في تطورات متتالية وسريعة منذ 27 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي حققت المعارضة السورية تقدما عسكريا كبيرا في الشمال الغربي للبلاد يقدر إلى حد الآن بحدود 22 ٪ من الأراضي، سيطرت فيها على محاور استراتيجية ومدن مهمة منها حلب إدلب وحماة وعدة مطارات وكليات عسكرية وثكنات عسكرية وعدد كبير من العتاد العسكري.
بدا هذا التقدم السريع والواسع مفاجئا لكثير من المراقبين، وبات السؤال المتكرر الذي يُطرح هو أين سيصل توسع المعارضة على حساب النظام السوري وما هي آثار ذلك على المنطقة، ويلح المنخرطون والمساندون لطوفان الأقصى والحرب ضد الكيان ما هو مآل ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية.
سنحاول أن نفهم خلفيات هذه التحولات المهمة من خلال تتبع أوضاع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة وأهدافها ومكاسبها وخسائرها. ولكن قبل ذلك لا بد أن نؤكد مسألة مبدئية وهي أن النظام السوري نظام مجرم أوغل في دماء السوريين وهجّر الملايين منهم وسلم البلد للأجانب وأدخل سوريا كلها في مأساة عظيمة، وكان بإمكانه أن يحل الأزمة التي انفجرت في ظروف الثورات الشعبية العربية في 2011 عبر الحوار السياسي والحلول السلمية، لا سيما وأنه دُعي إلى ذلك من قوى المقاومة فرفض واختار القمع والإجرام. وفي كل الأحوال لا يمكن لحاكم فعل في شعبه مثلما فعل بشار الأسد في السوريين أن يستتب له الملك طويلا، ونهايته ستكون مؤكدة سواء في هذه الأحداث أو لاحقا، وأن السكان الذين ظلمهم وهجّرهم من حقهم استرجاع بلداتهم ومنازلهم وإنهاء غربتهم وتشردهم .
إن من أهم أسباب الانتصارات العسكرية التي حققتها المعارضة هو الانهيار السريع للجيش السوري في مواقع الاشتباك ، إذ ما إن تأكد ضباط وجنود هذا الجيش بعدم التدخل القوي لروسيا وإيران و حزب الله لنجدتهم حتى تركوا مواقعهم وعتادهم وفروا إلى الخطوط الأكثر أمنا. وقد أكد هذا الضعف والانهيار بأن النظام كان في طريقه إلى الزوال في وجه الانتفاضات الشعبية السورية، وأن الذين كانوا يديرون المعركة ضد الشعب السوري إنما هو الجيش الروسي والجيش الإيراني ومقاتلو حزب الله، وقد تحولت المعركة في الأرض السورية إلى معركة بالوكالة بين عدة مشاريع : المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، المشروع الروسي، المشروع الإيراني، المشروع التركي. فصار الوضع معقدا بمثابة الفتنة العمياء التي تذر الحليم حيران.
لا نريد أن نتطرق إلى طبيعة هذه الحرب الإقليمية، بل العالمية، بين مختلف المشاريع ولكن نحاول فهم ما يحدث في الوضع الراهن من خلال تطور أوضاع مختلف القوى الإقليمية والدولية، وذلك على النحو التالي:
١ – إيران: ربما يعتبر أهم تطور في المنطقة، كان له أثر على الأحداث القائمة حاليا في سوريا، هو تراجع المشروع الإيراني. ولا يُعزى هذا التراجع فورا إلى الحرب مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله، فقد ببيت الضربات الصاروخية المكثفة التي وجهتها إيران لدولة الكيان بأن لها القدرة على الفعل، ولو رغبت في توجيه ضربات صاروخية للمعارضة السورية أثناء تقدمها لفعلت. ولكن ثمة تطورات أعمق تسكن في الداخل الإيراني، حيث أن طول الحصار المضروب على هذا البلد، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، دفعت الى صعود التوجه الذي يريد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية ليصبح هذا البلد بلدا عاديا يهتم بشؤونه الداخلية وحل أزماته الاقتصادية من خلال إنهاء الحصار والتصالح مع المحيط الخارجي، ويساند هذا التيار الإصلاحيون المعروفون في الشأن السياسي، و”البزاريون” وهم معروفون في الشأن الاقتصادي كطبقة قوية من رجال الأعمال الذين ساندوا الثورة في عهد الخميني ثم باتوا الآن يبحثون عن بيئة أعمال أفضل، وقد تُوّج هذا الصعود في الانتخابات الرئاسية السابقة على حساب المحافظين القريبين من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
تعود هذه الخلافات إلى سنوات عديدة سابقة، وتعتبر فترة الرئيس محمد خاتمي محطة مهمة في بروز هذه الصراعات، وقد اطلع الرأي العام على رسالة صارمة وجهها نفر من قادة الحرس الثور، منهم قاسم سليماني، إلى خاتمي يحذرونه فيها من تساهله مع مظاهرات الطلاب في يوليو / جويلية 1999، وبقي الخلاف يتصاعد إلى أن بلغ أشده في الفترة الأخيرة.
عندما تهيكل الخلاف وأخذ طابعا أمنيا توجه الحرس الثوري، خصوصا في عهد قاسم سليماني، إلى فصل قوى المقاومة عن التحولات السياسية داخل إيران، وبدأ يجهز ويدرب القوى الشيعية في مختلف البلدان، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن، لكي تحافظ على قدراتها العملياتية مهما كانت الظروف في الداخل الإيراني. غير أن الخلاف بلغ أشده في السنوات الأخيرة ووصل الى حد بات الاتهام يتداول داخل الشبكات المساندة لمحور المقاومة بأن مقتل قاسم السليماني والرئيس الإيراني السابق ومن كان معه في الطائرة التي سقطت، وكذا إسماعيل هنية ونصر الله كان بتخابر داخلي من قوى تريد إخراج إيران من الصراع، خصوصا الوضع الذي وجدت نفسها فيه بعد طوفان الأقصى دون أن تخطط الدولة الإيرانية لذلك.
لا يتوقع أن تكون المواجهة بين التيارين سهلة، فالتيار الاصلاحي ومن على شاكلته يستفيد من التطورات الإقليمية والدولية، وعلى قوته الاقتصادية، والتمركز المؤسسي ويستند على أغلبية شعبية لا تحكمها الأيديولوجية الصلبة، والتيار المحافظ يملك قوة عسكرية جبارة، وتتجه الشرعية الدينية لصالحه، وله قوة اقتصادية وكتلة مالية كبيرة، ولأنصاره جلد وصبر كبيرين، وهو يستطيع أن يحدث انقلاباً بالقوة لو لا التطورات العميقة في المحيط.
أما عن حزب الله فهو غير قادر على العودة الى المغامرة التي تورط فيها سابقا، من جهة أنه في وضع صعب بالنظر للخسائر التي تلقاها في مواجهته مع الكيان، ومن جهة أن المشروع كله في تراجع كبير والحلفاء الذين احتاجوا اليه سابقا غير راغبين في النجدة العسكرية لبشار الأسد إلى حد الآن، ومن جهة أنه ربما لا يرغب في افساد صورته مرة أخرى بعد أن رمم الكثير منها في انخراطه في طوفان الأقصى نصرة لأهل غزة، ومن جهة أن الأمر لم يصبح مجديا أمام الانهيارات الكبيرة للجيش السوري وهو يرى أن تدخلاته السابقة ذهب مفعولها هباء منثورا.
ضمن هذه التطورات الداخلية، لم يتم نجدة بشار الأسد من قبل ايران بشكل مباشر وقوي، ليس لأن إيران ليس لها القدرة، ولكن لأن القرار السياسي غير موجود، أو ربما غير متفق عليه، بسبب الكلفة الكبيرة المتوقعة، لا سيما أن التدخل الإيراني هذه المرة قد يجلب المواجهة المباشرة مع قوة إقليمية لها مصالح حيوية هي تركيا، والموقف الروسي غير واضح لحد الساعة، فالأفضل لإيران البحث عن حلول دبلوماسية من خلال مسار أستانا مع روسيا وتركيا.
٢ – روسيا
… يتبع ..
أرشيف التصنيف: سياسة
كيف نفهم وقف إطلاق النار في لبنان؟
حاول الاحتلال الصهيوني وقادة الولايات الأمريكية المتحدة وطوابير العمالة إظهار اتفاق وقف إطلاق النار بأنه هزيمة للمقاومة وأن طوفان الأقصى كله آيل للانكسار، وقد أثر خطاب هذه القوى الظالمة في معنويات كثير من مناصري الحق الفلسطيني وداعمي المقاومة، كما جاء هذا التحول على هوى المتخاذلين والمخذلين الذين يريدون الرجوع إلى دوائرهم الآمنة فلا تنغص عليهم الحالة الفلسطينية الملتهبة وصور المآسي السكانية في غزة حياة الدعة والهدوء المألوفة.
من يعتقد بأن المعركة قد انتهت فهو واهم، سيبقى طوفان الأقصى يظهر عجائبه، وما هذه الهدنة إلا وجه من وجوه هذه الظاهرة العجيبة، ولعل أعظم درس نستشفه من المواجهة المسلحة بين جيش الكيان وحزب الله، أننا أمام صورة جديدة واضحة بيّنة لحقيقة الجيش الإسرائيلي، وما يمكن أن يحدث له حينما يحكم البلاد العربية والإسلامية حكام سادة أشاوس يمثلون حقيقةً شعوبهم، فهذا الجيش الإسرائيلي الذي هزم البارحة ستة جيوش عربية واحتل كامل فلسطين وسيناء والجولان في ستة أيام لم يستطع بعد سنة كاملة أن يحتل أكثر من كيلومترين من جنوب لبنان، ورغم الضربات المباغتة التي وجهها لحزب الله فقضى بها على طبقة قيادية كاملة من وحدة الرضوان والمجلس الجهادي وعلى رأسها الأمين العام، والرجل التاريخيّ الرمز حسن نصر الله، ظلت البلدات المحتلة التي يسكنها الاسرائيليون تتلقى القصف الصاروخيّ، ألحق ببعضها أضرارا جسيمة، كبلدة المطلة وكريات شمونة والمنارة، بل إن تل أبيب نفسها لم تأمن، وحين تتحدث وسائل الإعلام بأن الهرع إلى الملاجئ يصل إلى أربعة ملايين فهذا يبين حجم مأساة الإسرائيليين لمدة أكثر من سنة.
إن الاسرائيليين فهموا بأنهم تورطوا في الحرب في لبنان، وأنها ستكون حرب استنزاف مدمرة لهم ولمستقبلهم، وأنه لا يمكن أبدا تحقيق أهداف الحرب المعلنة المتعلقة بنزع سلاح حزب الله وكسر خط المقاومة في لبنان، فقبلوا وقف إطلاق النار واعتمدوا على الولايات الأمريكية المتحدة لتحقق لهم مكاسب شكلية تحفظ لهم ماء الوجه، كمسألة خروج حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وعدم السماح لحزب الله بالتسلح وصناعة السلاح.
فحزب الله رغم الخذلان الكبير الذي تعرض له من قبل الطابور الخامس اللبناني وضغط الحواضن الاجتماعية التي لا تناصره، والأوضاع الصعبة لحاضنته التي شردت في اللجوء، بقي جزء أساسيا من منظومة الدولة، وهو جزء من الجيش الذي سينتشر في لبنان، واللاجئون الذين سيعودون إلى مساكنهم في الحدود مع فلسطين كثير منهم هم منه وله، علاوة على أنه حظي بتأييد كبير رسمي وشعبي من القوى السنية التي قاتل بعضها معه، فهو قد خرج بمكانة معتبرة وسيجد الطرق المناسبة لإعادة بناء ما خسره في الحرب.
غير أنه لا يمكن أن نقول بأن حزب الله خرج منتصرا مظفرا في هذه الحرب، إذ الهدف الأساسي الذي اندفع من أجله للمواجهة قد توقف، وهو مناصرة غزة ووحدة الساحات. لا شك أنه أعطانا صورة واضحة لضعف الجيش الاسرائيلي ومنهجا متكاملا في كيفية هزيمته وإنهاء وجود الاحتلال من الأراضي الفلسطينية في مستقبل غير بعيد ولكن الضربات القاسية التي تلقاها والضغوطات الخارجية ومخاطر الانفلات الداخلي ضده ألجأه إلى قبول وقف القتال في لبنان دون أن يتوقف في غزة. وهو في كل الأحوال مشكور مبرور على النصرة التي منحها، والتضحيات الجسيمة التي قدمها مختارا بتلقاء نفسه دون أن يستشار في إطلاق طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية.
وإذا ما سألنا عن مصير غزة وهي تواجه مصيرها وحدها فإن أول ما نقوله أن لها الله العزيز الجبار المتكبر، ولسان حال مجاهديها وسكانها هو قول الله تعالى في سورة آل عمران: (( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)))، ثم إن الطريقة التي دخل بها حزب الله الحرب شغلت الاسرائيليين ولكنها لم تكن حاسمة في وقف العدوان على غزة، إذ أن حسابات حزب الله واستراتيجياته وتكتيكاته الحربية في البداية لم تكن على النحو الذي آلت إليه في الأخير إلى درجة أنه فرض وقف الحرب على لبنان، فلو دخل بكل قوته منذ البداية كانت الأمور تكون مختلفة ومؤثرة في مسار الحرب على غزة. وعليه فإنّ سُكونَ جبهة لبنان لن يؤثر دراماتيكيا على الأوضاع في جبهة فلسطين في غزة والضفة، ولا توجد جريمة لم يقترفها الصهاينة لتحقيق أهدافهم ضد حماس وحاضنته، فعلوا من الجرائم ما لا تتحمله الجبال، فما حرروا الأسرى ولا أنهوا المقاومة، ولا فرضوا قوة عميلة تسير القطاع، فماذا عساهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوا، فالمسألة مسألة ثبات ورباطة جأش ومواصلة استنزاف العدو ولو بوتيرة أقل مما كانت عليه، بما يجعل بقاء جيش الكيان في غزة مكلفا يوما بعد يوم.
والأهم من تفسيرات الخنوع والخذلان الذي يسارع إليه ضعاف النفوس في أمتنا، وبدل حالة الإحباط والبقاء في مشاعر الإشفاق تجاه أهلنا في غزة فإن الواجب أن تهب الأمة قاطبة لنصرة غزة وتغطية الفراغ الذي سيتركه حزب الله، وهذا الحديث يتجه أكثر إلى الذين أغرقونا في خطاب الطائفية ضد حزب الله، ها هو الحزب قد توارى عن معمعة الحرب فأرونا بطولاتكم وخذوا خشبة سباق التتابع (على نحو ما قاله القائد أسامة لأحدهم)!
أما تهديدات بايدن فهي من جنس جرائمه السابقة في حلفه مع الكيان في عدوانهما على أهلنا في فلسطين، أما قوله وقول وزير خارجيته وعدد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض بأن وقف الحرب في لبنان هو للتفرغ لحماس فهو شرف لحماس وتأكيد للعالمين بأن معركة الشرف إنما هي في فلسطين وأن أشراف الأمة هم أبطال المقاومة الفلسطينية قبل غيرهم. وفوق ذلك سيسعى بايدن ذاته بدعم من خليفته ترامب لإبرام صفقة أخرى مع حماس قبل رحيله، وما حديثه بأن لدى حماس خيار واحد هو تسليم الرهائن إلا هراء لا طائل منه، وقد أعطته المقاومة الجواب فورا بأنهم ثابتون على مطالبهم لوقف القتال، وأيم الله قد صدقوا! هل يمكن أن ترفع الراية البيضاء بعد كل تلك التضحيات الجسام في وجه جيش بدأ ضعفه بينا في لبنان وفلسطين. فإن تم الاتفاق على وقف القتال في غزة قبل مغادرة بايدن بما يحقق مطالب الفلسطينيين فهو ذاك ولله الحمد، فإذا لم يتم ذلك فإن مجيء ترامب قد يكون أضمن لنهاية العدوان، ذلك أن الديمقراطيين محكومون بالمؤسسية والتأثير العميق باللوبيات، والمؤسسية لها قدرة على الصبر والمثابرة، أما ترامب قد يظهر منه عنف أشد في البداية ولكن إذا رأى الثبات والصمود لدى الفلسطينيين فإن ذهنيته التجارية ستدفعه للتفاوض من أجل وقف القتال ليفي بوعده الانتخابي وليوقف نزيف الخسائر المادية لبلده دعما لإسرائيل، وليتفرغ لأشياء أخرى تهمه أكثر على الجبهة الصينية، والحرب في أركرانيا. أما إن قامت القوى الحية في الأمة بواجبها لتحريك الشعوب في كل البلدان في الساحات وبمحاصرة السفارات الأمريكية على سبيل المثال، وربما تسرب أعداد من المقاتلين الشباب إلى ساحات المعركة ضد الكيان وبروز أمارات على تحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة فإن دفع الرئيس الأمريكي المقبل لوقف التوتر سيكون مؤكدا.
إن مسؤولية الأمة بعد توقف الحرب في لبنان صارت كبيرة جدا، لقد كشف دخول حزب الله الحرب ومن ورائه ايران حالة الخذلان في باقي الأمة الإسلامية في عالم السنة، ونأي إيران وحلفائها بالنفس عن الحرب سيكشف هذا الخذلان أكثر إن لم تتحرك الأمة بحكوماتها وقواها الحية لنصرة غزة والضفة، لا سيما أن تحولات كبيرة في الداخل الإيراني ستدفع إيران للانشغال بنفسها، فرئيس الجمهورية الجديد ينتمي لتيار يؤمن بالتخفف من التبعات الخارجية والتركيز على بناء الذات وهو تيار قوي يحمله “البزاريون” الذين يسيطرون على جزء معتبر من القطاع الخاص في الاقتصاد الإيراني، ولا غرابة أن يكون هذا التيار قد شارك مع الأمريكان في مفاوضات وقف إطلاق النار، وسيكون ذلك سبيلا مناسبا لإعادة مناقشة الملف النووي بعد عودة ترامب لتجنب التهديدات التي أطلقها بايدن ونتانياهو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار. أما الجناح الإيراني القوي المرتبط بالحرس الثوري والمرشد الأعلى فقد تلقى ضربات موجعة بعد وفاة قاسم سليمان والرئيس السابق، وخصوصا بعد مقتل حسن نصر الله الذي كان يمثل ركيزة أساسية في الرؤية الثورية ضد الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وسيتطلب رجوعه للفعل والتأثير وقتا ثمينا.
إن الزمن إذن هو زمن عالم السنة، ولئن وقع الاستبدال بالإيرانيين وحلفائهم إلى غاية اليوم فإن الاستبدال هذه المرة سيكون من داخل عالم السنة بتيار عام في الأمة يغير كل الموازين لصالح فلسطين ولصالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء.
ما الذي سيتغير مع عودة ترامب؟
إن اختيار الأمريكيين بين كاميالا هاريس ودونالد ترامب هو خيار بين مقاربتين مختلفين في إدارة الشأن العام الداخلي وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية، مع اجتماعهما في الثوابت الأمريكية في المجالات الاقتصادية والثقافية الحضارية وفي الفلسفة الحاكمة للمنظومة الاقتصادية الرأسمالية، ونفوذ اللوبيات الكبرى وعلى رأسها اللوبي الصهيوني.
فكاميلا هاريس هي فرد في منظومة مؤسسية قوية، لم تختر نفسها ولكن اختارتها المؤسسية الراسخة، التي تصرفت في سلوكها وأفكارها وخطابها وقرارتها بعد ترشيحها، وهي المؤسسية التي تحكمها الفلسفة الحضارية الأمريكية الغربية الرأسمالية المهيمنة، بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين لم يكن بينهما فروق جوهرية قبل ترامب.
أما دونالد ترامب فقد جاء كنتيجة لمرض هذه المؤسسية الرأسمالية ضمن صعود موجة اليمين المتطرف في الدول الرأسمالية في أوربا وأمريكا.
كان اليسار سابقا هو المعبر عن الآثار الاجتماعية السلبية للتوجهات الرأسمالية الليبيرالية والنيوليبيرالية، ولكن الجزء الأكبر من اليسار اتجه إلى الوسط منذ منتصف ونهاية التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واقترب من اليمين بفعل إكراهات السياسة وتحكم اللوبيات المالية وأرباب الشركات العابرة للقارات في قادته الجدد الذين لم يكن لهم رصيد ثوري ونضالي في اليسار التقليدي، وكان توني بلير أبرز قائد يساري دفع إلى تغيير أيديولوجية هذا التيار، ولم تبق إلا أقليات في أقصى اليسار تكافح ضد عقيدة السوق واستغلال الشعوب، تحافظ على توجهاتها التحررية في الجانب الشخصي والعائلي ولكن تكافح كذلك لصالح حركات التحرر من الاحتلال، وقد وجدت في العدوان الاسرائيلي على غزة فضاء واسعا عبرت فيه بقوة مدهشة عن وقوفها مع القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية فجلبت إليها أصوات العرب والمسلمين رغم الخلافات الأيديولوجية والسلوكية الكبيرة، وقد برز ذلك بشكل أكثر في فرنسا مع حزب فرنسا الأبية.
حينما اكتملت سيطرت اللوبيات المالية على الساحة الحزبية في أوربا وأمريكا، وترك اليسار أيديولوجيته العمالية الاجتماعية، أفرزت الرأسمالية المتوحشة تيار اليمين المتطرف الذي لجأت إليه الفئات الشعبية المحبطة من تدهور ظروف المعيشة، غير أن هذا التيار اليميني الصاعد لم يشكك في التوجهات الرأسمالية، ولم يتعب نفسه في البحث عن بدائل تعالج ديكتاتورية المتحكمين في الثروة وإنما حملوا اللاجئين المسؤولية واتهموهم بسرقة مناصب الشغل من السكان، وتهديد ثقافة البلدان التي أقاموا فيها، وأنهم البيئة التي ينشأ فيها الإرهاب.
حاولت كاميلا هاريس مواجهة خطاب ترامب الذي ركز على طرد المهاجرين غير الشرعيين، باستمالة الأقليات بوعود انتخابية تشبه خطاب اليسار الأوروبي فاقد المصداقية، كمسألة الرعاية الصحية والتحفيزات في مجال السكن، وتعزيز الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى من خلال تخفيف التكاليف الضريبية عن الطبقة الوسطى والدنيا وزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى إلى 28% وفق ما ورد في تقرير وكالة بلومبيرغ. غير أن الناخبين في الطبقات المستهدفة لم يصدقوها، كما لم يصبحوا يصدقون يسار أوربا، وعدُّوها خادمة للوبيات المالية وأن وضعهم ازداد سوء في فترة حكم الديمقراطيين.
لن يستطيع ترامب هو الآخر إصلاح الوضع الاقتصادي في أمريكا أثناء عهدته، سيكتفي بالخطاب الشعبوي والإجراءات التسكينية، وتحميل المهاجرين المسؤولية، وابتزاز الأمم الغنية الضعيفة لأخذ خيراتها وأموالها مقابل المال، وسيطلق العِنان لنفسه في مسألة الاستغلال المفرط للطاقة الأحفورية التقليدية وغير التقليدية دون مراعاة المخاطر البيئية واضطراب الأسعار في السوق الدولية، فهو ذاته صورة من صور الأزمة الاقتصادية العالمية.
لن يستطيع حل مشكل الاقتصاد الأمريكي لأن المنظومة الرأسمالية نفسها في أزمة مستدامة، يقول عنها العديد من علماء الاقتصاد والاجتماع الغربيين، منهم عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين، بأنها نهاية منظومة وليست أزمة اعتيادية للمنظومة، وحتى الفلسفة الليبيرالية التي وراء النظام الرأسمالي انتقلت من فلسفة حرية في المجالات الاقتصادية والسياسية وغيرها إلى نمط تفكير لاهوتي، السوق هو بمثابة الإله القوي، وله أنبياء وتوصيات لا يمكن تخطيها، على حد استطلاع رأي العديد من الباحثين في مختلف التخصصات قام به الكاتب الفرنسي ستيفان فوكار، وعبارة إله السوق وعبادة الاستهلاك والشهوات صارت دارجة عند كثير من الفلاسفة في العالم، وما ترامب إلا واحد من أنبياء المنظومة، فهو ذاته ملاحق في قضايا أخلاقية كثيرة كانت ستدخله السجن، ربما، لو لا نجاحه في الانتخابات، كما أنه سياسي تاجر يسوس الشأن العام بالصفقات والابتزاز والاحتيال، وليس له من مبادئ سوى الربح وتعظيم الفائدة.
إن المرجح أن تكون ولاية ترامب الثانية ذات أثر كبير على الوضع الداخلي في أمريكا من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو يملك الأغلبية في المجلسين ولن تكون له، على الأقل في مدى عامين، كوابح تمنعه من تنفيذ مخططاته.
إن مخططات ترامب تستجيب في الأساس لتيار شعبي عام تشكل على يمين الحزب الجمهوري يعتبر أصحابه أنهم يمثلون أمريكا الحقيقية، البيضاء ذات الجذور الأوربية البروتستانتيّة، على نحو الوصف الذي ذكره صامويل هنتنتن في كتابه “من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية” الذي صدر عام 2005، وقد تصاعد هذا التيار كرد فعل للتيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي والذي مثل صعود باراك أوباما الصورة الأبرز له.
لم يتماسك التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي بعد أن خفت الحلم الأمريكي الذي “يدمج كل الأعراق والديانات والشرائح” منذ أن اتضح بأن باراك أوباما ذاته هو ( أو صار ) جزء من المؤسسة الأمريكية التقليدية التي تحسن استغلال التنوع لاستمرار بقائها فحسب، كما تعمق التشتت حينما اعتقد الديمقراطيون بأن المؤسسية وما تملكه من أدوات جبارة تعفيهم من الحاجة إلى قائد كارزمي جامع و مقتدر يحافظ على الحلم ويعطي الأمان للجميع والهيبة أمام الآخرين، فكان اختيارهم لجو بايدن مدمرا لهم ثم كان استخلافه بكمالا هاريس أكثر إحباطًا، غير أن ثمة سببين رئيسين آخرين وراء خيبة أمل التقدميين في الحزب وهما الأوضاع المعيشية وجرائم قادة الحزب في غزة، والفوضى الحاصلة في العالم، وتلك هي المعطيات التي استغلها ترامب كما أشرنا إليه سابقا.
ولئن تزعزع تماسك التيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي فإن التيار اليميني الشعبوي الذي تشكل على يمين الجمهوريين [والذي كان بروزه الأول مع حركة “حزب شاي” الذي تأسس عام 2008 ] قد وجد شخصا قويا استطاع أن يجمعه ويحوله إلى ظاهرة فرضت نفسها من خارج المؤسسية الأمريكية وهو دونالد ترامب أو ما يسمى بالظاهرة الترامبية.
ثمة تفاعلات كثيرة غير واضحة العواقب ستحدث في الداخل الأمريكي في العهدة الثانية لترامب تتداخل فيها طموحات البيض اليمينيين للسيطرة على المؤسسات والقرار في كل المستويات، وطموحات الملونين السود واللاتينيين الذين تتصاعد جرأتهم أكثر فأكثر و الذين سيصبح عددهم الإجمالي قريبا اكثر من عدد البيض، وتفاعلات القضية الفلسطينية وتصاعد فاعلية العرب والمسلمين والأمريكيين الآخرين المتعاطفين معها، والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والمشاكل المعيشية التي لا يظهر لها أفق للحل ضمن هيمنة الرأسمالية المتوحشة التي ستطغى أكثر، والاختلافات القيمية والثقافية التي تتعمق بشكل أبين، والتطورات الدولية التي ستفرض نفسها على أمريكا وتقلص من أثرها وهيمنتها في العالم.
أما عن التطورات الدولية فإن صعود ترامب يجسد موجة متصاعدة في العالم يسميها الفلاسفة ومفكرو العلوم السياسية ” الأوليغارشية – الديمقراطية” وهي الديمقراطيات المرتكزة على حزب أو شخصية قوية مهيمنة تصعد إلى الحكم بالانتخابات الديمقراطية ولكن تكون متحكمة في القرار دون إشراك فعلي للمواطنين وممثليهم في ذلك، ويعدّون أنظمة القوى الصاعدة من هذا النوع في روسيا والصين والهند وتركيا وإيران على سبيل المثال.
يتحدث المؤرخ والعالم الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود عن تحلل الديمقراطية الأميركية، و”نهاية نظام الاستحقاق والانتقال إلى نوع من الأوليغارشية المغلقة التي سدت آفاق الحراك الاجتماعي والارتقاء المهني”، وكما تنبأ هذا الفيلسوف بنهاية الاتحاد السوفياتي فقد تنبأ مجددا بقرب أفول أمريكا، التي لم يعد فيها، حسبه، فرق بين التسلطية النخبوية الليبيرالية والاستبداد الروسي، وأن ذلك التسلط المتصاعد، لدى الجمهوريين والديمقراطيين، هو الذي سيعمق الأزمات الاقتصادية والفروق الاجتماعية والثقافية مستقبلا في الولايات الأمريكية المتحدة بما يسرع أفولها، وما الجديد الذي يمثله ترامب في هذا الشأن إلا أنه يُظهر حقيقة هذه الأوليغارشية الانتخابية الأمريكية التي يحاول الديمقراطيون إخفاءها.
إن أكبر المتضررين من رجوع ترامب هي دول الاتحاد الأوربي، وبالذات الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار ، الذين يرون في ذلك تشجيعا لأحزاب اليمين المتطرف، كما أنه سيتَكشّف لهم بفزع كبير الآن حجم الورطة التي أدخلهم فيها الديمقراطيون الأمريكانيون بشأن الحرب في أوكرانيا. يمثل ترامب توجها مختلفا عن الديمقراطيين في السياسة الخارجية، فهو لا يؤمن بالتحالفات الدولية المستقرة وهو ينتمي إلى حد ما إلى ” النزعة الانعزالية” الأمريكية والتي يمثلها في خطابه شعار “أمريكا أولا”. وبالرغم من أن له شركاء في البنتاغون والكونغرس من لا يرون ذلك سيعمل على جعل علاقة أمريكا بالأوروبيين على أساس المساهمات المالية في الحلف الأطلسي وتقليص ميزانية الدعم الأمريكي بالسلاح لأوكرانيا، وعدم التدخل المباشر في الحروب، وعدم الالتزام بالدفاع المبدئي عن الحلفاء .
لقد مثل انسحاب امريكا من أفغانستان في عهد بايدن دون تنسيق مع الأوربيين مخاوف كثيرة لدى هؤلاء فقرروا الاعتماد على أنفسهم بوضع سياسة دفاع أوربي مشترك في لقاء بين مؤسساتهم العسكرية في الأسبوع الموالي للانسحاب، ولكن أمريكا أفهمتهم بأن خلفية الانسحاب هو تمتين تحالفات المعسكر الغربي، في مواجهة الصين وروسيا. ولقطع الطريق عليهم ورطتهم في الحرب مع روسيا ( ضد مصالحهم) ليبقوا تحت المظلة الدفاعية الأمريكية.
أما ترامب فإنه سيمثل تهديدا أكبر لهم بسياسته الانعزالية المحمية جغرافيا والتي لا تخضع للتحالفات الإستراتيجية بعيدة المدى كما هو شأن المؤسسية الأمريكية. تحالفاته غير متوقعة التحولات وتقوم في جوهرها على الصفقات الموضعية، غير أن الورطة في أوكرانيا كبيرة وقد يبدأ الأوربيون بتغيير مقارباتهم في العلاقة مع روسيا وربما في العلاقة بينهم على مستوى الاتحاد الأوربي.
أما عن الدول الصاعدة دوليا وإقليميا فإنها ستكون بالمجمل سعيدة برجوع ترامب، وذلك بسبب سياسته الانعزالية التي لا تكترث بالأوضاع الداخلية للدول، ولا يهمها الحديث عن الديمقراطية ووضع الأقليات، ولو نفاقا كما هو حال الديموقراطيين، وعليه سيكون الحوار مع ترامب أسهل للبحث عن مصالح مشتركة قريبة الأمد.
ستكون روسيا هي الأكثر سرورا بسبب المشاكل التي سيسببها ترامب في علاقته بالناتو ، واحتمال إنهاء الحرب في أوكرانيا بما يكون أكثر كسبا لبوتين. وبعد بوتين سينظر أردوغان إلى عودة ترامب بالنظر للعلاقة السيئة بينه وبين الديمقراطيين، ولسهولة تواصله معه وعقد صفقات لصالح الطرفين، خصوصا إذا استطاع أن يبعده عن دعم الأكراد كما كان الحال مع المؤسسية الأمريكية في عهد بايدن.
أما بالنسبة لإيران فإن الأمر ملتبس، يصعب لمن يعتمد على المعلوم عن العقلية الترامبية أن يصدق بأن أمريكا ستتورط في الحرب مع إيران كما يأمل نتنياهو، ولكن إن لم يستطع ترامب كبح جماح المجرم نتنياهو ووقف الحرب فإن الاحتمالات تصبح واردة بحسب تطورات الأزمة، وقد تكون عهدة ترامب الثانية هي سبب ميلاد القنبلة النووية الإيرانية، بسبب إمكانية تعثر المفاوضات .
أما الدولة التي ستعتبر أن صعود ترامب يمثل تهديدا لها فهي الصين، من جهة أنه ثمة اجماع عند الخبراء والاستراتيجيين وأصحاب القرار في أمريكا أن الصين هي الخطر الأول والأكبر على الهيمنة الأمريكية، في مجال التجارة والتطور التكنولوجي حاليا وفي مجال الجيوستراتيجي والعسكري لاحقا، ولذلك كل الإجراءات الكبرى التي اتخذت في امريكا هو باتفاق الديمقراطيين والجمهوريين، مثل ” قانون الصين” لتمويل الأبحاث العلمية، واتفاقية أوكوس مع المملكة المتحدة البريطانية وأستراليا، واتفاقيات الدفاع المشترك مع اليابان وكوريا الجنوبية وغير ذلك. ومن جهة أخرى هناك البعد التجاري لشخصية ترامب التي جعلته يشتبك في هذا المجال عدة مرات مع الصينيين في عهدته السابقة، غير أن الصينيين يمكنهم الاطمئنان بعدم تفضيل الساكن الجديد للبيت الأبيض لخيار الحرب بخصوص قضية تايوان، وعليه سيلعب القرب الجغرافي لصالح الصين في هذه القضية، والقادة الصينيون لهم القدرة على المناورة في القضايا التجارية .
أما بخصوص الدول العربية، فإن الأكثر ابتهاجا بصعود الترامب هي المملكة العربية السعودية التي وجدت صعوبات كبيرة في ضبط العلاقة مع الديمقراطيين الى درجة أنها اتجهت شرقا تجاه روسيا والصين وكادت تقيم ثكنة عسكرية صينية على أرضها، وهي لا تخشى الرئيس الأمريكي الجديد لأنها ستكون مستعدة لتدفع له، ولن يكون عندها مشكل للانضمام إلى قطار التطبيع بحسب مآلات طوفان الأقصى، وستجد الإمارات فرصة لها بعودة ترامب لقيادة المنطقة نحو اتفاقيات أبراهام، وهو لن يحاسبها على علاقاتها المتميزة مع بوتين واعتماد هذا الأخير على الإمارات في الاستيراد واعادة تصدير البضائع الروسية، للتحايل على الحصار الغربي الأمريكي. أما باقي الدول العربية والإسلامية فستبقى تحت السقف الأمريكي كائنا من كان الذي يحكمها.
غير أنه بإمكان الدول العربية والإسلامية، لو تعي وترشد، أن تعرف أن العالم سيتجه إلى شكل من التعددية القطبية التي ستزداد فرصها مع الوضع الجديد في أمريكا، وأن تلك مصلحتها وفرصتها، ولكن دون ذلك رؤية وخطط وعزائم ووحدة على تحقيق المصالح المشتركة غير متوفرة للأسف الشديد.
وعن القضية الفلسطينية سيحاول ترامب أن يضغط على الجميع لإنهاء الحرب ومنع توسعها. وسيكون الأكثر صبرا وقدرة على الصمود، بين الفلسطينين والإسرائيليين، هو الأكثر استفادة من الواقع الجديد، وبلا شك لن يكون الحكام العرب داعمين للفلسطينيين في هذا الشأن.
وبما أنه لا يمكن أن يطلب من أهل غزة والضفة الغربية أن يقدموا أكثر مما قدموه ولا يمكن أن تتحمل ايران وحلفاؤها في محور المقاومة العبء كله نيابة عن الأمة لدعم فلسطين ولبنان، فإن الأسلوب الذي سيفهمه ترامب ويتفاعل معه بشكل إيجابي لصالح القضية الفلسطينية هو أن يتحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة، وتنخرط كل القوى الحية في المعركة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ومعهم الأحرار في كل القارات للضغط على الحكام المتخاذلين، خصوصا في دول الطوق، ولتعبئة الجماهير في كل مكان ضد الصهيونية وحلفائها، حتى يَفهم ترامب وغيره بأن الكيان الصهيونى صار عبئا على العالم يجب التخلص منه.
الحرب في لبنان: الفهم والواجب
كلما تطورت أحداث الحرب التي أشعلها طوفان الأقصى يتعمق الاختلاف بين فئتين في الأمة، فئة تعد الطوفان حالة سننية ربانية انطلقت لكي لا تتوقف حتى التحرير، كما هي الثورات التحريرية في الشعوب، يطلقها وطنيون صادقون مع أوطانهم، متوكلين على الله، قرروا إما النصر أو الشهادة، وفي أغلب الأحيان هي مجموعة قليلة شرفها الله بالسبق، لم تستشر أحدا للقيام بالواجب، على نحو ما قام به مجموعة الاثنين والعشرين في الثورة التحريرية الجزائرية، وبعد صعوبات جمة يلحق بهم قادة آخرون والجموع. وفئة يهوّلها الرد العنيف للاحتلال ويخيفها جنون قادة العدو وتكسر أهوالُ الخسائر إرادتَها، تصرف أهوالُ الميدان عقول هؤلاء عن القراءة السننية والتمعن في تاريخ البشرية، فلا ينتبهون بأن التضحيات هي طريق النصر، وأن هيجان العدو دليل بأنه شعر باقتراب النهاية.
إن أسباب تهور نتنياهو ثلاثة: أقلها أهمية ما يقوله الكثيرون بأنه لو تتوقف الحرب يدخل السجن، وثانيها أنه يزج بجيشه وكل كيانه في حرب مدمرة من أجل إنقاذ مجده إذ كان يعد نفسه في نفس مرتبة “بن قوريون” و لا يوجد في من جاؤوا، من قادة الكيان، بعد التأسيس اللعين من هو في مقامه، وثالث الأسباب أهمها، وهو أنه أدرك بأن المعركة نهائية صفرية، إما تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية أبدا، والسيطرة على المنطقة كلها، أو بزوال دولة الكيان، وزوال كل الأنظمة العميلة والاستبدادية في المنطقة .
وهكذا يجب أن نفهم الحرب القائمة، إن طوفان الأقصى الذي فجره أبطال غزة معركة مقدسة نبيلة اندلعت على عين الله سبحانه، لتشمل الأمة كلها. ولئن كان الفضل قد سبق إليه حزب الله وجماعة الحوثي وكل محور المقاومة فإن الأمة كلها ستنخرط في المعركة لتكون حربا شاملة غير متناظرة تنخرط فيها الأمة كلها بكل مذاهبها وطوائفها، إذ سيفهم الجميع بأنها معركة مصير، ليس لفلسطين وحدها بل لكل المسلمين، إما هوان الأمة الأبدي وإما العودة الحضارية الشاملة، ووالله الذي لا إله إلا هو لن يكون إلا هذا الأخير ، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر..
ليس هذا الحديث حديثا عاطفيا، بل هو عين العقل لمن يتأمل في عمق التطورات ويرفع بصره عاليا لينظر إلى الأفق البعيد. إنه ليس شرا ألّا تدخل إيران الحرب كدولة الآن، بل في ذلك الخير، ومن يتكلف في إظهار غضبه على إيران لأنها لم تدخل الحرب، أو يزعم أنها تخلت عن حزب الله فهو يتحدث بنفَسٍ طائفي انتقامي، متوقف في اللحظة التي أجرمت فيها إيران والميليشيات المحسوبة عليها إجراما عظيما في سوريا والعراق، إجراما وجب إدانته بلا مواربة، أو أنه لم يوفق للنظر في المآلات في ما ينفع فلسطين والأمة، وكم من أمم تقاتلت ثم تحالفت ضد عدو يهدد مصير الجميع. كما أن من يستعجل حزب الله للدفع بكل مقدراته في بداية المعركة لم ينتبه إلى ما يريده الصهاينة والأمريكان.
لا يختلف اثنان أنه حين أُسست دولة الكيان من طرف البريطانيين أُسست لتكون دولة وظيفية كثكنة عسكرية في موقع متقدم في جبهة الصراع الأبدي بين العالم الإسلامي والاستعمار الغربي، صُممت وتعهدها الأمريكان من بعد لتكون متفوقة في كل شيء، ولكن مع مرور الزمن أتاحت المساحات المفتوحة لليهود في الدول الغربية في كل المجالات لدولة الكيان أن تتطور طبيعتها لتصبح جزءا أساسيا في المنظومة الغربية بشراكة كاملة في الاستراتيجيات والقرار، فصارت الآن أمريكا وأغلب الدول الغربية هي إسرائيل وإسرائيل هي أمريكا وأغلب الدول الغربية، ثم جاء طوفان الأقصى فأكد هذه الحقيقة وبيّنها في أوضح صورة. فمن يحارب إسرائيل اليوم سيجد نفسه يحارب أمريكا وأغلب الدول الغربية أو كلها، بشكل مباشر وليس بالوكالة فحسب.
على هذا الأساس، لو استشارني الإيرانيون في دخول الحرب لقلت لهم لا تدخلوا ولحدثتهم عن البديل الواجب الأهم لنصرة المقاومة في غزة ولبنان. لا يمكن لإيران أن تدخل الحرب لمواجهة أمريكا وحدها. وذلك سيكون قرارها ولا شك، لن تدخل الحرب وحدها، لن تقرر ذلك بغير اتفاق مع روسيا ومن ورائهما الصين، ولو دخلت روسيا والصين الحرب مع إيران معنى ذلك أننا ولجنا حربا عالمية ثالثة، ولا أظن أن روسيا والصين يريدان ذلك حاليا، ولا حتى أمريكا تريد ذلك، مع أن الحروب تتدحرج أحيانا لتصل إلى حدود لم يرغب فيها صانعو الأزمات.
ستتوسع الحرب ولا شك ولكن شيئا فشيئا، سيتحمل حزب الله وكل لبنان عبئا كبيرا، والضمان لصمود حزب الله أن لا يُطعن من الخلف من قوى مسيحية وسنية لا يخفى على متابعٍ علاقتها بأمريكا وبعض دول الخليج.
إن الحرب مستمرة والسبيل لتحقيق الانتصار فيها أن تبقى الحرب غير متناظرة إلى أمدٍ طويل يتم فيه استنزاف الكيان والأمريكان على نحو ما حدث في الجزائر والفيتنام قديما وما حدث غير بعيد في العراق وأفغانستان. وواجب الدول العربية والإسلامية كلها (إيران وتركيا والدول العربية)، أن تدعم المقاومة في هذه المعركة المصيرية، وذلك هو الشرف وذلك هو الواجب، فإن لم تفعل فمن حق الشعوب أن تتجاوزها.
إن المعركة اليوم في لبنان، إنها في بلد شقيق ذي سيادة عضو في الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي. والكيان الصهيوني لا يفرق مرة أخرى في جرائمه بين عسكري ومدني، وشيعي وسني ومسيحي، وعلماني وإسلامي، يقتل الأطفال والنساء ويدمر المنشآت المدنية والعسكرية والدينية على السواء. ولئن كان الحكام يقولون لا نستطيع دعم غزة بسبب الحصار وغلق المعابر، فها هي لبنان مفتوحة فلتهب الدول العربية والإسلامية إلى دعم الدولة اللبنانية ودعم المقاومة وإغاثة المدنيين، فليظهر لنا الحكام بأننا كنا مخطئين في اتهامنا لهم وفي إساءة الظن بهم.
إن جيش الاحتلال سيحاول دخول جنوب لبنان بعد القصف، وسيعمل على ترحيل سكان الجنوب، وربما سيحاول الوصول إلى بيروت. فليفهم الحكام العرب بأنه إن سقطت لبنان ستسقط بعدها الأردن، إذ يراد لها أن تكون الدولة البديل للفلسطينيين في الضفة الغربية، وستسقط كذلك سيناء لأنه يراد لها أن تكون الوطن البديل لأهل غزة، وبعدها ستسقط كل الدول العربية بإرادة حكامها الخانعين، ليبقوا هم وشعوبهم يعيشون الذل والمسكنة لعقود طويلة مقبلة.
لن يحدث هذا السيناريو المرعب بحول الله، لأنه إن تخلى الحكام عن واجباتهم، ستُحّولُ الشعوب، بكل مذاهبها وطوائفها، لبنان إلى أرض معركة مصيرية ضد العدو الصهيوني، لا أدري كيف سيحدث ذلك، ولكن هذا الذي يفهمه كل دارس لحركة الشعوب حين يبلغ فيها اليأس مداه، وتنكسر في مخيالها القدوات وتسقط قيمة الزعامات، إلا من بقي من هؤلاء القادة صامدا ثابتا تدعمهم التيارات الشعبية بأجيال جديدة من الزعماء يستبدل بهم الله من أقعدهم العجز والآفات .
ولن يتوقف الأمر في لبنان فقط، ستُسقط العنجهية الصهيونية الدولة الأردنية، وتتحول الأردن كلها إلى أم الساحات شرقي نهر الأردن، وينهض شام الوعد الميمون، ولا ندري ماذا سيحدث في مصر هذا العملاق النائم، الذي حين ينهض تنهض الأمة كلها، والأمل كل الأمل في هذا البلد العظيم في قادة مخلصين موجودين ولا شك في الدولة والمجتمع، ثم سيأتي من غرب الأمة أمثال أبي مدين الغوث صاحب ساحة المغاربة الخالدة، ويأتي من أقصى شرق الأمة أحفاد من سارعوا إلى نجدة الخلافة وهي تتهاوى لو لا الأحداث الأليمة يومذاك المتسارعة.
هذه هي الرؤية التي يجب استشرافها، وهذه المعركة التي يجب أن تنخرط فيها كل القوى الحية في الأمة. إنه لم يصبح ثمة شيء تستطيع أن تفعله هذه القوى الحية في أقطارها ودولها إذ سيطر الاستبداد على كل شيء وجعل كل شاردة وواردة تحت يده الباطشة، بل أصبحت حياة ونمو المنظمات والأحزاب والمؤسسات والشخصيات تحت رحمته المخادعة، وبعضهم حشروا أنفسهم في أزقة الطائفية الضيقة، يتهجمون على من يقاوم الصهاينة، وهم لا يقاومون، ولو قاومنا واشتبكنا بمجموعنا مع العدو نصرة لغزة لحلت المشكلة إذ نحن السواد الأعظم في الأمة، بل فيهم من يتشفى في قتلى من يقاوم في جنوب لبنان بلا حياء، ويغالي في تفسيرات يدحضها الواقع وشلال الدماء من القادة والجنود والمدنيين في لبنان.
إن الأجدر بنا جميعا أن نحول البوصلة تجاه فلسطين ولبنان وحيث توجد فرصة لضرب العدو، ففي ضربه حياتنا جميعا وسؤددنا ونهضتنا، من طنجة إلى جاكرتا.
أيها الإسلاميون ليس وقتكم؟!
أيها الإسلاميون ليس وقتكم؟!
شيء مؤسف أن يوصف الإسلاميون في معرض المدح أن لهم دورا وظيفيا لإنجاح “العرس الانتخابي” وخدمة الدولة أمام القوى الخارجية بمشاركتهم في الانتخابات، وأن من دلائل وطنيتهم أنهم يدركون أن الظروف الإقليمية والدولية لا تسمح لهم أن يكونوا في صدارة النتائج الانتخابية لقيادة البلاد، وأن اقتحامهم المنافسة الانتخابية هو في حد ذاته دليل على ديمقراطيتهم، فيَسعدون بهذا، ويكررون ما يقال عنهم في ذلك بابتهاج كبير، ويشاركون غيرهم ما يُكتب عنهم في هذا الشأن في مختلف الوسائط الاجتماعية ليؤكدوا بلسان الحال أنهم فعلا كذلك. حتى ليقول القائل إنها والله لعاهة كبيرة، وكأنها المازوخية!
بل ثمة من قال لي – عجبا – أن الهوامش السياسة التي يتمتع بها الإسلاميون في الجزائر، إلى حد المنافسة على رئاسة الجمهورية هي أفضل مما مُنح لغيرهم في البلاد العربية، حتى وإن كان الوصول الفعلي إلى الرئاسة أمرا مستحيلا، وما قول ذلك القائل وما مثله إلا للزيادة في المنّ وبناء العقد النفسية والتيئيس من الحاضر والمستقبل.
ينسى من يعتقد ذلك الاعتقاد ويصدقه أن الحركة الإسلامية تسلمت رئاسة الحكومة في تونس والمغرب من قبل، ووصلت إلى رئاسة الجمهورية في مصر، والمجلس الرئاسي في اليمن، وفي كل هذه التجارب وصل الإسلاميون بالإرادة الشعبية وليس بالمنح السلطانية. وهذا أمر يستحيل أن يقبله النظام السياسي الجزائري إلى يوم الدين بعد أن أنقلب على نتيجة الانتخابات التشريعية في جانفي 1992 رغم إعلانه هو ذاته بأنها كانت حرة ونزيهة.
والعقلية والثقافة التي انقلبت على التجارب الناجحة في الأقطار الأخرى ، أو أفسدتها، هي التي انقلبت على الانتخابات التشريعية في التسعينيات في الجزائر وهي التي تحدد لهم السقف الذي لا يمكن أن يتجاوزوه، ما لم تتغير الموازين، وستبقى تفعل ذلك بالتزوير والتضييق والترويض الشرطي إلى أن يقبل الإسلاميون أنهم ليسوا بديلا وأن يرضوا بما يُمنح لهم، إلى أن يصبح ذلك هو حظهم الحقيقي أو أقل من ذلك في الإرادة الشعبية والحالة الاجتماعية، فتتحقق ما يسمى بالديمقراطية الآمنة التي يخسر فيها الإسلاميون بالصندوق دون الاضطرار للتزوير.
وستبقى الحركة الإسلامية في العالم العربي بين منهجي الاستئصال أو الإدماج ما لم تنتهج نهجا جديدا، عنوانه المقاومة السياسية السلمية، التي تتوازى في الرؤية والفكر – مع الفارق في الطبيعة والمكان والظرف – مع نهج المقاومة الفلسطينية ضد البطش الإسرائيلي وداعميه في العالم بأسره، أو وفق ما ذكره روجي غارودي في استراتيجية محاربة النظام الرأسمالي العالمي الظالم المهيمن من خلال نهج حرب العصابات السلمية لإرهاق هذه المنظومات الاستبدادية الظالمة الفاشلة دون الدخول في صدام مباشر معها، والتحالف مع سنن التغيير الغلابة، ضمن نظرية المكان المناسب الذي نظّرنا له في كتاب تحدي العبور، في الوقت والمكان الذي يريده الله ويختاره.
وهذا النهج هو ما جرّبناه في حركة مجتمع السلم بين 2013-2023 وجعل الحركة تتجه من جديد نحو الصعود، في مختلف المجالات، غير أن الصعود لم يكتمل بعد، لأنه لا نجاح في التاريخ في نهضة الجماعات والأمم والدول دون استمرار السير دون تردد في الرؤية عبر فترة طويلة من الزمن. وفي كل الأحوال لن تنتظر السنن الجارية منذ طوفان الأقصى حركة مجتمع السلم أو غيرها، والأرجح أنه سيكون التحول تيارا جارفا يفيض فيه التنور فلا تسير فيه إلا الفلك المعدّة لذلك، إذ قد ينصر الله دينه وأمة نبيه ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى بقوم ليسوا مثلنا ولا يشبهوننا في شيء، والله نسأله أن يجعلنا ممن يركب فلك النجاة الواصل إلى المقصد، لا مبدلين ولا مغيرين.
إن القول المتكرر بأن الوقت ليس مناسبا للإسلاميين هو الكلام الذي قيل للشيخ محفوظ، وعلى أساسه زوروا عليه الانتخابات الرئاسية عام 1995 ومنعوه من الترشيح عام 1999، وتوفي ولم يحن وقته رحمه الله، وقلبه مليء بالحزن من الظلم العظيم الذي سُلّط عليه وعلى حزبه، وبقي النظام السياسي وأدواته المباشرة وغير المباشرة، يقولون لقادة الحركة إلى اليوم ذات الكلام: “الظروف لا تسمح أن تكونوا في الصدارة”، وسيبقون يقولون هذا الكلام المنوّم الملغي للرسالة والرؤية التي نشأت على أساسها الحركات الإسلامية إلى يوم الدين ما لم تتغير الموازين، وما لم يكن ثمة من يناضل لتغيير الموازين.
ولو تعاملنا مع هؤلاء الذين يغالبون القدر في صد الطريق عن كل من يريد ممارسة السياسة على أصولها، وليس ضمن الأدوار الوظيفية الحمقاء، أن المشكلة ليست في متى تصل هذه الحركة السياسية إلى الحكم أو تلك، ولكن المشكلة أن تغيب الديمقراطية ويستمر التحكم والهيمنة والعجز عن تحقيق نهضة البلد، وأن يبقى نفس النظام، المسؤول عن كل هذا، يحكم لأكثر من ستين سنة. لو كان ذلك هو توجه كل التيارات والأحزاب السياسية في الجزائر قبل أن تموت مع موت السياسة الواحدة تلو الأخرى، بعيدا عن النزعة الشخصية والحزبية الأنانية، على نحو ما كانت عليه فكرة تنسيقية الانتقال الديمقراطي في بدايتها لسهل أمر التغيير، ولتوقف تدوير السلطة بدل التداول عليها كما كان يقول الشيخ محفوظ رحمه الله، ولْتأتي الديمقراطية بغير واجهات النظام السياسي المتكررة، لعل الفرصة تُعطى لمن هو أفضل وأقدر. غير أنه حينما تشيع الممارسات الوظيفية التي لا تزيد إلا في عمر الوضع القائم لا بد أن يكون التفكير من خارج الصندوق.
من العيب والعار أن يقال عن الإسلاميين بأنهم “وطنيون” و”ديمقراطيون” لأنهم قبلوا قواعد اللعبة التي تفرضها الأنظمة غير الديمقراطية والتي فشلت عبر عقود طويلة في تحقيق نهضة الأوطان.
إن الوطنية الحقة هو أن يؤمن الإسلاميون بأنهم هم الأقدر على خدمة الأوطان، وأنهم هم البديل السلمي العلمي الحضاري للأنظمة التي فشلت في رفع البلدان التي تتسلط عليها إلى مصاف الدول المتطورة، وأنهم قادرون على تكرار التجارب النهضوية التي تحققت في بلدان إسلامية كنا في الثمانينات أفضل منها، كنموذج ماليزيا. كما أن الإسلاميين لن ينالوا الصفة الديمقراطية ما لم يناضلوا من أجل الحريات والديمقراطية وما لم يضحوا من أجل ذلك، حتى وإن جاءت بغيرهم. وأنهم هم الأقدر على مواجهة المخاطر الخارجية برشاد الحكم وقوة المجتمع وكرامة الإنسان.
إن كل شهادة تزكية تأتي من الأنظمة الاستبدادية الانقلابية، أو المزورة للإرادة الشعبية أو المانعة للحريات الإعلامية والسياسية وفي فضاءات المجتمع المدني هي شهادات كيدية لاستيعاب القادة وتنويمهم وجعلهم يعيشون في غرورهم دون دراية بما يُكاد لهم ولمشروعهم ولجعلهم يضرب بعضهم بعضا و”يقتل” بعضهم بعضا سياسيا ومعنويا وإعلاميا، بل لمحو بعضهم بعضا من الساحة. ولا ينبئك مثل عليم و/أو خبير.
إن استعجال الإسلاميين وحده هو الذي يجعلهم يخضعون لمكائد التدجين السلطوي من أجل مصالح حزبية وشخصية ضد مصالح البلد والأمة والمشروع، أو يجعلهم يدخلون في صدام مباشر مع الأنظمة فيُستأصلون.
إن صعوبة المهمة وكثرة الصد لا تبرر هذا النوع من الاستعجال أو ذاك، بل الواجب هو ابتكار الطرق الجديدة التي تغير ميزان القوة لصالح المجتمع وضد مصالح الأنظمة المتغلبة المستبدة في الدولة، إن في هذا الطريق مصلحة الوطن، كل مصلحة الوطن، وفي ذلك قواعد سياسية تهدي إلى السير السديد منها:
- الرؤية والمنهج هو تحقيق نهضة الوطن والاستئناف الحضاري للأمة وتحرير فلسطين
- المصلحة العامة مقدمة على المصالح الشخصية والحزبية.
- التغيير تجريه سنن اجتماعية لا تتغير ولا تتبدل، لا يعلم آجالها إلا الله، ولكن استشرفها، واعمل وضحّ لتكون في المكان المناسب حين يأتي أوانها.
- الاستبداد نوعان: استبداد خشن واستبداد ناعم، وكلاهما مميت، الاستبداد الخشن يضرب الجسد لتخرج الروح، والاستبداد الناعم يُخرج الروح دون ضرب الجسد.
- إن لم تستطع إضعاف الاستبداد فلا تقويه.
- أضعف الإيمان في وجه الاستبداد ألا يقبله القلب، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان.
- المقاومة أن تدافع الفعل المعاكس المضر لتضعف أثره ولو لم تقدر على إنهائه.
- المقاومة السياسة هي الصمود في وجه الاستبداد والعمل على إرهاقه بالكر والفر الى أن تنهيه السنن فيكون المقاومُ الصامد هو البديل.
- سبب المخاطر الخارجية الاستبداد، والمخاطر الخارجية تعلّة المستبدين لإضعاف الوطنيين المعارضين.
- لا أثر للمخاطر الخارجية إلا بضعف الدولة، وسبب ضعف الدولة من يحكمها.
- لا تقوى الدولة إلا بقوة المجتمع، ولا جبهة شعبية داخلية قوية إلا بالحرية وكرامة الإنسان، وغير ذلك انتهازية وزبونية وخداع … ولغة خشب.
- الاستبداد ليس قدرا مقدورا، كل الشعوب التي ضحت لإنهائه نجحت.
- الاستبداد ليس قدرا مقدورا ومن شك في ذلك فلينظر إلى خسائر الكيان دوليا وفي الميدان بعد الطوفان.
- الاستبداد يرضى على من يساعده على البقاء، بالدعم المباشر أو غير المباشر أو بفعل لا شيء، ويحارب من يُضعفه، بشكل مباشر أو غير مباشر، وبمنع المقاوم للاستبداد من فعل أي شيء مفيد.
- أعداء الاستبداد هم أهل الفكر والفطنة الواعون بخلفيات الأمور وأبعاد الأحداث، وهم المجدون المنجزون المؤثرون في مجتمعاتهم، وهم الذين يصنعون التوازن في الأوطان بين الدولة والمجتمع.
- من أدوات الاستبداد قتل الكفايات الواعية المناضلة، ومن أدواته القابلية للاستبداد التي تساعده على قتل الكفايات.
- الاستبداد يحب الكفايات الشخصية والجماعية بكل أنواعها، ولكن ليبتلعها تحت سلطته.
- يسهل على الاستبداد ابتلاع الأشخاص لصالح مشروعه، مهما كانت كفاءتهم ونزاهتهم، ولكن يصعب عليه ابتلاع المنظمات والجماعات، فإن نجح في ذلك لا حد لسعادته.
- لا تربط زمن التغيير بشخصك ولا حتى بجيلك، إن فعلت ذلك ستضحي بفرص التغيير من أجل إنجازات صغيرة لصالحك.
- إن تحقق الإنجاز بعد رحيلك، وكان لك فيه بصمة، فسيرتفع أجرك ويسجل التاريخ ذكرك.
- الناجحون هم المنجزون الذين تبقى آثارهم، لا الذين يكثرون الحركة ويتطاولون في الحديث ولا يتركون شيئا وراءهم.
- لن تكون وطنيا بلغة الخشب، وتكرار مصطلحات المستبدين، بل بالتضحية من أجل الوطن، لتخليصه من المستبدين
- لكل مرحلة زمانها وإنجازاتها والعيب كل العيب في الرسوب أو الرجوع الى الوراء.
- الإستبداد كله شر، وبكل أنواعه لا يأتي بخير.
- لا نهضة ولا تنمية ولا تطور بدون إبداع ولا إبداع دون منافسة عادلة ولا منافسة عادلة دون حرية
- يمكنك أن تحاور الاستبداد، بل أحيانا واجبك أن تحاور، ولكن للدفاع عن رؤيتك لا لتندمج في رؤية الآخر.
في ذكرى تأسيس الحركة (3) : وطن ينهض، حركة تتجدد
لم يكن ُيتصور بضعة أشهر قبل الاحتجاجات الشعبية في جانفي 2011 وثورات الربيع العربي بأن الحركة ستراجع توجهاتها السياسية الاندماجية في منظومة الحكم، لقد كاد الارتباط بالحكم أن يتحول إلى عقيدة سياسية لا تتزعزع، والمشاركة في الحكومة حتمية لا تتبدل، وكانّها بصمة وراثية ذات حمض نووي ريبوزي راسخ لا يتغير، رغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بالحركة في رمزيتها واستقرارها جراء ذلك المنهج، ورغم التقييم السلبي الرسمي الذي قدمه رئيس الحركة الشيخ أبو جرة عن التحالف الرئاسي، ورغم تحول الحركة إلى نوع من “الربيب” بين شقيقين أصليين لرب الأسرة، يشترك في غرم العائلة ولا حظ له في الغنم.
لقد كانت الأصوات المعارضة لذلك التوجه مبحوحة داخل الحركة لا يُسمع لها ولا يُعتد بها، وقد كنتُ ضمن تلك الفئة المعارضة، قد أصابني اليأس في القدرة على فعل شيء ما من داخل الحركة وأخبرت بعض القريبين مني بأن آخر عهدي بهياكل الحركة سيكون بمناسبة المؤتمر الرابع في 2013. غير أنني كتبت ورقة طويلة في ذلك الوقت عرضتها في المكتب التنفيذي الوطني إبراء للذمة، بينت فيها موقفي من الاستمرار في الارتباط بالسلطة عبر المشاركة الهزيلة في الحكومة، المضرة بالحركة والبلاد، ورؤيتي التي تصلح البلاد والحركة.
فإذا بالأوضاع تنقلب رأسا على عقب بعد الاحتجاجات الشعبية في الجزائر والعالم العربي، ويصبح المناضلون يرون أنفسهم بأنهم في الجانب الخاطئ من التاريخ، فيشكلون تيارا جارفا يريد رؤية متجددة وقيادة جديدة تمكّن من العودة بالحركة إلى أحضان الشعب ومقاومة الفساد والاستبداد، فتجسدت نظرية المكان المناسب عند التحولات السننية، إذ اتجهت أنظارهم إلى الشخص الذي ثبت في الدعوة إلى ذلك الهدف فلم يتغير ولم يتبدل، فكان التقاءٌ بالقدر، لي وللحركة، لم يكن أحد قد خطط له أو سعى إليه، وتلك هي المرحلة الخامسة، أو الطور الخامس من أطوار تطور المنهج.
جاءني أحد المسؤلين في الحركة مبتهجا ذات يوم ينقل لي ما سمعه من مسؤول كبير سابق في الحركة في جلسة استشارة في لجنة تحضير المؤتمر السابق من: “أن ثمة مشروعين في تاريخ الحركة، مشروع الشيخ محفوظ الشيخ محفوظ نحناح ومشروع الدكتور عبد الرزاق مقري”، وكان هذا المسؤول السابق والحالي في الحركة يقول، هو وغيره من بعض المسؤولين السابقين والحاليين، بأن فترة رئاسة دكتور مقري هي بمثابة تأسيس ثان للحركة.
لم يكن هذا قولي، ولم أسع أن أناقش مع أحد من القائلين أو المعترضين على هذا القول، فما مرحلتي في ظني إلا مرحلة من مراحل تطوير منهج الحركة، ولم يكن يهمني سوى التجديد الفكري لدى الأفراد والإنجاز في الميدان، ولكن يبدو أنني وإن نجحت في تحقيق إنجازات في الميدان فأنا لم أفلح في تغيير القناعات في الأفكار، وإذا لم يتحقق تغيير الأفكار فإن الإنجازات ستعود حتما على أصلها بالإبطاال، ما لم تنتقم الأفكار في ظرف مناسب لاحق.
لقد كان حرصي الكبير في قيادتي للحركة أن يقود الفكرُ الإنجازَ، فمنذ أن رأيت أن ثمة تيارا جارفا يتجه إليّ لم أشأ أن تكون رئاستي للحركة مبنية على رد فعل للربيع العربي يقوم على حالة عاطفية انتهازية، لا سيما أن الخروج من الحكومة جاء بعد نقاش دام سنة كاملة بين 2011 -2012 بعد الاحتجاجات، وقرابة ثمانية أشهر من انتظار تجسيد الإصلاحات التي وعد بها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة رحمه الله في 15 أفريل 2011 ولم تتجسد.
ولذلك رجعت إلى الأفكار التي كنت أناضل بها، لا سيما الوثيقة التي سلمتها للشيخ محفوظ عام 1997 والتي اشرت إليها في المقال السابق، فطورت كل تلك الأفكار ضمن رؤية شاملة للتجديد في كتاب دخلت به المؤتمر الخامس عام 2013 تحت عنوان ” البيت الحمسي” يتناسب مع شعار المؤتمر ” حركة تتجدد، وطن ينهض” وفي ما دونته في كتابي “الحركة الإسلامية في الجزائر: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر عن دار الخلدونية عام 2015 ثم كتاب آخر دخلت به المؤتمر السابع، لعهدتي الثانية، عام 2018 (بعد المؤتمر السابع مؤتمر الوحدة)، تحت عنوان “البيت الحمسي 2 ” وختمت عهدتي الثانية بكتاب يعبر عن رؤية شاملة للعمل الإسلامي في العالم العربي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” الذي لقي بحمد الله قبولا كبيرا لدى العلماء والمفكرين واعتمده الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين بعد تحكيمه من لجنة من خيار أهل العلم والفكر واعتمدته بعض الحركات الإسلامية في مناهجها التكوينية، علاوة على كثير من النصوص التي قدمتها طيلة العهدتين بمناسبة مجالس الشورى ولقاءات الهياكل والملتقيات والجامعات الصيفية التي جمعت جزء منها في كتابين، الأول: ” وثائق في الفكر والسياسة والدعوة” صدر عام 2015، والثاني: “أفكار وسياسات: من نصوص العهدة 2013-2018” صدر عام 2018.
لا شك أنه لكل طور من أطوار الحركة الخمسة نجاحاتها وإخفاقاتها، أما النجاحات في الطور الخامس فقد كانت بارزة ظاهرة ثمنها المؤتمر السابق بتصويت يفيد الإجماع وثبّتَ محاورَها الكبرى نظريا في الوثائق التي صادق عليها للمرحلة التي تليه، وكان الظن أن هذه المرحلة الجديدة ستكون وفية لتلك النجاحات، ومن تلك الإنجازات :
- الإنجازات الأخلاقية والقيمية: لا أزعم أننا حققنا نجاحات حاسمة في هذا الجانب كما سأبين أدناه ولكن حاولنا أن نشكل في الحركة اتجاها عاما منافيا للانتهازية السياسية ويرفض استغلال الحركة للطموحات الشخصية، وعملنا على أن يقوم سلم القيم والقدوة على الاستقامة والتعفف والإنجاز، وكان العمل جادا على رفع قيم التضحية و الشجاعة والوفاء والتجرد وأصبحت ساحة الحركة والنقاشات الدائرة فيها لخدمة الوطن والأمة والقضية الفلسطينية، وأصبح الفرد يفكر داخل الحركة ماذا يعطي لها وليس ما يأخذ منها، وظل من نحسبه كذلك، والله وكيل الجميع، هو الذي يتقدم في الصف ويظهر في المشهد!
- الإنجازات الدراسية و الفكرية : إذ أصبحت الحركة تعتمد على مؤسسات التفكير المتخصصة وبات خطابها السياسي والاقتصادي خطابا علميا مقنعا، وظلت برامجها الانتخابية والتخصصية في مستوى قيادة الدولة تنتجها لجان قطاعية متخصصة، ويثني عليها رؤساء حكومات ووزراء وعلماء وأكاديميون. وعلى المستوى الفكري نظّرنا لعلاقة الدعوي بالسياسي المطروحة للنقاش بإلحاح في الساحة الفكرية الإسلامية وابتكرنا في هذا الشأن مقاربة التخصص الوظيفي و طبقناها بما أضفى فاعلية أكبر في الوظيفة السياسية والوظائف الأخرى الدعوية والاجتماعية وغيرها، فاستوعب هذا التدبير طاقات وكفايات كثيرة وفعّل قدرات بشرية كانت خاملة وأحيا وظائف استراتيجية، كما وضعنا قواعد الانتقال من المشاركة السياسية إلى الشراكة على أساس ميزان القوة – وإن لم نحقق ذلك بسبب اختطاف الحراك الشعبي – واخرجنا الكفاح السياسي من حتمية ثنائية الصدام أو الاندماج إلى الآفاق الرحبة للمقاومة السياسية، وبلورنا رؤى الانتقال الديمقراطي والتأهيل القيادي والاستنهاض الحضاري، وغير ذلك من ورشات النقاش الفكري الواسعة، و أصبحت الحركة ورجالها ومنتجاتها وتوجهاتها السياسية والإدارية ومشاريعها ومؤسساتها بحمد الله من أهم مصادر التطوير والتجديد في الحركة الإسلامية والإصلاحية في العالم العربي والإسلامي.
- الإنجازات التنظيمية واستحقاقات الوحدة حيث عرفت الحركة استقرارا كاملا طيلة عهدتَي الطور الخامس، فلم تعرف الحركة صراعات ولا انشقاقات، خلافا للأطوار الأربعة السابقة، بل تم تحقيق الوحدة مع جهتين مهتمين كانتا قد غادرتا الحركة من قبل، وهما جبهة التغيير وطبقة واسعة من القادة والمسؤلين والمناضلين كانوا قد غادروا الحركة على عدة مراحل منذ التسعينات. كما تم تنمية الموارد البشرية من حيث الكم والنوع، فبرز في الحركة جيلان قياديان جديدان هم من يقود الحركة اليوم محليا ومركزيا، وتم التركيز أكثر على الشباب فهم اليوم في مواقع قيادية أساسية في الهياكل والإدارة والمؤسسات.
- الإنجازات الشورية والديمقراطية حيث أننا انتبهنا بأن الشورى الحقيقية والديمقراطية الحقة هي التي توفر التعبير عن الرأي والرأي الآخر في النقاش أثناء مرحلة صناعة القرار في المشاورات والمداولات المختلفة وأثناء اتخاذ القرار في مؤسسات اتخاذ القرار، وأن المشاورات التي تقيمها الحركة في مختلف القضايا شكلية يسيطر عليها التنظيم وقادته بما يؤدي إلى تعارض المصالح، وفق المصطلحات العلمية الإدارية المعبرة عن ذلك، وتكون النتيجة حتما لمن يتحكم في التنظيم والمشاورات إذ رأيه هو وحده ما يُشرح ويسوق له باحتكار استخدام وسائل الحركة، وهذا سبب رئيسي للصراعات والانشقاقات والفتور وخسران الكفاءات، فابتكرنا طرائق جديدة تضمن حضور الرأي المخالف ومن ذلك: دعوة رؤوس الرأي المخالف إلى المكتب التنفيذي الوطني وتقديم آرائهم والدفاع عنها متى شاؤوا وطبقنا ذلك فعليا، واتفقنا مع رؤساء مجلس الشورى الوطني المتتالين بأن لا يُحدد الوقت لرؤوس الرأي المخالف والقادة السابقين أثناء تدخلاتهم وطبقنا ذلك، وشكلنا هيئة استشارية عليا يُضمن فيها حضور الآراء المختلفة بشكل متوازن كان حضور أصحاب الرأي الآخر قويا ومكثفا، بالإضافة إلى المجالس الاستشارية المتخصصة الشبابية والنسوية ومجلس المؤسسات واللجان القطاعية. وحاولنا أن ننظم مسألة التنافس الداخلي على المناصب لإنهاء عهد الكولسة الخفية والعلنية، ولتكون الحملات الانتخابية الداخلية شفافة يُسمح لكل المرشحين الاتصال بالهياكل التنظيمية والمناضلين باستعمال وسائل الحركة بالعدل والمساواة، فاقترحنا لائحة تنظم ذلك للمؤتمر السابع عام 2018 ولكن للأسف الشديد أسقطها من كان يُفترض أن يستفيد منها، ثم حاولنا الرجوع إليها في المؤتمر الثامن ألأخير فلم نفلح بسبب عدم توفر السند اللائحي ولكن وضعنا هذا السند في قوانيننا بما يسمح بالمنافسة الشفافة والعادلة لاحقا.
- الإنجازات السياسية: إذ ارتفعت رمزية الحركة بعد ما تضررت صورتها بسبب التوجهات السياسية السابقة، خصوصا بسبب التورط في فتح العهدات ودعم بوتفليقة عدة مرات، وبسبب الانشقاقات والصراعات الداخلية، فبات يُنظر إلى الحركة ورموزها بتقدير واحترام، وتجدّدَ الأمل فيها. وقد تجلى ذلك في نتيجة الانتخابات التشريعية والمحلية، حيث نجحنا في بلديات كبرى كانت محرمة علينا سابقا، منها وهران وعنابة، وحصلنا على نتائج في الانتخابات التشريعية الأخيرة تقارب نتائج زمن الألق السياسي في بداية التعددية، وذلك رغم العزوف الانتخابي، ولم تفلح محاولات التقليص من أهمية النتيجة الانتخابية بإبراز تراجع الكتلة الناخبة للحركة من قبل خصوم خطنا السياسي التقليديين من داخل الحركة آنذاك، والتي بات يرددها بلا أخلاق اليوم خصومٌ جدد كانوا بالأمس معنا في هذا الشأن خلافا لما يدّعونه اليوم. ويخفي هؤلاء وهؤلاء أن تراجع الكتل الناخبة هو على الأحزاب كلها وليس الحركة فقط، وأن سبب العزوف الانتخابي هو النظام السياسي (الذي يسندونه) من خلال التزوير المستدام للانتخابات، وأن الحزب الذي يستطيع أن يفرض نفسه ضد العزوف وضد التزوير وضد المرجفين ويحقق المرتبة الحزبية الثانية بعدد النواب يستحق التقدير والثناء وليس الهمز واللمز.
- الإنجازات المؤسسية المجتمعية حيث رجعت المؤسسة الاجتماعية إلى استقرارها وكثير من نشاطها وفاعليتها، وأرجعنا النقابة الطلابية إلى حضنها الأصلي، وأضفنا من خلال نظرية التخصص الوظيفي أربع أضعاف تلك المؤسسات بعضها صار جزء أساسيا من المشهد الوطني، وبعضها بلغ العالمية، وأحيينا بفضل الله كثيرا من وظائف المنهج وصار للمؤسسات التي يقودها رجالنا حظ وافر في خدمة القرآن والدعوة والقضية الفلسطينية وخدمات المجتمع.
- الإنجازات على صعيد العلاقات الداخلية إذ استطاعت الحركة أن تفرض نفسها في المشهد وأن تفعّل الساحة السياسية لعدة سنوات لخدمة رؤية الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه وبناء ميزان قوة يسمح بتحقيق التوافق الوطني والشراكة السياسية في القرار من أجل نهضة البلاد والمساهمة في نهضة الأمة، فكانت الطرف الأساسي في بناء التنسيقية الوطنية للانتقال الديمقراطي والاجتماعات التاريخية في مزفران مع كل أطراف المعارضة، وعادت لنفس الرؤية في مبادرة التوافق الوطني وكادت أن تحقق به انتقالا ديمقراطيا حقيقيا من خلال مفاوضاتها مع الرئاسة البوتفليقية في فترة ضعفها الشديد لو لا إحباط المحاولة من جهة قوية في السلطة لصالح العهدة الخامسة فأدت تلك الحركية الجماعية الدؤوبة إلى حالة وعي عامة فجّرت بشكل غير مباشر الحراك الشعبي. لقد صنعت هذه الحركية الدائمة في العلاقات مكانة معتبرة للحركة وقادتها وظلت أبواب الحوار مفتوحة لنا في كل الاتجاهات، في المعارضة وفي السلطة، ولِجناها بكل ثقة وإيمان بأفكارنا ومشاريعنا، وكنا في كل تلك الحوارات نرفع حركتنا بقوة حجتنا، ولم نتحدث وراء الأبواب المغلقة – آنذاك – إلا في ما ينفع بلدنا ولا نتورط في التآمر ضد أحد، قريبا كان أم بعيدا، ولو وجد أحد في ما كنا نقوله سعيا لمصلحة شخصية أو تآمرا على أحد أو على جهة ما لأسمعوا العالم بها.
- الإنجازات في العلاقات الخارجية: كما سبق أن قلنا تسببت حالة الصراع والخلافات داخل الحركة إلى عزلها عزلة تامة دوليا، ولكن استطعنا أن نعود بقوة منذ أسطول الحرية، ثم طورنا علاقاتنا حتى أصبحنا جزء أساسيا في المشهد الإسلامي العالمي، ومع أحرار العالم، سواء في المساهمات الفكرية والإعلامية أو المشاركة وقيادة المنظمات الدولية الفاعلة، كما وصلت مؤسساتنا المتخصصة إلى مستوى النمذجة و الريادة الدولية خصوصا في مجال التأهيل القيادي الشبابي وفي القضية الفلسطينية
أما عن الإخفاقات فيمكن تصنيفها وفق ما يلي:
- بالرغم من أن العمل السياسي ضمن تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي كان جماعيا فإننا لا بد أن نتحمل نصيبنا من المسؤولية في عدم تحويل هذه التنسيقية إلى قوة جماعية ضاغطة على السلطة تؤثر في ميزان القوة من أجل التحول الديمقراطي، وبالرغم من أننا بادرنا باسم الحركة إلى إحيائها مباشرة بعد اندلاع الحراك الشعبي ولم نجد تجاوبا من الشركاء فإنه من الواجب الإقرار بفشلنا جميعا كطبقة سياسية في تشكيل قيادة مشتركة للحراك الشعبي تمنع تفتيته ايديولوجيا ثم استيعابه من طرف السلطة كما تم فعلا. وكانت مبادرة ملتقى الحوار الوطني بعين البنيان أثناء الحراك مبادرة فاشلة أخرى. ولما أخذنا المبادرة وحدنا قبل الحراك عبر مشروع التوافق الوطني عجزنا على الاستشراف بأن الرئاسة لم تكن ضعيفة فقط، بل لم تصبح تزن شيئا فأضعنا وقتنا في الحوار معها و عرّضنا أنفسنا للمخاطر إذ كانت القوة متمركزة كلية لدى قيادة الأركان، وهي التي فرضت العهدة الخامسة. غير أن المحاولة التي قمنا بها إنما كانت عملا صالحا نرجو ثوابها من الله تعالى، أقمنا بها الحجة أمامه سبحانه و على الجميع، وسيبين التاريخ أن المبادرة التي قدمناها بكل صدق ومهنية هي الوحيدة التي كانت ستحقق الانتقال الديمقراطي ونهضة البلد لم تم اعتمادها ودعمها.
- – ويبدو من خلال التطورات الجارية في الحركة بعد المؤتمر الأخير بأن الإخفاق الكبير التي اتسم به الطور الخامس هو الإخفاق في تغيير القناعات لدى قيادات الحركة، وأن التوجه للمقاومة السياسية ضد الفساد والاستبداد خارجيا، وضد الانتهازية داخليا، الذي وقع بين المؤتمرين السادس والثامن كان أكثره ردة فعل لأحداث الربيع العربي ثم تجاوبا غير مُكلِف مع حالة الضعف التي عرفها النظام البوتفليقي والتأثر بالحراك الشعبي الذي أزاحه، وربما بالنسبة للبعض للمحافظة على المواقع، ولم يكن قناعة عميقة عامة تعين على التضحية إلى غاية تحقيق الهدف ولو طال الزمن، وهو أمر يتطلب تعمقا في الدراسة نعود إليه لاحقا. كما اتضح كذلك بأن القناعة بالتخصص الوظيفي بقيت سطحية والتراجع الفعلي عن مكتسباتها بات ممكنا وسهل المنال. وعليه يمكن لأي دارس محايد أن يقول بأن التحولات العميقة التي وقعت في هذا الطور بقيت تمثل رؤية شخصية لرئيس الحركة قد أخذت تتبدد فور مغادرته موقع القيادة، وقد عبر الشيخ أبو جرة عن ذلك بوضوح حين عبر عن سعادته في مجلس الشورى الأخير بعودة الحركة إلى نهجه الذي كانت عليه قبل عشر سنوات.
- وحينما نرى تراجع العمل الحزبي ومستوى الأنماط القيادية و زيادة شيوع الآفات السياسية وتحولها إلى خلق عام في الطبقة السياسية كالانتهازية السياسية والزبونية والتزلف واللؤم والغدر والتدليس والكذب والفجور في الخصومة وخلف الوعود ونقض العهود وتقديم النفعيين على أفاضل الناس، بشكل عام، علاوة على استمرار الفساد في مختلف مستويات المؤسسات الرسمية والمجتمعية ورسوخ السيطرة والتحكم وغلق هوامش الحريات أكثر من أي وقت مضى نقول بأن مساهماتنا في أخلقة العمل السياسي وتثمين جدوى العمل الحزبي في التغيير لم تحقق النتائج التي كانت أجيال من السياسيين الصادقين تضحي من أجلها، كما أننا لم نتوصل داخل الحركة إلى ترسيخ قيمة االثقة بالنفس والاستعلاء الإيمانيّ وقدرتنا على أن نكون قدوة و بديلا لغيرنا بأخلاقنا وفكرنا وبرامجنا وتاريخنا وحضورنا، رغم وجود هذه المعاني في الوثائق، ولم يصبح الانتقال الديمقراطي قناعة تتطلب التضحية والتعرض إليها وفق التحولات السننية، ولم تصبح رؤية السعي إلى الشراكة السياسية سوى اسماً مغلفا للعودة الى المشاركة السياسية التي تسببت في مختلف أعطاب الحركة.
تابع – المقال الرابع: التحليل والآفاق المستقبلية.