بيان السياسة العامة: عن السياسة أخيرا

أكرر مرة أخرى فأقول إن النظام الجزائري لا يؤمن ولم يؤمن يوما بالأحزاب، منذ أن فُرضت عليه التعددية بعد أحداث أكتوبر وهو يتحايل عليها، وأراه اليوم كأنه يريد فرض الرؤية الحزبية الصينية، بالوصول إلى حزب واحد، ليس بالقرار ولكن بالأمر الواقع.

من استطاع أن يُدمِج من الأحزاب يدمجها ويفقدها سيادة مؤسساتها مقابل جاه زائف وفتات لقادتها، ونصبح أمام حزب واحد في الواقع وإن تعددت أسماء الأحزاب، ومن لم يستطع إدماجه يستمر في المحاولة دون هوادة لِمَا يملكه من قوة جبّارة، ولِمَا يتوفر في الساحة من نفوس في الأحزاب جاهزة لذلك. فإن يئس بعد طول المحاولة أو تجاوز قادة الحزب الرافض للإدماج السقف المسموح به، يعمل على تهميشمهم وتقزيمهم مهما كان لهم من فضل على البلد، ومهما كانت مكانتهم، كما فعل مع الأستاذ عبد الحميد مهري والشيخ محفوظ نحناح رحمهما الله في آخر مشوارهما السياسي.

غير أنه مهما حاول فرض منطق الحزب الواحد في الجزائر الحالية لن ينجح، فمن ناحية قد أصبحت التعددية متأصلة في بلادنا، و بات التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي خارج منظومة الحكم هو الأمر الواقع الذي لا يمكن استئصاله، ومن ناحية أخرى لا توجد أية مقارنة بين الحالتين الصينية والجزائرية سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

إن الحزب الشيوعي الصيني يقوم على تدافعات وتحالفات مدنية، تضمن الرقابة والتنافس الحقيقي داخل الحزب الواحد، وينص القانون الصيني صراحة على قيادة الحزب للقوات المسلحة الصينية، والجيش يلتزم بمنطق السيطرة المدنية المطلقة للحزب الشيوعي على الجيش وفق مبدأ “الحزب يقود البندقية” الذي أطلقه ماو تسي تونغ.

أما في الجزائر فالحزب ثم الأحزاب مجرد أجهزة وواجهات لا علاقة لها بشؤون الدولة على الإطلاق، وحتى حينما “تنجح” في الانتخابات لا تحكم، ومنذ الاستقلال بقي الجيش هو الذي يختار الرئيس، والضباط السامون هم الذين يُسخّرون إمكانيات الدولة للفصل في الانتخابات لكي يمر مرشحهم في الانتخابات ثم يتركون له هوامش في تسيير الدولة، فإن اختلف الرئيس مع هؤلاء الضباط الذين أوصلوه للحكم فالجيش هو الذي يحسم الخلاف لصالح البذلة الخضراء.

هكذا وقع بين بن بلة وبومدين، وهكذا وقع بين الشادلي والذين اختاروه في البداية وأقالوه في النهاية، وهكذا وقع بين زروال وعصبة زملائه الضباط لما اختلف معهم، وهكذا وقع مع محمد بوضياف، وهكذا وقع مع بوتفليقة الذي جاء باتفاق مع ضباط المؤسسة وحاول الاستمرار في العهدة الخامسة تحت صغط ضباط آخرين، ثم غادر تحت ضغط هؤلآء الآخِرين بسبب الحراك الشعبي.

وعلاوة على كل ذلك، النظام الصيني نجح في التجديد ونجح في تحقيق الثروة، ونجح ليجعل الدولة قوة عظمى، فأي نجاح يُسَوِّقه النظام السياسي لكي يقبل الناسُ أن يكونوا تحت رِدائه فيدمجهم في منظومة سياسية واحدة. لو حقق النظام السياسي ما يُرضي المواطنين في احتياجاتهم المعيشية الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى ما يتطلعون إليه من حرية وكرامة لصار احتمال ابتلاع الأحزاب ومناضليها وحواضنها الاجتماعية والشعب الجزائري كله واردا.

إن الناس يغلبهم الإنجاز وما يحصل لهم من رضا حين تتحقق مصالحهم، أما الإكراه فلن يحقق شيئا مفيدا.

لقد حدد الله تعالى الاحتياجات الأساسيات في سورة قريش فجعل نعمتي القوت والأمن من أعظم النعم التي يشكر الناسُ عليها ربَّهم، ثم فصّل العلماء المسلمون تلك الاحتياجات وفق مقاصد الشريعة الخمسة، حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال، ثم زاد العلماء المتأخرون مقصد الحرية وكرامة الإنسان بالاستناد إلى ما ورد من نصوص صارمة في الكتاب والسنة عن ذلك، وقد فصلنا في برنامجنا الحلم الجزائري كل ذلك في فصل “هرم الاحتياجات”. فالنظام السياسي الذي يستطيع كسب الدعم الحقيقي من الشعب هو الذي يوفر الاحتياجات ويحقق مقاصد الحكم.

يمكننا أن نستند في محاسبة السلطة الجزائرية على مدى توفير البيئة التي تضمن احتياجات المواطنين إلى أي سلم من سلالم الاحتياجات التي وضعها العلماء المعاصرون، ومنها “هرم ماسلو” الأكثر شهرة.

يحدد ماسلو مراتب الاحتياجات فيبدأها بالاحتياحات الفيزيولوجية التي تتعلق بالغذاء والتنفس والماء والنوم والإخراج والجماع، واحتياجات الأمان التي تتعلق بالسلامة الجسدية وأمن الأموال والموارد والأمان الأسري والصحي والوظيفي، والاحتياجات الاجتماعية التي تتعلق بالعلاقات الأسرية والاجتماعية والتعلم والصداقة والمحبة، والحاجة للتقدير ومنها المكانة والهيبة والثقة والشعور بالإنجاز والاحترام المتبادل، وتحقيق الذات ومنها تحقيق الإنجازات والتطور والإبداع.

لو نفصل في مدى توفر أوغياب حاجات الناس على أساس مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية التي بنينا عليها “هرم الاحتياجات” في برنامجنا لاستطعنا أن نحدد مسؤولية الدولة على الوضع القائم بشمول ودقة، ولكن نترك ذلك حاليا لصعوبة الاتفاق على قاعدة التقييم، ونكتفي بالنظر إلى أداء السلطة الحاكمة على أساس “هرم ماسلو”، فلو حاسبنا النظام السياسي وفق هذا الهرم بدء بالاحتياجات الأدنى الأكثر ضرورة لجميع الناس، إلى أعلاها المتعلقة بالإبداع والتطوير، الذي يحققه السكان لأنفسهم حين تتوفر لهم البيئة الصالحة لذلك، سنجد أن المشكل في بلدنا يبدأ من الأسفل، على مستوى الاحتياجات الأساسية الأكثر إلحاحا، فالعدد الكبير من الجزائريين لا همّ له سوى الكفاح من أجل القوت بسبب غلاء المعيشة والبطالة والندرة، وكثير منهم ينتظرون لسنوات الطويلة لكي يحصل الواحد منهم على مسكن، يحقق فيه حاجته للزواج والاستقرار، وقد لا يحصل على السكن أبدا فيعيش في مراقد لا إنسانية أو يُذهب نصف مرتبه أو أكثر في الكراء، ولو ندقق ونفصل في أغلب ما ذكرناه عن هرم ماسلو سنجد نقائص بعضها نقائص خطيرة، كما هي الحاجة للأمن النفسي والعقلي والجسدي لما نراه من انتشار للمخدرات والمهلوسات، لا أقول في كل مدينة، بل في كل حي من الأحياء، حتى صارت مصدر استرزاق أساسي تتورط فيه شبكات إجرام لها امتداداتها داخل القضاء والأجهزة الأمنية، تدمر ملايين الجزائريين وأعدادا هائلة من العائلات والأسر وتتسبب في جرائم لا حصر لها.

ولئن تم القضاء على الإرهاب في الحزائر بحمد الله فقد خلفه خوف آخر لا يقل فداحة وهو انتشار الجريمة بكل أشكالها في كل أنحاء الوطن.

و أما الحديث عن المراتب الأعلى في هرم ماسلو المتعلقة بالتقدير وتحقيق الذات فإن دور الدولة يكاد يكون غائبا في صناعة المبدعين، ولذلك عددهم قليل في بلادنا.

لا شك أن الدولة الجزائرية حققت إنجازا مهما في تعميم التعليم، ولكنها لم تفعل شيئا ذا بال لصناعة المتميزين بسبب اختلال المنظومة التربوية وانتشار الفساد بكل أنواعه في إدارتها وكوادرها التعليمية، وانتهى بنا المطاف بسبب ضعف التعليم الرسمي أن التلاميذ والطلبة صاروا يهجرون أقسامهم من أجل دروس الدعم خارج المدارس.

إنه فعلا لا توجد منظومة ولا بيئة لصناعة المتميزين والمبدعين، ومن وصل من الجزائريين إلى مستوى تحقيق الذات بمواهبه وإصراره الشخصي فإنه يكون قد فعل ذلك في مواجهة تحديات ومصاعب وعراقيل لا حد لها، والعديد منهم يواصلون تحقيق طموحاتهم بالهجرة إلى بلدان أخرى تستأثر بما يحققونه لها من إنجازات.

أين نحن من الصين؟ بل أين نحن من بلدان مسلمة مثلنا؟ أين نحن من تركيا ومن ماليزيا ومن أندونيسيا مثلا؟ إن النظام السياسي لن يستطيع فرض إرادته على الجميع فيحشر الكل في حزب واحد فعليا ولو تعددت أحزابهم شكليا ، سيبقى ينمو من مَدد الانتهازيين والطفيليين فحسب، وهؤلاء سيكونون هم حتفه في الأخير.

إن نظاما لم يستطع حل مشكل المعيشة لعموم الجزائريين رغم الإمكانيات الجبارة التي توفرت لديه لا يستطيع أن يفرض أي رؤية سياسية على شعبه.

ولعدم ثقتهم في أنفسهم أخذ المسؤولون الحاليون يبالغون في التضييق على مجال الحريات حتى تجاوزوا كل من سبقهم في ذلك، بل أصبح الناس يقولون يا ليتنا نعود إلى زمن ما قبل الحراك الشعبي.

لم تعرف الساحة الإعلامية تحكما كالذي نراه إلا ما كان في زمن الحزب الواحد، فالتلفزيون الجزائري طغت عليه تغطية الأنشطة الرسمية، وصورة مختلف المؤسسات الرسمية في الإعلام العمومي في وضع يصلح أن يكون بحثا أكاديميا عن حالات سيطرة الدولة على المجتمع، كل البرامج تدور حول رأي واحد هو الرأي الرسمي. ثم تأتي الفضائيات كلها كأنها تفريعات للتلفزيون العمومي، وكأنه يحكمها مدير واحد ورئيس تحرير واحد.

وبسبب التفنن في وسائل التحكم في المؤسسات الإعلامية “الخاصة” أصبح مسؤولوها يراقبون أنفسهم بأنفسهم، وبدون أوامر من الجهات التي تراقبهم، يحاولون أن يتوقعوا رد فعل السلطات الحاكمة من أي خبر يذيعونه، أو ضيف يدعونه، أو برنامج يبثونه، إلى درجة المبالغة في التضييق على مجال حريتهم بما لم يُفرَض عليهم، ومن حاول منهم التحرر ولو نسبيا من مرض الرقابة الذاتية، تأتيه حادثة ترجعه إلى حالة الرُهاب من غضب السلطات، كحادثة ذلك الصحفي المسكين الذي نقل خبرَ إرجاع دول أوربية للتمور الجزائرية فأدخِل السجن بالرغم من أن الخبر منشور في مواقع وزارات فرنسا التي لا يتوقف الذين سجنوا الصحفي عن بسط البساط الأحمر لمسؤوليها الكبار والصغار.

وفي محاولة يائسة غير مثمرة يحاول المسؤولون عن المؤسسات الإعلامية توفير بدائل لزعماء الأحزاب والمنظمات والشخصيات السياسية ذات الرصيد الطويل والكبير بإبراز وجوه جديدة مندمجة في المنظومة الأحادية، تتحدث في الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية الحقيقية كما يشتهي الحكام المتحكمون، والغريب في الأمر أن مؤسسات إعلامية معربة ومفرنسة حملت لواء “الاستقلالية” والدفاع عن الحريات والديموقراطية لسنوات دخلت الصف وصارت جرائدها ومواقعها الالكترونية نسخا طبق الأصل لجرائد الرداءة والتزلف، بل أصبحوا يتقربون إلى الحاكم بالتحريش ضد العدد القليل من السياسيين والإعلاميين والناشطين الذين رفضوا الاندماج وبقوا ثابتين على قناعتهم بأنه لا مستقبل للجزائر دون ضمان الحقوق والحريات والديموقراطية.

أما بالنسبة لسياسة التعامل مع المجتمع المدني فلم يعرف هذا المجال حالة انحراف كما هو الحال في هذه المرحلة، سواء من حيث الاستراتيجية العامة في ما تريده السلطة من المجتمع المدني، أو على المستوى الجزئي الذي يتعلق بحقوق الإنسان الجزائري في التنظيم وخدمة طموحاته.

أما الناحية الاستراتيجية العامة التي تسير عليها السلطة فهي محاولة خلق بدائل للأحزاب القائمة وتشكيل حاضنة اجتماعية مرتبطة بها تزاحم الأحزاب في اختصاصاتها وتأهيل طبقة قيادية زبونية جديدة، وكل ذلك عن طريق تشكيل شبكة جمعيات موالية للنظام الحاكم ورجاله، وتسخير كل الوسائل الإدارية والأمنية والإعلامية والمالية للدولة، مع تشكيل هيئات جديدة تجمعت فيها كتل انتهازية رهيبة وخطيرة على الدولة قبل المجتمع لن يكون لها من هم في مجالسها إلا المنح المالية والامتيازات المادية، وإن لم تعط هي نفسها ستعطل تلك المجالس، مما يجعل النظام السياسي يضطر لمسايرتها حتى يحفظ زبائنه الطفيليين.

وفي نفس الوقت، على المستوى الجزئي، التضييق الشديد في النشاط الجمعوي على المناضلين السياسيين المستقلين أو الذين ينتمون أو يُشك في انتمائهم لأحزاب سياسية، الذين يعتمد عملهم على القناعة والتطوع، خصوصا إذا كانت هذه الأحزاب أو تلك الشخصيات المستقلة معارضة للمنظومة القائمة.

وما نقوله هنا لدينا عليه أمثلة لا حصر لها على محاولات نشطاء تأسيس جمعيات باءت بالفشل، تم التعامل معهم خارج القانون من قبل مصالح وزارة الداخلية المختصة، حيث ترفض هذه الأخيرة استقبالهم، وإذا استقبلتهم بعد شهور من الإصرار على دفع ملف الاعتماد ترفض منحهم وصل الاستلام الذي يحفظ حقوقهم التي تنص عليها القوانين، وحين يودعون الملف ينتظرون، أحيانا سنوات، وإذا تم اعتمادهم، تتكرر المعاناة عند كل تجديد لهياكل الجمعية وفق ما تنص عليه القوانين. وبطبيعة الحال لا يعاني من هذا التضييق المحظوظون الموالون للحاكم أو من لهم صلات أيديولوجية أو مصلحة نافذة داخل الدولة.

حينما نرى هذه الممارسات اللاحضارية التي تنبئ عن تخلف فضيع لدى المسؤولين على هذا القطاع الاستراتيجي المهم لنهضة الأمم يزيد تقززنا واشمئزازها عندما نسمع ادعاءات المسؤولين عن المكاسب الدستورية والقانونية في مجال الحريات.

لو كان ثمة صدق في التشريع ولم يكن الحكام يتلاعبون بالنصوص من أجل تزيين الواجهة لتغليط الرأي العام الدولي والمحلي، لما وُضعت مادة في الدستور تنص على تأسيس الجمعيات بمجرد الإخبار، ثم يعطلون قانون الجمعيات الجديد الذي يحدد آلية ذلك ويبقى الوضع أسوء مما كان عليه، وقد يأتي القانون بشكل مغاير للضمانات الدستورية ويفرغها من محتواها كما تعودنا على ذلك في مراحل سابقة.

إن هذا الوضع يجب أن يتغير لأنه مضر بالبلد، من شأنه أن يتسبب في يأس وإحباط المواطنين، وفي خمول المجتمع، وفقدان البلاد المؤسسات الوسيطة الحافظة من المواجهة المباشرة بين الشعب والدولة في زمن الأزمات.

وإذا استمر هذا التضييق في مختلف المجالات قد ينتهي يوما ما إلى الانفجار، وحتى إن لم يتمرد الشعب على دولته فإن الوضع القائم لا يساهم في تشكيل جبهة داخلية قوية وصلبة أمام المخاطر الخارجية.

إنه ليس تحسن مداخيل البترول والسياسات والتصريحات الشعبوية هو ما يمنع من الوصول إلى هذا الوضع الخطير المتوقع، وإنما هو الحكم الراشد وحسن استعمال الموارد البشرية والمالية.د. عبد الرزاق مقري