العلاقات الجزائرية الفرنسية وكيف ينبغي أن تكون

سبق للعلاقات الجزائرية الفرنسية أن عرفت توترات عدة مرات منذ الاستقلال، ثمّ عادت المياه إلى مجاريها  المفضلة في كلّ مرة،  حتى شبّهها بعض الذين يتفننون في إيذائنا بأنّها “علاقة زوجين يتناوشان كثيرا ثم يعودان إلى بعضهما البعض، ومن يتدخل بينهما يندم على ذلك”.
 لا شكّ أنّ التوتر في المرحلة الراهنة بلغ حدّا غير مسبوق، ولكن بلا شك ستعود الأمور إلى مسارها المبجل ويتأكد أمان المصالح الفرنسية كما كان عليه، ومن يستهين بقوة اللوبيات الفرنسية وشبكات الفساد الخادم لفرنسا وتأثير الفرونكوفيليين المتطوعين لخدمة المصالح الفرنسية في بلادنا مخطئ. 
إنّ الضجة القائمة والظواهر الصوتية المكرِّرة، دون وعي -كما العادة- لتوجهات رسمية  قررت الدخول في معارك كلامية مع فرنسا لا تعبّر البتة عن إرادة حقيقية لقطع دابر الامتيازات الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تحظى بها دولة الاستعمار  في بلدنا،   مازالت لغة المستعمر سيدة في تعاملات  العديد من الوزارات والمديريات ومختلف المؤسسات الرسمية، وهي لغة الاتصال السائدة عند كثير من المسؤولين، وماتزال العلاقات الاقتصادية التجارية والمالية مع فرنسا في المراتب الأولى بين الدول، وما تزال لغة المستعمر مفضلة في المؤسسات التعليمية في العديد من الشُّعب رغم تدحرج اللّغة الفرنسية في هذا المجال دوليا، ولم تُزعزِعْ التصريحات النارية لشبكات الفاعلين في المعركة القائمة وضعَ لافتات المحلات التي تهيمن عليها اللّغة الفرنسية، بل إنّ الأمر زاد عمّا كان عليه في سنوات سابقة فباتت بعض المؤسسات الرسمية الكبرى تشترط لمن يتعامل معها لنيل الصفقات أن تكون اللغة المستعملة في الملف اللغة الفرنسية حصرا (وقد صدمت حقا حين أظهر لي أحدهم نموذجا عن ذلك لمؤسسة جزائرية عريقة). والأغرب من كلّ هذا أن الجهات الرسمية والأحزاب الموالية هي التي تعطل إلى اليوم مشروع قانون تجريم الاستعمار في البرلمان الجزائري.
إنّنا لا نحتاج إلى الضجيج الإعلامي والتصريحات النارية من المسؤولين، أو من شبكات الزبونية التي تضبط بوصلتها دوما وفق ما يريده الحاكم، وتدور مع إرادته حيثما دار وكأنّه هو القرآن المنزل من الله تعالى. 
إنّنا نحتاج إلى رؤية وطنية واضحة وخطط وإجراءات هادئة تنفذ فعليا، ولو بالتدرج المتصاعد، دون الحاجة لتهييج العواطف بلا فائدة تذكر. 
إنّنا نحتاج أوّلا أن نعلم أنّ مشكلتنا مع الدولة الفرنسية ليست مع اليمين المتطرف فقط كما يحاول الذين يريدون استعمالنا في المعركة القائمة لإبقاء فرصة العودة إلى العلاقة الحميمية مع فرنسا قائمة. لقد كانت مشكلتنا سابقا مع اليسار التقليدي، وعرفت حدّا يشبه حالة اليوم في زمن “فرانسوا ميتيران”، وبقي هذا التيار الذي يمثّل البيت الأصلي للصهيونية الفرنسية هو العدو اللّدود للجزائر، ومن يعرف تاريخ هذا التيار وكيف تشكل يفهم ما نقول. ومشكلتنا اليوم  مع من يسمون أنفسهم “تيار الوسط” بزعامة إيمانويل ماكرون هي المشكلة الحقيقية ، ولم ينكر وجودنا كأمّة ولم يؤذ ذاكرتنا كما فعل هذا الرئيس الفرنسي.
لقد حاول المسؤولون الكبار في الدولة الجزائرية أن يزيّنوا لنا صورة الرئيس الفرنسي “ماكرون” ووصفوه لنا بأنه شاب ذو نوايا طيبة ويريد أن يفتح صفحة جديدة مع الجزائر، وأنه لا علاقة له بأفكار “الجزائر الفرنسية” التي يحملها اليمين المتطرف، وأنّ أصحاب تلك الأفكار هم الذين يضغطون عليه. 
لقد نبهت في مقال نشرته بضعة أسابيع بعد صعود “ماكرون” للرئاسة في عهدته الأولى، ونصحت بعض المسؤولين مباشرة بأنّ هذا الرجل هو الأخطر من بين الساسة الفرنسيين، وبينت بالدلائل بأنه صنيعة الصهيونية والماسونية والمؤسسة المالية العالمية الاستعمارية، وشرحت كيف اِلتقطه “جاك أتالي” أحد أهرامات الصهيونية الفرنسية من الجامعة ووضعه في “بنك روتشيلد” ثم ضمّه إلى لجنته – “لجنة أتالي” من أجل النمو الاقتصادي الفرنسي -، وعرّفه إلى الرئيس اليميني ” نيكولاس ساركوزي” ثم إلى الرئيس اليساري “فرانسوا هولاند” ثم تمّ دعمه ليصل الى مراتب عليا ووزارات مهمة في الدولة الفرنسية، إلى أن تمّ ترشيحه لرئاسة الجمهورية في وقت عرفت فيها فرنسا أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة أدّت إلى توجه بيّن إلى التشدد نحو اليمين ونحو اليسار حتى في الأحزاب التقليدية، كان من الممكن أن يؤدي إلى صعود رئيس للجمهورية من اليمين أو اليسار لا تتحكم فيه الصهيونية العالمية،  مما صنع فراغا كبيرا في “الوسط” بين اليمين واليسار اِستغله مساندو “ماكرون” بتسخير كل وسائل الإعلام الثقيلة لتلميعه وإيهام الشعب الفرنسي -خاصة الأقليات- بأنّ الحل عنده.
لقد شرحت اللعبة في ذلك المقال ( مايزال منشورا)  وتنبأت بأن “ماكرون” لن يحل مشكلة فرنسا، ووقع ذلك فعلا بخروج الفرنسيين البيض الى الشوارع ضمن اِنتفاضة أصحاب “السترات الصفراء” التي لم يوقفها سوى وباء كورونا. 
لم يجد الساسة الفرنسيون، على اختلاف توجهاتهم لحلّ مشاكلهم الاقتصادية سوى اِستنزاف خيرات المستعمرات الفرنسية القديمة، كما هي عادتهم، ومنها الجزائر التي رأينا كيف سُخرت بحبوحتها المالية في العهدة البوتفليقية لإنقاذ العديد من المؤسسات الفرنسية المفلسة. 
وللأسف في الوقت الذي تنتفض فيه إفريقيا ضد ذلك الاستغلال والهيمنة، ما زلنا في بلادنا نكتفي بالتصريحات والضجيج الإعلامي. 
ليس المطلوب أن ندخل في حرب مع فرنسا، بأيّ شكل من أشكال الحروب -إلا في حالة العدوان- ولا أن نقطع العلاقات معها، ولكن ما ينبغي فعله هو العمل بصمت وفق الرؤية والإجراءات التالية: 
تمرير قانون تجريم الاستعمار في البرلمان. 
اِسترجاع الأرشيف ورفات الشهداء وخرائط الألغام والوثائق والمعلومات المتعلقة بالتجارب النووية والكيمياوية وكل ما يتعلق بملف الذاكرة. 
تقنين مسألة اعتراف فرنسا بجرائمها والاعتذار عن ذلك والتعويض عن الضرر كما فعلت دول أخرى مع مستعمراتها القديمة وكما تطلب فرنسا ذلك من غيرها، ثم ترك هذا المطلب يتفاعل تلقائيا دون صخب وفق تطورات موازين القوة دوليا. 
إنهاء الهيمنة الثقافية الفرنسية في التعليم وإنهاء اِستعمال اللغة الفرنسية في المراسلات والخطاب والتعاملات الرسمية  وكأنّها لغة رسمية فعلية.
وقف تجميد قانون تعميم اِستعمال اللغة العربية. 
إنهاء الاشتباك المفتعل بين اللغة العربية والأمازيغية، ومنع أي جهة خارجية لاستعمال التنوع السكاني في الجزائر، وتعميق أواصر الأخوة والمحبة بين الجزائريين بمختلف أعراقهم، وتجريم أي خطاب عنصري أو مؤجّج للفتنة، والتعامل مع كل السكان ونواحي البلد في إطار العدل والمساواة والتضامن.  
معالجة الهيمنة الثقافية الفرنسية في المحيط وتقنين الاستعمال الأبرز للّغة الوطنية دستوريا  في لافتات المحلات والمؤسسات. 
منع أي اِمتياز خاص لفرنسا في النشاط الاقتصادي ومراجعة صفقات الامتياز القائمة كلّها. 
ضبط معايير محددة لضمان سلامة وكرامة وحقوق الجزائريين المقيمين في فرنسا وتمكينهم من المساهمة في خدمة بلدهم واِرتقائهم فيه في مختلف المجالات. 
 توجيه مكونات الجالية الجزائرية في فرنسا، لا سيما المجنسين، لينظّموا أنفسهم ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا حتى يكونوا فاعلين مؤثرين قادرين على حماية قيمهم ومصالحهم وخدمة بلدهم الأصلي كما هو حال العديد من جاليات مختلف الدول في أنحاء العالم ( la Diaspora).
بناء قوة ناعمة جزائرية داخل التراب الفرنسي في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية وغير ذلك ضمن إطار القوانين الفرنسية. 
تطوير جهاز الاستخبارات والمقدرات الاستشرافية الأمنية لحماية المصالح الجزائرية من المخططات العدائية الفرنسية القائمة والمحتملة. 
بناء التحالفات مع الدول الواعية التي تدافع عن نفسها  ضد تهديدات المستعمر القديم المختلفة.  
التعامل الدبلوماسي المعمول به دوليا مع الأزمات دون صخب ولا ضجيج، من التنبيه إلى اِستدعاء السفير الفرنسي للجزائر، إلى سحب السفير الجزائري في فرنسا، إلى خفض التمثيل، إلى مراجعة الاتفاقيات، إلى قطع العلاقات، إلى التطور الإيجابي في الاتجاه المعاكس حسب التطور الإيجابي للعلاقات.  
والانتهاء إلى تثبيت العلاقات مع فرنسا كعلاقة عادية غير عدائية ما لم تتعرض الجزائر للعدوان ولا مفضّلة كما هي العلاقة مع الدول الشقيقة والصديقة،  تقوم على أساس المصالح المشتركة، و لا تقبل التطور  الإيجابي إلا بعد تجسيد كل النقاط السابقة وبقدر تحقّق المصالح الجزائرية.  
وأثناء تجسيد هذه الرؤية؛ الالتزام بالرزانة الرسمية وعلى مستوى النخب وتجنّب التصريحات والهيجان الكلامي والمعارك الهامشية والتركيز على الفعل والإنجاز.