ضمن حديثنا عن الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية والجيوستراتتيجية التي حكمت اختيار الأعضاء الجدد في البريكس، سنركز في هذا المقال عن التطورات الجيوستراتيجية المتعلقة بالمملكة العربية السعودية وحالة التوتر التي طالت بينها وبين الولايات الأمريكية المتحدة، ولكن قبل ذلك نقف عند أهمية المملكة جيوسياسيا واقتصاديا بما جعلها عضوا مفضلا حرص قادة البريكس على ضمها إلى منتظمهم الدولي.
لا شك أن الأهمية الجيوسياسية والدينية والاقتصادية للملكة العربية السعودية تؤهلها لتسعى مختلف الأمم إلى كسبها في أحلافها، فهي تحتل موقعا استراتيجيا مهما بمساحة تتجاوز مليوني كم² بين البحر الأحمر والخليج العربي اللذين تزدحم فيهما ناقلات البضائع العالمية، على نحو ما ذكرناه في المقال السابق، وهي بلد الحرمين الشريفين ومهد الرسالة النبوية المحمدية، زارها في آخر إحصاء سنوي 10 مليون مسلم من مختلف أنحاء العالم للعمرة وفي موسم الحج، وبلد مقر منظمة التعاون الإسلامي.
وهي عضو في مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديا، حيث احتلت فيه المرتبة 16 عام 2022 إذ تخطى إنتاجها المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية رقم الترليون دولار، وقد سجل نموها الاقتصادي النسبة الأعلى في المجموعة بمعدل 8.7 % ، وهو أكبر الاقتصاديات العربية وبلدان الشرق الأوسط، مع معدلات بطالة عام 2022 في حدود %4.8، و نسبة تضخم في حدود 3%، ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 23.7 ألف دولار.
تعود القوة الاقتصادية للسعودية أساسا إلى مكانتها في قطاع الطاقة، إذ بها 19 % من الاحتياطي العالمي للنفط، و 12 % من الإنتاج العالمي له، تنتج في حدود 10 مليون برميل يوميا، تستهلك منه داخليا 30 % وتصدر الباقي، وتمثل صادراتها النفطية أكثر من 20 % من مبيعات النفط في الأسواق العالمية، وتحوز على احتياطي ثابت يقدر ب 267 مليار برميل، ولها طاقة تكرير للبترول تصل إلى 5 مليون برميل يوميا، حيث تنتج المنتجات الضرورية للاستهلاك الداخلي مثل الديزل والبنزين وزيت الوقود، وتبلغ صادراتها من هذه المنتجات 26.2 مليار دولار.
وصلت مداخيل صادرات المملكة عام 2021 ما مقداره 326 مليار دولار، ويشمل حجم احتياطي الصرف 693 مليار دولار وفق البنك المركزي السعودي، وهي حالة مالية مهمة جدا لأسواق المال والاستثمارات العالمية التي تسعى إليها دول منظمة البريكس، وحسب تقارير منظمة التجارة العالمية بلغت تجارة المملكة الخارجية خلال العام الماضي نحو 2.24 ترليون ريال، بنمو 40 % مقارنة بعام 2021 وتوجهت أولا إلى الصين بحجم تجارة بلغ 139.7 مليار ريال ما يشكل 19.1% من التجارة السعودية الخارجية مع فائض تجاري بلغ نحو 31 مليار ريال ، فيما احتلت الهند المرتبة الثانية بحجم تجارة بلغ 55.3 مليار ريال ما يشكل نسبة 7.6% مع فائض تجاري بلغ نحو 26.4 مليار ريال سعودي. أما أمريكا فإنها تأتي في المرتبة الخامسة ضمن قائمة أكبر عشرة شركاء تجاريين للملكة وذلك بقيمة 151.4 مليار ريال سعودي.وبالرغم من أن هذه القوة الاقتصادية تعتمد على ثروة طبيعية نفطية غير دائمة فإن لها هامش من مداخيل الصادرات خارج المحروقات يصل إلى 70 مليار دولار، منه ما يتعلق بالمواد البلاستكية (19.6 مليار دولار)، الكيمياويات العضوية (14 مليار دولار)، الأسمدة (4 مليار دولار)، الألومينويم (2.3 مليار دولار)، مواد كيمياوية غير عضوية (1.75 مليار دولار)، أحجار كريمة ومواد نفيسة (1.4 مليار دولار)، الملح والكبريت والحجر والإسمنت (1.1 مليار دولار)، النحاس (977.2 مليون دولار).
وفي المجال الفلاحي تستورط السعودية أكثر من 80 % من إمداداتها الغذائية الضرورية من مداخيلها النفطية، وهي بلد في عمومه صحراوي نسبة الأراضي المزروعة فيها قليلة بالنسبة لشساعة الأرض ولذلك تسعى جاهدة لتنمية قطاعها الزراعي من خلال استصلاح الأراضي والاعتماد على التكنولوجية للتنمية الفلاحية وترقية المناطق الريفية لتخفيف كلفة السلة الغذائية، وهي تحقق نجاحات معتبرة حيث بلغ القطاع الفلاحي 3% من مجمل الناتج المحلي الإجمالي، خصوصا في بعض المنتجات كالحبوب والفواكه والخضروات، والصيد البحري والثروة الحيوانية ومختلف منتجات الحليب، وتأتي التمور في المقدمة إذ تحتل فيها السعودية المرتبة الثانية بعد مصر من حيث الإنتاج، والثانية بعد تونس من حيث التصدير.
ومن أهم إيجابيات الاقتصاد السعودي ما يتميز به القطاع المالي المصرفي والبنكي من كفاءة ومروة وفاعلية ساهمت كثيرا في النتائج المحققة، ويعوّل على “رؤية “2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي لتحرير الاقتصاد السعودي من التبعية للمحروقات بالاعتماد على التكنولوجية والإبداع وتنويع الإنتاج وإطلاق المشارع الكبرى والشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، وهي حقا رؤية جديرة بالاهتمام والدراسة من الناحية النظرية لو توفرت لها البيئة المناسبة.
وتدفع هذه الرؤية الشركاء الدوليين للاهتمام أكثر بهذا البلد الذي حباه الله تعالى بإمكانيات جبارة تؤهله ليكون بلدا صاعدا لو توفر له الحكم الراشد الضروري للنجاح، ومنه التدافع المؤسسي والقدرة على الرقابة على الشأن العام، والسيادة على قراره ضمن الضغوطات الدولية التي تحيط به.
مهما كانت القوة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية، ومهما كانت أهميتها الجيوسياسية فإن المعايير التي حسمت في اهتمام قادة البريكس بعضويتها في منظمتهم تعود أساسا للتحولات الجيواستراتيجية التي تتعلق بها، خصوصا ما يتصل بتدهور علاقاتها مع الولايات الأمريكية المتحدة.
حينما نتابع تطورات السياسة الخارجية السعودية، بل بالأحرى مواقف الحاكم السعودي محمد بن سلمان تجاه القوى الدولية المهتمة ببلده، سنلاحظ الاقتراب المتدرج لهذا البلد المهم نحو الصين والقوى الشرقية الأخرى، ونشعر بحالة التوتر الواضح الذي طال أمده في العلاقة بينه وبين الولايات الأمريكية المتحدة.
لقد تعوّد الغرب بزعامة أمريكا وبالخبرة التخطيطية والدبلوماسية الإنجليزية أن يُسيِّر شؤون الأسر الحاكمة الخليجية ويحميها ويرتب عمليات الاستخلاف التي تكون في الغالب هادئة وفي بعض الأحيان دموية كما هو الحال مع الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله.
غير أن طموح الأمير محمد بن سلمان المسنود من الوالد الملك قلّب المعادلة، في مرحلة حاسمة من تاريخ المملكة وهو انتقال العرش من الأشقاء أبناء عبد العزيز إلى الأبناء، فأراد الأمير أن يحسم في الأمر قبل أن تحسم الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها المملكة المتحدة اللذان كانا يفضلان الأمير بن نايف الأقرب إليهم والذي تم الترتيب أن يكون التالي في تولية العرش بعد عمه سلمان قبل أن ينقلب عليه ابن عمه محمد بن الملك سلمان.
لا يحب الأمريكان أن تُقضى الأمور بدونهم مع حلفائهم الذين يحمونهم، فكان هذا سبب رئيسي في توتر العلاقة مع أمريكا، وحين وقعت جريمة خاشقجي استغلتها الدولة العميقة الأمريكية أحسن استغلال عن طريق مؤسستها الأمنية القوية وكالة الاستخبارات الأمريكية، ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئا كثيرا تحت رئاسة دونالد ترمب القادم من خارج المؤسسية الأمريكية.
لقد جاء دونالد ترامب إلى الحكم في ظل تحولات سياسية وثقافية واقتصادية كبيرة في الولايات الأمريكية المتحدة، ليس المجال للتفصيل فيها، صنعت تيارا شعبيا عريضا ضد المؤسسات الأمريكية التقليدية. أحسن ترمب قيادة هذا التيار بخطابه الشعبوي تحت شعار “أمريكا أولا” وبإمكانياته المادية العظيمة.
وقد ساعده كذلك عودة “الروح الانعزالية الأمريكية” المتحصنة بالجغرافية القديمة في الفكر السياسي الأمريكي منذ عهد الرئيس جيمس مونرو (1817 ـ 1825) والتي باتت تشكل قناعات واسعة بين النخب البيروقراطية الأمريكية بالنظر للكلفة الكبيرة التي تتحملها الولايات الأمريكية بسبب انتشار جيوشها في كل أنحاء العالم.
وقد أضاف ترامب إلى هذه النزعة الانعزالية لمسة رجل الأعمال التي مفادها أن الذي يريد حماية الولايات الأمريكية المتحدة عليه أن يدفع.
وعلى هذا الأساس تعامل الرئيس الأمريكي “الآوتسايدر” مع محمد بن سلمان، دون اكتراث بقضايا حقوق الإنسان و لم يكن يهمه من يحكم هذا البلد الحليف منذ سبعين سنة.
رغم التعامل الاستعلائي الذي انتهجه ترامب مع بن سلمان وجد هذا الأخير فيه ضالته ما دام الرجل لا يريد إلا المال، وكان لليهودي كوشنر صهر الرئيس دور كبير في دعم الأمير الشاب الطموح بغرض ربطه بالدوائر الصهيونية بين أصحاب القرار الأمريكيين، وربما جرِّه للتطبيع في الوقت الذي تتاح فيه الفرصة.
غير أن رجوع الديمقراطيين للحكم وأخذهم زمام المبادرة من جديد عاد بالعلاقات بين البلدين إلى حالة من التوتر الخفي، ورغم استمرار التحالف التقليدي بينهما لا يبدو أن بن سلمان بات لا يأمن حلفاءه هؤلاء على عرشه، وفي نفس الوقت وجد الأمريكان أنفسهم مضطرين للتعامل مع ملك مستقبلي لا يحبونه ويمثل لهم حالة إحراج شديد بسبب ملف مقتل خاشقجي الثقيل.
شغلت أمريكا نفسها كثيرا بحروبها الظالمة الخاسرة في العالم الإسلامي في أفغانستان والعراق ودعم الدكتاتوريات، وشغلتها التطورات الداخلية على أرضها قبل وأثناء عهدة الرئيس ترامب، فلم تستفق إلا وقد شبت الصين عن الطوق وأصبحت قوة عالمية تتفوق على الولايات الأمريكية في معدلات النمو في العديد من المجالات بما يجعلها قادرة في مستقبل غير بعيد لتكون القوة الاقتصادية والتكنولوجية الأولى، وربما في مدى أبعد القوة العسكرية الأكبر في العالم.
عندئذ صارت أولوية الولايات الأمريكية هي هذا البلد الصاعد لاحتوائه وتحجيمه، وبدأت تسحب قواتها بالتدرج من مناطق العالم الإسلامي، وأحيانا دون تنسيق مع حلفائها الأقرب إليها كما فعلت في أفغانستان.
شعر حكام المملكة العربية السعودية بأن هذا التغيير في السياسة الأمريكية سيغير طبيعة العلاقة بين الطرفين المبنية على “النفط وضمان المصالح الأمريكية مقابل الحماية”، ولم تر في الاستراتيجية البديلة التي تقوم على حلف شامل مع الإسرائيلين التي اقترحها الأمريكيون وأعلن عنها بايدن بنفسه قبل زيارته للسعودية كافية لتعويض الحلف السعودي الأمريكي الذي لم يتغير قرابة ثمانين سنة خلت منذ لقاء الرئيس الأمريكي روزفلت مع الملك عبد العزيز في فبراير 1945.
وفي جو اللاثقة المتصاعد بين الطرفين بدأت القيادة السعودية ذاتها تتجه أكثر فأكثر نحو القوة الصاعدة الجديدة، لا لضمان الحماية العسكرية، إذ لا تزال الولايات الأمريكية المتحدة هي الأقدر على ذلك، ولكن بغرض التوزان والبحث عن شريك اقتصادي جديد، وللخروج من مقاربة الحليف الدولي الأوحد، وللضغط على البيت الأبيض والنخب الأمريكية النافذة.
في ذات الوقت كانت الولايات الأمريكية المتحدة قد استطاعت أن تحل مشكل حاجتها للطاقة بتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال استغلال غازها الصخري الذي تملك تكنولوجية استخراجه بالكلفة الأقل، وأن تصبح المنتج الأول عالميا للنفط، بما جعل مكانة المملكة العربية السعودية من هذه الزاوية تتراجع عندها، سوى ما يتعلق بالاحتياجات العالمية للطاقة، خصوصا لحلفائها، ومسألة الأسعار، وكيف يمكن تحييد هذا السلاح لكي لا يكون لصالح القوى الدولية المنافسة.
وقد تسبب هذا الوضع الجديد في مزيد من التوتر بين البلدين بسبب شعور المملكة العربية السعودية بتغير المعادلة الطاقوية مع الأمريكان التي هي موضوع التحالف الذي أبرم في السبعينيات والذي وافقت السعودية بموجبه أن يكون بيع البترول بالدولار مقابل الحماية الأمريكية للحقول، ثم تبعتها كل الدول المنتجة للنفط، بما وضع العالم كله في فخ نظام البيترو_الدولار إلى اليوم.
لقد كانت المملكة العربية السعودية وكل دول الخليج النفطية في يد الولايات الأمريكية المتحدة للتحكم في توجهات منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، حتى لا تتكرر الصدمة البترولية عام 1973 التي تسببت في توتر عابر بين البلدين، وقد تكون تلك الأزمة سببا من أسباب اغتيال الملك فيصل رحمه الله عام 1975.
غير أن التغيرات المشار إليها أعلاه أفشلت هذه المرة مساعي بايدن لدى السعوديين في السنة الماضية لتعطيل قرار خفض الإنتاج الذي اتخذته “أوبك بلس” الموسعة لدول منتجة أخرى خارج منظمة “أوبك” على رأسها روسيا.
مما أثار غضبا شديدا في أوساط النخب الحاكمة الأمريكية، الذين رأوا في ذلك دعما لروسيا في حربها في أوكرانيا التي ستجني مداخيل إضافية جراء ارتفاع أسعار الطاقة، كما أن الديمقراطيين رأوا في الأمر طعنة في الظهر للتأثير في الانتخابات النصفية الأمريكية التي ستجري في نوفمبر من السنة الجارية من خلال إظهار بايدن في مظهر الرئيس الضعيف أمام الأمريكيين، ومن خلال ما يسببه ارتفاع أسعار البترول من غلاء للمعيشة وارتفاع أسعار الوقود، عكس ما وُعد به الشعب الأمريكي من أن طفرة الغاز الصخري هي لصالحه كذلك كما هي لصالح الشركات البترولية المنتجة التي لم تكترث بالمخاطر البيئية ونداءات المطالبة بحقوق الأجيال المستقبلية.
أظهر اشتدادَ التوتر هذا التصريحاتُ الشديدة المتتالية التي عبر عنها آنذاك السياسيون الأمريكيون، الذين لا يزالون يرون إلى الآن أن قرارات “أوبك بلس” خطر على الاقتصاد الأمريكي والأوربي الذي يعاني من انخفاض احتياطاته الاستراتيجية وارتفاع الأسعار عند المستهلكين في بلدانهم، ومن ذلك ما قاله الرئيس بايدن حينها: “إن الوقت قد حان للولايات المتحدة لإعادة التفكير في علاقتها مع السعودية”، وما صرح به “انتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي من: “أن المملكة العربية السعودية لم تتصرف كحليف للولايات الأمريكية المتحدة في قرار “مجموعة أوبك بليس” بخفض إنتاج النفط”، وما هددت به السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض “كاترين جان بيير” حين صرحت بإمكانية صدور قرار بشأن العلاقة ببين واشنطن والرياض، وهو الاتجاه الذي صار موضوع نقاش متواصل بين المشرّعين الأمريكيين، سواء ما يتعلق بالتهديد بوقف بيع الأسلحة للسعودية، أو تحريك قانون “نوبك” الذي يدعمه الديمقراطيون والجمهوريون لفرض عقوبات على منتجي النفط الذين يساهمون في زعزعة السوق البترولية والتسعير الطاقوي، أو تحريك ملفات حقوق الإنسان والديموقراطية.
لم يظهر السعوديون اهتماما كبيرا بالتهديدات الأمريكية لعلمهم باحتياج حليفهم لهم، ولوجود خيارات أخرى باتت متاحة لهم في الساحة الدولية، ولإمكانية وقوع تحول داخل أمريكا ذاتها من خلال الانتخابات المقبلة، فقال وزير الخارجية السعودي السابق عادل الجبير في مقابلة مع CNN، بأسلوب فيه نوع من الاستهزاء، ردا على عاصفة تصريحات المسؤولين الأمريكيين “إنه عندما تكون في موسم الانتخابات، ما يسميه البعض (الموسم الهزلي)، يُقال الكثير من الأشياء ويتم القيام بالكثير من الأشياء التي قد يكون لا معنى لها في وقت آخر”، مضيفا: “آمل أن يكون هذا ما نتعامل معه هنا” موضحا في نفس الوقت أن المعطيات الاقتصادية هي التي تحكم قرارات مجموعة “أوبك بلس” وليس المعطيات السياسية، وأن قرار الخفض بُني على إجماع الدول الثلاث والعشرين الأعضاء في وكالة الدول المصدرة للنفط.
وحسب “استقلالية عالية” وفق ما تعمد مجلس التعاون الخليجي الإشارة إليه في بيانه حينذاك.
وفي سياق هذا التوتر المتصاعد إلى الآن ظهرت خلافات أخرى عمقت التباعد منها الملف اليمني، الذي غيّر فيه الديموقراطيون سياسة الدعم الكلي الذي كان يقدمه ترامب للسعوديين، حيث أخرجت إدارة بايدن الحوثيين من قائمة الإرهاب، ورفضت إمضاء صفقات تتعلق بالسلاح، وأرسلت مبعوثا لها لصنعاء، ولم تصبح تسند الرواية السعودية على المستوى العالمي وتضغط على المملكة بملف قتل المدنيين والأطفال في الحرب.
ومن مظاهر وأسباب الخلاف كذلك سياسة البيت الأبيض بخصوص الملف النووي الإيراني الذي رأت فيه السعودية تساهلا مع إيران، خصوصا حين ساند الأمريكيون رفض الإيرانيين طلب السعودية بأن تكون طرفا في المفاوضات بشأن هذا الملف، وربما هذه التحولات هي التي جعلت محمد بن سلمان يتجه نحو مقاربة جديدة نحو سعي السعودية ذاتها لامتلاك التكنولوجية النووية بدل معارضة غيرها لذلك، سواء يتم الأمر برعاية أمريكية ضمن صفقة التطبيع وفق ما سربته وسائل إعلامية أمريكية وصهيونية، أو بمساهمة الشركاء الجدد الصينيين أو الروس.
إنه من السابق لأوانه الاعتقاد بأن العلاقات الأمريكية السعودية تتجه نحو القطيعة الكلية، فالطرفان يحتاجان إلى بعضها البعض، من حيث أن الحلف عميق وقديم ومتشعب، والحماية العسكرية والأمنية الأمريكية لدول الخليج يصعب تعويضها في المرحلة الراهنة، كما أن الولايات الأمريكية لا تزال تحتاج الدولارات السعودية في صفقات السلاح حيث أن مشتريات السعودية تصل أحيانا إلى ربع مبيعات شركات السلاح الأمريكية، وأمريكا هي أكبر مستثمر أجنبي في السعودية بمبلغ 800 مليار دولار مقابل 100 مليار دولار للصين، كما أن للسعودية وزن كبير في التوازنات الاستراتيجية التي لا تزال تتحكم فيها أمريكا في المنطقة، كما يخشى الأمريكيون أن القطيعة ستدالسعودية كلية إلى المعسكر المعادي لأمريكا، خصوصا الصين وروسيا.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل المملكة لا تُظهر الاستعجال بقبول الدعوة إلى دخول نادي البريكس، وفق ما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في تصريحات صحفية نقلتها وكالة “رويترز”، في نفس اليوم الذي أعلن فيه قادة البريكس القائمة إذ قال: “إن المملكة تثمن دعوة مجموعة دول “بريكس” للانضمام إليها وستدرس التفاصيل قبل موعد الانضمام المقترح في الأول من يناير وستتخذ القرار المناسب”.
ولا شك أن قادة البريكس وعلى رأسهم الصين يحيطون بهذه الخصوصية السعودية أكمل الإحاطة، فهم لا يطلبون من السعودية تحولا كاملا، ولكن يريدونها في هذه المرحلة أن لا تكون خالصة للولايات الأمريكية المتحدة، وأنها لو قبلت فقط التعامل بالعملات المحلية في مبيعاتها للبترول لبلدانهم سيكون تقويضا حقيقيا لمكانة الدولار عالميا، وهي المشاورات التي بدأت بين الصين والسعودية وفق ما أخبرت به جريدة “وول ستريت جورنال” ولو تحقق هذا ستكون السعودية قد ساهمت في تحرير العالم من سجن الدولار الذي وضعته فيه سنة 1974، وحتى وإن لم يتحقق هذا في هذه المرحلة فإن تنويع السعودية لحلفائها سيلغي مع الزمن حلفها مع الولايات الأمريكية المتحدة، للعلاقات الاقتصادية المتصاعدة مع الصين وروسيا والهند وباقي دول البريكس.
وتلك هي العملية التاريخية التي تقوم بها الصين من خلال مرافقتها للسعودية بتعميق الشراكة الاقتصادية وبعملية الإصلاح بينها وبين إيران، ثم بضمها لمنظمة الشتغهاي كعضو شريك في الحوار، ثم بإدخالها في منظمة البريكس.
د. عبد الرزاق مقري