لا يُسأل النظام الجزائري عما يفعل في السياسة الخارجية والدفاع وقرارات رئيس الجمهورية، وكأن في السياسة في بلدنا مستويين، مستوى المواطنين الكبار وهم أصحاب القرار في المستويات العليا في الحكم، حيث يوجد التنافس الحقيقي عن السياسات وعن الحكم، ومستوى المواطنين من الدرجة الثانية وهم النواب وقادة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وباقي السكان، فهؤلاء لا يحق لهم السؤال إلا عن قرارات الوزراء والولاة والإدارات، وحتى هؤلاء يجب أن تكون الأسئلة بتحفظ وبأساليب اعتذارية ولطيفة حتى لا ينزعج من في الطبقات العليا، أما المستويات التي يمكن مساءلة المسؤولين فيها بشدة وبلا شفقة فهم رؤساء البلديات وأعضاء المجلس الشعبي الوطني.
ولهذا السبب لا يوجد نقاش سياسي عن التحولات الكبيرة التي تعرفها السياسة الخارجية الجزائرية والتوجهات الدفاعية وما يقرره الرئيس على مستوى مجموعة أصحاب القرار الحقيقيين بخصوص العلاقات بين الجزائر والولايات الأمريكية المتحدة.
لا تكون هكذا الديمقراطية الحقة، ولا التطبيق الحقيقي لنصوص وروح النصوص الدستورية، ولا يكون هكذا التدافع النافع للبلد، ولا تكون هكذا البيئة المانعة للاستبداد، ولا يكون هكذا السبيل الذي يطور الفكر والبرامج، ولا يكون هكذا النهج الذي يصنع القادة جيلا بعد جيل.
من حق الرأي العام الجزائري أن يعرف حقيقة الزيارات المكوكية بين المسؤولين الجزائريين إلى أمريكا والأمريكان إلى الجزائر وما يقال في قضايا السياسة الخارجية والدفاعية. ويخطئ من يعتقد بأن هذه المسائل كبيرة على عقول الجزائريين أو أنها لا تهم حياتهم اليومية المنهمكين فيها جريا وراء لقمة العيش. إن قرارا واحدا مهما يتعلق بالسياسة الخارجية أو الدفاع الوطني يمكنه أن يقلب حياة المواطنين الخاصة رأسا على عقد، فلا داعي للاستماع لجدال الزبونية والانتهازية، ممن قبلوا أن يكونوا من صغار المواطنين، هؤلاء الذين لا يعجبهم أن نسائل السلطات في هذا الشأن الكبير.
في خلال شهرين ونصف زار الجزائر نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية، جوشيا هاريس، كما زارها زميله تود روبنسن في هذه الفترة، وتحدث قائد الأركان الجزائري السعيد شنقريحة هاتفيا مع مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية وليم بيرنس، وتحادث وزير الخارجية أحمد عطاف في واشنطن مع كاتب الدولة للخارجية أنتوني بلنكن، وعقدت اجتماعات بين الطرفين الأمريكي والجزائري حول الصناعة الحربية.
ليس الغريب أن يكون لبلد ما علاقات مع بلد آخر ولكن الأسئلة التي تطرح عن السياقات وطبيعة العلاقات وأبعادها التي تشير إليها التسريبات غير الرسمية والتصريحات الرسمية. وفي هذا الإطار نركز على تحليل المقابلة الصحفية التي أجراها “جوشيا هاريس” والتي نشرتها السفارة الأمريكية في موقعها الالكتروني والتي غطّت بعض وسائل الإعلام الجزائرية الجزء الذي يتناسب مع المزاج العام الذي يراد المحافظة عليه لدى المواطن الجزائري.
تجنَّب الدبلوماسي الأمريكي الإجابة على الأسئلة المتعلقة بمشاركة بلده في الجريمة التاريخية المقترفة ضد أهلنا في غزة والسياسات المتبعة في الحرب القائمة لتصفية القضية الفلسطينية، ولكن الذي لفت نظري قي أجوبته الصريحة ثلاث قضايا أساسية:
أولا – مسألة التسليح وما بيّنه بأنه بالفعل باتت الجزائر تهتم باقتناء السلاح الأمريكي وأنه “عليها أن تحدد اختياراتها وأنه من المهم أن تقول لنا الجزائر ما هي احتياجاتها في الدفاع الوطني، ونحن على استعداد للحوار بين عسكريينا، فإذا كانت الصناعة العسكرية الأمريكية تمثل جوابا لما يضمن للجزائر الدفاع عن نفسها نحن مستعدون للمشاركة في هذا النقاش”. وفي هذا الشأن يجب أن ننبه بأن التحول الجذري لمنظومة السلاح في بلد ما من سلاح أجنبي إلى سلاح أجنبي آخر يمثل مجازفة كبيرة ويتطلب ميزانيات عظيمة ووقتا طويلا قد يصل إلى عشر سنوات، وقد يكون مضرا من حيث الفاعلية العسكرية والأداء العملياتي مع مرور الزمن حيث يتطلب الأمر تغيير عميق للمهارات العسكرية على مستوى أجيال من الموارد البشرية. وقد مرت مصر بهذه التجربة حين حاولت التوجه في عهد السادات إلى السلاح الأمريكي الذي باتت تشتريه وجوبا من القروض المالية السنوية التي تمنحها إياها الولايات الأمريكية المتحدة على إثر بداية العلاقات العسكرية بين البلدين عام 1976 والتي أفضت إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني عامين بعد ذلك في 17 سبتمبر عام 1978.
واللافت في الأمر أن هذا التغير في الولاء لم تزد به مصر قوة بل دخل الجيش المصري في حالة ركود وتقهقر لم ينم فيه سوى الفساد وحالات السيطرة والتحكم في الحياة والسياسية والاقتصادية، وفي الأخير تأكد لدى المصريين بأنهم لن ينالوا ما يجعل جيشهم قويا ومهيبا بالاعتماد على السلاح الأمريكي فتوجهوا إلى تنويع وارداتهم وعادوا مؤخرا إلى السلاح الاستراتيجي الروسي.
بل إن أمريكا لم تسعف حتى حلفاءها الأقربين من غير الكيان الصهيوني في ما يتعلق بالمقاتلات والأسلحة الاستراتيجية، فبعد أن تقدمت الإمارات بشراء طائرة F35 ألغيت الصفقة، كما مُنعت تركيا من شراء السلاح الاستراتيجي الأمريكي وتراجعت واردات السلاح الأمريكي إلى تركيا بنسبة أكثر من 80% منذ 2010 بالرغم من أن تركيا عضو في الحلف الأطلسي، والمشكل الأكبر فإن البلد الذي يكون مرتبطا بالمنظومة الدفاعية الأمريكية يدفع الثمن في حالة وقوعه في نزاع مسلح لا توافق عليه أمريكا إذ تمنعه عندئذ من التموين بالسلاح الذي سيحتاجه في هذه الوقت العصيب، وقد فعلت أمريكا ذاك مع العديد من الدول.
وعليه فإن تغيير منظومة التسلح من روسيا إلى أمريكا ستكون كلفته عالية على عدة مستويات، والبديل إنما في تنويع الواردات على المدى القريب مع التركيز على الدول التي لا تكون احتمالات الخلافات معها في السياسة الخارجية عميقة، ولا شك أن الولايات الأمريكية المتحدة ليست من هذه الدول – وسنعود في هذا المقال إلى الحديث عن منظومة التحالفات – أما على المستوى المتوسط والبعيد فالحل الجذري يكون في الصناعة العسكرية الوطنية وما يتطلبه ذلك من تحكم في التكنولوجية وحسن استغلال المواد الأولية والتقنيات والمهارات الصناعية والموارد البشرية العلمية والتقنية الوطنية، فهذا من أعظم ما يجعل من يحكم الجزائريين في مستوى بلد كالجزائر أم لا ، وكلنا يعلم بأن ثمة بلدان نامية تبلي في هذا المجال بلاء حسنا فلما لا نكون مثلهم.
ثانيا – موضوع الصحراء الغربية:
… يتبع