لم نشهد في القضية الفلسطينية مظاهرات حاشدة للشعب الفلسطيني في كل فلسطين ترفع شعار الاستقلال والانتماء ولكن نقطة التشابه التي نستلهمها في أهمية الدور الشعبي في طريق تحقيق إنهاء الاحتلال الصهيوني بدايته هذا الثبات الاسطوري المدهش العظيم الذي يظهره سكان الغزة والذي لم ير الناس مثله في التاريخ، وسنشهد يوما ما مظاهرات عارمة للفلسطينيين تعلن ولاء الشعب للمقاومة وتصرخ في وجه العملاء والعالم الظالم بأنه لا حل سوى الاستقلال الكامل ل”فلسطين المسلمة”، بوصلة الإسلام والمسلمين.
لقد كانت القضية الفلسطينية تمر بمرحلة خطيرة في تاريخها منذ الاحتلال قبل طوفان الأقصى، أخذ قطاع غزة يتحول إلى وطن قائم بذاته لا ينتظر سوى أن تضاف إليه أرض سيناء لكي يتجسد مشروع صفقة القرن، وباتت الضفة يأكلها التوسع الاستيطاني ويسيطر عليها المستوطنون أكثر فأكثر ليصلوا يوما ما إلى تهجير الفلسطينيين إلى الأردن وغيرها، ولم تتوقف سياسة التهويد ونهب بيوت السكان الفلسطينيين في القدس، وتوصل اليهود إلى تحقيق هدف التقسيم الزماني للمسجد الأقصى في طريقهم إلى التقسيم المكاني، وربما في غفلة من المسلمين إلى تدميره وبناء الهيكل المزعوم مكانه، وأضحى الفلسطينيون في فلسطين المحتلة في الثمانية والأربعين يعيشون تحت وطأة التمييز العنصري وتدمير بناهم الاجتماعية وإفساد شبابهم.
كانت الأيام العصيبة في غزة والمواجهة المتتالية مع الكيان والتكوين التربوي المنهجي للشباب والآمال العريضة بالنصر في فلسطين ونهضة الأمة تصنع في تلك الأرض الطيبة جيلا مجاهدا لا يعيش إلا من أجل التحرير.
أدرك هذا الجيل بقدراته العقلية الفذة التي صنعتها بيئة الجهاد والاستشهاد، والتي لم نر – لهذا السبب – مثيلا لها بين المسلمين في هذا الزمن، بأن القضية الفلسطينية تتجه نحو مأزق حقيقي يجسد خطط الصهاينة والمشروع الغربي الاستعماري والعربي التطبيعي المتخاذل العميل فعزموا على قلب الطاولة على الجميع إذ لم يبق شيء تخسره فلسطين والأمة لو نجحت مخططات الأعداء تلك، فكان طوفان الأقصى هو الشبه التام لأحداث 20 أوت 1955 أثناء الثورة التحريرية الجزائرية.
كما أن أحداث 20 أوت تبعها تصعيد للعمل الثوري الجزائري استمر عدة سنوات، لن يكون طوفان الأقصى سوى مرحلة أولى لمعارك تحريرية طاحنة ليس في غزة وحدها، بل في الضفة كذلك وكل فلسطين، وكما أن رد الفعل الفرنسي كان همجيا إجراميا في حق المدنيين نحن نرى أعظم من ذلك في رد الفعل الصهيوني، وكما أن تلك العمليات التدميرية لمعنى الإنسانية لم تفلح في إخضاع الجزائريين لن تفلح مثيلاتها وما هو أفضع منها في فلسطين في كسر إرادة أهل هذه الأرض المباركة، وكما أن المشاريع السياسية الإلحاقية الديغولية لم تحقق غايتها في إفساد الشعب الجزائري لن تقدر المؤامرات الغربية والعربية على إجبار الفلسطينيين على قبول مشاريع الخضوع السياسية و التفريط في شبر من أرضهم، وكما أن احتدام المواجهة مع الاحتلال والتضحيات المقدّمة كرست مرجعية جبهة التحرير الوطني وإنهاء مرجعية مصالي الحاج، لدى الجزائريين أثناء الثورة أدت مقارعة الاحتلال الصهيوني والثمن المقدم من المقاومين والشعب الفلسطيني جنبا إلى جنب إلى تكريس مرجعية المقاومة وانهيار ما بقي من السلطة الفلسطينية في ذهن الفلسطينيين.
نحن نسمع ونرى اليوم نتنياهو السياسي يقول هو والمستوطنون اليهود المتشددون ما كان يقوله المستوطنون الفرنسيون المتشددون (وكثير منهم، ومن أشرسهم كانوا يهودا) بأن لا وجود لشيء اسمه فلسطين وأنها “إسرائيل اليهودية” فحسب، وخلاف هؤلاء مع التيار العلماني المؤسس للكيان، ومنهم قادة الجيش الصهيوني أن هذا التيار يريد العودة لحل الدولتين بتقسيمات أعقد من مشروع تقسيمات ديغول، ولكن في الأخير لن يكون ثمة إسرائيل اليهودية ولا فلسطين المقسمة، وإنما فلسطين الموحَّدة الموحِّدة المسلمة.
لقد أدى المجاهدون في الجبال والمناضلون في المدن ما كان عليهم تأديته، ولما اشتد عليهم الضغط من الجيش الفرنسي والحلف الأطلسي تحرك الشعب الجزائري بكليته يعلن التحامه الكامل مع المجاهدين وصدع بلسان واحد بأن لا سيد على فلسطين غير الشعب الفلسطيني، وهكذا ستحسم المعركة في فلسطين .. حين يتكرر 11 ديسمبر في كل مكان في فلسطين، إذ تلك هي سنة الله في الأرض التي لا تتغير ولا تتبدل … لا حسم في المعارك إلا بانخراط الشعب فيها وصدق الله تعالى إذ يقول: (( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)).
سيفعل ذلك الشعب الفلسطيني برمته، هو يفعل أكثر من ذلك في غزة، بتمسكه بأرضه ورفضه إخراجه منها إلى سيناء، رغم المآسي اليومية التي تحدث في كل لحظة وفي كل يوم بما لا تطيقه الجبال، بما لم يصبح لنا طاقة للنظر إلى صورها، من أطفال صغار يُمزقون وتبتر أطرافهم وترتعد فرائصهم لهول ما يصيبهم صابرين محتسبين، ونساء وشيوخ ومرضى وجرحى يستنجدون الأشقاء والإنسانية والعالم بأسره ولا أحد يجيب، ستصنع هذه الاستغاثة المؤلمة التي لا مجيب لها من هذا الشعب الأسطوري العظيم أجيالا من الفلسطينيين لا يعيشون إلا من استقلال بلدهم وسيُنشئ الطوفان العسكري الذي انطلق في 07 أكتوبر وعيا شاملا للإنسان الفلسطيني طوفانا بشريا هادرا في كل فلسطين ينهي أحلام ” إسرائيل اليهودية” وأحلام ” حل الدولتين” .
وما ذلك على الله بعزيز، وإنما هي دماء الشهداء التي تحدد المصير.
د. عبد الرزاق مقري