حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير ، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.
لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.
انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.
إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.
لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.
وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.
لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغف فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.
إنه علاوة على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك، ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.
لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: ” احذر من إذا قال فعل” والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.
لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا الى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هو تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا” هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة” فقال: “لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها”، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام”، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.
لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب ” لغة الخشب”، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.
لقد تطلّب تجاوز خطاب “لغة الخشب” نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة “موت السياسة” وشيوع “لغة الخشب” وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف، الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.
إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة.
شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))
.. يتبع