قد يستغرب المتتبع للتطورات الدولية كيف يتم الإجماع بين خمس دول بعضها لها تقاليد ديموقراطية عريقة وتاريخ مشرف في الكفاح من أجل الدميقراطية وحقوق الإنسان، مثل البرازيل وجنوب افريقيا، على اختيار الإمارات العربية المتحدة في عضوية البريكس، كبلد تحكمه إرادة شخص واحد هو حاكم أبو ظبي الذي استطاع أن يسيطر بموارد إمارته النفطية على كل الإمارات الأخرى المشكلة للدولة والذي تسبب في فتن عظيمة في العديد من الدول العربية سالت فيها الدماء وانتهكت الأعراض وسقطت فيها المؤسسات الشرعية لصالح مليشيات يتحكم فيها بالمال واللعب على التناقضات، كما شارك في دسائس ضد دول شقيقة كتركيا والجزائر.
ولكن الاستغراب يزول حينما نعلم بأن الضحية الأساسية في التطورات الدولية القائمة هي الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ الأطراف المتصارعة كلها لا تعبأ بإرادة الشعوب، ولا تهمها مصائرهم، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالمصالح، سواء كانت الدول المشكلة للبريكس التي لا تحظى الأساسية فيها بسجلات مشرقة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو الدول الغربية وعلى رأسها الولايات الأمريكية المتحدة التي تتعامل مع الديمقراطية وحقوق الإنسان بمعايير مزدوجة يحكمها النفاق وابتزاز الدول الحليفة والبعيدة وفق ما يخدم مصالحها.
لم يحضر في معايير اختيار الأعضاء الجدد في منظمة البريكس سوى تلك المعايير التي استخلصناها في مقال سابق من تصريحات مسؤولي الدول الخمس (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب اقريقيا) التي أجمعت على قائمة الدول الست المضافة (إيران، السعودية، الإمارات، مصر، الأرجنتين، أثيوبيا)، وهي المعايير التي تتعلق ب”عالَم الاقتصاد وما يرتبط به من نشاطات الإنتاج، والتوزيع، والتمويل، وما يترتب عليها من علاقات ومنافسة بين الدول” وهو ما يعني في التعريفات القاموسية “الجيواقتصاد”، و ما يتعلق ب”الحيز الجغرافي من حيث الموقع والمنافذ والمساحة والموارد والمعطيات السكانية وتأثيراتها على العلاقات السياسية في الإقليم وعلى المستوى الدولي”، وهو ما يعني “الجيوسياسة”، كما تتعلق ب”مستوى وكيفية استعمال المعطيات الجيوسياسية والجيواقتصادية في حالة الصراع أو الحرب بين الكيانات السياسية والدول وما يترتب عن ذلك من مواقف وسياسات وتحالفات وما يتحقق من وزن وتأثير في الساحة الدولية”، وهو ما يعني “الجيوستراتيجية”.
لا يخفى على أحد الأهمية الجيوسياسية التي تتمتع بها الإمارات العربية المتحدة بفعل موقعها الجغرافي على سواحل الخليج العربي قرب مضيق هرمز الاستراتيجي، وتوسطها بين الممرات العالمية البرية والبحرية وخطوط الطيران بما يجعلها منطقة عبور مثالية للبضائع والسواح وأصحاب المصالح من مختلف أنحاء الدنيا.
غير أن هذه الدولة دولة صغيرة، مساحتها في حدود 71.023 كلم مربع وتركيبتها السكانية معقدة لا يتجاوز عدد سكانها المواطنين المليون (بين 10 – 12 %من مجمل سكان البلاد) وسط جنسيات متعددة عددهم في حدود 9 مليون مقيم لأغراض العمل في أغلبهم من جنوب شرق آسيا وخصوصا من الهنود، لا يمكن الاعتماد عليهم في حالة العدوان على البلد إذ البلد ليس بلدهم، وسيبقى هؤلاء الأجانب يشكلون خطرا على استقرار الإمارات لكثرتهم، خصوصا إذا قررت قوى دولية متربصة دفعهم للاحتجاج من أجل توطينهم، لن تكون الإمارات عندئذ عربية ولا ربما حتى مسلمة.
ومما زاد في هذه المخاطر الجيوسياسية ضياع هذا البلد لكثير من هويته القومية وتشويه صورته الدينية وخلافاته مع العديد من جيرانه وأشقائه في العالم العربي والإسلامي.
ولهشاشة وضعها تبحث الإمارات دائما على شكل من أشكال الحماية الدولية، ويعتقد حكامها بأن كل شيء يحل بوفرة المال الذي يضمنه بيع البترول والغاز.
ولعدم الشعور بالأمان تعمل الإمارات دوما على أن تستمر حالة الحماية التي تأسست في إطارها تحت رعاية البريطانيين، وفق ما ذكرناه في المقال السابق، ثم ضمن تحالفها التقليدي مع الولايات الأمريكية المتحدة بعد التراجع الدولي لبريطانيا، وأخيرا توجهها مؤخرا شرقا نحو الصين وروسيا.
قبل أن نتحدث عن التطور الأخير الذي اتجهت إليه الإمارات في علاقاتها الدولية على إثر توجسها من تراجع اهتمام الولايات الأمريكية المتحدة بالمنطقة، نتحدث عن النجاح الذي حققه هذا البلد في الجانب الجيوقتصادي الذي عظم اهتمام الدول به في أحلافها.
لا شك أن القوة الاقتصادية لدولة الإمارات لا تزال مرتبطة بالثروة النفطية، وأن كل مساعيها لتنويع اقتصادها تعود في القاعدة الخلفية لقوتها المالية المرتبطة بالكنوز الأحفورية، وأن قوتها المالية خارج المداخيل البترولية لا تزال تُحسب ضمن الفقاعات المالية الرأسمالية التي قد تنهار في أي أزمة مالية عالمية عاصفة، وقد حدث شيء من هذا في الأزمة المالية التي تعرضت لها إمارة دبي عام 2009 ، سنة واحدة بعد الأزمة العالمية، وأن مكانتها التجارية المرتبطة بإعادة التصدير قد تتعرض للكساد في حالة حدوث ركود عالمي كبير.
غير أنه يجب الاعتراف بأن دولة الإمارات حققت نجاحات كبيرة لم يحققها الكثير في المنطقة تؤهلها لبناء اقتصاد مستدام لو غيرت أمورا أساسية من سياستها الخارجية التي تعرضها لعداوات عميقة خطيرة على مصيرها، وسياساتها السكانية والثقافية بما يحفظ هويتها وصلابة مجتمعها العربي الإسلامي، وسياساتها العلمية والابتكارية و الاقتصادية في داخل الإمارات وبالشراكات الخارجية الخليجية والعربية الإسلامية على المدى البعيد بما ينمي إنتاجها الوطني وصادراتها في إطار حضاري آمن.
لا ينكر أحد أن الاقتصاد الإماراتي يمثل، في إطار الفكرة الرأسمالية بما لها وما عليها، طفرة جديرة بالدراسة، فهي تحتل المرتبة الاقتصادية الثانية في العالم العربي، والأربعين عالميا، بناتج محلي خام بالحساب الجاري في حدود 507.53 وفق مؤشرات البنك الدولي لعام 2022، ونصيب الفرد: 53757.9 دولار، وبلغ النمو الاقتصادي في نفس العام 7.4 %، وفي عام 2021 بلغت نسبة البطالة البطالة 2.8% ، ونسبة التضخم 2.5 % (المصدر: البنك الدولي).
وهذه الأرقام منطقية بالنظر للثروات الطبيعية الهائلة التي تزخر بها الإمارات والعدد القليل جدا من المواطنين، إذ بلغت احتياطياتها المؤكدة من النفط 107 مليارات برميل بنهاية 2021 (تقارير أويل أند غاز جورنال)، يتركز أغلبها في أبوظبي (96 % تقريبا)، وتتوزع الباقية بين دبي (2 % ) وباقي الإمارات.
وتمثّل هذه الاحتياطات النفطية ما يقرب من 7% من إجمالي احتياطيات النفط المؤكدة في جميع أنحاء العالم.
وتبلغ حصة الإمارات من الإنتاج وفق اتفاق “أوبك+” الأخير 3.18 مليون برميل يوميًا في أكتبور 2022 (بيانات أوبك). وبلغت احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في الإمارات 7,726 تريليون متر مكعب بنهاية 2021، في المرتبة السابعة ضمن أكبر احتياطات الغاز الطبيعي المؤكد في العالم (النشرة السنوية ـ أوبك).
تدرك الأمارات خطورة اعتماد اقتصادها على النفط كونه ثروة غير متجددة والآفاق المستقبلية لهذه الثروة غير متحكم فيها، خصوصا في بلد صغير، جغرافيا وسكانيا، ليست له مقومات الأمان غير الثروة المالية المبنية على مبيعات الطاقة الأحفورية، لذلك يبذل حكام هذا البلد جهدا كبيرا لتنويع الاقتصاد، وقد اعتمدوا في ذلك على الانفتاح الاقتصادي التام، سواء من حيث المرونة المالية، أو محاولات التصنيع وتحقيق الأمن الغذائي، أو استغلال الموقع الجغرافي لتحويل الإمارات إلى مركز تجاري ومالي عالمي بين افريقيا وآسيا وأوربا، وتوفير البنى التحتية من موانئ وطرق وخدمات لوجستية ذات نوعية، ومنها سهولة وسرعة الشحن والتتبع والتعقيب وغيرها، وقد أوجدت في هذا الإطار العديد من المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية المتخصصة موزعة في مختلف الإمارات، تطرح حوافز ومزايا اقتصادية عدة مثل الإعفاءات على الرسوم الجمركية، الإعفاء الضريبي التام للشركات، التملك الكامل للأجانب دون كفيل، الأمان القانوني، البنية التحتية العصرية، رسوم الاستيراد والتصدير المناسبة، سهولة إجراءات التأسيس، وقد أوجدوا في هذا الإطار حوالي 45 منطقة حرة بمختلف التخصصات ، ومنها مؤخرا منطقة متخصصة في الذكاء الاصطناعي والأنشطة المستقبلية (المصدر: موقع وزارة الاقتصاد الإماراتية).
وقد حققت هذه السياسة نتائج جيدة إذ باتت صادراتها تتكون من ثلاث قطاعات كبرى، الصادرات النفطية وتمثل 30 %، الصادرات غير النفطية المحلية (وهي صادرات السلع التي تم إنتاجها أو تصنيعها محليا بالكامل، أو التي أُجرِيت عليها عمليات صناعية غيرت من شكل وقيمة السلعة) وتمثل في حدود 20 % من إجمالي الصادرات، والصادرات غير النفطية التي تم إعادة تصديرها ( وهي صادرات السلع التي تم استيرادها سابقا من دون أي تعديالت جوهرية عليها) وتمثل في حدود 50%. ووفق المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء تتوزع مساهمة القطاعات الرئيسية في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 على النحو التالي: قطاع النفط والغاز 27.3 %، وتجارة الجملة والتجزئة 14.2 %، والصناعات التحويلية 9.2 %، والتأمين 8.2 %، والأنشطة العقارية 6 %، والنقل والتخزين 4.4 %. وقد بلغت الصادرات غير النفطية في النصف الأول من سنة 2023 من حيث القيمة 288 مليار دولار، وتشير بعض التقارير أن صادرات الصناعات الوطنية (صنع في الإمارات) وصلت قيمتها في حدود 50 مليار دولار.
علاوة على محاولاتها تنويع مزجها الطاقوي، فحسب تقرير الطاقة المتجددة الذي أصدره المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء عام 2021 بلغت القدرة المركبة لمحطات الطاقة المتجددة في الإمارات 2,997.7 ميجاوات، شمل ذلك طاقة الألواح الشمسية، والطاقة الشمسية المركزة، وغاز مكبات النفايات.
بالإضافة إلى الطاقة النووية في محطة براكة للطاقة النووية التي تنتج كل وحدة من وحداتها الأربع، ما يصل إلى 1400 ميجاوات من الكهرباء.
وبناء على قوتها الإنتاجية للنفط، وقدرتها على تنويع اقتصادها، تمكنت الإمارات من تبوء المرتبة الرابعة ضمن أكبر الصناديق السيادية في العالم بمبلغ قدره 790 مليار دولار وفق تصنيفات مؤسسة الصناديق السيادية الدولية.
كما باتت هذه الدولة من أكبر الدول الجاذبة للاستثمارالأجنبي إذ وفق تقرير الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي للعام 2022 بلغت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى دولة الإمارات 20.667 مليار دولار.
وقد تسبب نجاحها إلى ارتفاع طموحاتها بما لا يتناسب مع حجمها الجغرافي والسكاني، وربما يحدوها في ذلك حلم إعادة بناء الإمبراطورية العمانية، نيابة عن أصل الإمبراطورية في دولة عمان الحالية، والتي كانت قد انفصلت عنها بتدبير بريطاني في بداية القرن التاسع عشر، وقد بين ذلك د. غويدو شتاينبيرغ من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ” Stiftung Wissenschaft und Politik” ” حين قال: ” إن الإمارات “مهتمة بشكل كبير بالسيطرة على الطرق البحرية من خليج عدن إلى البحر الأحمر، وقد سيطرت على عدة موانئ وجزر يمنية منذ عام 2015، وأنشأت قواعد في إريتريا وأرض الصومال.
ومن ثم فقد أسست لنفسها إمبراطورية بحرية صغيرة بين خليج عمان والبحر الأحمر، وعززت موقعها كقوة إقليمية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي”.
و بعض جيرانها ينظر لهذا الطموح بعين الريبة، ففي إشارة إلى مساعي الإمارات لتوسيع نفوذها داخل اليمن قال وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي في تصريحات في مقابلة مع قناة روسيا اليوم: ” .. وأن الإمارات لها تطلعات، لكن ينبغي أن تكون تلك التطلعات محكومة ومنضبطة”.
ليست المعايير الاقتصادية هي وحدها التي فصلت في قرار قادة البريكس ضمها إليهم في منظمتهم، لو كان ذلك هو المعيار الحاكم الحاسم لتم اختيار “إندونيسيا” التي هي أقوى اقتصاديا من كل الدول التي تم دعوتها للعضوية.
إن ثمة معيارا آخر يتعلق بالجيوستراتيجية يكون قد حسم في قبول الإمارات ضمن منظمة البريكس، وهو توتر علاقتها مع البيت الأبيض الأمريكي في زمن الديمقراطيين.
إنه من المفيد إذن الوقوف عند هذا التطور لفهم مقاصد توسيع البريكس ضمن تشكيلته الجديدة.
وفي هذا الإطار يمكننا أن نقول أن جذور توتر علاقة حاكم الإمارات مع الديمقراطيين تعود إلى قصة غريبة، نقلها بعض الإعلاميين مفادها أن محمد بن زايد، وهو ولي للعهد، عرض على وزيرة الخارجية هيلاري كلنتن أثناء رئاسة باراك أوباما، طموحه بأن يكون عراب الدول العربية لجرها إلى التطبيع وخدمة مصالح أمريكا في المنطقة فاستخفت به ولم تتعامل معه باحترام لعدم اقتناعها بعدم مركزية الإمارات في المنطقة، وحينما وصل “ترامب” إلى الرئاسة وجد عنده آذانا صاغية للعرض وجيوبا مفتوحة للمال الإماراتي، وكان محمد بن زايد يعتقد، وهو يتجه لترامب، بأن ارتباطه بالحركة الصهيوينة واللوبيات اليهودية سيسهل له المأمورية ويجعله لاعبا مهما حتى داخل البيت الأبيض الأمريكي.
غير أنه بعد أن حقق اختراقات مهمة في هذا الاتجاه تغيرت قواعد اللعبة عند رجوع الديمقراطيين للحكم ومجيئ “بايدن” للبيت الأبيض، إذ اتُّهمِت الإمارات بأنها حولت البيت الأبيض في زمن ترامب وفريقه إلى مسرح لمخططاتها السياسية إلى حد اتهمت فيه من قبل الديمقراطيين بأنها حاولت التأثير في السياسة الأمريكية “فقد أفادت وسائل إعلام أمريكية، وفق موقع بي بي بي بالعربية، ب”أن توماس باراك (رجل أعمال ومستشار لدى ترامب) ومتهمين آخرين، أحدهما إماراتي، يواجهون تهما ثقيلة من قبيل دفع مصالح الإمارات في واشنطن والتأثير على مواقف السياسة الخارجية لحملة مرشح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 والقيام بحملة في آذار/مارس 2017 من أجل تعيين مرشح زكته الإمارات سفيرا للولايات المتّحدة في أبوظبي”.
كما أن “مركز السياسة الدولية” الأمريكي أصدر دراسة بعنوان “اللوبي الإماراتي: كيف تفوز الإمارات في واشنطن” تناولت نفوذ الإمارات في الولايات الأمريكية المتحدة، ورصدت مؤسسات أخرى متخصصة “ملايين الدولارات التي ينفقها الإماراتيون على مؤسسات الرأي والفكر والجامعات الأمريكية”.
تَعتبر أبو ظبي، من جهتها، أن الولايات الأمريكية أخلت بالتزاماتها في حماية المنطقة، سواء ما يتعلق بانسحابها من أفغانستان المفاجئ، أو تساهلها مع إيران في الملف النووي، وقد عقّد العلاقات تجميد إدارة بايدن صفقة بيع مقاتلات ” إف 35″ التي كانت ضمن صفقة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي التي شارك فيها ترمب، وفي الملف اليمني استاءت الإمارات كثيرا من سياسة الديمقراطيين في الموضوع وعدم إطلاق أيديها في المسرح كما كان الحال في زمن ترمب، وتحريك ملف حقوق الإنسان وقتل الأطفال، وعند بدء الحوثيين هجوماتهم للإمارات بواسطة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة في جانفي 2022 استاءت الإمارات كثيرا من عدم فاعلية الدفاعات الأمريكية ثم مطالبتها بشكل مباشر بدفع المقابل المالي عن ذلك.
في ظل هذه التحولات المهمة في العلاقة مع واشنطن عمّقت الإمارات علاقاتها مع الصين والهند وروسيا، وقد عدّت الصين هذا التحول فرصة لكسب هذا الشريك المالي الكبير الذي يريد أن يحقق شيئا من “الاستقلالية” وقد ألمح إلى ذلك وزير الخارجية الصيني وانغ يي في شهر أوت\اغسطس 2023 حين قال: “أن الصين ستواصل دعم الإمارات في اتباع مسار تنموي مستقل، وستعمل معها ليدعم البلدان بعضهما البعض بقوة في القضايا المتعلقة بالمصالح الأساسية لكل منهما، ومعارضة التدخل الخارجي بشكل مشترك، وحماية السيادة والأمن والمصالح التنموية المشتركة”، كما ذكر تشانغ بيمينغ سفير جمهورية الصين الشعبية لدى الإمارات في حسابه الشخصي على موقع تويتر مؤخرا (موقع ×) أن التبادل التجاري بين الدولتين قد سجل رقما قياسيا عند 99.2 مليار دولار، وزاد عدد الصينيين المقيمين في الإمارات بالضعف منذ 2019 حيث وصل 400.000 صيني (أي 40 % من عدد المواطنين الإماراتيين).
وبسبب العلاقة التاريخية مع الهند والتقارب الثقافي المشترك للنخب الهندية والإماراتية، خصوصا مع بريطانيا، تقيم الدولتان شركات متنوعة قديمة تطورت إلى “اتفاقية الشراكة الكاملة في مايو 2022” في زمن حكم ناريندرا مودي رئيس الحزب الهندوسي بهاراتيا جاناتا المتطرف، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الهند والإمارات 84.5 مليار دولار بين أبريل 2022 ومارس 2023 بحسب وكالة رويتز.
وحسب صحيفة “ذا ناشيونال نيوز” الإماراتية يسكن في الإمارات 3.5 مليون من الهند، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المواطنين الإماراتيين.
وفي ظل الحرب الأوكرانية زادت المبادلات التجارية بين روسيا والإمارات، في تحد واضح لدعوات المقاطعة حيث صرح نائب رئيس الوزراء الروسي دينيس مانتوروف، حزب موقع روسيا اليوم، بأن حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات في العام 2022 وصل إلى مستوى قياسي، حيث نما بنسبة 68% إلى 9 مليارات دولار. وأوضح مانتوروف أن حجم الصادرات من روسيا إلى الإمارات ارتفع بنسبة 71% إلى 8.5 مليار دولار، والاستيراد بنسبة 6% إلى 500 مليون دولار.
ولا شك أن سبب هذا الاختلال الكبير في الميزان التجاري لصالح روسيا سببه التحايل على المقاطعة لإعادة تصدير السلع الروسية.
وقد تسبب هذا التحول التجاري الكبير نحو الصين وروسيا استياء الولايات الأمريكية المتحدة، وقد نقل ذلك العديد من وسائل الإعلام الأمريكية، ومن ذلك ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال” في 17 مايو 2023 عن مسئول أمريكي رفيع قوله أن الولايات المتحدة حذرت رئيس الإمارات “محمد بن زايد آل نهيان” من التعاون الوثيق للغاية مع روسيا والصين، وأكدت أنه يحاول الاستحواذ على روسيا والصين ويختبر في ذلك العلاقات الأمريكية، خصوصا بعد الحرب في أوكرانيا”، ورصدت الولايات الأمريكية عدة تصرفات دعمت بها الإمارات روسيا منها: التعاون العسكري والاستخباراتي وبيع المعدات العسكرية كالطائرات بدون طيار، تخفيض الإنتاج النفطي بالتنسيق مع روسيا ضد إرادة الولايات الأمريكية المتحدة، ووضع الصناديق الاستثمارية الإماراتية مليارات الدولارات في روسيا، وتدفق السلع الروسية للأسواق الإماراتية بغرض إعادة تصديرها، ونقل بعض السلع المهمة من الإمارات إلى روسيا كالأجزاء الالكترونية والرقائق الدقيقة (زادت صادراتها 15 مرة بين 2021 و 2022)، إخفاء أموال الأثرياء الروس وشراء العقارات.
أما بخصوص العلاقات الإماراتية الصينية فإن الاعتراضات الأمريكية بدت أكثر خطورة حيث اضطرت الإمارات غلق مشروع بناء قاعدة عسكرية صينية عام 2021 تحت الضغط الأمريكي حين تم رصد ذلك من قبل الاستخبارات المركزية الأمريكية، كما وقعت أزمة كبيرة بسبب استعانة الإمارات بشركة “هواوي” الصينية لبناء شبكة اتصالات بما جعل المشرعين الأمريكيين يؤكدون على عرقلة إمضاء عقد بيع مقتلات “F35”.
وربما نلاحظ من خلال هذه المعطيات بأن أمريكا ليست قلقة بشأن العلاقات الإماراتية الهندية، من حيث أن الهند من الدول التي يمكن استعمالها ضد الصين وروسيا رغم وجود ثلاثتهم في منظمة البريكس، وربما سيعول على الهند والدول الخليجية لإفساد مقاصد الصين من البريكس، وقد يكون مشروع “الممر الاقتصادي” من الهند إلى أوربا عبر السعودية والأردن وإسرائيل الذي تم الاتفاق بشأنه بين الهند والسعودية والذي هلل له الأمريكيون والإسرائليون كثيرا بعد اجتماع مجموعة العشرين من ضمن هذا المسعى وهذا ما سنشرحه أكثر في مقالات لاحقة بحول الله.
رغم كل هذه التحولات الكبيرة في العلاقات الأمريكية الإماراتية، والأحداث الفعلية الدالة على الأزمة، لا يجب الاعتماد على ذلك للذهاب إلى استنتاج متسرع بأن الأمر يتعلق بقطيعة نهائية، فالعلاقات الإماراتية الغربية تاريخية وعميقة، ومهما وقع من التصدع فسيكون الخبراء البريطانيون حاضرين دائما لترميمه، لمعرفة بريطانيا الشاملة بالبلاد والعباد وأفضالها على حكامها كما أن حجم المصالح المتبادلة كبير، سواء من الناحية التجارية أو من حيث القوة السياسية، فالإمارات هي رابع أكبر وجهة لعمليات نقل الأسلحة الأمريكية بعد المملكة العربية السعودية وأستراليا وكوريا الجنوبية.
ومنذ عام 2009، كانت الإمارات سوق التصدير الأولى للسلع الأمريكية في الشرق الأوسط، والفائض التجاري للولايات المتحدة مع الإمارات هو سادس أكبر فائض تجاري لأمريكا على مستوى العالم.
وفي عام 2020 بلغ رأس المال الإماراتي حوالي 45 مليار دولار من التدفقات الاستثمارية إلى الولايات المتحدة، وتصل المحفظة التي تملكها الإمارات في واشنطن إلى 500 مليار دولار، وفق ما ذكرته بي بي سي نيوز في 22 جويلية 2021. وكل هذا بالإضافة إلى المصالح السياسية التي تحققها الإمارات للولايات الأمريكية المتحدة بتطوع منها وبأموالها، ومن ذلك مسار موجة التطبيع الجديدة الذي تقوده في العالم العربي والإسلامي، وما يسمى بمحاربة الإرهاب، وما يتعلق بكسر موجات مطالب الحريات والديمقراطية في الشارع العربي، وقطع الطريق على التيار الإسلامي، وما نتج عن ذلك من دماء وانتهاكات عظيمة لا تتحملها القوى الغربية ظاهريا ولكنها تدعم نتائجها.غير أنه مهما كان مستقبل العلاقة الأمريكية الإماراتية فإن قناعة حكام دولة الإمارت (وحكام دول الخليج عموما) صارت كبيرة بأن الولايات الأمريكية المتحدة لن تقوم بدور حمايتهم على الشكل الذي يريدونه ووفق القواعد القديمة، لذلك صاروا يسعون لتحسين علاقاتهم بمحيطهم من خلال تكثيف التبادل الاقتصادي، ومن ذلك اقتناعهم بإنهاء الأزمة الخليجية التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، وتجاوز الخلافات مع تركيا وتبادل الزيارات للبلدين بين محمد بن زايد وأردوغان، وتأسيس صندوق قيمته 10 مليار دولار لدعم الاستثمار في تركيا، ضمن اتفاقيات اقتصادية أوسع.
كما بدأ الإماراتيون يعملون على رفع مستوى العلاقات مع إيران وذلك رغم الخلافات الحدودية والسياسية والأمنية الكبيرة، علما أن البلدين يجمعها الجوار والتبادل الاقتصادي الكبير والتواصل السكاني حيث يعيش في الإمارات نصف مليون إيراني (أي نصف عدد السكان المواطنين الإماراتيين) وهم يمثلون خامس أكبر جنسية من مشتري الأراضي في دبي.
وقد يكون قد ساهم في رسم هذا التوجه اعتقاد حاكم أبو ظبي بأن “الخطر” الذي كان يمثله الإسلاميون قد انتهى وأن “داعميهم” قد تخلوا عنهم.يتضح من خلال ما ذكرناه أعلاه بأن قادة البريكس الخمسة قد نظروا إلى معايير عديدة في اختيار منح العضوية لدولة الإمارات وهي المعايير المتعلقة بأثر الجغرافيا على الاقتصاد والسياسة دوليا، وبحجم الاقتصاد الإماراتي ودوره الكبير في إمدادات الطاقة وإعادة تصدير البضائع من الدول المنتجة الكبرى وكل ما يتعلق بالتبادل التجاري الدولي، ولكن كانت حالة توتر العلاقات مع الولايات الأمريكية المتحدة، خصوصا مع الديمقراطيين، حاسمة في الأمر.
ولكن مما يجدر الانتباه إليه أن مقاصد دعم عضوية الإمارات تختلف بين الدول الأعضاء، خصوصا بين الصين التي تعمل على قيادة التجارة العالمية عبر طريق الحرير المتجدد وريادة التكنولوجيات الجديدة وربما الريادة العسكرية المستقبلية، وروسيا التي تجد في الإمارات أحسن بلد تعتمد عليه لكسر الحصار المضروب عليها من قبل الغرب بزعامة أمريكا من خلال إعادة تصدير منتجاتها وشراء مستلزماتها، والهند التي اتضح بأنها تريد تشكيل نواة داعمة داخل البريكس قريبة في الأصل مثلها للولايات الأمريكية المتحدة، تسعى لإنهاء عهد الأحادية الأمريكية ولكن بما لا يجعل ذلك يكون لصالح الصين، وقد يكون مشروع ” الممر الاقتصادي” أوضح ما يعبر عن ذلك.
د. عبد الرزاق مقري