: 

● Le déluge d’Al-Aqsa a démontré la réalité de l’impuissance des régimes dans le monde arabe et musulman et mis l’asservissement de certains d’entre eux en exergue, et cet échec et cette trahison vont accroître l’effondrement de la légitimité de ces dirigeants qui n’ont jamais réussi à assurer ni  la dignité de leur peuple en termes de conditions de vie ou au niveau de la liberté et de la démocratie ni en ce qui concerne le droit palestiniens et La Défense d’Al-aqsa,lieu saint de l’islam. 

Il  ne fait aucun doute que l’isolement populaire de ces régimes, qui s’est accru avec le déluge d’Al-Aqsa, la fragilité du front intérieur et la montée des tensions à leur encontre, augmenteront leur faiblesse et leur incapacité à résister aux crises attendues dans ce monde caractérisé par l’incertitude et les tensions. 

● Le déluge d’Al-Aqsa a également révélé l’état de vide sociétal et l’absence d’institutions, d’organisations et de leaders capables de faire pression sur les autorités en place en faveur de la cause palestinienne ou de mobiliser les peuples au delà des limites imposées par les  régimes d’une façon proportionnée au changement  historique qui est en cours en Palestine. 

Tout Cela provoquera sans aucun doute un choc intellectuel et émotionnel majeur, et des questions pressantes seront soulevées quant à la faisabilité des politiques et approches de soumission à la tyrannie des gouvernants qui participe à l’étouffement des palestiniens ou qui les livrent à leur sort entre les mains des bourreaux sionistes et Américains. 

Par les questions que le déluge posera à la Oumma, il constituera un élan civilisationnel qui produira de nouvelles idées, tendances et modèles de leadership au profit de la Palestine et de la nation musulmane.

En conclusion, le déluge d’Al-Aqsa a marqué une nouvelle phase dans laquelle le vrai visage haineux de l’entité sioniste a été exposée au grand jour, et l’hypocrisie américaine est devenue évidente. Il  a également contribué à l’accélération de l’acheminement  vers une situation nouvelle de multipolarité internationale, il a démontré une autre fois l’incapacité des régimes arabes et a exposé et approfondi  leur illégitimité. 

De toute évidence, le déluge a ravivé la valeur de la résistance, du jihad, du martyre et des grands sacrifices de la Oumma comme prix à payer pour la gloire et la dignité et la fierté, et a fait du peuple de Gaza, ses moudjahidines et ses habitants courageux et héroïques, un modèle pratique pour tout cela. Il a surtout souligné que l’unité de la Oumma dans toute sa diversité, se fait principalement  autour d’une question centrale et fondamentale, qui n’est  autre que la question palestinienne.

Le déluge à révélé de manière claire que les régimes défaillants et injustes sont une raison de la perpétuation de l’occupation sioniste et de l’éternisation  du retard de nos pays , comme il ouvert  de grandes opportunités pour l’émergence de meilleures idées, approches et systèmes de leadership pour parvenir à une renaissance de notre Oumma et de notre civilisation. 

*Phénomènes sunnanites: Des principes et des lois et des règles systématisées par Allah le tout puissant pour  gérer la vie  des humains dans leurs sociétés pour leur bien et dont la connaissance et la rencontre par les hommes nécessite beaucoup de savoir et de guidance.

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (2)

لا يمكن فهم كيف ضاعت فرصة الحراك الشعبي دون فهم الأسباب والظروف التي أنشأته، والفواعل السياسية والاجتماعية التي حركته. لم يكن الحراك طفرة مفاجئة نزلت من السماء بلا مقدمات ومسببات، ولكن كان ثمة مسار تراكمي أدى إليه.

حينما كانت أسعار البترول قد بلغت حدا غير مسبوق (تجاوز حد المائة دولار في عام 2008 إلى أن بدأ يتجه إلى الانهيار منذ نهاية عام 2014) كانت معارضة بوتفليقة كمن يسبح ضد التيار، إذ ساهمت البحبوحة المالية في تضخيم فقعات الزبونية والانتهازية، وباتت الشخصيات والمؤسسات الطامعة في الريع تتوالد، ولم يكن ينبه إلى أن الجزائريين كانوا يعيشون وهما كبيرا إلا عدد  قليل من السياسيين، بعضهم يعتمد على خبرته السياسية أو معارضته المبدئية، أو انتباهه إلى تعاظم شبكات الفساد في كل المستويات، وبعضهم يعتمد على الدراسات الاقتصادية والاستشرافات المستقبلية الدالة على انفجار حتمي للفقاعة المالية، وبعضهم يجمع بين هذا وذاك. وقد كنا بحمد الله ممن نبه الجزائريين إلى الخداع الكبير والهشاشة الاقتصادية وتعاظم منظومة الفساد، وتنبأنا بانهيار المنظومة، ومقالاتنا وفيديوهات تصريحاتنا لا تزال منشورة.

لقد فهمنا التفاهمات والتحالفات التي جاءت ببوتفليقة في وقت مبكر، وعلمنا من هي خاصته ومن هم خصومه داخل المنظومة، وكيف مر من العهدة الأولى إلى الثانية المتفق عليها بين من أتوا به، وكيف تفرقوا عند العهدة الثالثة وكيف بدأ الشرخ يتسع بينهم عند العهدة الرابعة. لم تكن العهدة الخامسة هي القطرة الأولى التي أفاضت الكأس، بل كانت قبلها العهدة الرابعة. لقد كانت العهدة الرابعة هي عهدة النزول نحو الهاوية، لذلك عارضناها وخرجنا إلى الشارع  احتجاجاً عليها.

 لقد تأكد ظننا بأن هذه العهدة ستُدخل البلد في وضع خطير جدا، اجتمعت فيها الأزمة المالية بسبب انهيار أسعار البترول، وتحلل السلطة حول الرئيس المريض، وتعاظم صراع الأجنحة، والاحتقان الاجتماعي،  وتحكم  رجال الأعمال المستفيدين والمال الفاسد والفساد المعمم. وفي آخر العهدة بات منصب الرئاسة شاغرا فعليا والصراع على أشده بين أقطاب المؤسسة الأمنية والعسكرية في البلاد، من يملأ الفراغ ومن يتحكم في مسار الاستخلاف، وظل شقيق الرئيس حلقة الوصل وتعلّة الحكم وقابض الأختام.

في ظل هذه الظروف المعقدة استطاعت المعارضة أن تتكتل في تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي ثم في اجتماع لم يعرف له مثيل منذ الاستقلال في  مازفران، وقد كان لنشاطها وتحليلاتها ومشاريعها دور أساسي في تشكيل الوعي لدى الجماهير بما أدى لاحقا إلى الحراك الشعبي الكبير.

تسبب صدود السلطة عن المعارضة ورفضها الحوار معها من أجل الانتقال الديمقراطي إلى تفكك جبهة المعارضين ثم اختلفت وجهتهم بشأن الانتخابات التشريعية 2017، وتوجهت أحزابهم الأساسية إلى المشاركة من أجل البقاء في الساحة السياسية بمنطق محاولة الإصلاح من الداخل وترقب فرص أخرى للتغيير. وفي  2018 تأكد لدينا في حركة مجتمع السلم بأن تحلل السلطة قد بلغ مداه وأن الرئاسة في حالة ضعف شديد وأن تلك هي الفرصة للعودة لفكرة الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه عبر مشروع جديد سميناه التوافق الوطني.

عندما بدأنا بالدعوة الى مبادرة التوافق تفاجأنا بقبول سريع من الرئاسة للحوار، وبعد الحوار مع أحزاب المولاة ثم بعض الشخصيات الوزارية المقربة من الرئيس توصلنا إلى الحوار مباشرة مع الرئاسة في مقرها بزرالدة فتأكد لدينا بأن الرئيس وعائلته لا يريدون العهدة الخمسة وإنما يبحثون عن مخرج آمن يحفظهم، وأنهم تحت ضغط شديد ممن يريدون فرض العهدة الخامسة على الرئيس وقد أُخبِرنا بمن هم أولئك.

لقد كانت تلك الظروف فرصة تاريخية لتحقق الانتقال الديمقراطي على نحو ما وقع في عدد من الدول التي نجحت فيها الديمقراطية بعد حالة ضعف في الحكم أدى الى ميزان قوة مناسب للحوار والتفاوض مع المعارضة. وبالفعل قبلت الرئاسة الورقة  التي عرضناها عليهم كاملة دون أي تغيير، بما يقتضي تغيير الدستور للتحول نحو نظام برلماني أو شبه رئاسي بصلاحيات كبيرة للبرلمان ورئيس الوزراء الذي ينجح حزبه، علاوة على تغيير قانون الانتخابات وتشكيل هيئة وطنية لتنظيم الانتخابات بالتشاور الكامل مع المعارضة، ولم نكن نحتاج إلا لستة أشهر أو سنة لتحقيق كل ذلك لتُنظم عندئذ انتخابات رئاسية لا يترشح فيها الرئيس بوتفليقة وقد تكون معها انتخابات تشريعية متزامنة.

لقد كانت والله فرصة عظيمة، ولم يكن مطلوبا سوى أن تقبل المعارضة بهذا الانتقال السلس وقد كلفت بالاتصال بهم، وأن تقبل قيادة الأركان الخطة وكلف شقيق الرئيس بالاتصال، وإني لأشهد أمام الله  أن المعارضة ليست هي من ضيع الفرصة وإنما رفضُ المخطط الذي اقترحناه و قبلت به الرئاسة  جاء من داخل نظام الحكم، إذ بُلِّغت رسميا في مقر الرئاسة بأن القرار قد اتخذ بالمرور للعهدة الخامسة – خلافا لرغبة الرئيس المريض الفاقد للأهلية – وأنها ستمرر بلا عناء! وكأن الرسائل التي جاءتهم من خنشلة ومن خراطة والعديد من جهات الوطن لم تنبههم.

بعد يأسنا من تحقيق التوافق الوطني قررنا الترشح للانتخابات الرئاسية وأعلنا عن ذلك في 26 جانفي 2019  وكان يدفعنا الى هذا الخيار ما كنا نخشاه من تآمر من جهات عديدة من داخل الحكم وجهات أيديولوجية  على تنظيم استخلاف لبوتفليقة حتى وإن رشح هذا الأخير نفسه، ثم جاء الحراك فتأجلت الانتخابات.

 عندما ُأعلن عن ترشح الرئيس تعمّق الاحتقان بشكل متسارع، وساعد في تضخمه قوى من داخل النظام السياسي ممن كانوا يتصارعون مع مهندسي العهدة الخامسة المسيطرين على الرئاسة.

لقد كانت الأسباب المشكلة للاحتقان كثيرة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن شعور الجزائريين بالهوان أمام الشعوب أن يرأسهم لعهدة جديدة  رئيس غائب لمدة عهدة كاملة سابقة هو الصاعق الذي فجر البرميل.

لقد كنا في حركة مجتمع السلم  أدرى من غيرنا من حالة الضياع التي كانت فيها الدولة. وبعد فشل محاولتنا لتحقيق انتقال ديمقراطي تاريخي على أساس تحول كان جاريا لميزان القوة يعفي بلدنا من مخاطر المواجهة أدركنا بأن الثورة وشيكة،  بنا أو بغيرنا،  فشرعنا في تحضير أنفسنا لها بتعميمٍ لكل هياكلنا بأن يستجيبوا  لدعوة النزول للشارع يوم 22 أبريل، وفي يوم الجمعة الأولى نزلنا ضمن مجموعة قيادية في الساعة الأولى، وكان بعض مناضلينا من الجرحى الأوائل، وطلائع المقبوض عليهم، ومنهم  ابني الذي أصيب في وجهه بشذية كادت تصيب عينه.

قررنا في الحركة أن نشارك في الحراك ولكن لا نتصدر الجموع لكي نحفظ الفرصة من الصراع الحزبي، ولكن كنا ندرك  أن تلك الجموع الهادرة في الشوارع لن تحقق إنجازا إن لم تجتمع القوى السياسية والاجتماعية على رؤية جماعية قائدة، لذلك رجعنا لأقطاب تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي لنستأنف التنسيق، وقلت لرئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية آنذاك بأنكم كنتم تقولون “لا معنى للانتقال الديمقراطي دون النزول للشارع، وحا نحن الآن جميعا في الشارع فلما لا نعود لمشروع مازفران والانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه؟” فقال لي: “لا ننسق إلا مع من يعملون من أجل القطيعة”، وقد اتضح بعد ذلك بأنها كانت رغبة لاحتكار الحراك بسبب حاضنتهم الاجتماعية الكبيرة في الجزائر العاصمة التي تمركزت في ساحات البريد المركزي (خلافا لضعفهم الشعبي في أغلب ولايات الوطن الأخرى) . فكان ذلك الموقف وتلك التصرفات السياسية بداية تفكك الحراك وضياع الفرصة الشعبية العامة.

لم نتوقف عن الحوار والبحث عن المساحات المشتركة مع الأحزاب والمنظمات، وكان اجتماع ” المنتدى الوطني للحوار” في عين البنيان فرصة أخرى ضائعة إذ رغم نجاحه في جمع أعداد هائلة من الأحزاب والجمعيات من مختلف التيارات لم يستطع جمع كلمة المعارضة، بسبب غياب أحزاب التيار العلماني، وبسبب عدم الاهتمام به من قبل السلطات التي تحكمت في الأوضاع بعد حالات الاضطراب في الأسابيع الأولى.

إن الأطراف التي لم تهتم بالملتقى الوطني للحوار، من المعارضة العلمانية والقوة الصلبة في السلطة،  هي التي تسببت في ضياع فرصة تحقيق نتائج الحراك لصالح الجزائر وكل الجزائريين . لقد كان كل طرف من هاذين الطرفين يسعى لاحتوائه  وحده لأسباب سياسية وأيديولوجية. وكان كل طرف من الطرفين، علاوة على ذلك، يتهيب من التيار الإسلامي أكثر من الآخر، ويعمل كلاهما على وضعه في الزاوية المهملة بالرغم من أنه  يمثل الأغلبية الانتخابية المعبر عنها في كل انتخابات لو لا المنع والتزوير الانتخابي. وكان الإسلاميون ذاتهم متفرقين يخاصم بعضهم بعضا حتى داخل الحراك، وبعضهم يستعد أن يُركب ويخدم مشروع غيره من أجل الانتقام أو مصالح حزبية أو شخصية ضيقة للأسف الشديد. فلم تكن المعطيات، لهذه الأسباب وغيرها، مشجعة لتحقق المأمول من الهبة الشعبية. 

ومن غرائب الأحداث أن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة داخل السلطة ( وأنا شاهد أمام الله على ذلك)  وتهجمت على الجماهير في الحراك بنعتهم “شرذمة” هي ذاتها التي تبنته بعد ذلك وضغطت على بوتفليقة لكي يستقيل. لقد أدركت هذه الجهة بأن ثمة جناح آخر من السلطة يستثمر في الحراك وله قدرة على تجنيد  بعض قادة الأحزاب والجمعيات وخصوصا أحزاب التيار العلماني المتمركز شعبيا في ساحات البريد المركزي، فسبقته في تبني الحراك، ولم يكن أحد من هؤلاء أوهؤلاء صادقا في تحقيق المطالب الديمقراطية للحراك، وإنما كانت “لعبة سلطة ونفوذ” أدت  إلى كسر العظام بينهم في الأخير، ولا تزال التدافعات قائمة إلى الآن، ولم يكن رفضنا لاقتراح مرحلة انتقالية يقودها اليامين زروال التي جاء إليها بعض رؤساء المعارضة متحمسين في لقاء تنسيقي عُقد في مقر أحد الأحزاب بزرالدة إلا لعلمنا بتلك اللعبة.

 اشتد الصراع بين الأطراف المتصارعة داخل الحراك، واقحم فيه الصراع العرقي بشكل مقيت أنشأ عداوة جاهلية  بين الجزائريين لم يعرفوها من قبل، وبدل حل كل المشاكل وازالة مخاوف مختلف الأطراف بالحريات والديمقراطية ودولة القانون، أدى الصراع في الحراك إلى تحكم النظام السياسي من جديد في الأوضاع، وفي وقت مبكر قبل كرونا بات واضحا بأن الاستقطاب الشديد داخل وحول الحراك قد ضيّع الفرصة.

رغم تراجع حماس مناضلينا في المشاركة في الحراك  بسبب الاستقطاب بقينا نحافظ على التزامنا بالحضور كل جمعة، وحينما قُرّر تنظيم الانتخابات الرئاسية في 12/12/2019 رُجّح قرار عدم المشاركة بسبب استمرار بقاء الناس في الشارع وللنّأي بالنفس من أن يُسجّل في تاريخنا بأننا كنا من المتسببين في وقف حراك الجزائريين من أجل الحريات، وبقي الاختلاف في الرأي مستمرا طويلا بيننا، هل كان رأينا سديدا أم لا؟

ولكن مهما يكن من أمر لم نتسبب أبدا في تفريق الناس في الحراك، ولا كنا مسؤولين عن الاستقطاب الذي حصل، ومهما كانت خسارة عدم مشاركتنا في الانتخابات الرئاسية فلن يُكتب علينا التاريخ بأننا ممن تسبب في وقف تلك الهبة الشعبية التاريخية،  إلى أن جاءت كورونا فأعطت غطاءً أخلاقيا لمن بقي وفيا دون فاعلية ليتوقف دون تأنيب الضمير .

وفي المحصلة لم ينجح أحد من كل المكونات السياسية، ولئن اعتُقد بأن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة ثم انقلبت عليها بسبب الحراك هي التي نجحت  فقد دارت عليها الدائرة من بعد، ومن كان في الشارع وفي أروقة الحكم يواجهها صار إلى أضعف ما يتصور في تاريخه، وبقيت البلاد كلها تترنح فلم ينجح بضياع فرصة الحراك أحد في البلاد، وتشكل لدى قطاعات واسعة، حتى عند المتحزبين بأن الإصلاح من الداخل أمر مستحيل، وأن بقاء العمل السياسي تحت سقوف التحكم السلطوي ما هو إلا تفاهمات ضمنية بين مكونات الساحة السياسية محصلتها لصالح الأشخاص وليس لصالح البلد ونهضته. ولكن لا ندري لعل الحراك صنع ثقافة عامة كامنة سيصطلح بها العمل السياسي ولو بعد حين، لعل تلك الثقافة تنشئ تيارا شعبيا عاما  يُبدع طرقا سلمية غير تقليدية للتغيير لصالح الجزائر وكل الجزائريين.  

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (1)

حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير ، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.

لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ  أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر  سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.

إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.

لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى  لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.

وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير  بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد  استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.

لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغف فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.

إنه علاوة  على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك،  ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.

لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: ” احذر من إذا قال فعل” والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.

لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك  بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام   هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا الى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هو تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا” هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة” فقال: “لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها”، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام”، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.

لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب ” لغة الخشب”، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.

لقد تطلّب تجاوز خطاب “لغة الخشب” نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة “موت السياسة” وشيوع “لغة الخشب” وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف،  الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.

إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة.

شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم  يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))

.. يتبع

سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآلات.

بدأنا مقالنا الأول عن سوريا  بعنوان “تطور الوضع في سوريا : الواقع والمآل”، فكانت الأحداث أسرع منّا إذ تهاوى النظام السوري بشكل سريع ومذهل، بما يجعلنا نغير العنوان ليصبح : “سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآل”. وقد قصدنا فهم خلفيات السقوط السريع من خلال اِستحضار مختلف التطوّرات الحاصلة على مستوى القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، فبدأنا الحديث عن إيران ووضّحنا التحولات الداخلية والخارجية التي جعلت هذا البلد يُحجم عن نجدة حليفه السوري بشار الأسد، وسنتناول في هذا المقال الخلفيات التي أدّت إلى تحوّل الموقف الروسي وتخليه عن النظام الذي أنقذه من قبل من السقوط، وفي مقالات مقبلة سنتطرق إلى تطورات وخلفيات الموقف التركي، ثم سياسات وطبيعة الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الأحداث، ثم نتحول إلى الحديث عن مكوّنات قوى المعارضة وخلفياتها الأيديولوجية وعلاقاتها مع القوى الأجنبية، لنخلص في الأخير لدراسة السيناريوهات المحتملة للشأن السوري والقضية الفلسطينية والمنطقة كلها. 

2 – روسيا: 

لقد كان للتدخل الروسي في الأحداث في سوريا دور أساسي في حسم الصراع المسلّح لصالح نظام بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة، منذ 30 سبتمبر / أيلول 2015، وكانت حجّة الروس حينذاك محاربة الإرهاب،  ثم اعتبرت أن لوجودها الطويل في سوريا طابعا شرعيا على أساس أنّ قواتها حطّت رحالها في الأرض السورية بطلب من الدولة السورية “الشرعية”. وقد استغلت هذا الوجود القانوني لتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس ليتجاوز وجودها في سوريا الأزمة السورية إلى حماية مصالحها في المنطقة كلّها وكلّ الفضاء الجغرافي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط. 

غير أنّها لم تكن تجهل تناقص المصالح وصراع الإرادات الدولية في بلاد الشام، فما إن أنهت وجود القوى المسلحة في شرق حلب بقوة نارية جبارة ذهب ضحيتها كثير من المدنيين الأبرياء؛ قتلا وتهجيرا، حتى اِتجهت إلى الاِتصالات الدبلوماسية من خلال مسار أستانا مع تركيا وإيران. 

اِكتفت ترتيبات مسار أستانا بالاِتفاق على خفض  التصعيد، وهو ما نقل القضيّة السورية نوعا ما إلى ما بعد بيان جنيف 2012 الذي بني عليه قرار مجلس الأمن 2254 في 2015 المدعوم من أمريكا، والذي اِقترح مشروعا سياسيا كاملا يقوم على تغيير الدستور وبناء نظام سياسي جديد يستوعب كلّ الطوائف وإجراء اِنتخابات حرة ونزيهة. 

لقد كان لروسيا دور كبير في تعطيل المسار السياسي، مدعومة بإيران، ثم زاد البعد عن الحلّ السياسي محاولات تركيا فتح صفحة جديدة مع النظام السوري من أجل حلّ مشكلاتها المتعلقة بالمهاجرين والأكراد، وحين اِنفتحت الدول العربية على بشار الأسد من جديد اِنغلق الأفق السياسي كلية وظنّ بشار بأنّه حسم الأمر نهائيا، رغم بقاء هذه الدول متمسكة بالحلّ في إطار ذات القرار الأممي.

لا شك أنّ قرار مجلس الأمن كان على الهوى الأمريكي ممّا أفقد الثقة فيه عند العديد من الأطراف ولكن لم يُعرض أي بديل له من داعمي النظام، أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، سوى ما صرح به وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مايو 2023 بأنّ “بلده سيطبق ما يهمه من مضامين القرار 2254”!

ولكن بعد كلّ هذه المجهودات لحماية النظام السوري ظهر الموقف الروسي اتجاه التطورات الجديدة باهتا، بشكل مفاجئ وغير مفهوم لدى الكثيرين. وقد بدا عدم الاِهتمام واضحا من الوهلة الأولى عبر طريقة تناول وسائل الإعلام الروسية للأحداث، حيث لم تتحرك البروباغاندا الروسية المعهودة، واِكتفى مذيعو القنوات ووسائل الإعلام الأخرى  بنقل الأخبار ، واِهتم المحلّلون بتقديم التحليلات والتفسيرات فحسب. ثم جاءت تصريحات المسؤولين فأكّدت بأنّ بشار  بات بلا دعم فعلي من صديقه بوتين.

اِكتفى المتحدث باسم الكرملين بالتصريح في اليوم الثاني من هجوم المعارضة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة “السلطات السورية إلى اِستعادة النظام الدستوري بسرعة” مصرحا بأنّ “روسيا تقوم باتصالات مناسبة وتحليل الوضع” وأنّها “ستسعى لتحقيق الاِستقرار في سوريا”، ومؤكدا بأنّ “روسيا قادرة على تقديم المساعدة للنظام السوري اِعتمادا على تقييم الوضع ميدانيا”. وقد تكون هذه التصريحات مؤشرا على أنّ الأمر لا يتعلق بعدم القدرة على تقديم المساعدة وإنّما ثمة توجه آخر يستند على دراسة تطورات الوضع الميداني. 

لا شكّ أنّ هذه التصريحات قد اُلتقطت من قادة الجيش النظامي فعلموا أنّه لا يمكنهم الاِعتماد لا على إيران كما بيّنا سابقا ولا على روسيا، ممّا جعلت معنوياتهم تنهار وصفوفهم تتفكك وأخذوا بالفرار من جبهات القتال. ويمكننا أن نقول بأنّه لم يصرح أي مسؤول دولي تصريحا مهينا للنظام السوري المتهالك ، كما كان تصريح مسؤول روسي مقرّب من الكرملين، وفق ما نقلته وكالة بلومبرغ، الذي قال فيه: “إنّ روسيا لا تملك خطّة لإنقاذ بشار الأسد ولا ترى إمكانية لإيجاد واحدة، طالما اِستمر الجيش في التخلي عن مواقعه”، وحينما دعت السفارة الروسية رعاياها إلى مغادرة دمشق كانت اللعبة قد أغلقت على حليف الأمس.

سارعت كلّ من روسيا وتركيا وإيران إلى الاِجتماع لمناقشة إمكانية تخفيض التصعيد وفق مسار أستانا، ولا شكّ أنّ ما جمعهم هو خوفهم من التدخلات الأمريكية، إذ أشار جميعهم إلى القوى الكردية الحليفة للأمريكيين، بل إنّ لافروف أشار إلى مصلحة الإسرائيليين في تغيير الوضع في سوريا. ثم اِلتحق بهذا الثلاثي مجموعة الدول العربية الخمس، ودخل الجميع في النقاش للعودة إلى القرار 2254، غير أن الذين كانوا في الميدان لم يمهلوا أحدا ودخلوا دمشق وأسقطوا الطرف الذي كان يطلب منه دوليا أن يدخل في المفاوضات من أجل تطبيق القرار، وبعد فرار الأسد لم يبق إلا طرف واحد وهو الطرف المنتصر، ولم يبق شيء يناقَش عن مستقبل سوريا سوى مع هؤلاء. 

لا شكّ أن اِنشغال الروس بالحرب  مع أوكرانيا يمثّل سببا رئيسا في إحجامهم عن التورط مجددا في المواجهة المسلحة في سوريا، وقد يكون بوتن قد أحسّ بأنّه يراد اِستدراجه في جبهة أخرى تستنزفه. غير أنّ  ثمة أسبابا أخرى بالغة الأهمية أثرت في موقف  تراجع الطرف الروسي عن دعم النظام السوري، سوى بعض الطلعات الجوية القليلة غير ذات الجدوى. 

إنّ جذور ذلك قد تعود إلى تغيّر الموقف التركي ورغبته في الحوار مع بشار الأسد لحلّ مشكلة اللّاجئيين والتوصّل إلى تفاهمات بخصوص الملف الكردي، وقد عُقد بهذا الشأن لقاءات رسمية عالية المستوى بين المسؤولين الأتراك والروس، واِتصل بوتن نفسه  ببشار الأسد بهذا الخصوص فرأى تصلبا كبيرا منه. 

وعلاوة على ذلك بات ثمة تفهّم كبير من القيادة الروسية لحاجة الأتراك للتدخّل المباشر في سوريا بغرض كبح جماح منظمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية المسنودة والمسلحة والمحمية من الخصم المشترك؛ الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن التداخل العميق للمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، بين تركيا وروسيا ساعد على تحقيق الاِستقرار في الخطوط الدبلوماسية بين البلدين، ومن ذلك تجنب الاشتباك بين الطرفين بأيّ شكل من الأشكال مهما كانت الصعوبات وحل المشاكل المعقدة وتضارب المصالح بالاِتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية. 

ثمّ إنّ ثمة مصلحة مشتركة أخرى بين البلدين، وهو الرغبة الثنائية في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، حيث أنّ روسيا كانت دائما تعتبر بأنّ إيران هي البلد الوحيد الذي ينافسها فعليا، سياسيا واِقتصاديا، في سوريا ومع النظام السوري ويُعقّد عليها تحكمها في الأوضاع في المنطقة، وقد بين هذا الامتعاض الروسي ما كان يتداوله محللون سياسيون في القنوات الروسية في نقد النظام السوري، واِتهمه البعض أنه يلعب على حبلين. 

ومن جهة أخرى ظلت البرودة في العلاقات بين إيران وتركيا ثابتة رغم الحوار القائم بينهما، ولم يكن أردوغان ينظر إلى تعنت بشار الأسد في الدخول في الحوار إلّا من زاوية أنّه مسنود في موقفه من إيران. وبسبب التطورات الداخلية والخارجية التي حكمت الوضع الإيراني أصبح إخراج إيران من اللّعبة ممكنا، وقد ساعد على ذلك شعور عدد من الدول العربية بأنّ اِنفتاحهم على الأسد كرئيس دولة عربية لم يبعده عن إيران وأنّ مصانع المهلوسات (الكبتاجون) في سوريا التي اِشتهرت بها عائلة بشار والمقربين منه أصبح ترويجها في الدول العربية بمثابة حرب ضدهم. 

وكلّ هذه الاعتبارات تأخذ كثيرا من المصداقية؛ الأخبارُ التي تؤكّد على أنّ تفاهمات روسية تركية كانت قد تمت قبل الهجوم تضمن مصالح روسيا، وخصوصا على مستوى القاعدة العسكرية في حميميم وطرطوس. وممّا يساعد على قبول هذه الأخبار أن المعارضة لم تتعرض للوجود الروسي بأيّ شكل من الأشكال، وأنّه خلافا للقوى الإيرانية وحزب الله اِلتزمت التشكيلات العسكرية والأمنية بدون إجراءات اِستثنائية مواقعها، رغم المشاركة الروسية الكبيرة في ما لحق الشعب السوري من بلاء عظيم.

ولا يمكن من وجه آخر إغفال اِلتزام روسيا بحماية الكيان الصهيونىّ من خلفيات تراجع روسيا عن حماية النظام السوري، فهي لا يهمها أن تعجز إيران عن اِستعمال الأراضي السورية لدعم حزب الله ونقل السلاح إليه، إن كانت تضمن مصالحها. 

وفي كلّ الأحوال، لا يعتقد أنّ روسيا كانت تريد أن يحدث اِنهيار تام للنظام السياسي، وإنّما كانت تريد تغيير شيء من الواقع على الأرض لصالح المعارضة وتركيا لكي يقبل الجلوس على الطاولة بخصوص ضمانات سلامة اللاجئين عند عودتهم وحلّ معضلة علاقته المشبوهة مع القوى الكردية الموالية لأمريكا، ولكنّ الأقدار شاءت غير ذلك، ولم يكن ثمّة من يستطيع وقف زحف قوى المعارضة نحو دمشق حين أتيحت لها الفرصة.

تطور الوضع السوري: الواقع والمآل

في تطورات متتالية وسريعة منذ 27 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي حققت المعارضة السورية تقدما عسكريا كبيرا في الشمال الغربي للبلاد يقدر إلى حد الآن بحدود 22 ٪؜ من الأراضي، سيطرت فيها على محاور استراتيجية ومدن مهمة منها حلب إدلب وحماة وعدة مطارات وكليات عسكرية وثكنات عسكرية وعدد كبير من العتاد العسكري.
بدا هذا التقدم السريع والواسع مفاجئا لكثير من المراقبين، وبات السؤال المتكرر الذي يُطرح هو أين سيصل توسع المعارضة على حساب النظام السوري وما هي آثار ذلك على المنطقة، ويلح المنخرطون والمساندون لطوفان الأقصى والحرب ضد الكيان ما هو مآل ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية.
سنحاول أن نفهم خلفيات هذه التحولات المهمة من خلال تتبع أوضاع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة وأهدافها ومكاسبها وخسائرها. ولكن قبل ذلك لا بد أن نؤكد مسألة مبدئية وهي أن النظام السوري نظام مجرم أوغل في دماء السوريين وهجّر الملايين منهم وسلم البلد للأجانب وأدخل سوريا كلها في مأساة عظيمة، وكان بإمكانه أن يحل الأزمة التي انفجرت في ظروف الثورات الشعبية العربية في 2011 عبر الحوار السياسي والحلول السلمية، لا سيما وأنه دُعي إلى ذلك من قوى المقاومة فرفض واختار القمع والإجرام. وفي كل الأحوال لا يمكن لحاكم فعل في شعبه مثلما فعل بشار الأسد في السوريين أن يستتب له الملك طويلا، ونهايته ستكون مؤكدة سواء في هذه الأحداث أو لاحقا، وأن السكان الذين ظلمهم وهجّرهم من حقهم استرجاع بلداتهم ومنازلهم وإنهاء غربتهم وتشردهم .
إن من أهم أسباب الانتصارات العسكرية التي حققتها المعارضة هو الانهيار السريع للجيش السوري في مواقع الاشتباك ، إذ ما إن تأكد ضباط وجنود هذا الجيش بعدم التدخل القوي لروسيا وإيران و حزب الله لنجدتهم حتى تركوا مواقعهم وعتادهم وفروا إلى الخطوط الأكثر أمنا. وقد أكد هذا الضعف والانهيار بأن النظام كان في طريقه إلى الزوال في وجه الانتفاضات الشعبية السورية، وأن الذين كانوا يديرون المعركة ضد الشعب السوري إنما هو الجيش الروسي والجيش الإيراني ومقاتلو حزب الله، وقد تحولت المعركة في الأرض السورية إلى معركة بالوكالة بين عدة مشاريع : المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، المشروع الروسي، المشروع الإيراني، المشروع التركي. فصار الوضع معقدا بمثابة الفتنة العمياء التي تذر الحليم حيران.
لا نريد أن نتطرق إلى طبيعة هذه الحرب الإقليمية، بل العالمية، بين مختلف المشاريع ولكن نحاول فهم ما يحدث في الوضع الراهن من خلال تطور أوضاع مختلف القوى الإقليمية والدولية، وذلك على النحو التالي:
١ – إيران: ربما يعتبر أهم تطور في المنطقة، كان له أثر على الأحداث القائمة حاليا في سوريا، هو تراجع المشروع الإيراني. ولا يُعزى هذا التراجع فورا إلى الحرب مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله، فقد بينت الضربات الصاروخية المكثفة التي وجهتها إيران لدولة الكيان بأن لها القدرة على الفعل، ولو رغبت في توجيه ضربات صاروخية للمعارضة السورية أثناء تقدمها لفعلت. ولكن ثمة تطورات أعمق تسكن في الداخل الإيراني، حيث أن طول الحصار المضروب على هذا البلد، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، دفعت الى صعود التوجه الذي يريد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية ليصبح هذا البلد بلدا عاديا يهتم بشؤونه الداخلية وحل أزماته الاقتصادية من خلال إنهاء الحصار والتصالح مع المحيط الخارجي، ويساند هذا التيار الإصلاحيون المعروفون في الشأن السياسي، و”البزاريون” وهم معروفون في الشأن الاقتصادي كطبقة قوية من رجال الأعمال الذين ساندوا الثورة في عهد الخميني ثم باتوا الآن يبحثون عن بيئة أعمال أفضل، وقد تُوّج هذا الصعود في الانتخابات الرئاسية السابقة على حساب المحافظين القريبين من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
تعود هذه الخلافات إلى سنوات عديدة سابقة، وتعتبر فترة الرئيس محمد خاتمي محطة مهمة في بروز هذه الصراعات، وقد اطلع الرأي العام على رسالة صارمة وجهها نفر من قادة الحرس الثور، منهم قاسم سليماني، إلى خاتمي يحذرونه فيها من تساهله مع مظاهرات الطلاب في يوليو / جويلية 1999، وبقي الخلاف يتصاعد إلى أن بلغ أشده في الفترة الأخيرة.
عندما تهيكل الخلاف وأخذ طابعا أمنيا توجه الحرس الثوري، خصوصا في عهد قاسم سليماني، إلى فصل قوى المقاومة عن التحولات السياسية داخل إيران، وبدأ يجهز ويدرب القوى الشيعية في مختلف البلدان، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن، لكي تحافظ على قدراتها العملياتية مهما كانت الظروف في الداخل الإيراني. غير أن الخلاف بلغ أشده في السنوات الأخيرة ووصل الى حد بات الاتهام يتداول داخل الشبكات المساندة لمحور المقاومة بأن مقتل قاسم السليماني والرئيس الإيراني السابق ومن كان معه في الطائرة التي سقطت، وكذا إسماعيل هنية ونصر الله كان بتخابر داخلي من قوى تريد إخراج إيران من الصراع، خصوصا الوضع الذي وجدت نفسها فيه بعد طوفان الأقصى دون أن تخطط الدولة الإيرانية لذلك.
لا يتوقع أن تكون المواجهة بين التيارين سهلة، فالتيار الاصلاحي ومن على شاكلته يستفيد من التطورات الإقليمية والدولية، وعلى قوته الاقتصادية، والتمركز المؤسسي ويستند على أغلبية شعبية لا تحكمها الأيديولوجية الصلبة، والتيار المحافظ يملك قوة عسكرية جبارة، وتتجه الشرعية الدينية لصالحه، وله قوة اقتصادية وكتلة مالية كبيرة، ولأنصاره جلد وصبر كبيرين، وهو يستطيع أن يحدث انقلاباً بالقوة لو لا التطورات العميقة في المحيط.
أما عن حزب الله فهو غير قادر على العودة الى المغامرة التي تورط فيها سابقا، من جهة أنه في وضع صعب بالنظر للخسائر التي تلقاها في مواجهته مع الكيان، ومن جهة أن المشروع كله في تراجع كبير والحلفاء الذين احتاجوا اليه سابقا غير راغبين في النجدة العسكرية لبشار الأسد إلى حد الآن، ومن جهة أنه ربما لا يرغب في افساد صورته مرة أخرى بعد أن رمم الكثير منها في انخراطه في طوفان الأقصى نصرة لأهل غزة، ومن جهة أن الأمر لم يصبح مجديا أمام الانهيارات الكبيرة للجيش السوري وهو يرى أن تدخلاته السابقة ذهب مفعولها هباء منثورا.
ضمن هذه التطورات الداخلية، لم يتم نجدة بشار الأسد من قبل ايران بشكل مباشر وقوي، ليس لأن إيران ليس لها القدرة، ولكن لأن القرار السياسي غير موجود، أو ربما غير متفق عليه، بسبب الكلفة الكبيرة المتوقعة، لا سيما أن التدخل الإيراني هذه المرة قد يجلب المواجهة المباشرة مع قوة إقليمية لها مصالح حيوية هي تركيا، والموقف الروسي غير واضح لحد الساعة، فالأفضل لإيران البحث عن حلول دبلوماسية من خلال مسار أستانا مع روسيا وتركيا.
٢ – روسيا
… يتبع ..

كيف نفهم وقف إطلاق النار في لبنان؟

حاول الاحتلال الصهيوني وقادة الولايات الأمريكية المتحدة وطوابير العمالة إظهار اتفاق وقف إطلاق النار بأنه هزيمة للمقاومة وأن طوفان الأقصى كله آيل للانكسار، وقد أثر خطاب هذه القوى الظالمة في معنويات كثير من مناصري الحق الفلسطيني وداعمي المقاومة، كما جاء هذا التحول على هوى المتخاذلين والمخذلين الذين يريدون الرجوع إلى دوائرهم الآمنة فلا تنغص عليهم الحالة الفلسطينية الملتهبة وصور المآسي السكانية في غزة حياة الدعة والهدوء المألوفة.

من يعتقد بأن المعركة قد انتهت فهو واهم، سيبقى طوفان الأقصى يظهر عجائبه، وما هذه الهدنة إلا وجه من وجوه هذه الظاهرة العجيبة، ولعل أعظم درس نستشفه من المواجهة المسلحة بين جيش الكيان وحزب الله، أننا أمام صورة جديدة واضحة بيّنة لحقيقة الجيش الإسرائيلي، وما يمكن أن يحدث له حينما يحكم البلاد العربية والإسلامية حكام سادة أشاوس يمثلون حقيقةً شعوبهم، فهذا الجيش الإسرائيلي  الذي هزم البارحة ستة جيوش عربية واحتل كامل فلسطين وسيناء والجولان في ستة أيام لم يستطع بعد سنة كاملة أن يحتل أكثر من كيلومترين من جنوب لبنان، ورغم الضربات المباغتة التي وجهها لحزب الله فقضى بها على طبقة قيادية كاملة من وحدة الرضوان والمجلس الجهادي وعلى رأسها الأمين العام، والرجل التاريخيّ الرمز حسن نصر الله، ظلت البلدات المحتلة التي يسكنها الاسرائيليون تتلقى القصف الصاروخيّ، ألحق ببعضها أضرارا جسيمة، كبلدة المطلة  وكريات شمونة والمنارة، بل إن تل أبيب نفسها لم تأمن، وحين تتحدث وسائل الإعلام بأن الهرع إلى الملاجئ يصل إلى أربعة ملايين فهذا يبين حجم مأساة الإسرائيليين لمدة أكثر من سنة.

إن الاسرائيليين فهموا بأنهم تورطوا في الحرب في لبنان، وأنها ستكون حرب استنزاف مدمرة لهم ولمستقبلهم، وأنه لا يمكن أبدا تحقيق أهداف الحرب المعلنة المتعلقة بنزع سلاح حزب الله وكسر خط المقاومة في لبنان، فقبلوا وقف إطلاق النار واعتمدوا على الولايات الأمريكية المتحدة لتحقق لهم مكاسب شكلية تحفظ لهم ماء الوجه، كمسألة خروج حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وعدم السماح لحزب الله بالتسلح وصناعة السلاح.

 فحزب الله رغم الخذلان الكبير الذي تعرض له من قبل الطابور الخامس اللبناني وضغط الحواضن الاجتماعية التي لا تناصره، والأوضاع الصعبة لحاضنته التي شردت في اللجوء،  بقي جزء أساسيا من منظومة الدولة، وهو جزء من الجيش الذي سينتشر في لبنان، واللاجئون الذين سيعودون إلى مساكنهم في الحدود مع فلسطين كثير منهم هم منه وله، علاوة على أنه حظي بتأييد كبير رسمي وشعبي من القوى السنية التي قاتل بعضها معه، فهو قد خرج بمكانة معتبرة وسيجد الطرق المناسبة لإعادة بناء ما خسره في الحرب.

غير أنه لا يمكن أن نقول بأن حزب الله خرج منتصرا مظفرا في هذه الحرب، إذ الهدف الأساسي الذي اندفع من أجله للمواجهة قد توقف، وهو مناصرة غزة ووحدة الساحات. لا شك أنه أعطانا صورة واضحة لضعف الجيش الاسرائيلي ومنهجا متكاملا في كيفية هزيمته وإنهاء وجود الاحتلال  من الأراضي الفلسطينية  في مستقبل غير بعيد ولكن الضربات القاسية التي تلقاها والضغوطات الخارجية ومخاطر الانفلات الداخلي ضده ألجأه إلى قبول وقف القتال في لبنان دون أن يتوقف في غزة. وهو في كل الأحوال مشكور مبرور على النصرة التي منحها، والتضحيات الجسيمة التي قدمها مختارا بتلقاء نفسه دون أن يستشار في إطلاق طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية.

وإذا ما سألنا عن مصير غزة وهي تواجه مصيرها وحدها فإن أول ما نقوله أن لها الله العزيز الجبار المتكبر، ولسان حال مجاهديها وسكانها هو قول الله تعالى في سورة آل عمران: ((  الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)))، ثم إن الطريقة التي دخل بها حزب الله الحرب شغلت الاسرائيليين ولكنها لم تكن حاسمة في وقف العدوان على غزة، إذ أن حسابات حزب الله واستراتيجياته وتكتيكاته الحربية في البداية لم تكن على النحو الذي آلت إليه في الأخير إلى درجة أنه فرض وقف الحرب على لبنان، فلو دخل بكل قوته منذ البداية كانت الأمور تكون مختلفة ومؤثرة في مسار الحرب على غزة. وعليه فإنّ سُكونَ جبهة لبنان لن يؤثر دراماتيكيا على الأوضاع في جبهة فلسطين في غزة والضفة، ولا توجد جريمة لم يقترفها الصهاينة لتحقيق أهدافهم ضد حماس وحاضنته، فعلوا من الجرائم ما لا تتحمله الجبال، فما حرروا الأسرى ولا أنهوا المقاومة، ولا فرضوا قوة عميلة تسير القطاع،  فماذا عساهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوا، فالمسألة مسألة  ثبات ورباطة جأش ومواصلة استنزاف العدو ولو بوتيرة أقل مما كانت عليه، بما يجعل بقاء جيش الكيان في غزة مكلفا يوما بعد يوم.

والأهم من تفسيرات الخنوع والخذلان الذي يسارع إليه ضعاف النفوس في أمتنا، وبدل حالة الإحباط والبقاء في مشاعر الإشفاق  تجاه أهلنا في غزة فإن الواجب أن تهب الأمة قاطبة لنصرة غزة وتغطية الفراغ الذي سيتركه حزب الله، وهذا الحديث يتجه أكثر إلى الذين أغرقونا في خطاب الطائفية ضد حزب الله، ها هو الحزب قد توارى عن معمعة الحرب فأرونا بطولاتكم وخذوا خشبة سباق التتابع (على نحو ما قاله القائد أسامة لأحدهم)!

أما تهديدات بايدن فهي من جنس جرائمه السابقة في حلفه مع الكيان في عدوانهما على أهلنا في فلسطين، أما قوله وقول وزير خارجيته وعدد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض بأن وقف الحرب في لبنان هو للتفرغ لحماس فهو شرف لحماس وتأكيد للعالمين بأن معركة الشرف إنما هي في فلسطين وأن أشراف الأمة هم أبطال المقاومة الفلسطينية قبل غيرهم. وفوق ذلك سيسعى بايدن  ذاته بدعم من خليفته ترامب لإبرام صفقة أخرى مع حماس قبل رحيله، وما حديثه بأن لدى حماس خيار واحد هو تسليم الرهائن إلا  هراء لا طائل منه، وقد أعطته المقاومة الجواب فورا بأنهم ثابتون على مطالبهم لوقف القتال، وأيم الله قد صدقوا! هل يمكن أن ترفع الراية البيضاء بعد كل تلك التضحيات الجسام في وجه جيش بدأ ضعفه بينا في لبنان وفلسطين. فإن تم الاتفاق على وقف القتال في غزة قبل مغادرة بايدن  بما يحقق مطالب الفلسطينيين  فهو ذاك ولله الحمد، فإذا لم يتم ذلك فإن مجيء ترامب قد يكون أضمن لنهاية العدوان، ذلك أن الديمقراطيين محكومون بالمؤسسية والتأثير العميق باللوبيات،  والمؤسسية لها قدرة على الصبر والمثابرة، أما ترامب قد يظهر منه عنف أشد في البداية ولكن إذا رأى الثبات والصمود لدى الفلسطينيين فإن ذهنيته التجارية ستدفعه للتفاوض من أجل وقف القتال ليفي بوعده الانتخابي وليوقف نزيف الخسائر المادية لبلده دعما لإسرائيل،  وليتفرغ لأشياء أخرى تهمه أكثر على الجبهة الصينية، والحرب في أركرانيا. أما إن قامت القوى الحية في الأمة بواجبها لتحريك الشعوب في كل البلدان في الساحات وبمحاصرة السفارات الأمريكية على سبيل المثال، وربما تسرب أعداد من المقاتلين الشباب إلى ساحات المعركة ضد الكيان وبروز أمارات على تحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة فإن دفع الرئيس الأمريكي المقبل لوقف التوتر سيكون مؤكدا.

إن مسؤولية الأمة بعد توقف الحرب في لبنان  صارت كبيرة جدا، لقد كشف دخول حزب الله الحرب ومن ورائه ايران حالة الخذلان في باقي الأمة الإسلامية في عالم السنة، ونأي إيران وحلفائها بالنفس عن الحرب سيكشف هذا الخذلان أكثر إن لم تتحرك الأمة بحكوماتها وقواها الحية لنصرة غزة والضفة، لا سيما أن تحولات كبيرة في الداخل الإيراني ستدفع إيران للانشغال بنفسها، فرئيس الجمهورية الجديد ينتمي لتيار يؤمن بالتخفف من التبعات الخارجية والتركيز على بناء الذات وهو تيار قوي يحمله “البزاريون” الذين يسيطرون على جزء معتبر من القطاع الخاص في الاقتصاد الإيراني، ولا غرابة أن يكون هذا التيار قد شارك مع الأمريكان في مفاوضات وقف إطلاق النار، وسيكون ذلك سبيلا مناسبا لإعادة مناقشة الملف النووي بعد عودة ترامب لتجنب التهديدات التي أطلقها بايدن ونتانياهو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار. أما الجناح الإيراني القوي المرتبط بالحرس الثوري والمرشد الأعلى فقد تلقى ضربات موجعة بعد وفاة قاسم سليمان والرئيس السابق، وخصوصا بعد مقتل حسن نصر الله الذي كان يمثل ركيزة أساسية في الرؤية الثورية ضد الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وسيتطلب رجوعه للفعل والتأثير وقتا ثمينا.

إن الزمن إذن هو زمن عالم السنة، ولئن وقع الاستبدال بالإيرانيين وحلفائهم إلى غاية اليوم فإن الاستبدال هذه المرة سيكون من داخل عالم السنة بتيار عام في الأمة يغير كل الموازين لصالح فلسطين ولصالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء.

الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم