أرشيف التصنيف: مقالات

اتفاقية سيداو والحرب على الأسرة.

لا يخفى على الواعين أن ثمة حربا تشنها القوى الاستعمارية ضد العالم الإسلامي لضرب أساساته التي حفظته ضد الاحتلال والتغريب والإلحاق الثقافي والحضاري .

لقد أدركت القوى الاستعمارية بأن الذي حفظ الأمة الإسلامية في مختلف أقطارها هو تمسكها بقيمها وهويتها، وأن المشكلة التي يواجهونها لتطويع العالم الإسلامي ليست الحركات والمنظمات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية، ولا حتى الدول، وإنما هو الإنسان المسلم ذاته بسبب تمسكه بعقيدته وانتمائه، وأن هذا الإنسان المسلم هو الذي يحكم على الحكام والأحزاب والمنظمات بمقدار انتمائهم لهويته وقيمه ودينه وليس العكس، وقد تأكد لديهم بإن إضعاف الحركات والمنظمات الإسلامية، والحكومات المحافظة، لا يعني شيئا ما دام الإنسان المسلم متمسكا بهويته، وأن هذا الإنسان المسلم سيترك الأحزاب ويقاطع المؤسسات الرسمية التي تخون قيمه وينشئ لنفسه أطرا سياسية واجتماعية أخرى تواجه التوجهات الغربية ومن يحملها بعزيمة أكبر وضراوة أشد.

لقد علمت القوى العلمانية الرأسمالية  الاستعمارية، من خلال تجربتها الطويلة في أوربا بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، بأن تغيير الإنسان والتحكم في إرادته وتشييئه يكون من خلال كسر كل المرجعيات التي تشكل ثقافته وشخصيته سوى المرجعية الحضارية الغربية المادية الرأسمالية العالمية التي صنعوها للإنسان ضمن سياق تاريخي خاص بهم، وكانت طريقهم إلى ذلك في بلدانهم تفكيك الأسرة واحتكار صياغة المنظومات التربوية والتحكم في الإعلام وتحييد الدين وإنهاء تأثيره.

وبعد خسارتهم في السيطرة الثقافية والحضارية على العالم الإسلامي رغم الاستعمار الطويل المدمر، وعجزهم عن الحسم في المواجهة السياسية الديمقراطية أمام القوى المتمسكة بالثوابت رغم طول مرحلة التزوير الانتخابي والانقلابات الدموية التي دعموها والاستئصال والتدجين الذي حققوه، وكذا بعد  فشلهم في المواجهة المجتمعية رغم الدعم العظيم الذي قدموه للاستبداد وللنخب والقوى العلمانية المعادية للانتماء الحضاري للأمة، علموا بأن برامجهم يجب أن تتجه لتغيير الإنسان ذاته، وأنه بدل  الاستعمار المباشر والاستنزاف الطويل في المواجهة السياسية والفكرية يجب أن يضغطوا على حكام الدول العربية والإسلامية لتغيير قوانين الأسرة، والمنظومات التربوية والدينية ومنعها من أي مساهمة لتشكيل الشخصية الإسلامية الواعية الملتزمة بقيمها، المقاومة للاستعمار والظلم والفساد وتكثيف بدل ذلك برامج التفاهة والإفساد عبر مختلف وسائل الإعلام ونشر المخدرات والحفلات الصاخبة والقدوات السيئة.

تعتبر  “اتفاقية سيداو للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة”، من أخطر الاتفاقيات التي تهدف إلى تفكيك الأسرة وبناء مجتمعات تتبع مرجعية واحدة هي المرجعية العلمانية الرأسمالية الاستعمارية، وكأنها دين عالمي مقدس جديد من صنع البشر. وصدق الله تعالى إذ يقول في سورة النساء: : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).

لقد واجهت هذه الاتفاقية مقاومة شديدة من العديد من الدول تحفظت على عدد من بنودها، ومنها كثير من دول العالم الإسلامي، ولكن تحت الابتزاز والضغط، وبالنظر لضعف بعض هذه الأنظمة واهتزاز شرعيتها، وعدم قدرتها على التحصن بشعوبها، وبسبب الصراعات البينية بينها،  بدأت تتراجع عن تحفظاتها.

والذي يهمنا في هذه الاتفاقية بعدها الفلسفي المناقض للتصور الإسلامي للأسرة ومكوناتها وللمرأة وعلاقتها بالرجل.

إن المظالم المسلطة على المرأة في العالم سببها الأوضاع الثقافية والاقتصادية والاقتصادية والدولية التي خلقتها الفلسفة الليبيرالية الفردانية والنظام الرأسمالي التسلطي والحروب والأزمات التي أنشأها جشع الدول الاستعمارية، ولن تستطيع اتفاقية سيداو حماية المرأة بل ستزيدها بؤسا بسبب اتجاهاتها المخالفة للفطرة الإنسانية.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة آل عمران: (( وليس الذكر كالأنثى))، وقد تنوعت تفاسير المفسرين في هذه العبارة منهم من عدّها من كلام امرأة عمران ومنهم من عدّها من كلام الله كالصابوني في صفوة التفاسير والشوكاني في الفتح القدير، وهي في كل الأحوال من كلام الله، ولكنهم كلهم يتفقون أنها تعني أن الذكر والأنثى مختلفان في الخلق والدور في الحياة، ولا يصح التفضيل بينهما إلا بذكر المجال التي تفضل فيه المرأة الرجل أو الرجل المرأة.

إن المرأة في الإسلام ليست أدنى قيمة من الرجل وليست أعلى منه، وليست مساوية له ولكنها تختلف عنه، وبسبب هذا الاختلاف يقع التكامل وتنشأ الحياة البشرية وتزدهر وتستمر، وما الدمار البنيوي الذي تعيشه البشرية تحت قيادة القوى المناهضة للفطرة وديانة السوق والاستعباد الاستهلاكي وعبادة المتعة إلا بسبب الاعتداء على هذا الاختلاف في النوع والأدوار.

لقد فسّر كثير من فلاسفة الغرب المعادين للتوجهات الفردانية الليبيرالية الرأسمالية أن تفتيت الأسرة الذي وقع في الغرب هدفه  السيطرة على الإنسان فكريا بكسر مرجعية العائلة بعد كسر مرجعية الأديان، وزيادة اليد العاملة وخفض أجور العمال  بإخراج كل النساء للعمل ورفع معدلات الضرائب والاستهلاك لصالح أقليات تتحكم في ثروة العالم.

أما إذا أردنا أن نركز على المادة التي رفعت الجزائر تحفظها عنها، فإن أبعادها هو الحماية التشريعية للمرأة لتسهيل خروجها من بيتها والسفر حيث شاءت والسكن كما أرادت بغير إذن والدها وزوجها. وهي الفقرة الرابعة من المادة 15 التي “تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم”، وهذا التوجه بهذا الإطلاق غير جائز في الإسلام. فالأسرة في الإسلام مؤسسة اجتماعية تخضع للقوانين المؤسسية لكل كيان بشري منظم، أي يكون لها رئيس أو مدير أو ولي ( بغض النظر عن التسميات) يتم مشاورته في القضايا الأساسية ومنها الغياب والحضور ، ولقدسية الأسرة وأهميتها في استقرار المجتمع جعل الله لها رئيسا أبديا مبدئيا وهو الرجل وفق قوله تعالى في سورة النساء: (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)) فالرجل هو القائم على شؤون الأسرة، وسبب القوامة إنما هو التفاضل بينهم في أشياء مختلفة منها ما يكون الرجل فيها هو الأفضل فيه، كالقدرة على الحماية والكسب والنسب والإنابة ومواجهة الأزمات الخارجية، ومنها ما تكون المرأة أفضل كالقدرة على احتضان الأبناء وقوة العاطفة والتحكم في تفاصيل البيت الداخلية وغير ذلك، بالإضافة إلى الإنفاق المتعين وجوبا على الرجل دون المرأة. ولا تكون القوامة في الإسلام حكما مطلقا تسلطيا للرجل على المرأة، وإنما التشاور بين الزوجين هو من الصفات المطلقة في حياة المسلمين كقوله تعالى في سورة الشورى : (( وأمرهم شورى بينهم)) والنصوص من الكتاب والسنة كثيرة لبناء الأسرة على المودة والرحمة والاحترام والتعاون والتضامن، ليس المجال للتفصيل فيها.

ومع هذا الضبط في بناء الأسرة لم يغلق الإسلام أي مجال لارتقاء المرأة كالتعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وإنما يكون ذلك بالتشاور داخل العائلة كمؤسسة ترتقي بالنظام لا بالفوضى، وفرض  قوانين عامة وشاملة في تسيير شؤون الأسرة عابرة للثقافات هو ما ينشر الفوضى وينشئ الصراع داخل الأسرة.

لا يختلف علماء الأمة بأنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها إلا ما كان في إطار الضرورة أو ما هو متفق عليه ابتداء ، عبر ما يسمى بالإذن العام الذي يمنحه الرجل للمرأة فلا يحاسبها بعده على دخولها وخروجها، أو ما يُبرم في عقد الزواج كاشتراط المرأة على زوجها أن يسمح لها بالعمل أو مواصلة الدراسة أو نشاطها الاجتماعي، أو ما هو معمول به ومتوافق عليه عرفا فلا يحتاج إلى إذن.

إنه لا يوجد في بلادنا وفي أغلب البلاد الإسلامية أي مشكلة في خروج المرأة من بيتها في إطار تفاهم عام بين الزوجين، ولا يوجد في المجتمع حالات شكوى عامة عن منع الرجل لخروج المرأة من البيت في إطار المعقول، ولا يصح التشريع للحالات الشاذة.

إن الخوف من رفع تحفظ الجزائر على الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية سيداو  أن يطبق رفع التحفظ لسن تشريعات تحمي الحالات الشاذة من تمرد المرأة على الرجل وتوسيع حالات “النشوز”. ولنا مثل من الأمثلة في ما يمكن أن يحدث الجدال الواسع الذي وقع حول ارتكاز الحكومة المغربية على رفع تحفظ المغرب على هذه الفقرة من اتفاقية سيداو لعدم اشتراط الدفتر العائلي للزوجين عند الحجز للإقامة في الفنادق، إذ كثير من الأصلاء رفض ذلك  بسبب ما يتبعه من انتشار وحماية للفسق والمجون وإحراج العائلات والشخصيات المحترمة في الفنادق.

إن هذا التحول الذي وقع لدى صاحب القرار في بلادنا يدفعنا إلى الحيطة والحذر من آثار ضغوطات الدول الاستعمارية على سلامة عائلاتنا ومجتمعنا، ولا بد للقوى الفاعلة في المجتمع المرتبطة بثوابتها أن تسترجع حيويتها الحضارية وأن تخرج من الحسابات السياسية الضيقة، فإن استمرار مطاوعة النظام السياسي وهو  يزداد ضعفا وخضوعا أمام القوى الاستعمارية الدولية سيقضي عليها قبل غيرها، إذ لا وجود لها في هذا البلد إلا بالمحافظة على قيم هذا البلد واستقلاليته وسيادته، إن الفتوى بحرمة اتباع اتفاقية سيداو  معلومة وإن عدم المقاومة سيؤدي إلى تشريعات وطنية أخطر  من شأنها أن  تهدد انسجام العائلة وتفكك المجتمع وتخلق إشكالات كبرى لم تكن موجودة.

في ذكرى وفاة الشيخ محفوظ، الفصل الخامس من إصدار: “بين المصلحة الوطنية المصلحة الحزبية”

الفصل الخامس: التحليل والخلاصات

هذا الفصل لم يكن ضمن البحث الذي تم تقديمه في ملتقى الشيخ محفوظ رحمه الله في إسطنبول عام 2022  في ذكرى وفاته التاسعة عشرة، ولكنه أضيف قبل الطباعة والنشر في عام 2025  في الذكرى الثانية والعشرين لوفاته رحمه الله لمزيد من الفائدة، وهذه الإضافة هي اختصار للمعلومات التاريخية الواردة في البحث، التي لا تتغير، مع تحليل للمعطيات من زاوية نظر جديدة بعد نهاية عهدتي في هياكل الحركة، وهي أضافة معروضة للنقاش والإثراء.   

حاولت في هذا البحث أن أقترب من فهم علاقة المصلحة الوطنية بالمصلحة الحزبية، مستصحبا تجربة الشيخ محفوظ نحناح وحركة مجتمع السلم بهذا الصدد. 

ألزمني المطلب العلمي أن أضع أولا إطارا تعريفيا لمعنى الحزب والمصلحة الحزبية، ومعنى المصلحة الوطنية وسياقاتها الفكرية والفلسفية. 

فتطرقت إلى مفهوم الحزب في السياق القرآني، وكيف أنه يتناول عبارة الحزب في سياق سلبي كقوله تعالى في سورة المجادلة: (( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ـ 19)) وفي سياق إيجابي كقوله سبحانه في سورة المجادلة: (( أؤلئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون ـ 22))، ثم شرحت أن الحزب هو تنظيم بشري يتحزب فيه أفراده ليقوّي بعضهم بعضا وليتعاونوا على غاية ما، فيكون الحزب صالحا إذا كانت الغاية صالحة، ويكون فاسدا إذا كانت الغاية فاسدة. 

ولا نجد في تراثنا الإسلامي تأصيلا لمفهوم الحزب والتحزب أفضل مما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية (11/92)، فقد بين بكلام شاف كاف بأن الحزب وسيلة لفعل الخير ، ولكن لا يكون أبدا هو الشاهد على الحق أو القائم على الباطل لمجرد وجوده، فالحق يبقى حقا  وهو الشاهد على الحزب والباطل يبقى باطلا بمعزل عن الحزب، ولا تكون موالاة المتحزبين لبعضهم بعضا بالحق والباطل مراعاة للحزب، ولكن يحكم علاقاتهم مراعاة الحق والباطل،  فإن كان الحب والبغض في الحزب وليس في الحق أو الباطل فإن في ذلك انحراف بيّن عن الشريعة الإسلامية. 

ويحسن بنا مراجعة النص كما ورد في الفتاوى، يقول ابن تيمية: (أما لفظ (الزعيم) ؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وأنا بِهِ زَعيمٌ} ، فمن تكفل بأمر طائفة، فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك. وأما ((رأس الحزب))، فإنه رأس الطائفة التى تتحزب، أي: تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل ، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)

بعد ذلك عملنا على تعريف الحزب في المنظمات الدولية والقوانين الحكومية، وتبيين الأسس التي يقوم عليها الحزب، بما يميزه عن غيره من الأحزاب، من حيث الرؤية والبرامج والهياكل والحاضنة الاجتماعية، والوسائل التي يستعملها، والأدوار التي يقوم بها حين يكون في السلطة لخدمة المواطنين من خلال البرامج الحكومية، وأدواره حين يكون في المعارضة للتعبير عن أشواق ورغبات الشعب ومراقبة الشأن العام والضغط على السلطات للاستجابة لمطالبه. 

وبيّنا أوجه الاعتداء على الحزب، في وجوده وحقوقه المختلفة، وحقوق أعضائه،  وأساليب التضييق عليه بما يفقد مصالحه الحزبية فيؤثر ذلك عن المصلحة الوطنية. 

وفي تحديد مفهوم المصلحة الوطنية – ضمن الإطار التعريفي –  اتضح  أن هذا المصطلح لا معنى له في الدول الديمقراطية حين يتعلق بالنقاش السياسي الداخلي إذ لا يوجد فيها مجالٌ يُمنع بخصوصه النقاش السياسي، ولا سقفٌ لمعارضة السلطات الحاكمة، ولا حصانة من النقد لأي مؤسسة سيادية أو حاكم ولو كان رأس الدولة، سوى ما يتعلق أحيانا ببعض الإجراءات التي تُتخذ في ظروف أمنية استثنائية، أو في زمن الحروب،  ضمن ما يسمى ب”la raison d’état” التي تُترجم ب”المصلحة العليا للدولة” أو “مبررات الدولة” وهي إجراءات تتعلق أكثر بالسياسة الخارجية ونادرا ما تُتداول في الدول الديمقراطية في نقاش السياسات الداخلية. 

إنما تستعمل كلمة المصلحة الوطنية في النقاش الداخلي بشكل مبالغ فيه في البلاد غير الديمقراطية، وخصوصا الدول العربية، لتحصين النظام السياسي ورموزه وليس الدولة والبلد، في مواجهة نقد المعارضة، وإرباك هذه الأخيرة وتعقيدها. 

فهي عبارة استُعملت منذ نشأتها في عصر النهضة في أوربا في الإطار الخارجي في مواجهة الدول الأخرى، وتطورت من خلال كتابات العديد من الفلاسفة الغربيين الذين أسّسوا للمذهب الواقعي أمثال ميكيافيلي، وتوماس هوبس، وهانس مورغانتو وغيرهم. وقد اعتمد الملوك والأمراء الأوربيون هذا الاتجاه للتحلل من الأبعاد الدينية والأخلاقية في العلاقات الدولية، في الحروب بينهم وأثناء حركة الاستعمار وشن الحروب على الأمم الأخرى، كما استُعمل مفهوم ” المصلحة الوطنية” لتجاوز حدود المذاهب والاتجاهات الدينية المسيحية ابتداء من رئيس الوزراء الفرنسي أرمان دي ريشليو الكاثوليكي الذي تحالف مع بريطانيا البروتستانتية ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة الكاثوليكية في حروب الثلاثين سنة في القرن السادس عشر. ثم أصبح “المذهب الواقعي”  هو المذهب المهيمن والسائد في السياسة الخارجية الغربية، خصوصا في الولايات الأمريكية المتحدة، وخلت السياسة الدولية عن أي بعد أخلاقي بذلك في الزمن الراهن.

وفي الفصل الثاني المتعلق بالعلاقة بين المصلحة الشرعية والمصلحة الوطنية بيّن البحث أنه لا يجب ترك تحديد المصلحة الوطنية لأهواء الحكام ومصالحهم الشخصية، وإنما تُحدد المصلحة الوطنية بأمرين اثنين أولهما هدي الشريعة الإسلامية وما فيها من كنوز في دراسات “المصلحة الشرعية”، وثانيها بالتشاور والاتفاق الجماعي. 

أما “المصلحة الشرعية” فقد كتب فيها علماء الأمة، بشمول ودقة، أكثر بكثير مما كتبه الفلاسفة الغربيون في تحديد مفهوم “المصلحة العامة” منذ وقت مبكر في تاريخ التشريع الإسلامي إلى يومنا هذا. 

فقد اتفق علماء الأمة، كالغزالي وابن تيمية وابن قيم وغيرهم على أن ” مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكليفها، وتقليل المفاسد وتقليلها”  

وقسّموا المصلحة في الشريعة الإسلامية عدة أقسام للموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض، ومن ذلك تقسيم المصلحة من حيث اعتبار الشرع إلى مصلحة معتبرة شرعا ومصلحة ملغاة شرعا، ومصلحة مرسلة لا معتبرة ولا ملغاة، يُنظر إليها بمدى تحقيق مقصود الشارع، ومن حيث قوتها وأهميتها، وفق ما عرّفها الشاطبي،  إلى مصلحة ضرورية “لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، أو مصلحة حاجية “تحتاجها الأمة لانتظام أمورها على وجه أحسن للتوسعة ورفع الضيق، أو مصلحة تحسينية من قبيل التحسين والتزيين وهي ما كان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر في مرمى بقية الأمم، ومن حيث الشمول إلى مصلحة عامة تتعلق بجماعات في الأمة، كمصلحة فئة معينة أو أصحاب حرفة ما، أو مصلحة خاصة لشخص بعينه، كما يضيفه الطاهر بن عاشور في تعريفاته.

أما عن التشاور والاتفاق، فهو ما حددته الديمقراطية العصرية عبر مفهوم “العقد الاجتماعي” الذي يحدد الواجبات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم و”دولة القانون” التي يشرع فيها ممثلو الشعب، المنتخبون بحرية ونزاهة، ويعيش فيها الناس تحت سلطة القانون، حاكمهم ومحكومهم. 

وقد شدد الشيخ محفوظ نحناح على ذلك كثيرا حينما رأى التعسف الكبير الذي أبانت عليه السلطات الجزائرية في استعمال عبارة ” المصلحة الوطنية” فأطلق عبارة ” المصلحة الوطنية المتفق عليها”، مؤكدا بأن لا التزام بين الحاكم والمحكوم إلا بالمصلحة الوطنية المتفق عليها.

ثم انتهى البحث في هذا المحور إلى وضع معايير أساسية لتحديد “المصلحة الوطنية”  فذكر ، من جهة، ما يدخل فيها ولا يصح الاختلاف بشأنه، كالقضايا التي تتعلق بهوية البلد وثقافته، وبمصالحه الاقتصادية ذات النفع العام على البلاد والعباد، وما يتصل بأمن البلد وأمن السكان، وبالاستقرار الاجتماعي ووحدة البلد،  وما يضمن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية، وما يحمي الدولة و يحقق سلامة مؤسساتها، وما يمنع الفساد وكل أنواع الضرر والغش ومصادرة الإرادة الشعبية، وما يتعلق بصيانة السيادة الوطنية ومنع الخيانة والتبعية. وبيّن، من جهة أخرى، ما لا يدخل في المصلحة الوطنية، مما يُتحمل الاختلاف بشأنه، كالسياسات والقرارات والقوانين والبرامج الحكومية، وشخصية الحاكم وتصرفاته، في أي موقع كان، على المستوى المحلي أو المركزي، وما يتعلق بالتصرفات المهددة للمصالح الوطنية المذكورة أعلاه التي قد يتخذها الحكام، وما يتصل بالعلاقات العادية الداخلية والخارجية التي يقوم بها الأفراد والجماعات التي لا تهدد المصالح الوطنية المذكورة.  

في الفصل الثالث حرص البحث على التأكيد بأن المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية، وكما هي كل حقيقة قد يكون لها استثناء لا يقاس عليه. 

فما دام دور الحزب هو السعي للوصول إلى السلطة، وما دامت غاية السلطة هي تحقيق مصلحة البلاد والعباد، فإن الحزب هو من يجسد ذلك من خلال برنامجه وعمل أفراده الذين يختارهم الشعب لذلك، فالمصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية متداخلتان على هذا الأساس. 

وما يجعل عمل الحزب ينتهي إلى تحقيق المصلحة الوطنية هو ذلك التدافع الذي تؤطره الديمقراطية لكي يكون حضاريا ويضمن تداولا سلميا حقيقيا على السلطة، فإن غاب التدافع حلّ الاستبداد والفساد، حتى وإن وُجدت التعددية الحزبية كما هو حاصل في ديمقراطيات الواجهة. 

وبالرغم من أنه يصعب تصور وجود الديمقراطية في أنظمة الحزب الواحد فإن حزبا واحدا بداخله رقابةٌ على الشأن العام وتدافعٌ حقيقيٌّ حول الأفكار والبرامج والمصالح وتداولٌ فعليٌّ  أفضل من تعددية حزبية دون تدافع ودون رقابة على الشأن العام. ولهذا قد تفُضَّل أحاديةُ الحزب الواحد الصيني بواقع التدافع الحقيقي الحاصل فيه عن التعددية الحزبية الصورية في العالم العربي، التي تحكمها قوى فاعلة من خلف المشهد السياسي لا أحد يستطيع أن يسائلها.   

تؤدي الأحزاب أدوارا مفيدة جدا للأوطان من حيث استيعابها للخلافات وتوجيهها وجهة قانونية إيجابية، ومن حيث تمكينها للمواطنين من المشاركة في الشأن العام ونفع بلدهم بكفاءاتهم، ومن حيث تأهيل النخب وتدريبهم وتكوينهم بالمعارف والتجارب، وتفتيق قدراتهم بالفرص التي تتاح لهم، وصقل شخصيتهم بالقيام بالواجب وتحمل المسؤوليات، ومن حيث التوعية الشعبية ورفع مستوى الجماهير عبر الخطاب السياسي والتنافس على البرامج بين الموالاة والمعارضة، وشرح قرارات ومنجزات الحكومة أو كشف أخطائها وعيوبها وحالات الفساد. 

كما تؤدي الأحزاب أدوار الوساطة بين السكان والحكام، للاستفادة من الخدمات الحكومية ولحل الأزمات وتقريب وجهات النظر بما يحدد المشترك الوطني والتعارف والتفاهم، وأدوار الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية البرلمانية للدفاع عن البلد وبما يحقق مصالحه ويعرّف الغير به وبالفرص المتوفرة فيه في مجالات الاستثمار والتعاون الدولي وما يتصل بذلك. 

ومن أهم ما تقوم به الأحزاب دورها في رسم السياسات الحكومية وتوجيه القرارات الرسمية سواء ما تقوم به أحزاب الأغلبية بشكل مباشر، أو ما تقوم به أحزاب المعارضة بشكل غير مباشر عبر فرص التشريع البرلماني وأدوات الرقابة، ومن خلال وسائل الضغط الشعبي والإعلامي المختلفة، بما يجعل الأغلبية تحاول سحب البساط من منافسيها بتبني المطالب الممكنة. 

ويسجل التاريخ أن كثيرا من الأوطان نهضت بعزمات قيادات سياسية وحزبية نذرت نفسها لرقي بلدانها فكبرت بلدانها وكبرت هي معها. 

ومما يجدر التنبيه إليه أنه قد يحدث تعارضٌ بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية، فإن قدمت القيادات الحزبية في هذه الحالة المصلحة الوطنية تكون قد خدمت مصلحة حزبها، لما تمنحه إياه من مصداقية وسمعة طيبة سيستفيد منها لاحقا. 

غير أن هذا التعارض تعارض استثنائي، يحدث بشكل نادر في زمن الأزمات والحروب. فإذا طُلب في بلدٍ ما من الأحزاب أن تظل تقدم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، فالمشكلة في من يقود الوطن لا في من يقود الأحزاب، لأن استمرار أزمات الوطن دليل على فساد أو عدم أهلية من يقود الوطن، وتصبح المصلحة الوطنية في هذه الحالة منوطة بتغيير من يقود الوطن، وليس في إرهاق الأحزاب بالتخلي الدائم عن طموحاتها.    

وفي الفصل الرابع والأخير ، ركّز البحث على شخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، فذكر بنشأته وركائز بناء شخصيته، ومساهماته الدعوية، وسبقه في العمل السياسي، ومعارضة النظام السياسي الأحاديّ ونهجه الاشتراكي، معارضة صارمة أدت إلى سجنه، وعن مرحلة الثمانينات بعد خروجه من السجن وما تميز به في نهجه الدعوي ومنهجه السياسي المرن والمعتدل المتوائم مع الانفتاح السياسي في عهد الشاذلي بن جديد. 

ثم تم التطرق الى مرحلة التعددية وما صاحبها من استقطاب شديد، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، ومحاولاته، رحمه الله، رأب الصدع بالحوار عبر المبادرات العديدة التي أطلقها في اتجاه الأحزاب بكل توجهاتها والسلطة الحاكمة بكل تناقضاتها، من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وكيف أنه صار مقتنعا بضرورة العودة إلى مسار انتخابي جديد يفصل فيه الشعب في الأمر، خصوصا بعد فشل مبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، وفشل مبادرة الندوة الوطنية التي نظمها النظام السياسي، اللذين شارك فيهما مع ممثلين حزبه ثم انسحب منهما كلاهما لعدم توفر  إرادة اجتماع طرفي الأزمة. 

لقد دفع استحكام الأزمة الأمنية  الشيخ محفوظ إلى تغيير أولياته، بتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، وتأجيل طموحه الشخصي والحزبي إلى ما بعد الأزمة، فتبنى مقاربة المشاركة السياسية والدخول في مؤسسات الدولة، ابتداء من المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 1995 ومختلف الانتخابات  التشريعية والمحلية وفي  العديد من الحكومات، وذلك للمساهمة في وقف سيل الدماء وتحقيق الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، وبلور في هذا الإطار مقاربة التفريق بين النظام السياسي الذي يمكن معارضته عند الاقتضاء والدولة التي يجب صيانتها في كل الأحوال. 

وكان ثمة في هذا السلوك السياسي شيء من المصلحة الحزبية كذلك، من زاوية أنه كان يقصد رحمه الله  من المشاركة السياسية  المحافظة  على بقاء حزبه في الساحة، ولتجاوز مكائد  التيار العلماني الاستئصالي الذي استغل فرصة الأوضاع الأمنية للتحكم في دواليب الحكم، والمحافظة على مناضليه من التهديدات التي كانت تحيط بهم من جهات متعددة،   وصيانة الفرص المستقبلية لمشروع حزبه، وكذا تدرب مناضليه على تسيير الشأن العام ومحاولة التأثير من داخل مؤسسات الدولة. 

غير أن هذا النهج حورب من طرفي الصراع فقتل الإرهاب قرابة 400 فرد على رأسهم نائب الشيخ محفوظ ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله، واستُحكمت سياسات الإقصاء من قبل النظام السياسي عبر مسار التزوير المستدام، وإقصاء إطارات الحركة لأسباب سياسية، ومحاولة التضييق على وجود الحركة في المجتمع المدني ومختلف مكامن القوة في الدولة والمجتمع. 

لقد فاجأ الاحتفاء الشعبي الكبير الذي تمتع به الشيخ محفوظ رحمه الله في الانتخابات الرئاسية عام 1995 النظام السياسي الجزائري، فعمد إلى استعمال العنف في صناديق الاقتراع لتغيير النتيجة، ثم غيّر الدستور في العام الموالي لإخراجه رحمه الله من العمل السياسي وإضعاف فاعلية حزبه. 

لم تشفع  لدى النظام السياسي نفسية العفو التي تعامل بها رحمه الله، وصبره الطويل على التزوير المستدام في كل الاستحقاقات الانتخابية، وعدم اعتماده سبيل التهييج الجماهيري، وبحثه الدائم عن تطمين السلطات حتى تتقبله هو ومناضلي حركته وتسمح لهم بهوامش في المشاركة السياسية تتناسب مع حجمه الشعبي الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية عام 1995 بما يمكنه من المساهمة في تجسيد مطلب المصالحة الوطنية، ونهضة البلد. 

وفي الأخير أدرك عليه رحمة الله أن النظام السياسي القائم ليس شريكا يُعتدُّ به في العمل السياسي الوطني المشترك، ونظر إلى منعه من التشرح في الانتخابات الرئاسية عام 1999 أنه محاولة خبيثة لاغتياله سياسيا، ليس لمصلحة الوطن ومصلحة الدولة كما كان يتشدق به بعض المسؤولين في تبرير مسار التزوير، ولكن لمصلحة شخوص الحكام والمسؤولين، ولمصلحة تيارات علمانية منها من يشتغل لصالح الأجانب. ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فأنهت حياته السياسية رحمه الله إذ انتقم أصحاب القرار من إصراره على الترشح بما جعل إقصاءهم الظالم خادشا لشرعية انتخاب عبد العزيز بوتفليقة في عهدته الأولى خدشا لم يتقبله هذا الأخير أبدا، وقد تمثل الانتقام في طرائق عدة منها زحزحة الحركة من المرتبة  الثانية بعد التجمع الوطني الديمقراطي في برلمان 1997 إلى المرتبة  الرابعة بعد حركة الإصلاح الوطني في الانتخابات التشريعية عام 2002، كما كان تراجع الزخم الشعبي الذي ظهر في هذه الانتخابات مؤلماً له كثيرا، رغم رباطة جأشه التي رأيتها فيه شخصيا حين حدثته بعد النتائج عن تفوق حزب الشيخ عبد الله جاب الله فقال لي: (( أحمد الله أن الذي تجاوزنا حزب إسلامي)). 

لقد أثرت هذه الأحداث المؤلمة كثيرا في قناعاته فبدأ يُفكر في الابتعاد التدريجي عن نظام الحكم، ومن دلائل ذلك ما أشهد به أمام الله مما كان يقوله لنا في الجلسات المغفلة عن انحرافات السلطات الحاكمة الخطيرة بما كان لا يسمح حتى في التفكير فيه. ولئن تجاوز الشيخ محفوظ نحناح عن الذين أقصوه عام 1995 وسمح في حقه، فإنه لم يتجاوز عن الذين أقصوه عام 1999 ، وأظهر سخطه عما حدث له كما لم يفعل مع ما حدث له من قبل، وسمعته بنفسي يعبر عن ذلك لبعض المسؤولين الكبار في الدولة، بل إنه أخذ ينظّر لتغيير الخط السياسي من خلال تأليف كتاب تحت عنوان “الدولة وأنماط المعارضة” ومن غرائب ما حصل بعد وفاته اختفاء مسودة هذا الكتاب وتغييبه نهائيا.  

أضرّت كل تلك الأحداث بمعنويات الشيخ محفوظ وبصحته رحمه الله، فلم يصبح بتلك البشاشة والأريحية في التعامل المعروف بها، وصار يتغيب عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني، وفي سنة 2003 توفاه الله رحمه الله رحمة واسعة. 

بعد وفاته ابتليت حركته بالانشغال بنفسها ومعالجة حالة الانشقاقات والخلافات الكبرى التي وقعت فيها،  ومن دلائل صرف الاختلافات عن الحكمة والعقلانية السياسية  شدة الارتباط بالنظام البوتفليقي الذي باتت كل المؤشرات تدل على إفلاسه واستحالة إصلاحه من الداخل، وقد كان الخطأ الفادح الناتج عن ذلك النهج ( الذي لا علاقة له بنهج الشيخ محفوظ) فتح العهد الرئاسية لصالح بوتفليقة عام 2008. 

لم ينفع النهج الذي اتّبعته الحركة المصلحة الوطنية حيث رأينا جميعا المآل الذي وصلت إليه البلاد وكيف سيطرت عصابات خطيرة على القرار، لم يخلصنا من تغوّلها سوى الحراك الشعبي، كما لم ينفع ذلك النهج المصلحة الحزبية حيث عرفت الحركة انشقاقات خطيرة، وتراجعا في الانتشار وفي الرمزية وفي همة وحماس المناضلين،  وضاعت منها مؤسسة الشبيبة والمؤسسة الطلابية وعرفت مؤسستها الاجتماعية هزات وانشقاقات، وتراجعت في الانتخابات التشريعية عام  2012 رغم التكتل الإسلامي الذي أقامته مع حركة الإصلاح والوطني وحركة النهضة، حيث لم يحقق “تكتل الجزائر الخضراء” النتائج المرجوة على شاكلة نتائج التيار الإسلامي في العالم العربي في أجواء الانتفاضات الشعبية. 

لقد رسّخ هذا النهج – المخالف للتوجهات المؤسسة للحركة الإسلامية في الثمانيات-  توالي الأزمات الخارجية والداخلية منذ بداية التسعينيات، وشعور الجميع بأهمية الحماية داخل مؤسسات الدولة،  حتى صار  مكونا جينيا  يتحكم في فكر وتصرفات أغلب إطارات الحركة. وأحسن من عبر عن هذه الحالة عبد الحميد مهري رحمه الله بقوله: ” لما أصبح الجزائري  يشعر  بالطمأنينة عند رؤيته الدبابة في الشارع معنى ذلك أن الأزمة صارت عميقة جدا” وأستطيع أن أقول أن النظام السياسي نجح في تحويل الأزمة لصالحه، كنظام سياسي،  دون أن ينجح في خدمة البلد من حيث الحريات والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتطور العلمي والتكنولوجي، والحضاري بشكل عام.

ولكن استطاع الربيع العربي عام 2011 ، وانهيار منظومات الحكم المستبدة والفاسدة في عدد من الدول العربية، وكذلك التحركات الشعبية في جانفي من نفس السنة بالجزائر أن يهز  تلك القناعات التي ترسخت في الحركة فجعلت عموم المناضلين يشعرون بأنهم في المكان الخاطئ من التاريخ فسارعوا إلى مغادرة الحكومة بعدما تأكد لمجلس الشورى الوطني أن الإصلاحات التي وعد بها بوتفليقة أُفرِغت من محتواها، وفق ما بيّنه البيان الرسمي للحركة، والبيان الجماعي لتكتل الجزائر الخضراء، ووفق التقرير السلبي جدا عن محصلة التحالف الرئاسي، الذي قدمه رئيس الحركة للمؤسسات وحتى للرأي العام آنذاك. ويكفي النقر في محركات البحث الإلكترونية للحصول على هذه النتائج والتقارير. 

عندما وصلت الحركة إلى هذه الخلاصة، خرجت من الحكومة عام 2012، ثم جاء  مؤتمر 2013  فغيّر النهج السياسي واختار القيادة التي تناسب الخط الجديد، وثبّت الرؤية السياسية التي صدّقتها تقارير الفرصة الأخيرة قبيل الخروج من الحكومة، بتأثير من الأحداث الكبرى التي هزّت القناعات هزّا عنيفا،، مثل  الربيع العربي عام 2012 ثم الحراك الشعبي عام 2019. 

شرعت الحركة ابتداء من 2012 – عند قرار الخروج من الحكومة ثم ابتداء من المؤتمر الخامس الذي حمل شعار ” حركة تتجدد وطن ينهض”  – في إعادة النظر في فهم مدلولات العلاقة بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بالتأكيد بأنه لا يمكن للوطن أن ينهض دون أن تتجدد الحركة في رؤاها وخططها وبرامجها ومواقفها وسياساتها وخطابها، ولا يمكن أن تتجدد  الحركة دون صناعة البيئة التي  ينهض بها الوطن، من خلال الضغط على النظام السياسي، عبر  العمل الشعبي والخطاب الإعلامي والرقابة السياسية والبرلمانية، وغير ذلك. 

ومن تلك اللحظة وعلى أساس هذا الشعار شرعت الحركة في إحداث ثورة على مستوى الفكر  والاستراتيجيات  والمقاربات السياسية والدعوية والتنظيمية والتكوينية، عبر إعادة توزيع الوظائف  الفكرية والسياسية، والدعوية والتربويّة، والاجتماعية والمجتمعية، ثم عبر مقاربة المقاومة السياسية في الخط السياسي والتخصص الوظيفي في الخط الاستراتيجي، فحرّكت الساحة السياسية عبر تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي منذ 2015  وكانت هي الطرف الأساسي في تنظيم تجمع المعارضة التاريخي في مازفران، وكان من نتائج ذلك على مستوى المصلحة الحزبية أن الحركة حققت نموا في النتائج الانتخابية عام 2017 واسترجعت الولايات التي ضاع فيها تمثيل الحركة في انتخابات  2012، ولكن دون المأمول بسبب عدم اكتمال الصورة الجديدة للحركة في ذهن الناخبين والعزوف الانتخابي العام الذي تأثرت به نتائج كل الأحزاب من حيث عدد الأصوات، ولكن وقع النمو اللافت بالضِّعف في الانتخابات التشريعية عام 2021 بزيادة 34 مقعدا على انتخابات 2017، وهي النتيجة التي اقتربت بها الحركة لأول مرة من أعلى نتيجة عام 1997 (69 مقعدا) في زمن الشيخ محفوظ في الوقت الذي كانت فيه الحركة موحدة وكان الإقبال الشعبي على الانتخابات كبيرا. وقد فسَّرتُ هذا الاقتراب من النتيجة التي حققها الشيخ محفوظ كرسالة للمناضلين بأن هذا هو النهج الأصلي الذي بدأت به الحركة من منابعها الإسلامية الأولى، والذي حاول الشيخ محفوظ الرجوع إليه قبيل وفاته، كما شرحنا ذلك أعلاه، ولم تسعفه المنية للأسف الشديد لتحقيق ذلك إذ غادر قبل أن يشرح الخريطة وصار كل واحد من أتباعه يفسرها وفق قناعاته وموقعه وطموحاته. 

أما النتائج التي تحققت لفائدة المصلحة الوطنية فهي حالة الوعي التي تشكلت لدى الجزائريين عبر العمل السياسي المشترك والتي فجرت الحراك الشعبي الذي خلّص الجزائريين من المجموعات المافياوية (التي سماها الحراك “العصابة”) التي تسلطت على البلد أثناء العهد البوتفليقي. 

لم تكن النتائج الإيجابية التي حققتها الحركة بعد تغييرها خطابها وخطها السياسي بين 2013-2023   تتعلق بالانتخابات فقط، فقد تميزت بتحسن رمزيتها وارتفاع سمعتها ومعنويات مناضليها، كما تحقق لها استقرار غير مسبوق ونجحت في إنجاز الوحدة الاندماجية مع جبهة التغيير واستمر النقاش حول موضوع الوحدة مع الحركات الإسلامية الأخرى، ونمت هياكلها التنظيمية، واسترجعت مؤسستها الطلابية واستقر وضع مؤسستها الاجتماعية وأسست فضاءات مجتمعية أخرى بثلاث أضعاف غطت وظائف أساسية للحركة كانت متروكة أو ضعيفة، استطاعت أن تنتشر في كامل التراب الوطني وبعضها وصل الى العالمية، وعاد إلى صفوف الحركة أعداد كبيرة من القادة والمناضلين الذين تركوها، بسبب الوحدة أو للعمل في اختصاصات يميلون إليها صارت متوفرة في المؤسسات الجديدة، كما أن الحركة استرجعت مكانتها الدولية وصار  رجالها قادة في منظمات عالمية مرموقة في العديد من المجالات، وباتت في طليعة الداعمين للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي. 

ويبقى السؤال مطروحا، في الأخير، هل هذا التغيير والتطور الإيجابي الذي وقع في الحركة والذي ثمنه بما يفيد الإجماع مؤتمر 2023 هو تغيير عميق نفذ إلى المركّبات الجينية للحركة التي صنعتها الأزمات فجعلتها تنحو تلقائيا نحو دوائر السلطة؟ أم هو مجرد طفرة شديدة التأثير ولكنها عجزت عن النفاذ إلى المركبات الجينية المحصنة في أعماق نفوس وعقول إطارات الحركة، حتى أولئك الذين شاركوا في قيادة الحركة بين 3013-2023؟ وهل سيتلاشى أثر الطفرة بعد مغادرة رئيس الحركة الذي أحدثها وقادها؟ وهل ستعود الحركة عندئذ لأحضان النظام السياسي، وتندمج فيه من جديد، رغم استمرار حالات الفساد والفشل في تحقيق نهضة البلد، ورغم الأدلة الألف بأن التغيير من الداخل ليس ممكنا، خصوصا بعد فشل مفاوضات تشكيل الحكومة التي أبان فيها النظام السياسي بأنه لم يتغير شيء من  عقليته الإقصائية ونزوعه للهيمنة والتحكم وإضعاف المنافسين والشركاء؟ وخصوصا بعد النتائج الإيجابية، استراتيجيا وسياسيا، التي حققها النهج المعارض المتبصر لصالح المصلحة الحزبية للحركة والمصلحة الوطنية للجزائر؟

إن الأيام والنتائج ستبين، ولئن كان الربيع العربي قد أدى دوره في حدوث صحوة المناضلين في 2011 كما بيّناه أعلاه، كحقنة تطعيم أولى ضد الاستبداد، ولئن كان الحراك الشعبي عام 2019 قد أكد التطعيم كحقنة تذكير  فإن مبررات حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية على ذات المنوال لا تزال قائمة، والخشية أن تجد الحركة نفسها مرة أخرى في المكان الخاطئ من التاريخ، فلا تسلم الجرة في كل مرة! 

توينبي وقصة تفكيك الدولة الوطنية (2)

يفسر توينبي نشوء الحضارات من خلال نظريته المشهورة “التحدي والاستجابة”، حيث اعتبر أن الإنسان والأمم والشعوب تتجاوب مع التحديات الخارجية إما بالانكفاء على الذات والتسلح بالماضي وتقاليد السابقين فتضعف وتنضوي، أو تعترف بحقيقة التحدي وتواجهه للتغلب عليه بالإبداع إلى أن تصبح أقوى منه، فتنشأ الحضارات في أي شعب حين يقبل أفراده التحدي، وتسقط حين تتوقف الاستجابة التلقائية للتحديات المستجدة.

ويؤكد أن الاستجابة للتحدي تكون عبر فئة قليلة إبداعية من داخل المجتمع الذي يواجه التحدي يسميها “الأقلية الخلاّقة” (creative minority)، وهي طبقة قيادية ملهمة تتوصل إلى تقديم الإجابات المناسبة للمشاكل والأزمات التي تعترض بلدانهم ثم تتبعهم الأغلبية عن طريق القدرة على المحاكاة (Faculty of mimesis) التي تمثل السبيل الغالب في عملية الانقياد الاجتماعي، وهو ما يمكن أن نسمية “أثر القدوة في صناعة التيارات الاجتماعية”، و في ذات السياق يوضّح أن التأثير الذي تصنعه “الأقلية الخلّاقة” ليس تأثيرا ماديا، ولكن له طبيعة روحية وفكرية عميقة تصنع قوة داخلية خفية جبارة تدفع للإبداع والتفاعل النشط مع المحيط الخارجي.  

ويرى توينبي أن الحضارة تبقى تنمو وتتوسع ما دام ثمة تواتر في بروز “أقلية خلاقة” من قيادة روحية أو نخب ملهمة في كل مرحلة من مراحل الدورة الحضارية تستجيب للتحديات المتتالية، بغرض إعادة بناء الداخل وفق استجابات حضارية جديدة لا تعتمد على الإكراه والتكرار والتقليد، ولكن على المحاكاة المجتمعية الإيجابية التي تضمن توسع المشاركة في البناء الحضاري.

ويبدأ التراجع الحضاري، عنده، حينما تُفقَد النخب المبدعة، وتغيب الطبقات القيادية الملهمة القادرة على الاستجابة للتحولات والتحديات المستجدة ويطفو على المشهد القيادي أقلية مسيطرة، ضمن ما يسميه استبدال “الأقلية الخلاقة” (Creative Minority) التي كانت تتبعها الأغلبية بقناعة، ب ا”لأقلية المسيطرة” (Dominant Minority) ، التي تتشبث بالسلطة والانتفاع بالمزايا الحضارية السابقة دون إبداع وتعمل على فرض نفسها بالقوة بدل الإلهام، وفرض اتباع الناس لها دون استحقاق. فينتج عن ذلك انسحاب الأغلبية وتوقف ظاهرة “المحاكاة الحيوية” (Mimesis)، وبداية بروز فئة من المنشقين (Schismatics) تحاول البحث عن حلول للتحديات، ومنها تحدي مواجهة النخب الحاكمة المهيمنة، فإن كانت تلك الفئة المعارضة مبدعة ومُجددة تتوصل إلى الاستجابة للتحديات  وتؤول الأمور إليها وينبعث فجر  جديد من قلب تلك الحضارة، وإلا يتجه المجتمع نحو الصراعات، التي تعالجها “الأقلية المسيطرة” بالقوة والعسكرة والانضباط القسري، والشوفينية الجوفاء، والاعتماد على  الدين  كطقوس خالية من أي أثر روحي أصيل، وتحويل الطاقة الدينية إلى مؤسسة تابعة لا أثر لها في الفعل الحضاري، و مختلف المؤسسات إلى قشور مؤسسية فارغة غير منتجة.

يؤكد توينبي بأن الحضارات لا تُقتل (من الخارج) ولكنها تنتحر (من الداخل)، ويبدأ التراجع من المركز وليس الأطراف وذلك بتوقف الإبداع لدى النخب، وانطفاء أنوار القيم المؤسسة للحضارة، وانتشار الظلم والقمع، والصراعات والانشقاقات وتشكُّل مجموعات داخلية (Internal Proletariat ( تابعة، سلبية ومهمّشة، ومُقلدة، وغير مشاركة في الفعل الحضاري، ومجوعات خارجية (External Proletariat) على هامش الحضارة تتسم بالفقر والتخلف والحسد والحقد على القوى المهيمنة الظالمة. وفي مرحلة نهاية الدورة الحضارية تحاول الأقلية المتحكمة فرض نموذج سياسي مركزي (Universal State)، يستعمل فيه القانون والمؤسسات لضبط المجتمع، والشرعية القسرية بدل الإقناع والتأثير وشرعية الإبداع والإنجاز، والحفاظ على الاستقرار الشكلي بهيبة الدولة والهالة المؤسسية لمنع التمرد والانقسام، مستشهدا بأمثلة من الحضارات والدول القديمة في فترات انحطاطها، كالإمبراطورية الرومانية، وأسرة الهان الصينية، والخلافة العباسية في بغداد، والامبراطورية المغولية بعد تشكلها. ويؤكد بأنه حين تفشل الدولة المهيمنة عن بعث المعاني الأخلاقية والإبداعية وعن تقديم أي مشروع إنساني، تظهر ملاذات روحية للجماهير غير رسمية، تملأ الفراغ المعنوي الذي تتركه النخبة المتكلسة والدولة المسيطرة، يبحث الناس من خلالها عن معاني روحية قدرية يتشبثون بها أثناء مرحلة الانهيار وعجز الدولة عن تحقيق المعنى رغم قدرتها على التحكم والسيطرة، ويمكن لهذا الملجأ الروحي الجديد أو المتجدد أن يكون بديلا خلاقا للدولة المسيطرة  إذا اعتمد الإبداع والتجديد القيمي فتكون حاضنة الانبعاث الحضاري، أو يزيد الدولة القائمة تكلسا وجمودا ويساهم أكثر في الأفول ونهاية الروح الحضارية. ويضرب المثل في هذا الشأن بالديانة المسيحية بعد انهيار روما، وبروز الصوفية الإسلامية في أواخر العهد العباسي، والبوذية في حضارات شرق آسيا.   

إن التحديات التي تجذب الجزائر نحو الأسفل كثيرة ومتنوعة، مثلها مثل الدول العربية الأخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودولية، سجلتُها في كتاب لم يصدر بعد عنوانه ” ما بعد الحراك” سأنشر بعض فصوله في الأسابيع المقبلة بحول الله،  يقابل كتاب سابق صدر لي بعنوان “ما قبل الحراك: في التيه الحكومي وعن البدائل المنشودة”.

للأسف الشديد  لم تجد هذه التحديات الكبيرة قيادة خلاّقة (Creative Minority) تبدع في الاستجابة لها. ومع استدامة التحديات وعدم رفعها، منذ عقود من الزمن، صارت مشاكلنا معقدة ومهيكلة، تجاوز إمكان حلها الحدود الطبيعية للإبداع. وبسبب غياب القدوات السياسية، لم ينشأ في الجزائر تيار يميل لمحاكاة القادة محاكاة عاقلة مبنية على الثقة (Faculty of mimesis)، ونشأ في المقابل أقلية مسيطرة على الحكم ((Dominant Minority) متشبثة بالسلطة وامتيازات ومنافع الحكم، تستعمل القوانين واللوائح والمساطر والمؤسسات للسيطرة على الجمهور، ومع تعمق السيطرة نشأت مجموعات شعبية ونخب مجتمعية تدور في فلك الحكم  لجأت إلى دوائر الأمان والاستسلام والتقليد الأعمى لخطاب وتصرفات الحاكم والخضوع والرضا بالعيش في إطار الحد الأدني من ظروف الحياة، وما تتيحه السلطات من هوامش ضيقة في مجال الحريات والحركة الاقتصادية والفعل الاجتماعي ضمن حالة عجز كامل عن المشاركة في أي فعل حضاري (Internal Proletariat (، يقابلها فئات شعبية عريضة وطبقات واسعة من النخب انسحبت  من المشاركة  في قضايا الشأن العام وصناعة المستقبل، انكفأت على نفسها تعبر في الدوائر الضيقة المحلية عن سخطها من ظروفها المعيشية الصعبة وعن أحقادها على النخب الحاكمة ومن يساندها. وكنتيجة حتمية برزت مجموعات معارضة لنظام الحكم (Schismatics) متعددة المشارب والتوجهات، أغلبها يعمل خارج الإطار الرسمي. ولم تجد السلطات الحاكمة من حل لمواجهة هذه الأوضاع سوى فرض نمط الحكم المركزي المتشدد القائم على التحكم والسيطرة.

لا يدري إلى أين سينهي هذا الوضع، هل سيبرز من القوى المعارضة أقلية خلاقة جديدة، تحمل مشاريع إبداعية جادة، تصنع تيارا شعبيا متأثرا برؤية المرجعيات الجديدة فيبزغ فجرها ونقيم دولة قوية من الداخل تقهر كل التهديدات الخارجية، أم أن الأقلية المسيطرة ستواصل جرنا إلى الأسفل في غفلة تامة من الأغلبية التابعة النائمة، فيكون انتحارنا داخليا، ونفكك دولتنا الوطنية بأيدينا، ونسقط بإرادتنا جميعا بين يدي القوى الخارجية.    

في ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة للدولة (2)

حينما نتأمل في ما ذكرناه في المقال السابق المتعلق بالأحداث الكبرى التي سبقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ندرك بأن المطلوب من صاحب الرسالة بذل الجهد لنشر دعوته وركوب كل المخاطر للتمكين لفكرته. فهذا المصطفى المجتبى المؤيد بالوحي قد عمل في السر ثلاث سنوات لبناء القاعدة الصلبة التي يشيد  عليها المشروع، وتقوم عليها الدعوة،  وتنطلق منها الرسالة، ثم خرج للعلن يصدع بما أمره الله مدة سبع سنوات، فلقي هو ومن آمن معه من الصد والإيذاء ما يجعل من يقرأ  قول الله في نبيه: (( إلا تنصروه فقد نصره )) التوبة 40، ((إنّا كفيناك المستهزئين)) الحجر 95، ((إن شانئك هو الأبتر)) الكوثر 3 ، يفقه بأن الوعد بالنصر لا يعفي من الابتلاء على الطريق، حتى وإن كان المعني هو خير خلق الله أجمعين الذي قرن الله  واجب توقيره سبحانه بتوقيره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقال: (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) الفتح:8-9. ورفع الله ذكره  وشهد الله بالخُلق العظيم بين خلقه.

وحين اشتد عليه الكرب وزاد عليه القهر والصد، في السنة العاشرة بعد البعثة، راح يعرض نفسه على القبائل خارج مكة من غير قريش، فوجد من الأذى عند ثقيف في الطائف ما تزعزعت له الجبال حتى كاد الملَك المتصرف فيها من قبل الله أن يطبق عليهم الأخشبين، وتَتابع إنكار القبائل لحديثه ودعوته،  تصديقا منهم لخذلان قومه له،  ولِما يُروّجه عليه عمُّه “أبو لهب” من الأكاذيب والأراجيف.  وحتى حينما استمال القبيلتين الكبيرتين في السنة الحادية عشرة من البعثة قبيلتي  ” بنو عامر” و “بنو شيبان” اشترط  قادتها شروطا تخالف أمر ربه – كما بيناه سابقا – فتركهم. 

ولئن كان العجب كبيرا أن يبذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك الجهد فلا يفلح في أي مسلك سلكه في دعوة تلك القبائل كلها، فإن العجب الأكبر أن الظروف التي فتحت له يثرب لم يكن له فيها يد ولا سابق جهد سوى لقائه مع ستة من شباب الخزرج في مكة لم يكونوا ضمن الخطة والبرنامج.

بعد أن غادر رسول الله صلى عليه وسلم، مع صاحبه أبي بكر  زعماء بني شيبان، التقى دون سابق ترتيب ستة من الخزرج بمكان يسمى العقبة،  فلم يجعله لقاؤه السابق مع قبيلة عظيمة وقادة كبار يزهد في الحديث مع  ستة من شباب يثرب ليعرض عليهم دعوته. سألهم رسول الله صلى الله عليه عن قبيلتهم وعما بينهم وبين اليهود من أحلاف، سؤال من يعرف ما يدور في بلاد بعيدة عن بلاده. غير أنه لم يسألهم هو، أو أبو بكر، عن مكنتهم أو قدرتهم على حمله ونصرته، كما كان قد فعل مع القبائل قبلهم، وإنما اكتفى بأن “شرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعضهم: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا”الرحيق المختوم/ المباركفوري، رجع هؤلاء الشباب إلى قومهم في يثرب فدعوهم فأجابهم كثيرون، وفي العام الموالي، في السنة الثانية عشرة، أقبل على  رسول الله في نفس المكان بمكة اثنا عشر رجلا ، اثنان من الأوس والبقية من الخزرج منهم خمسة من الستة الأول.

 بايع هؤلاء المحظوظون  رسول الله، بيعة العقبة الأولى، وكانت  بيعةٌ لا شيء  فيها عن الجهاد والأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، سميت بيعة النساء ( على ما كانت عليه بيعة النساء لاحقا)،  ورَد نصُّها عن عبادة بن الصامت في الحديث الذي رواه البخاري:    (( تعالوا: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال:  فبايعناه  على ذلك)). وكأنّ رسول الله غيّر الخطة، حين أعرضت القبائل الكبرى وقادتها العظام عنه، فبات يبحث عن تشكيل وضع اجتماعي يمثل  حاضنة خاصة بالدعوة، تأتمر بأمره، قد قطعت علائقها مع أعراف الجاهلية بالقناعة الشخصية والالتزام الطوعي بتعاليم الهدي الجديد، والاتباع المستنير غير المشروط، وبالاتفاق مع قادة محليين على فروع صغيرة من القبيلتين الكبيرتين الأوس والخزرج.

بعد أن عاهد الاثنا عشر رجلا رجعوا إلى أهلهم ليكملوا البناء وفق الرؤية الجديدة يرافقهم سفير رسول الله الشاب مصعب بن عمير ( ومعه في روايات ابن أم مكتوم) ليعلمهم شرائع الإسلام ويرشدهم في حركة الدعوة وتهيئة البيئة لبناء الدولة، التي رجع هدفها في خطة المصطفى في السنة الموالية في العام الثالث عشر  من البعثة.

جاء في السنة الثالثة عشر إلى مكة  ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من يثرب قد أسلموا، يقصدون الحج مع قومهم المشركين، واتفقوا مع رسول الله على أن يلتقوا به سرا في ظلام الليل بشعب العقبة في أوسط أيام التشريق، يبحثون معه إنهاء مرحلة القهر والطرد وما كان يكابده رسول الله من قومه في مكة،  فكانت بيعة العقبة الثانية، التي دخل فيها العهد على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان نص البيعة على نحو ما رواه الإمام أحمد عن جابر قال: ((على ما نبايعك يا رسول الله))،  فقال: (( على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة))، وفي رواية عن ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت زاد: ((ألا ننازع الأمر أهله)).

إن أمر هذه البنود في البيعة لعظيم، ولذلك استوثق بضعة رجال من القوم قبل أن يبسطوا أيديهم، هم عمّ النبي العباس بن عبد المطلب، وهو على دين قومه لم يسلم بعد،  أراد التأكد من جدية أهل يثرب حتى يطمئن بنو هاشم على ابنهم، واثنان من الرعيل الأول الذين أسلموا في يثرب، هما العباس بن عبادة حرص على أن يعلم القوم أنهم “سيحاربون الأحمر والأسود من الناس” إن حملوا رسول الله إلى رحالهم، وأسعد بن زرارة نبههم على أن في إخراج النبي من مكة “فراق العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف”.

لم يكن الأمر يتعلق بدعوة عادية، ولكنه عهدٌ على بناء دولة وبعث أمة ستواجه الأمم كلها برسالتها، وبعد أن عُلمت بنود البيعة، واستعد الناس لتحمّل الأعباء وركوب المخاطر، وعلموا أن المقابل الجنة قالوا: (( فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها))، فصاروا هم الأنصار ودُونت صفتُهم بهذا الاسم العظيم في القرآن والسنة.

إن المتأمل في توالي الأحداث بين السنة العاشرة والثالثة عشرة بعد البعثة يدرك أن الله قد جازى نبيه على خذلان قومه ورفض القبائل الأخرى لدعوته، بعد أن استفرغ الجهد كله في تبليغهم رسالته، طاعةً لمولاه وثقة فيه بأنه لن يخذله،  مصداقا لقوله سبحانه:  ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) المائدة 67، فأكرمه سبحانه بحدثين  عظيمين منه وحده، بحوله وقوته، لا قبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، أولاهما في السماء مع الملائكة والأنبياء، والثانية في الأرض بين الناس في يثرب.

أما الأولى فهي حادثة الإسراء والمعراج، بين السنة الحادية عشرة والسنة الثانية عشرة،   التي ربط فيها الله تعالى التهيئة للهجرة من مكة إلى المدينة لإقامة دولة الإسلام، بالإسراء برسول الله من المسجد الحرام بمكة  إلى المسجد  الأقصى بالقدس،  حيث صلى بالأنبياء، ثم بالمعراج إلى السماء حيث رأى آيات الله الكبرى،   ليبقى الربط بين المساجد الثلاثة ربطا أبديا، يشهد عليه أهل السماء،   يدل على إمامة رسول الله للعالمين في الدنيا وفي يوم الدين.

أما الثانية فهي الأحداث الكبرى في يثرب التي كانت تتهيأ من تلقاء نفسها لتلتقي بالهجرة النبوية، كحالة سننية، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حيالها في المكان المناسب، ولم يكن له في حدوثها أي دور.  وهي معركة بعاث، بين الأوس والخزرج،  التي صنعت نتائجها الفرصة التي أحسن رسول الله استغلالها منذ أن التقى بالخزارجة الستة.

لم  تتوقف الحروب بين الأوس والخزرج منذ مائة وأربعين سنة، وكانت معركة بعاث آخر المعارك،  انتصر فيها الأوس على غير العادة لتحالفهم مع يهود بني النضير وبني قريظة، وهلك في الحرب زعماء الحيين، منهم عمرو بن النعمان زعيم الخزرج، وحضير بن السماك زعيم الأوس. وقد فهمت السيدة عائشة من ذلك تدبير الله لتهيئة الأمر لرسول الله فقالت في ما ورد في صحيح البخاري:   (( كانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في دُخُولِهِمْ في الإسْلَامِ)) .

أراد اليهود اغتنام الفرصة لاستئصال شأفة الخزرج، وشرعوا يلاحقون فلول المنهزمين، فلم يطاوعهم الأوس لعلمهم بخطورة استفراد اليهود بالقوة في يثرب، وقالوا قولتهم : “يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب”. وبعد الفراغ الذي خلّفته الحرب الضروس  في مختلف المجالات في يثرب، بما يهيئ الظروف لليهود وحدهم،  اتفق رجال من الطرفين  على الصلح واجتمعوا على عبد الله بن أبي بن سلول كما لم يجتمعوا على أحد منهم من قبل،  لقربه من الأوس وعلاقته باليهود، ولكونه خزرجيا عارض الحرب ولم يشارك فيها، وقبيل الهجرة كانوا يعدون له الخرز ليتوجوه عليهم ملكا.   

غير أن أولئك الذين كانوا يسعون لإعادة بناء المنظومة من الأعلى على أعراف ومعتقدات السابقين، لم يدركوا بأن شبابهم، ومنهم أبناء الزعماء الذين قتلوا في بعاث منهم أسيد بن حضير بن السماك،  قد صنعوا واقعا جديدا صار يفرض نفسه من الأسفل، منذ التقاء الستة برسول الله، فبيعة العقبة الأولى ثم العقبة الثانية.

ولما آن أوان الهجرة ودخول محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام المدينة، في العام الثالث عشر من البعثة، يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ما يوافق 27 سبتمبر عام 622 ميلادية على عمر يناهز الثالث والخمسين، كانت الفرصة قد ضاعت من عبد الله بن أبي ومن بقي يتبعه من المشاركين، وحين رأى هؤلاء بأن الإسلام قد غلب في المدينة دون حرب ولا اتفاق مع زعيم من الزعماء، وأن إعادة الأمر على ما يرجونه بحرب أو اتفاق غير ممكن، وأن ثمة دولة ناشئة قوية صلبة لا تُغلب، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ونشأت ظاهرة سياسية واجتماعية وعقائدية غير مسبوقة في بلاد العرب هي ظاهرة النفاق، فصل القرآن في إظهار خصائصها وحذر منها المؤمنين إلى يوم الدين.

ومما يمكن قوله في الأخير أن بناء الدولة كان مشروعا قائما في رسالة  رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثته، حاول أن يحمله معه قومه في مكة فأرادوا له الملك دون الرسالة ثم حاربوه على تمسكه بالفكرة والرسالة، ثم سعى ليتكفل بنصرته قبيلةٌ من غير أهله من أولي القوة والمنعة بين العرب، منهم ثقيف التي أخرجته من الطائف بالحجارة والأذى، ومنهم من أعرض عنه وعيّبه لإعراض قومه عنه، ومنهم الذين قبلوه ولكن اشترطوا عليها شروطا لا يقبلها الله ورسوله، كبني عامر وبني شيبان، إلى أن جاءه من أكرمهم الله به فدخلوا به مدينتهم بعد قرابة سنتين من الحوار والعهود والدعوة والإعداد، وكانت المحصلة ثلاث عشرة سنة، من المسير نحو المدينة، ثلاث سنوات في السر وسبع سنوات في العلن، منها ثلاث سنوات مفاوضات سرية مع القبائل.

وبعد الهجرة شرع رسول الله في بناء دعائم الدولة، ابتدأها بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتمتين الجبهة الداخلية، وبناء المسجد للعبادة والتعليم والقضاء والقيادة، والوثيقة الدستورية لتبيان الحقوق والواجبات وطبيعة الدولة، ثم السوق لتسكين النموذج الاقتصادي الاجتماعي الجديد.          

  

    

ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة إلى الدولة (1).

ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة إلى الدولة.

في الهجرة النبوية عبر وعظات لا تنقطع، في مختلف المجالات، في العقيدة والإيمان، والأخلاق والدعوة والتربية، والإدارة والتخطيط، والأبعاد الإنسانية والاجتماعية، وفي الشؤون السياسية والقضايا العسكرية والعلاقات الخارجية وغير ذلك، وكما في كل عام أركز على ملمح من ملامح هذا الحدث التاريخي العظيم في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أتناول هذا العام مسألة إقامة الدولة كجزء مهم في رسالة الإسلام، التي جاء النبي محمد بن عبد الله يبلغ مجملها عن ربه ويشيد تفاصيلها بسنته وهديه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

لقد كان بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم للدولة، على أساس الفكرة والرسالة التي جاء بها، جزء أصيلا في مشروعه الحضاري الإسلامي الإنساني العظيم، حاول عليه الصلاة والسلام وضع حجر أساسها  في قريش، ثم في الطائف، فالعديد من القبائل، إلى استقر به المطاف في يثرب عبر الهجرة النبوية العظيمة.

قضى عليه الصلاة والسلام السنوات الثلاث الأولى من البعثة يُعدُّ الصفوة من القادة الذين اعتمد عليهم في تبليغ دعوته وبعث أمته وبناء دولته، ثم أمره الله تعالى أن يصدع بما يؤمر، فخرج للعلن يوافي الناس في موسم الحج  “يتبع الحجاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه سأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة” الواقدي.

رغم الصد العظيم الذي لقيه وهو وأصحابه من قريش قدِر  بعون الله على مواصلة دعوته، مستأنسا بحماية عمه أبو طالب ومن ورائه قبيلته بنو هاشم، ومعتمدا على ما كان يجده من سكينة وسند من زوجته خديجة رضي الله عنها.

عندما كثر أتباعه عرض عليه كبّار قريش الملك على أن يترك رسالته فأبى، إذ هو مأمور بتبليغ ما أنزل إليه والتمكين لأمر الله لا لنفسه ولإعلاء كلمة الله، لا ليبحث عن المجد لأهله وعشيرته، ووعده الله تعالى إن فعل ذلك أن ينصره وأن يجعل الكافرين إلى تباب وضلال، فقال له سبحانه في سورة المائدة : (( يا  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67))) .

عكس المصطفى عليه الصلاة والسلام ما عُرِض عليه من المشركين فوعدهم بأنهم إن هم حملوا الفكرة سادوا بها العرب والعجم، فأعرضوا عنه وتمسكوا بشركهم ونظامهم الاجتماعي والاقتصادي الظالم.

فلما كانت السنة العاشرة توفي عمه وزوجته، فسمي ذلك العام عام الحزن، ولقي منذئذ  من قريش تصعيدا شديدا في القسوة والإيذاء.

حين أدرك النبي الأكرم بأن مكة لم تصبح أرضا صالحة لحمل الدعوة، ولا لبناء الدولة،  بدأ يفكر بما لم تكن مكة تسمح به أبدا، وهو البحث عمن ينصره لدى القبائل القوية خارج مكة، وتغيّر خطابه في مخاطبة هؤلاء، فبعدما كان يكتفي بالقول لهم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) أصبح يدعوهم إلى حمايته و نصره في مواجهة إنكار مكة وصدها وتهديداتها، وكان في ذلك يتخير القبائل القوية، ذات العدد والشوكة والمنعة، التي تقدر على تحمل أعباء الدعوة والنصرة وبناء الدولة.

كانت وجهته الأولى الطائف، ذهب إليها قليلا بعد وفاة عمه وزوجته في العام العاشر من بعثته، مع مولاه زيد بن حارثة، وقد اختارها صلى الله عليه وسلم لأهمية موقعها الاستراتيجي  إذ كانت مركزا تجاريا معتبرا وفي طريق الخط التجاري الذي تمر عليه قوافل قريش، وقريبة من مكة، ولكثافة وطبيعة سكانها حيث كانت من أهم قبائل  جزيرة العرب، تسكنها قبيلة ثقيف ذات الكثافة السكانية العالية، وذات الهيبة والمكنة بين العرب والندية بين الناس لقريش في مكة.

غير أن أهلها صدوه وضربوه وأدموا رفيقه زيد وخرج منها يحمل في نفسه همّين، هم الصد والعدوان، وهمّ العودة إلى مكة بعد أن حاول الاستعانة بقوة من خارجها، ولو لا أن أجاره المطعم بن عدي، أحد كبارها، لما استطاع دخولها أو لربما قتل فيها.

رفض رسول الله أن يبقى قابعا في مكة يعيش تحت سقف حُكْمها، وجهل قادتها، رغم ما أصابه في الطائف، فرسالته للعرب كلهم وللناس كافة مصداقا لقوله تعالى في سورة سبأ: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) الآية 28 ، فراح يواصل اتصاله بالقبائل، يدعو بدعوته العامة للقبائل عامة، ويخص أقواها وأقدرها على حمله بدعوتها إلى نصرته.

لم يكن يعاني من أهله في مكة بسبب الإيذاء والصد فقط بل كانوا كذلك  عبئا كبيرا عليه في دعوة القبائل الذين يُقبل زعماؤها على مكة لأغراض التجارة وعند وفودهم وجهة مكة في موسم الحج، لقد كان أبو جهل وعمه أبو طالب يتداولون على تبخيسه ونشر الشائعات الكاذبة عليه وهو يتحدث مع الناس من غير القرشيين.

جاء في كتب السيرة أنه  كان عليه الصلاة والسلام كلما قال للناس: “يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة”  يقول عمه أبو لهب من ورائه : “لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب” ، فيرد عليه المدعوون بأقبح الرد ويؤذونه قائلين : “قومك بك أعلم”.

ورغم كثرة القبائل التي اتصل بها  لم يستجب له أي منها، ومنها القبائل التي ذكرها المقريزي وغيره، غسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع.

حتَّم عدوان الطائف وملاحقة أهله له أثناء مقابلة الناس، واشتداد إيذائهم له بعد وفاة عمه أن يعود، ابتداء من السنة الحادية عشرة،  إلى السريّة من جديد، فصار يذهب إلى القبائل إلى أماكنهم ليلا، ويأخذ معه أبي بكر الصديق، أعرف الناس بالأنساب ومضارب القبائل وخصائصها وإمكاناتها، حتى يكون مقصده “غرر الناس، ووجوه القبائل”، وأشدهم بأسا وأكثرهم عددا وأصبرهم على الحرب وجلدا عند الكريهة.

رغم الإعراض العام الذي لقيه من عموم القبائل تأثرا بأراجيف قريش وبخذلان أهله، كانت السنة الحادية عشرة من بعثته حاسمة إذ استجابت له ثلاث قبائل، اثنان منها لم تفلح المفاوضات معهم والثالثة أنعم الله عليها فحظيت برسول الله ودعوته.

أما القبيلة فالأولى فهي قبيلة بني عامر بن صعصعة، من أقوى القبائل العربية، على شاكلة قريش وخزاعة، لم تخضع لسلطان ملك من الملوك ولم يأخذ منها حاكم أتاوى، وكانت مُخاصِمة لأهل الطائف فلعلها ترد الفعل بحمل رسول الله نكاية فيهم.

كادت المحاولة مع بني عامر أن تنجح، إذ ظن أحد كبارهم، بَيحرَة بن فراس أنه ” سيأكل العرب بمحمد عليه الصلاة والسلام” فقال له: “أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثمَّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمرُ لله يضعه حيث يشاء، فقال له: أَفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونَك، فإذا أظهرك الله: كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه” فتركهم صاحب الرسالة المصطفى المجتبى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وأما القبيلة الثانية فهي قبيلة بني شيبان، الساكنة في شرق شمال الجزيرة على تخوم الفرس. دل أبو بكر الصديق على شأنهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، من أحسنهم أخلاقا وأعقلهم قادة وأكثرهم عددا وأشدهم بأسا، وكان المجلس معهم من أطيب المجالس، والحديث معهم من أحكم ما يقوله السادة والأعيان، فطلبوا من رسول الله أن يشرح لهم إلى ما يدعو الناس، فأبلغهم الرسالة وقرأ عليهم ما  تيسر من  القرآن فاستحسنوا حديثه، وأظهروا قبولهم اتباعه دون أن يشترطوا عليهم شرطا كما فعل بنو عامر.

 تعهدوا له بنصرته على قومه، ولكنهم طلبوا إعفاءهم لو تعلق الأمر بالفرس. تحدث كبارهم وكان آخرهم المثنى بن حارثة الشيباني ( بطل فتوحات بلاد فارس لاحقا) فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفق ما جاء في سيرة ابن هشام: “إنَّما نزلنا بين صريين، أحدهما: اليمامة، والآخر: السَّمامة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذان الصَّريان؟ قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأمَّا ما كان من أنهار كسرى، فذنبٌ صاحبه غير مغفورٍ، وعذره غير مقبولٍ، وإنَّا إنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى، ألا نحدث حدثاً، ولا نُؤوي مُحدثاً، وإنِّي أرى هذا الأمر الَّذي تدعونا إليه يا أخا قريش! مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نُؤويك وننصرك ممَّا يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم في الردِّ إذ أفصحتم بالصِّدق، وإنَّ دين الله – عزَّ وجلَّ – لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتَّى يورِّثكم الله تعالى أرضهم، وديارهم، ويفرشكم نساءهم …”

رغم العرض المغري تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وواصل طريقه يبحث على من سيتشرّف بإيوائه وتوفير الظروف له لبناء دولته.

كانت هذه الجهة المشرَّفة التي قبلته هي يثرب المباركة، وكانت البداية مباشرة بعد فراغه من الحديث مع زعماء بني شيبان، حيث التقى بستة شبان ، كان يمكن أن لا يأبه بهم لصغر سنهم وخلوهم من مقام الزعامة في أهلهم، تعرف عليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فأحدث شيئا في قلوبهم تواءم مع أحداث عظيمة كانت تجري في يثرب لا شأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها.

كانت يثرب تتشكل من ثلاث قوى أساسية: قبيلة الخزرج وكانت الأكثر عددا، وقبيلة الأوس وكانت أقل عددا ولكنها تسكن الأراضي الأكثر خصوبة، وكان بين القبيلتين شنآن وغارات لا تتوقف منذ مائة سنة، وكانوا إذّاك يستعدون لحرب طاحنة أشد فتكا مما سبقها، والقوة الثالثة هم اليهود المحصنون في قلاعهم، المستكفون بحقولهم، المستقوون بأموالهم، المتعالون بتوراتهم المحرفة، وادعائهم قرب ظهور نبي فيهم …

.. يتبع ..

تطور الفكر السياسي للشيخ محفوظ نحناح من التأسيس إلى الوفاة: وماذا بعد؟

ملاحظة: لم تسمح لي الظروف المختلفة ان أكتب مقالا جديدا بمناسبة ذكرى وفاة محفوظ نحناح هذه السنة فذهبت إلى نشر هذا المقال القديم الذي هو  جزء من بحث قدمته في ملتقى الشيخ محفوظ نحناح  في إسطنبول نظمه مكتب الحركة في تركيا يوم 25 جوان 2022  تحت عنوان: “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وسيصدر البحث في كتيب في الأيام المقبلة بحول الله.

ولد الشيخ محفوظ في 27 جانفي سنة 1942 وتوفي في 19 جوان 2003. نشأ في بيئة الحركة الوطنية وتحت تأثير الحركة الإصلاحية الباديسية، ووافقه اندلاع الثورة التحريرية وهو شاب في مقتبل العمر فشارك في الجهد النضالي في مدينة البليدة ونواحيها رفقة أقرانه وأصحابه على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. وبعد الاستقلال انخرط في العمل الدعوي والسياسي لاستكمال عهد الشهداء والمجاهدين ومواصلة مسيرة الإصلاح الاجتماعي فأسس جماعته الإسلامية – جماعة الموحدين – وأظهر معارضته الصارمة للتوجه العلماني الاشتراكي الذي سار عليه الرئيس هواري بومدين، ومن مواقفه الشهيرة رسالته ذائعة الصيت ” إلى أين يا بومدين؟” ضد التوجه الأحادي والأيديولوجية اليسارية. ألقي القبض على الشيخ محفوظ وبعض رفاقه سنة 1975 وقضى في السجن خمس سنوات. وفي فترة الثمانينات ركز جهده على العمل الدعوي وتوسيع دعوته إلى مختلف أنحاء الوطن، وانتهج في الشأن السياسي خطابا وطنيا  ونهجا معتدلا في معارضة نظام الشادلي بن جديد الذي انتهج نهجا أكثر انفتاحا من سابقه، فصارت جماعة الشيخ محفوظ الأكثر قوة وانتشارا في مختلف أنحاء الجزائر.
بعد التحول إلى التعددية السياسية سنة 1989 التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر 1988  حاول الشيخ محفوظ نحناح أن يجسد مقاربته التجديدية لخلق تيار سياسي جديد ” إسلامي وطني” مبني على التقارب بين التيارين الإسلامي والوطني اللذين يجتمعان على أرضية بيان نوفمبر ، والذي جسدته مبادرة “التحالف الوطني الإسلامي”،  والتعاون على نهضة الوطن بين  النظام السياسي المتحكم على المستوى الرسمي والمعارضة الإسلامية القوية في الساحة الشعبية،  رغم الاختلافات السياسية بينهما، عبر تأسيس نظام سياسي ديموقراطي جديد.

غير أن الاستقطاب السياسي الشديد الذي فرض نفسه في أجواء الانتخابات المحلية والتشريعية بين 1990 – بداية 1991، ومخاطر الحرب الأهلية التي تلت ذلك، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أدى بالشيخ محفوظ نحناح إلى تغيير أولوياته، وتسخير جماعته وحزبه الناشئ إلى البحث عن سبل توقيف سيل الدماء والمحافظة على التماسك الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية، ولو على حساب المصلحة الحزبية وركوب المخاطر وما يهدد مصيره ووجوده، فكان موقفه واضحا ضد إلغاء الانتخابات من جهة وضد  استعمال العنف في العمل السياسي مهما كانت الأسباب من جهة أخرى، واستعمل مكانته وقربه من كل التيارات وعلاقاته مع القوى الرسمية وقوى المعارضة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال الحوار ، فأطلق بالاستعانة برجاله ورفقائه عدة مشاريع في هذا الصدد منها: مبادرة المصالحة الوطنية، مبادرة السبعة، مجموعة السبعة + 1، مبادرة السلام الوطني، مبادرة الصلح الوطني. وبعد فشل كل مبادرات التوافق التي أطلقها الشيخ محفوظ أو أطلقتها الجهات المتصارعة، كمبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، أو مبادرة الندوة الوطنية التي أطلقتها السلطة اختار رحمه الله الرجوع إلى الشعب والدخول في مسار انتخابي الجديد سنة 1995 والذي قاطعته المعارضة في البداية ثم التحق به جلها ابتداء من سنة 1997.
لقد كانت ضريبة إدانة الإرهاب والعنف الذي انتهجته الجماعات المسلحة من جهة وسياسات الهيمنة وأساليب العنف المختلفة التي انتهجتها السلطة من جهة أخرى كبيرة حيث قتل في صفوف الحركة في حدود 400 من أعضائها على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني، وتعرض الشيخ محفوظ نحناح نفسه لمحاولةالاغتيال، كما بات رحمه الله المستهدف الأول للتيارات العلمانية المحسوبة على المعارضة وامتداداتها القوية داخل النظام السياسي.
بعد أن قاد الشيخ محفوظ حزبه نحو المشاركة في المسار الانتخابي تغيرت أولوياته، إذ أصبح يرى بأن مشاركته في مؤسسات الدولة هو الأنسب لمصلحة الوطن وللمشروع النهضوي الإسلامي الذي يحمله، فأطلق مقاربة فكرية جديدة تدعو إلى التفريق بين الدولة والسلطة، فيكون الحزب خادما للدولة بالضرورة وفي كل الأحوال، ولكن قد يكون مشاركا في السلطة أو معارضا لها حسب مقتضيات كل مرحلة وما يكون أنفع للبلد والدولة، وفي ذات الاتجاه قام الشيخ محفوظ ببلورة العديد من المفاهيم واهتم بكثير من القضايا الفكرية التي لا تزال الحركة تسير عليها وتطوِّرها مثل الوسطية والاعتدال،  مفهوم الشورى والديموقراطية، المشاركة السياسية، قضايا التنمية والتطور، التعايش، الاحترام المتبادل،  المجتمع المدني، الحريات وحقوق الإنسان، حوار الحضارات، توسيع قاعدة الحكم، التداول السلمي على السلطة، حقوق الأقليات ..
لقد مثل بقاء الدولة بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح عنوان بقاء البلد وضامن وحدته وسلامة أهله، وهو ما يُبقي فرصة الاستدراك والإصلاح والنهضة قائمة، وكان يعتقد رحمه الله أن بسقوط الدولة تضيع الوحدة الوطنية وتحل الفتنة والاقتتال والضعف والهوان والسقوط التام في مخططات القوى الأجنبية المعادية للأمة الإسلامية، وعلى هذا الأساس لم يكن يرى الشيخ محفوظ نحناح من حرج في أن يضحي بمصلحة حزبه، وبمكانته وفرصه السياسية خدمة للدولة الجزائرية والمصلحة الوطنية.
غير أن رجال النظام السياسي الذين سكنوا الدولة لم يكونوا في مستوى هذا الأفق العالي للشيخ محفوظ  فتعاملوا معه رحمه الله ومع حزبه وفق مصلحة النظام السياسي وليس مصلحة الدولة، ووفق مصالحهم الشخصية وليس وفق المصلحة الوطنية. فزوروا عليه الانتخابات الرئاسية سنة 1995  التي أظهرت شعبيته العارمة التي كان عليها قبل التعددية الحزبية عبر المهرجانات الضخمة ونتائج الصناديق الانتخابية التي تم قلبها ومصادرتها بالقوة فحرموه وحرموا البلد من قيادته للجزائر نحو نهضتها ، ثم زوروا الانتخابات التشريعية سنة 1997 فحرموه وحرموا البلد من قيادة الحكومة لاستدراك جرم تزوير الانتخابات الرئاسية، ثم زوروا الانتخابات المحلية تزويرا شاملا، وفي سنة  1999 منعوه أصلا من الترشح للانتخابات الرئاسية.
كان بإمكان الشيخ محفوظ نحناح أن يقود قطاعات شعبية واسعة للثورة الشعبية ضد النظام السياسي الذي لم يراع تضحياته وتضحيات حزبه، وحرَمه من حقه، الذي أخذه بإرادة الشعب،  في تسيير البلاد وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق النهضة الوطنية وفق ما رسمه في كتابه: ” الجزائر المنشودة” وعبر خطاباته ومصطلحاته السياسية التي أثرى بها القاموس السياسي الجزائري. لم يتجه رحمه الوجهة المتشددة للدفاع عن حقوقه الضائعة حفاظا على البلد، وحقنا لدماء الجزائريين،  ورحمة بالجزائريين المثقلين بأوزار الفتنة التي طال مداها، وإيثارا للمصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية.
رغم استئثاره بالحكم وسيطرته على مقاليده كلها، لم يستطع النظام السياسي خدمة البلد، ولم يستفد من تضحيات الرجال الوطنيين الذي بذلوا أنفسهم من أجل إيقاف الفتنة، سواء الشيخ محفوظ ورجال الحركة أو غيرهم، من داخل الدولة وخارجها، فبقيت الجزائر تنتج أزماتها، أزمة بعد أزمة جراء سياسات التزوير الانتخابي والفساد والهيمنة،  و أحيانا كثيرة خدمة للمصالح الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية.
لقد أيقن الشيخ محفوظ نحناح رحمه بعد إقصائه المشين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بأنه لا يوجد شريك له في الطرف الرسمي، وأن النظام السياسي متجه بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فبدأ يفكر في تغيير سياسته في التعامل مع النظام السياسي، فأخذ يُحدّث المقربين منه بخطاب غير معهود عنه في رأيه وموقفه من النظام السياسي، وبدأ ينظّر لمرحلة جديدة عبر كتاب جديد لم يكتمل ولم يصدر عنوانه ” الدولة وأنماط المعارضة”، لعله كان يبحث من خلاله سبلا جديدة للتعامل مع نظام سياسي استغل الفتنة واستعملها لإعادة إنتاج نفسه، سبلا  لا تؤدي إلى الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة وما ينجر عن ذلك من زيادة التوتر في بلد مأزوم ومشتت، ولكن في نفس الوقت بما لا يجعل المسؤولين  يتصرفون في البلد كما يشاؤون دون أن يكون ثمة من يعارضهم ويمنعهم من الإضرار بالدولة وبالبلد. لم يتمكن الشيخ محفوظ نحناح من استكمال بناء منهجه الجديد وتوفي رحمه الله حزين القلب معلول الجسد ولكنهترك وراءه حركة كبيرة باتت محل تقدير واحترام جسدت الخطالقويم في التعامل مع ” ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وفق ما نسير به الحركة اليوم بعده، استطاعت بعد مرحلة اضطراب، عادة ما تَحقّ بالمنظمات بعد وفاة المؤسس، أن تجيب عن سؤال: وماذا بعد؟ إذ انتقلت إلى المعارضة السياسية وفق نفس النهج القائم على التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بما كان يأمله الشيخ محفوظ ويحدث به ولم يطل به العمر ليجسده

لقد استطاعت الطبقات القيادية التي خلّفها الشيخ محفوظ نحناح، التي سارت على نهج المقاومة السياسية، أن تثمن التضحيات التي قدمها رحمه الله، وأن تحول ما ضاع من مصالح حزبية في سبيل المصلحة الوطنية إلى مكتسبات حزبية ووطنية معتبرة ومن ذلك:

• ارتفاع سمعة الحركة ورمزيتها ومصداقيتها لدى الجماهير وفي نفوس النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، في المجتمع والدولة، لِما أبانت عليه من جدية ونزاهة وما قدمته من برامج واقتراحات ومبادرات، وبسبب شجاعتها في مواجهة الفساد والرداءة والاعتداء على الحريات، والتزامها أثناء ذلك بالاعتدال والحرص على الاجتماع والتوافق الوطني.

• استقرار الحركة وانتهاء عهد الصراعات الداخلية التي لم تتوقف منذ التأسيس الرسمي، سمحت بالانشغال بالعمل وتوجيه الطاقة لانتشار الهيكلي حيث حقق في ذلك نموا بالضعف، والانفتاح على الطاقات الجديدة حيث أقبل على الحركة موارد بشرية متنوعة خصوصا الأجيال الجديدة من الشباب بأعداد هائلة، وترشح في قوائمنا كفايات وشخصيات مؤهلة وذات سمت أخلاقي  تمثل في حدود 70% من منتخبينا، وامتدت علاقاتنا الخارجية وتمثيلنا وتأثيرها في المنظمات الدولية إلى آفاق لم ندركها منذ التأسيس.

• ما طورته الحركة من أفكار وبرامج خصوصا على مستوى النهج السياسي الذي يرتكز على دراسة السنن الاجتماعية ومقاربة ” المكان المناسب” بتجنب الصدام من جهة ورفض الاحتواء والذوبان من جهة أخرى ومحاولة الاستشراف، والتعامل، بقدر الإمكان،  مع المدخلات السننية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية.  والتنظير والتجسيد الميداني لمقاربة التمييز بين السياسي والدعوي بما يؤهل لبناء حزب سياسي عصري همه نهضة الوطن وتحقيق التنمية من خلال الانتخابات والمدافعة السياسية السلمية دون التفريط في مختلف الوظائف الاستراتيجية الأخرى.

• ابتكار أنماط تسيير جديدة ضمن مقاربة ” التخصص الوظيفي” بتوجيه المناضلين إلى العمل الجمعوي والعمل في مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الشباب والنساء ومختلف الشرائح والاحتياجات المجتمعية، وإحياء وترقية الوظائف الاستراتيجية الحضارية دون إثقال كاهل الحزب بإدارة تلك الوظائف وقد حققت الحركة في هذا المضمار نتائج كبيرة بحمد الله تعالى.

• وبالنسبة للنتائج الرقمية على الصعيد الشعبي فإن الحركة قاربت النتائج الانتخابية التشريعية الأعلى التي حققتها سنة 1997 من حيث عدد المقاعد والرتبة في البرلمان، مع التفوق على نتائج  تلك السنة من حيث الرتبة الحزبية اذ احتلت الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات في 26 ولاية وتأتي بعدها جبهة التحرير التي احتلت المرتبة الأولى في 12 ولاية فقط ثم تأتي بعد جبهة التحرير باقي الأحزاب تباعا، مع فروق جوهرية في الظروف المحيطة ببين الانتخابات في تلك المرحلة وفي الانتخابات الأخيرة حيث كانت الحركة موحدة في انتخابات 1997 ولا ينافسها في محيطها الأقرب غيرها كما هو حاصل اليوم . أما بالنسبة للانتخابات المحلية فقد عادت الحركة إلى النتيجة الأعلى التي حققتها سنة 2007  من حيث عدد البلديات التي تسيرها في حدود مائة بلدية مع التميز في الانتخابات الأخيرة  بتسيير بلديات حضرية كبيرة كبلدية وهران وبلدية عناية وغيرهما . مع فرق جوهري بين المرحلتين حيث لم يكن يشترط للترشح سنة 2007 جمع توقيعات المواطنين في البلديات للتمكن من الترشح كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.

• وكل هذا مع استمرار حالة التزوير الانتخابي التي لولاها لكانت الحركة هي من يسير الحكومة اليوم، وقد قمت بنفسي بشرح البراهين الساطعة عن التزوير لمسؤولين كبار لم يستطيعوا رد تلك الحجج.