أثناء البحث في خلفيات اختيار الإمارات العربية المتحدة لعضوية البريكس وجدت نفسي أغوص في تاريخ الإمارات فكتبت في هذا الشأن فقرة قدرت أنها لا تتعلق بموضوع البريكس، ومن باب توسيع الفائدة رأيت أن أنشرها في هذا المقال المستقل قبل نشر المقال عن الإمارات ضمن سلسلة “البريكس: الأبعاد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية”.
يرتبط تاريخ الإمارات بتاريخ إقليم عمان في الجزيرة العربية، لا يوجد تاريخ قديم خاص لدولة الإمارات، فلقد كانت دوما مشيخات وإمارات تابعة للتاريخ السياسي لعمان التي عرفت امبراطورية من أعرق الامبراطوريات الإسلامية بين أواسط القرن السابع عشر إلى أواسط القرن العشرين. بلغت هذه الإمبراطورية ذروتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر في عهد مجد البوسعيديين فشملت سواحل الخليج العربي إلى البصرة وأجزاء كبيرة من الأراضي السعودية وسواحل افريقيا الشرقية حتى ماجنكا بجزيرة مدغشقر، إلى بلاد الهند بمنطقة كوادر شرقا (تقع جنوب باكستان اليوم).
وكان لهم أسطول بحري فرض وجوده في المحيط الهندي، ولم تتشكل حدود الإمارات الحالية إلا حديثا بعد نهاية الانتداب البريطاني سنة 1971 من مجموع المشيخات التي كانت قد انفصلت عن عمان التاريخية وأخذت تتشكل في إطار الصراع على حدود بينها بتدبير ورعاية بريطانية.
دخل الإسلام عمان التاريخية في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شملتها حركة الردة التي قضت عليها جيوش أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في هذه المنطقة، في معركة حاسمة قرب مدينة “دبا” التابعة حاليا لإمارة الفجيرة. ازدهرت التجارة في هذه المنطقة كثيرا في العهد الأموي والعباسي بسبب موقعها البحري المهم، وقد كان لحركة التجارة المنطلقة من اقليم عمان دور كبير في نشر الإسلام في شرق افريقا وجنوب شرق آسيا تأثرا بسلوك التجار المسلمين.
كان إقليم عمان إقليما مهما من أقاليم الدولة الإسلامية في عهودها الأولى إلى أن تفككت الدولة العباسية فتشكلت حول المشيخيات القبلية إمارات مستقلة من أشهرها إمارة بني نبهان. وعند ظهور القوى الأوربية وتوسع طموحها سيطر البرتغاليون على المنطقة لمد قرنين من الزمن، إلى أن توحدت القبائل في إقليم عمان لمحاربتهم فتشكلت دولة قوية هي دولة اليعاربة بين 1624 ـ 1741 (تشمل حاليا عمان والإمارات وقطر وأجزاء واسعة من شرق افريقيا وجزء من بلاد فارس) التي حاربت البرتغاليين واخرجتهم من المنطقة كلها، وكانت لها علاقة وطيدة مع العثمانيين وتعاون معهم في محاربة البرتغاليين والصفوييين (إيران حاليا). استفاد الهولنديون وخصوصا البريطانيون من هزائم البرتغاليين على يد قادة عمان التاريخية فتوسع الحضور العسكري للبريطانيين واشتد نفوذهم التجاري في المنطقة وباتت تربطهم علاقات جيدة مع اليعاربة الذين أتاحوا الفرصة لحلول شركة الهند الشرقية في المنطقة، أداة الاستعمار البريطاني في شرق الكرة الأرضية. بعد ضعف اليعاربة ظهرت دولة البوسعيديين سنة 1744 التي استطاعت أن تفرض وجودها وسط قوى دولية كبيرة متصارعة (العثمانيون، الصفيون، البريطانيون، الفرنسيون)، غير أن التحالف مع البريطانيين الذي دشنه مؤسس الدولة الإمام أحمد بن سعيد للقضاء على التقدم العسكري والديني الوهابي للدولة السعودية الأولى وسع نفوذ البريطانيين، فكان لهم دور كبير لاحقا في تفتيت المنطقة ثم احتلالها بعد ذلك.
بعد وفاة أحد الحكام الأقوياء للدولة، سعيد بن سلطان بن أحمد البوسعيدي، عام 1856 اختلف ولداه (نائبه في زنجبار ونائبه في مسقط) فاحتكما إلى البريطانيين فقسموا بينهما الدولة: دولة زنجبار ودولة عمان. ولما اشتد النفوذ البحري للبريطانيين بعد انتصاراتهم في الهند واتفاقياتهم مع الصفويين في بلاد فارس ضغطوا على العمانيين لإلغاء كل علاقاتهم التجارية مع الفرنسيين والهولنديين. كما تحججوا بمحاربة القرصنة فتوغلوا في مياه الخليج للوصول إلى ما سموه “ساحل القراصنة” لفصله عن الدولة العمانية البوسعيدية، وقد شرح ذلك بالخرائط وحسب أقوال الخبراء البرنامج الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية في 10 أوت\اغسطس 2020 ، حيث قضوا عام 1820 على الأسطول البحري الذي أنشأه القواسمة (سلالة حكام إمارتي الشارقة ورأس الخيمة حاليا) بغرض التجارة والدفاع عن بلادهم و فرضوا بعد ذلك على مشايخ “الساحل العماني” اتفاقيات خضوع لانتداب بريطاني غير معلن فغيروا اسم “ساحل القراصنة” إلى إمارات الساحل المتصالح، أو المهادن، أو ساحل عمان، وهذه الإمارات التي كانت تتشكل تحت الرعاية البريطانية بعيدا عن الدولة الأم “عمان العريقة” هي نواة دولة الإمارات الحالية.
أثناء تقسيم المنطقة العربية من قبل البريطانيين والفرنسيين وفق اتفاقيات سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الخلافة العثمانية دخلت “الإمارات المتصالحة”، تحت الانتداب البريطاني الفعلي، وبفعل الجشع الاستعماري وسيطرته على هذا الممر التجاري المهم في طريق الهند، وبسبب تراجع تجارة اللؤلؤ التي كانت مصدر رزق أساسي لسكان المنطقة عبر الزمن بالإضافة لصيد السمك، وذلك عند بروز اللؤلؤ الصناعي، دخلت المنطقة في مرحلة فقر مدقع وتخلف كبير.
رغم تراجعها في الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وخروجها من الهند (1947)، حرصت بريطانيا على البقاء في المنطقة من أجل الاستفادة من الاكتشافات الجديدة للبترول في الإمارات المتصالحة، وبدأت تعمل لهذا الغرض على بناء المؤسسات الإدارية والأمنية التي تحمي شركات التنقيب وتضمن استمرار الوجود والتأثير بعد الجلاء إن اضطرت إليه، ومن أهم ما قامت به في هذا الإطار تطوير وجودها الإداري المباشر في هذه “الإمارات المتصالحة” من خلال الحضور المباشر لمعتمدياتها التابعة لوزارة الخارجية في لندن، بعد أن كانت تتبع إدارتها في الهند، ومن خلال توحيد الجهات التي تتعامل معها بتأسيس “مجلس الإمارات المتصالحة” سنة 1952 برئاسة المعتمد السياسي البريطاني إلى أن منحت رئاسته لشيوخ الإمارات عام 1965 في إطار الانتداب الأجنبي، وقد أفلحت بريطانيا في تكوين جيل من شباب “الإمارات المتصالحة” أشرفت عليهم في بناء المؤسسات الإدارية والأمنية للدولة التي تحكم الإمارات إلى الآن، ويمكن الرجوع لمزيد من المتابعة لهذا الشأن إلى كتاب الباحثة منى محمد الحمادي تحت عنوان “بريطانيا والأوضاع الإدارية في الإمارات المتصالحة: 1947 – 1965 “.
حين غادرت بريطانيا هذه “المشيخات المهادنة” عام 1971 تأسست دولة الإمارات العربية المتحدة في شكلها الحالي بمبادرة من شيخ أبو ظبي زايد بن سلطان آل نهيان ضمن دولة فدرالية ضمت ست إمارات هي أبو ظبي ودبي والشارقة والفجيرة وعجمان وأم القوين وانضمت إليها رأس الخيمة في العام التالي، وبقي الاتحاد يحافظ على علاقات متميزة مع البريطانيين، تلامس التبعية، خصوصا في المجال الاقتصادي والمالي والأمني، ورغم تسليم بريطانيا قيادة المنطقة للولايات الأمريكية المتحدة بعد أن خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية بقيت هي العقل المدبر في السياسة الغربية للمنطقة.
كان الاتفاق أن تكون رئاسة الدولة بعد تشكيل الاتحاد بالتداول بين شيوخ الإمارات السبع غير أن شح الموارد في الإمارات الأخرى سوى أبو ظبي وحاجتها الدائمة للدعم المالي من هذه الإمارة الغنية بالنفط والتي تحتل 80% من المساحة الإجمالية للاتحاد، أبقى الحكم عند آل نهيان إلى الآن، ولم تكن إمارة أخرى تتعامل بالندية مع أبو ظبي غير إمارة دبي التي يتولى حاكمها نيابة رئاسة الاتحاد ورئاسة الحكومة وفق ما ينص عليه الدستور التأسيسي المتوافق عليه، ولكن خصوصا بسعي حاكمها محمد بن راشد آل مكتوم للاستقلالية الاقتصادية من خلال تحويلها إلى مركز مالي كبير وعبر تطورها العمراني ونشاطها العقاري والسياحي، غير أن حالة الإفلاس الذي تعرضت لها دبي عام 2009 جعلها تسلم أمرها إلى أبو ظبي التي أقرضتها 10 مليار دولار وابتاع منها البنك المركزي الإماراتي (مقره في أبو ظبي) 10 مليار دولار أخرى.
كان اكتشاف النفط في الإمارات يمثل تحولا كبيرا في حياة الشعب الإماراتي، وكان لحكمة زايد بن سلطان آل نهيان دور كبير في ضمان التوزان بين إمارات الاتحاد، والتوازن في التعامل مع الأشقاء العرب، كما استطاع أن يتجنب الصراع مع الجوار الإيراني، رغم بؤرة التوتر مع هذه الدولة القوية التي تركتها بريطانيا بعدم تحمل مسؤوليتها كبلد انتداب تجاه إلحاق إيران الجزر الاستراتيجية الثلاث إليها (أبو موسى، طمب الكبرى، طمب الصغرى)، بالإضافة إلى مواقفه القومية ووقوفه مع القضية الفلسطينية إلى أن توفاه الله تعالى.
ولعل تتبعنا لتاريخ تأسيس الإمارات من خلال عمليات التفكيك والتركيب التي قامت بها بريطانيا، وفق ما بيناه أعلاه، وترك سكان المنطقة في الفقر والتخلف تحت الانتداب يعيشون على الصيد وتجارة اللؤلؤ، ثم التكفل ببناء الاتحاد عبر نواة “مجلس الإمارات المتصالحة” وبناء المؤسسات الإدارية والأمنية وتأهيل كوادرها وفق ثقافتها وفي معاهدها بالنسبة لأبناء الشيوخ بعد اكتشاف البترول يشرح لنا العقلية الغربية المجافية للقضايا الدينية والقومية لدى الجيل الثاني الذي حكم البلاد بعد جيل المؤسسين المشبعين بانتماءاتهم القومية والدينية التقليدية بما لم يجرأ عليه غير هؤلاء المصنوعين على عين البريطانيين في تحالفهم مع أعداء الأمة لخلق دين جديد مع اليهود والنصارى سموه “الديانة الإبراهيمي” والتآمر مع الصهاينة على فلسطين وضد كل القوى الوطنية والإسلامية في العالم العربي التي تسعى لتطوير بلدانها مما أدى إلى فتن عظيمة وسفك الدماء وقتل النساء والأطفال وسجن الأحرار واستباحة المحارم بكل أنواعها.