توينبي وقصة تفكيك الدولة الوطنية (2)

يفسر توينبي نشوء الحضارات من خلال نظريته المشهورة “التحدي والاستجابة”، حيث اعتبر أن الإنسان والأمم والشعوب تتجاوب مع التحديات الخارجية إما بالانكفاء على الذات والتسلح بالماضي وتقاليد السابقين فتضعف وتنضوي، أو تعترف بحقيقة التحدي وتواجهه للتغلب عليه بالإبداع إلى أن تصبح أقوى منه، فتنشأ الحضارات في أي شعب حين يقبل أفراده التحدي، وتسقط حين تتوقف الاستجابة التلقائية للتحديات المستجدة.

ويؤكد أن الاستجابة للتحدي تكون عبر فئة قليلة إبداعية من داخل المجتمع الذي يواجه التحدي يسميها “الأقلية الخلاّقة” (creative minority)، وهي طبقة قيادية ملهمة تتوصل إلى تقديم الإجابات المناسبة للمشاكل والأزمات التي تعترض بلدانهم ثم تتبعهم الأغلبية عن طريق القدرة على المحاكاة (Faculty of mimesis) التي تمثل السبيل الغالب في عملية الانقياد الاجتماعي، وهو ما يمكن أن نسمية “أثر القدوة في صناعة التيارات الاجتماعية”، و في ذات السياق يوضّح أن التأثير الذي تصنعه “الأقلية الخلّاقة” ليس تأثيرا ماديا، ولكن له طبيعة روحية وفكرية عميقة تصنع قوة داخلية خفية جبارة تدفع للإبداع والتفاعل النشط مع المحيط الخارجي.  

ويرى توينبي أن الحضارة تبقى تنمو وتتوسع ما دام ثمة تواتر في بروز “أقلية خلاقة” من قيادة روحية أو نخب ملهمة في كل مرحلة من مراحل الدورة الحضارية تستجيب للتحديات المتتالية، بغرض إعادة بناء الداخل وفق استجابات حضارية جديدة لا تعتمد على الإكراه والتكرار والتقليد، ولكن على المحاكاة المجتمعية الإيجابية التي تضمن توسع المشاركة في البناء الحضاري.

ويبدأ التراجع الحضاري، عنده، حينما تُفقَد النخب المبدعة، وتغيب الطبقات القيادية الملهمة القادرة على الاستجابة للتحولات والتحديات المستجدة ويطفو على المشهد القيادي أقلية مسيطرة، ضمن ما يسميه استبدال “الأقلية الخلاقة” (Creative Minority) التي كانت تتبعها الأغلبية بقناعة، ب ا”لأقلية المسيطرة” (Dominant Minority) ، التي تتشبث بالسلطة والانتفاع بالمزايا الحضارية السابقة دون إبداع وتعمل على فرض نفسها بالقوة بدل الإلهام، وفرض اتباع الناس لها دون استحقاق. فينتج عن ذلك انسحاب الأغلبية وتوقف ظاهرة “المحاكاة الحيوية” (Mimesis)، وبداية بروز فئة من المنشقين (Schismatics) تحاول البحث عن حلول للتحديات، ومنها تحدي مواجهة النخب الحاكمة المهيمنة، فإن كانت تلك الفئة المعارضة مبدعة ومُجددة تتوصل إلى الاستجابة للتحديات  وتؤول الأمور إليها وينبعث فجر  جديد من قلب تلك الحضارة، وإلا يتجه المجتمع نحو الصراعات، التي تعالجها “الأقلية المسيطرة” بالقوة والعسكرة والانضباط القسري، والشوفينية الجوفاء، والاعتماد على  الدين  كطقوس خالية من أي أثر روحي أصيل، وتحويل الطاقة الدينية إلى مؤسسة تابعة لا أثر لها في الفعل الحضاري، و مختلف المؤسسات إلى قشور مؤسسية فارغة غير منتجة.

يؤكد توينبي بأن الحضارات لا تُقتل (من الخارج) ولكنها تنتحر (من الداخل)، ويبدأ التراجع من المركز وليس الأطراف وذلك بتوقف الإبداع لدى النخب، وانطفاء أنوار القيم المؤسسة للحضارة، وانتشار الظلم والقمع، والصراعات والانشقاقات وتشكُّل مجموعات داخلية (Internal Proletariat ( تابعة، سلبية ومهمّشة، ومُقلدة، وغير مشاركة في الفعل الحضاري، ومجوعات خارجية (External Proletariat) على هامش الحضارة تتسم بالفقر والتخلف والحسد والحقد على القوى المهيمنة الظالمة. وفي مرحلة نهاية الدورة الحضارية تحاول الأقلية المتحكمة فرض نموذج سياسي مركزي (Universal State)، يستعمل فيه القانون والمؤسسات لضبط المجتمع، والشرعية القسرية بدل الإقناع والتأثير وشرعية الإبداع والإنجاز، والحفاظ على الاستقرار الشكلي بهيبة الدولة والهالة المؤسسية لمنع التمرد والانقسام، مستشهدا بأمثلة من الحضارات والدول القديمة في فترات انحطاطها، كالإمبراطورية الرومانية، وأسرة الهان الصينية، والخلافة العباسية في بغداد، والامبراطورية المغولية بعد تشكلها. ويؤكد بأنه حين تفشل الدولة المهيمنة عن بعث المعاني الأخلاقية والإبداعية وعن تقديم أي مشروع إنساني، تظهر ملاذات روحية للجماهير غير رسمية، تملأ الفراغ المعنوي الذي تتركه النخبة المتكلسة والدولة المسيطرة، يبحث الناس من خلالها عن معاني روحية قدرية يتشبثون بها أثناء مرحلة الانهيار وعجز الدولة عن تحقيق المعنى رغم قدرتها على التحكم والسيطرة، ويمكن لهذا الملجأ الروحي الجديد أو المتجدد أن يكون بديلا خلاقا للدولة المسيطرة  إذا اعتمد الإبداع والتجديد القيمي فتكون حاضنة الانبعاث الحضاري، أو يزيد الدولة القائمة تكلسا وجمودا ويساهم أكثر في الأفول ونهاية الروح الحضارية. ويضرب المثل في هذا الشأن بالديانة المسيحية بعد انهيار روما، وبروز الصوفية الإسلامية في أواخر العهد العباسي، والبوذية في حضارات شرق آسيا.   

إن التحديات التي تجذب الجزائر نحو الأسفل كثيرة ومتنوعة، مثلها مثل الدول العربية الأخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودولية، سجلتُها في كتاب لم يصدر بعد عنوانه ” ما بعد الحراك” سأنشر بعض فصوله في الأسابيع المقبلة بحول الله،  يقابل كتاب سابق صدر لي بعنوان “ما قبل الحراك: في التيه الحكومي وعن البدائل المنشودة”.

للأسف الشديد  لم تجد هذه التحديات الكبيرة قيادة خلاّقة (Creative Minority) تبدع في الاستجابة لها. ومع استدامة التحديات وعدم رفعها، منذ عقود من الزمن، صارت مشاكلنا معقدة ومهيكلة، تجاوز إمكان حلها الحدود الطبيعية للإبداع. وبسبب غياب القدوات السياسية، لم ينشأ في الجزائر تيار يميل لمحاكاة القادة محاكاة عاقلة مبنية على الثقة (Faculty of mimesis)، ونشأ في المقابل أقلية مسيطرة على الحكم ((Dominant Minority) متشبثة بالسلطة وامتيازات ومنافع الحكم، تستعمل القوانين واللوائح والمساطر والمؤسسات للسيطرة على الجمهور، ومع تعمق السيطرة نشأت مجموعات شعبية ونخب مجتمعية تدور في فلك الحكم  لجأت إلى دوائر الأمان والاستسلام والتقليد الأعمى لخطاب وتصرفات الحاكم والخضوع والرضا بالعيش في إطار الحد الأدني من ظروف الحياة، وما تتيحه السلطات من هوامش ضيقة في مجال الحريات والحركة الاقتصادية والفعل الاجتماعي ضمن حالة عجز كامل عن المشاركة في أي فعل حضاري (Internal Proletariat (، يقابلها فئات شعبية عريضة وطبقات واسعة من النخب انسحبت  من المشاركة  في قضايا الشأن العام وصناعة المستقبل، انكفأت على نفسها تعبر في الدوائر الضيقة المحلية عن سخطها من ظروفها المعيشية الصعبة وعن أحقادها على النخب الحاكمة ومن يساندها. وكنتيجة حتمية برزت مجموعات معارضة لنظام الحكم (Schismatics) متعددة المشارب والتوجهات، أغلبها يعمل خارج الإطار الرسمي. ولم تجد السلطات الحاكمة من حل لمواجهة هذه الأوضاع سوى فرض نمط الحكم المركزي المتشدد القائم على التحكم والسيطرة.

لا يدري إلى أين سينهي هذا الوضع، هل سيبرز من القوى المعارضة أقلية خلاقة جديدة، تحمل مشاريع إبداعية جادة، تصنع تيارا شعبيا متأثرا برؤية المرجعيات الجديدة فيبزغ فجرها ونقيم دولة قوية من الداخل تقهر كل التهديدات الخارجية، أم أن الأقلية المسيطرة ستواصل جرنا إلى الأسفل في غفلة تامة من الأغلبية التابعة النائمة، فيكون انتحارنا داخليا، ونفكك دولتنا الوطنية بأيدينا، ونسقط بإرادتنا جميعا بين يدي القوى الخارجية.