اقتصرت العلاقة مع الإخوة المسؤولين في الحركة وعموم المواطنين الذين التقيناهم من الجالية في اللقاءات والنقاشات السياسية والفكرية والاجتماعية الممتعة والمفيدة، أما البرنامج السياحي فقد قمت به مع العائلة وكان الدليل فيه ابني مصطفى في مونتريال وتورنتو، وابنة أختي صفا بارك الله فيهما.
وكانت الجولة السياحية فرصة لمعرفة هذا البلد القارة من حيث طبيعته الجميلة المدهشة وعمرانه البديع الخلاب ونظامه المتقن المتميز، وفي نفس الوقت كانت مساءلتي لتاريخ كندا، عند كل معلم تاريخي أمرّ عليه أو محميةٍ طبيعية أصادفها، عن الحجم المروع لجرائم الإنسان الأبيض في حق السكان الأصليين، كما أن التعرف على الإنسان الكندي يُلقي في نفسك حيرة في التوفيق بين الوجه اللطيف المؤدب البشوش عند أغلبهم والوجه المقزز من حيث مظاهر العري والانحلال وانتشار مجموعات المثليين وسقوط أعداد هائلة من الناس في الإدمان، ترى بعضهم كالخرق الممزقة يفترشون الأرض العارية في الطرقات، ومن الغرائب أن المارجوانة (الحشيش) تباع قانونيا في كل مكان.
ولكن في كل محطة سياحية تأخذ ألبابنا بجمالها وحسن تنظيم شأنها أتذكر أن شيئا من هذا يمكن أن يُقام في بلادنا، متعددة التضاريس الطبيعية بما يستقطب ملايين السياح، خصوصا الجزائريين الذين يذهبون بالملايين إلى بلدان أخرى كل سنة، ولا يعرفون ما في بلدهم من جمال أخاذ بديع، لغياب الثقافة والسياسات والخدمات والمرافق السياحية عندنا.
بدأنا برنامجنا السياحي بالعيش لمدة أسبوع في جو عائلي حصري مع شقيقتي وأولادها وزوجتي وابني في كوخ على ضفاف بحيرة في منطقة رستول. والكوخ هو ترجمة كلمة “cottage” بالإنجليزية وهو مسكن من الخشب، بأحجام متعددة يقام بعيدا عن المدينة، وكل بحيرات كندا محاطة بأعداد هائلة من الأكواخ الجميلة المجهزة بكل مستلزمات الحياة. وللعلم كندا تحتل المرتبة الثالثة من احتياطي المياه العذبة في العالم بعد البرازيل وروسيا تمتد لثلاثة آلاف وثلاثمائة كلم مربع، وعدد البحيرات فيها يتجاوز 30000 بحيرة، وهو رقم يتجاوز عدد بحيرات باقي العالم، ومساحات سطوح الكثير منها شاسعة يخيل إليك حين تقف على ساحلها الرملي أنك تقف على شاطئ البحر، منها خمسة كبرى هي بحيرة سوبريور، وبحيرة هورون، وبحيرة ميشيغان، وبحيرة أونتاريو، وبحيرة إيري، بعضها مشترك بين كندا والولايات المتحدة، وقد تقع في هذه البحيرات عواصف كعواصف البحار، وقد اطلعنا في أحد قاعات العرض على قصة مرعبة لغرق باخرة أدموند فيتزيرالد سنة 1975 على إثر عاصفة كبيرة في أعالي بحيرة سوبريور وقد هلك في الحادث طاقم السفينة كله المكون من 29 فردا.
ولكثرة المياه والظروف المناخية المناسبة لا تكاد تجد مكانا في كندا لا توجد فيه مساحات خضراء وأشجار متنوعة الأحجام والأنواع والأعمار ، وهو بلد تغطي غاباته أكثر من ثلاثة ملايين كلم مربع، تمثل 31,6 % من مساحته، تحتوي على محميات طبيعية شاسعة للنباتات والطيور والحيوانات.
لا يواجه السكان الكنديون أي مشكل في كسب تلك المساكن الخشبية في وسط الغابات وعلى ضفاف البحيرات، وكثير منهم يستعملها للاستجمام في فترات العطل وللصيد وللتفكر والتأمل ومراجعة الذات، وهي كذلك أماكن مناسبة لاجتماعات مجموعات العمل في دورات عملية مركزة بعيدا عن ضوضاء المدينة ومقرات الشركات والمؤسسات المختلفة الكبرى، كما يأوي إليها الكتاب والمألفون لإنهاء أعمالهم الفكرية والأدبية والعلمية في جو بديع مساعد على التخيل والإبداع، وبعضهم يستعملها كمشروع ربحي للكراء للآخرين، كالكوخ الذي سكناه الذي تملكه امرأة كبيرة السن كانت زميلة في العمل لابني مصطفى خرجت للتقاعد فمنحته له بمناسبة زيارتنا بسعر معقول جدا.
يتكون هذا الكوخ الخشبي من مبنى أساسي، مدخله مرصع بنباتات وأزهار زادَها حسنُ الترتيب نضارة، فيه ثلاث غرف تُطل نوافذها على مناظر الأشجار الخضراء المتشابكة النّظرة والمياه الهادئة الرقراقة، وتتسلل منها أصوات الطيور الغنّاءة، والحيوانات البرية المؤنِسة، ويتوسطه مطبخ وبهو كبير وحمام، مرتب بشكل فني جميل، ومزين بلوحات من الرسم التشكيلي ذي الألوان اللطيفة وبعض العبارات الإنجليزية المُرحّبة، وفي مختلف مساحاته قطع من الأثاث البسيط الأنيق المريح. وعند الخروج من المبنى من بابه الخلفي تجد نفسك تقف على شرفة خشبية في مكان مرتفع بالنسبة لسطح البحيرة، تمنح لك رؤيةً كاملةً على المكان الذي تسكن فيه، فترى على يمينك كوخا صغيرا مليئا بأدوات متنوعة للإصلاحات الكهربائية والترصيصية والخشبية وغير ذلك، وآلة وساحة للشواء، وعلى يسارك تلحظ مكانا خارج البيت مُعَدا بطاولات وأرائك تُستعمل للجلوس خارج البيت بالليل، بعضه محميا بشباك مانع لدخول البعوض، إذ لا يمكن في أغلب مناطق كندا الرطبة أن تبقى خارج البيت ليلا دون حماية من البعوض، فالبعوض هو ابن شرعي لكندا، بل هو الغالب في الأجواء ليلا، لكثرة المياه والأعشاب والبحيرات.
وحينما تنظر من الشرفة إلى الأسفل ترى سلما خشبيا طويلا ينزل مُتمَوِّجا يمينا وشمالا إلى غاية شاطئ البحيرة. وقبيل الشاطئ تجد كوخا آخر صغيرا، أقل تحصينا، للعمل والمبيت لمن لا يريد الرجوع إلى المبنى الأساسي في النهار، أو ليبيت فيه ليلا إن كان يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة احتكاكات مباشرة محتملة بحيوانات فضولية أو جائعة. وعند الشاطئ يتيح لك جسرٌ خشبيٌ صغير الوصولَ إلى المياه العميقة للبحيرة، يُستعمل للقفز في الماء بغرض السباحة، أو الوقوف عليه من أجل صيط الأسماك، أو الجلوس الفردي للتأمل، أو الجلوس الجماعي على كراس مُعدًّةٍ لذلك، باثنين أو ثلاثة من الأحبّاء لتجاذب أطراف الحديث، أو ببساطة للجلوس على الحافة فتُدلّي رجليك في الهواء لتجعلها تنعم بنسمات الجو الرطيب أو تلامس برودة المياه المنعشة وتترك عقلك معها يسيح في خيالات لا ضابطة لها.
وعلى جانبي الجسر ثمة أربعة قوارب صغيرة ( كاياك) للتوغل داخل البحيرة عن طريق التجديف، بغرض صيد السمك أو الرياضة أو التدبر أو المغامرة. وحين يأخذ الزائر حظِّه من البحيرة وشواغلها يتطلع إلى اكتشاف عالم الغابات فيتوغل فيها ضمن برامج رحلات المشي الجماعية أو على الدرّاجات الهوائية، أو يًختلي بنفسه ماشيا أو راكضا.
توزعت أوقاتُنا بين ذلك كله،
لقد كانت البداية مع السباحة ولكنها لم ترقني كثيرا مقارنة مع السباحة في مياه البحر ولأنني وجدت نفسي أسبح وحدي إذ لم يشاركني أحد من المجموعة، سوى ما وجدته من متعة في القفز من على الجسر العائم التي كررتها حتى مللتها. غير أن المتعة التي لا تنسى كانت في التجديف على القوارب الصغيرة، التي تبدو للوهلة الأولى صعبة مخيفة، خاصة بالنسبة للنساء، ولكن بعد تجريبها يتحول الركوب عليها ممتعا ميسورا. توغلنا فوق المراكب مرات عديدة نحو وسط وأطراف البحيرة الشاسعة، وكانت أحسن فترات ركوب الزورق عند الشروق أو الغروب إذ تكون مناظر الطبيعة في أبهى رُوائها.
في مرة من المرات توغلت بعيدا عن الشاطئ وحدي، فاشتدت الرياح فجأة فأخذ قاربي يهتز بقوة كأنه ضجر مني، وتشكل تيارٌ مائي قوي جعل تجديفي بلا فائدة فلم ترغب مركبتي إلا في طاعة اتجاه التيار المعاكس لجهة الشاطئ البعيد. ورغم الأمان الذي تمثله طبيعة صنعة الزورق غير القابل للانقلاب، وتوفر صدرية النجاة، وإتقاني السباحة منذ طفولتي، شعرت بشيء من القلق تغلبت عليه برباطة الجأش. لاحظ ابن أختي أنَس صعوبة رجوعي إلى الشاطئ فأقبل نحوي يتحدى التيار، وهو شاب قوي البنية متخصص في التدريب الرياضي، فوصل إلى جانبي بسرعة البرق، فقدم لي نصائح في كيفية التجديف التي تصلح للحالة التي كنت عليها بما أخرجني بحمد الله مما اعتقدته مأزقا غير متوقع وقعت فيه. ولكن كان الأمر يكون في كل الأحوال سهلا حيث سينقلني التيار إلى ضفة من ضفاف البحيرة، ولو بعيدا عن الشاطئ الذي أريده، فأرجع إلى محلي ماشيا، إذ لم أكن في بحيرة من البحيرات الشاسعة الخطرة.
أما عن اصطياد السمك فهي مهمة لم أنجح فيها هذه السنة تماما، خلافا لابني مصطفى الذي حظي ببعض الأسماك واكتفيت أنا للأسف الشديد بمسك الصنارة وأخذ بعض الصور التقطها لي الشباب، بعضها دون علمي، تظهر جانبا آخر من فوائد الصيد، سليت بها نفسي لكي لا تؤنبي عن فشلي في اقتناء ولو سمكة واحدة، ومن تلك الفوائد التدرب على الصبر، والذكر ومراجعة القرآن الكريم، وإمكانية المطالعة أثناء انتظار اهتزاز القصبة للمسارعة إلى جذب خيط الصيد المجدول بعد ابتلاع السمكة الطعم، أو لترك الخيال يطوف في مختلف أنحاء مشاغل العقل، ومحاولة البحث عن حلول فكرية لمعضلات تنتظر بعد نهاية العطلة.
و من الأعمال الدائمة في محيط الكوخ ما نشغل به أنفسنا بما يؤنس ويمتع، وبما يقرب المتساكنين في الرحلة إلى بعضهم بعضا، منها حفلة شواء السمك واللحم وبعض الخضر الموسمية، أو تطويع الآلة المصنوعة للشواء لتؤدي دور طهي “المحجوبة”، و في كل ليلة نجلس حول النار في مكان مصمم لذلك على شاطئ البحيرة، حُفِرت فيه حفرةٌ وُضعت فيها قصعةٌ حديديةٌ ملئت بالجمر الأسود، ومن مكان بعيد في الأعلى مخصص لتخزين الحطب، نجلب لها بعض الأخشاب المقطعة لغرض الاحتراق .
لقد كان مصطفى هو مهندس إشعال النار على الطريقة الهرمية الأكثر شيوعا بين تقنيات إشغال النار أثناء التخييم، ومن جماليات الحدث أنه لا يوجد في المكان نور غير نور النار، المتفضلة علينا بدفئها في جو أخذ يبرد أكثر فأكثر بعد غروب الشمس. أما عن الحديث المتداول حول النار فهي أي حديث، المهم أن نتكلم، نتكلم عن أي شيء مفيد أو غير مفيد، تارة يكون مفيدا بذكر الله وتذكر عظمته وأفضاله ونعمه، وتارة عن شؤون العائلة وتحديات الحياة والمشاريع الفردية والجماعية، وتارة تدخلات من هذا أو ذاك لمعاكسة هذا لذاك، أحيانا تنتهي المعاكسة بالضحك وتارة تنتهي بزعل يقتضي إصلاح الوضع على عجل. ولكن أكثر ما يتداوله المتحلقون عن النار النكت، وكنت أنا أكثر من يقصها، تارة بشكل تلقائي، وتارة تكلفا لتحفيز الآخرين، وتكون النكة لطيفة مضحكة مرة ومرة، وتكون سامجة بلا معنى بين الحين والحين، وحين لا تكون مضحكة، يتظاهر الحضور بالضحك، ولكن يحدث أن يتجرأ أحدهم فيقول “ما تضحكش” فيضحك القوم لذلك.
ومن أمتع أيام الحياة البرية في الكوخ وحوله رحلات المشي الجماعي داخل الغابة، عبر مسارات متعددة، طويلة أو قصيرة، صعبة أو منبسطة، تعرضها عليك مخططات مديرية الغابات المعلقة في كل الأنحاء، ولم نكن نرض بغير المسالك الصعبة بما يتيحه الوقت المبرمج، وأكبر ما ينعم به المشّاء في الغابة عبر منسطاتها ومرتفعاتها ومنحدراتها السكينة النفسية الفردية، والبهجة العائلية الجماعية، أثناء السكوت الطويل تارة، والحديث الثنائي تارة، وكلما اشتد الخطو وتورط الفرد بالتوغل في أعماق الغابة يكون قد اختبر قدراته الصحية. والحمد لله على فضله، لم يسبقني الشباب في الفرقة الماشية في شيء، وكأن الستين ونيف صارت عشرينية أو ثلاثينية! وكم ذكرتني هذه الرحلة بالأيامي الخوالي في سن العشرين وقبله، في أواخر السبعينات وبداية الثمانينيات، في الطور الثانوي وبداية الجامعة، حينما كنا نخرج في رحلات برية إلى جبل المعاضيد وغاباته نتسلق الجبال ونسبح في برك الماء وننشد ونصلي وننظم المسابقات الرياضية والثقافية .. فيا له من زمن جميل غابر!
وفي يوم آخر في الغابة في كندا كانت الرحلة على الدراجات الهوائية الجبلية ذات العجلات القوية المفلطحة كثيرة العقد والمحفوظة من الفتق والثقوب، ونظام تعليق أمامي أو مزدوج من أجل امتصاص الصدمات، ومسهلات تُضبط باليد للتحكم في السرعة أثناء المنحدرات أو المرتفعات الحادة. والسير على الدراجة في المسالك الغابية الجبلية غير الممهدة لمسافات طويلة يمثل تحديا جادا لا يقدر عليه إلا صاحب الإصرار والمهارة والبنية القوية، لكثرة المطبات وأغصان الأشجار الصلبة المحدودبة التي تخترق الطرقات بين الحين والحين، بلا إذن ولا تنبيه، وكثرة الالتواءات وتشابك الأغصان وحدية الصعود والنزول من هضبة إلى هضبة. والحق يقال، وبكل تواضع، أنني فاجأت نفسي وتفاجأ من كان معي في المسار معي بتفوقي على الشباب في أصعب مرتفع إذا لم أتوقف حتى بلغت القمة وتركت ورائي الشباب قد حبسهم في وسط المرتفع التعب، وأدركت عندها أهمية مواضبتي على الرياضة في حياتي العادية، ولعل أحدهم اعتقد بأنه تركني أسبقه احتراما، ولكنه مجرد ادعاء إذ رأيت بنفسي كيف كان ذلك الشاب الحبيب القوّال، بينه وبين نفسه، يلهث من التعب وأنا أتجاوزه شامخا على دراجتي.
ومما يزيد الرحلة داخل الغابة وحولها متعة وبهجة ما نراه من طيور وما يدب على الأرض، بما يجعلك تعيش في حديقة حيوانات شاسعة طبيعية مفتوحة تتعايش فيها كل المخلوقات، يعرف فيها كل أحد حدوده، وحقوقه وواجباته. أما الطيور، فهي في هذا الموئل الإحيائي الغرير خطّافة للألباب بأصنافها العديدة متنوعة الألوان والأصوات، فأما الأصوات فيا لها من تغريدات أخّاذة، تذكرك بتسبيح الكائنات لله الخالق المبدع العلي القدير، فتارة تسمع صوت الزغردة، وتارة تسمع ضجيجا بأنغام مميزة سريعة، وتارة تسمع صوتا صارما قويا مزعجا، وتارة تسمع صوتا ممتلئا كالأغاني المنخفضة المتباينة الرقيقة، وتارة يخيل إليك أنك تسمع صوت الجرس أو صوت الناي أو صوت قرع الطبول، وفي مرة من المرات حينما تتبعت مصدر صوت قرع الطبل في أعلى شجرة قديمة طويلة رأيت لأول مرة في حياتي طائر “نقار الخشب” منهمكا في ضرب جذع الشجرة بمنقاره بحثا عن الديدان والحشرات واليرقات، لا يمل من النقر ولا يتألم رأسه من كثرة الضرب، وكأن أنسجة ليفية تضعف الصدمة بين منقاره وجمجمته، وله مخالب قوية وذيل خشن للتمسك بالغصن أثناء مقارعته، وله ريش بألوان بديعة حسب أصنافه الكثيرة، كالأنواع الزيتونية الذهبية، أو ذات الوجنة السوداء، أو النوع الرمادي، أو زغبي الريش، أوذي الرقبة الحمراء وغير ذلك.
وأثناء سيرنا بالسيارة على طريقٍ تحيط به الأشجار والمروج لمحنا غزالتين من غير النوع الذي عندنا في جنوب الجزائر، تهيأ لي أن غزلاننا أجمل وأكثر رشاقة، ومن اللافت أن الغزالتين لم تفرا من السيارة بل بقيتا ترقبها من بعيد وكأنها متعودةٌ على المشهد وآمنة على حالها، تمنيت لو كانت الغزالتين من نوع غزال “الآيل” ذات القرون الكبيرة المتشعبة إذ كندا وشمال أمريكا هي موطن الآيل الأكبر حجما في العالم فأكون قد شهدت شيئا مميزا، ولربما يكون ذلك في فرصة أخرى.
وفي مرة أخرى في هذه الرحلة رأينا أثناء انتقالنا للغابة ذئبا أمريكا (كويوتي)، يجري بسرعة متوسطة على طريق السيارات نحو الأشجار الكثيفة ليختفي فيها، لا أدري هل خوفا من الإنسان إذ الإنسان أول تهديد لنوعه، أم سعيا وراء فريسة من الأرانب البرية أو القوارض المنتشرة التي يقتات بها عادة. حجم الكيوتي أقل من حجم الذئب الرمادي المشهور وأكثر جمالا منه، يُمتع الرائيَ بفروه المختلط بين الرمادي والبني والبرتقالي الداكن الذي يميل إلى الاحمرار مع خطوط سوداء طولية، ولعل العواء الذي نسمعه في الصباح الباكر أو المساء هو مصدره.
ومما رأيناه في العديد من الأماكن في رحلتنا حيوانا ثديا اسمه “الراكون”، وهي كلمة يطلقها عليه السكان الأصليون، وتعني عندهم الذي يدلك بيديه، ويسمى كذلك الراكون الغاسل لأنه يغسل طعامه بالماء قبل غسله، وله رأس عريض يشبه وجه الثعلب، وأذنان صغيرتان منتصبتان،
وجسم بحجم جسم القط السمين، يغطي بدنه فِراءٌ من الشعر البني والرمادي والأبيض، تزينه خطوط سوداء من الرأس إلى آخر الظهر. وفي مرة من المرات عبَر راكونٌ ذكرٌ مع أنثاه الطريق دون صغارهما الثلاث خوفا من المارة الراجلين، فتوقف الجميع ليسمحوا لهم بالالتحاق بوالديهما ولكن اندفع طفلان صغيران نحو هذه الحيوانات الصغيرة لإمساكها أو اللعب معها دون وعي ففرت الراكونات الصغيرة ولا ندري كيف كان مصيرها.
غير أن الحيوان المميز الذي تجده في كندا في كل مكان بكل ألوانه وأشكاله فهو السنجاب، ولو أردت أن تسأل نفسك ما هي الحيوانات التي ترمز لكندا لجعلت السناجب واحدة منها، وربما أولها، فهي في الغابة والحدائق والطرقات وحول المنازل، وإذا ما منحتها شيئا من الطعام تتعود عليك وتأتي تطرق عليك باب بيتك، والسناجب من الثديات القوارض، يغطي جسمَها فراءٌ ناعم غزير ذو ألوان متعددةٍ من الأحمر إلى البني إلى البني المائل للاحمرار إلى الرمادي إلى الأسود، وهي تأكل كل شيء تقريبا ولكنها نباتية أكثر، تلتهم بقواطعها الحادة بذور الأشجار والخضر والفواكه وثمار المكسرات المختلفة.
وهناك حيوانات كثيرة أخرى تجدها في كل النواحي تعاملت معها وغذّيتها وأخذت معها بعض الصور لا أقف عندها لأنها مألوفة عندنا كالأرانب البرية والبط والوز وغيرها، ومن الحيوانات المنتشرة بأنواع عديدة في كندا الدببة، غير أنني حُرمت من رؤيتها رغم توغلي مع الشباب في غابة كُتبت تحذيرات في أماكن عديدة فيها من وجود هذا النوع من الحيوانات الخطرة، وفي وسط الغابة أخذت أصرخ مداعبا الشباب ” أيها الدب الجبان أخرج لنراك”، ولكنه لم يخرج، ولربما يكون قد أشفق علينا، أو اعتبرنا ضيوفا استحى من أن يؤذينا!
أما عن عالم الأشجار والنباتات فقد رأينا العجب العجاب مما لا يمكن حصره من حيث الأنواع والأشكال والأحجام، كالبلوط والأرز والقيقب والدردار والجوز واللوز والبندق والتوت بمختلف أنواعه والتنوب بمختلف انواعه وأشجار مختلف الفواكه، أما النباتات والأزهار فعبثا أحاول تعدادها.
لقد وصلت إلى حالة من التعب في كتابة هذا المقال، فلا أراني أقدر على إشراك القارئ في الرحلة من حيث التفصيل أكثر! حقا لا أستطيع المواصلة أكثر من هذا!
ولكن لا يمكن أن أغادر دون الحديث عن الشجرة التي ترمز ورقتها إلى كندا ويتوسط رسمُها علمَ دولة كندا منذ فبراير 1965 وهي شجرة القيقب. وشجرة القيقب توجد في كندا وأوروبا وروسيا، تصل أنواعها إلى أكثر من مائة نوع، بألوان مختلفة، ومنها القصير الذي يبلغ 12 مترا، ومنها الطويل الذي يبلغ 30 مترا، وكل جمالها في أوراقها، خصوصا حين تتلون في فصل الخريف، وهي أوراق تنمو في أزواج، تمتد كل ورقة في اتجاه معاكس لنمو الأخرى، ويشتهر صنف منها بعسلها الذي يؤخذ منها ” شراب القيقب” أو شراب الاسفندان” وهو شراب يصنع من نسغ (عصارة) الأوعية الخشبية بفتح ثقوب في الجذور والجذوع توضع فيها أنابيب يتدفق من خلالها الشراب إلى الآنية المتصلة بها. وهذا الشراب مفيد جدا للصحة حيث يحتوي على مواد مضادة للأكسدة تنفع في منع تصلب الشرايين وسلامة القلب ولرفع مستوى المناعة، ويتكون من نسبة عالية من الفيتامين ب النافعة للتمثيل الغذائي، ومن العديد من المعادن المهمة كالبوتاسيوم والمنغانزيوم والكالسيوم، ويستعمل كبديل صحي جيد للسكر الأبيض بالنسبة لمرضى السكري. ولكن شراب القيقب مشهور أكثر في المجال السياحي إذ يوضع في قارورات زجاجية جميلة بعضها على شكل ورقة شجرة القيقب تباع في المطارات والحدائق وصالات المعارض ومختلف المُركبات السياحية، وكل أجنبي سائح يريد تقديم هدية فإن من الأشياء الأولى التي يفكر فيها شراب ( أو عسل) القيقب.
وفي الأخير أرجو أنني قد أشركت القارئ بهذه المحطة من رحلتي إلى كندا، وقد بقيت محطات أخرى كثيرة مفيدة، رأيتها في تورنتو أو أوتاوا أو مونتريال، علاوة على ما كنت أنوي كتابته في تاريخ كندا وما حدث من أحداث وحشية اقترفها الإنجليز والفرنسيون في حق السكان الأصليين في هذا البلد، لن أستطيع بكل تأكيد التفصيل فيها هذه الأيام حيث أن العطلة انتهت وعدت إلى ضغوطات الأنشطة والأعمال التي تنتظرني في المجال الفكري والعلمي والسياسي والاجتماعي والعديد من فضاءات المجتمع المدني في الداخل والخارج ولن يكون لدي الوقت لذلك، ولكن الوعد قائم بالرجوع إلى كل تلك التفاصيل، بغرض إنشاء أدب السياحة الفكرية والسياسية والترفيهية، ونقل التجارب وإمتاع الناس، والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله.