أردوغان، نحناح: المنصور والمظلوم 2\3

2ـ نحناح المظلوم.

لقد كانت الانتخابات الرئاسية سنة 1995 هي فرصة الشيخ محفوظ نحناح وفرصة هذا النهج المتميز الذي اختاره والتي تحدثنا عنه في المقال السابق، تماما مثل ما كانت الانتخابات التشريعية لسنة 2002 هي فرصة أردوغان وفرصة نهجه المتميز الذي يشبه في أشياء كثيرة نهج الشيخ محفوظ نحناح في بداية التسعينيات. غير أن الشيخ محفوظ نحناح ظلم وزورت عليه الانتخابات، لقد كانت تلك الانتخابات هي بداية توجيه المؤامرة إليه بعد ما كان يُعتبر شريكا في مكافحة الإرهاب والتطرف، لقد قاموا بتعديل الدستور سنة 1996 خصيصا من أجله ليكون ترشحه سنة 1995 هو آخر ترشح، ثم قضوا على الخطة كلها بتأسيس التجمع الوطني الديقراطي والتزوير الشامل لصالحه سنة 1997.

كان الشيخ محفوظ يعتقد بأنه بجمعه أبعاد الإسلام والوطنية والديموقراطية في فكره وخطابه، والاعتدال والرفق والتسامح في سلوكه، سيقدر على أن يكون بديلا لجبهة التحرير والجبهة الإسلامية في نفس الوقت، بديلا لجبهة التحرير الوطني، واجهة العسكر للحكم، التي انهارت تحت وطأة الفساد والفشل وتحولت إلى حزب معارض في زمن عبد الحميد مهري رحمه الله، وبديلا للجبهة الإسلامية للإنقاذ المُمَكنة شعبيا والمرفوضة عسكريا، تماما مثل ما فعل أردوغان حينما استطاع أن يكون بديلا للحزب الإسلامي التركي الممكن شعبيا المرفوض عسكريا وللأحزاب العلمانية التي حكم بها العسكر ردحا من الزمن إلى أن انهارت تحت ثقل الفساد والفشل ووجدت نفسها بعد ذلك أحزابا معارضة.

لقد كان المشهد في مقدامته هو نفسه تماما، وكأن واحدا من الرجلين نقل عن الآخر، ولو لا حكم الزمن الأصم لقلنا بأن الشيخ محفوظ هو الذي نقل عن أردوغان، لأن الناس ينقلون عن الناجح والمنتصر عادة. إن كرونولوجيا الأحداث تؤكد بأن الطيب رجب أردوغان التركي هو الذي نقل عن الشيخ محفوظ نحناح الجزائري. ولا يمكن تصور الصدفة في كل تلك التفاصيل، والشاهد على ذلك أن أردوغان والمفكرين الذين معه كانوا مهتمين بالاستفادة من تجربة الحركة السياسية الإسلامية في المغرب العربي أكثر من اهتمامهم بتجربة المشرق العربي، ولعل أغلب الناس لا يعلمون بأن إسم الحزب “حزب العدالة والتنمية ” التركي هو تقليد لإسم ” حزب العدالة والتنمية” المغربي. فإخواننا في المغرب الشقيق هم أول من سموا حزبهم بهذا الإسم بل حتى شعار الحزب “المصباح” نقله الأتراك عن المغاربة الذين اختاروا قبلهم شعار المصباح التقليدي كرمز للإبداع بين الأصالة والتجديد.

لقد كانت المقدمات كلها متطابقة ولكن المخرجات اختلفت للأسف الشديد، انتصر أردوغان ونجح في الانتخابات ونجح في الحكم وأصبح حقا بديلا لتيارين سياسين متصارعين، ولكن الشيخ لم ينجح في الوصول إلى الحكم ولم يستطع في حياته أن يكون بديلا وبقي الصراع متواصلا في الجزائر إلى اليوم ومعهما الفشل والفساد، ومعهما مخاطر التفكك التي تهدد الوطن كل يوم. فيا ترى ما هو السبب؟

إن السبب هو أن الشيخ محفوظ نحناح كان في الجزائر وأردوغان في تركيا، أن الشيخ محفوظ نحناح أحسن الظن بمن كان بيدهم الحكم واعتقد أن تنازلاته ولينه ورفقه وإظهار تميزه عن التطرف والتضحية بأفضل رجاله الذين قتلهم الإرهاب وكاد أن يفتك به هو ذاته عدة مرات سيجعله مقبولا عندهم وأنهم سيفسحون له المجال لخدمة وطنه فيطفئ نار الفتنة ويجمع حوله رجال الجزائر الأكفاء ولو كان أغلبهم من غير حزبه فيبني وطنا قويا متطورا مزدهرا. ولكن القوم كانوا أقل بكثير من هذا المستوى. أذكر أن أحسن ما أعجب الشيخ في ما قلته في الحصة التلفزيونية ” ملتقى الاتجاهات” التي ذهبت إليها أدافع عنه، وأرفع هامته، وأصون كرامته حينما مُنع من الترشح سنة 1999 تلك العبارة التي وصفت بها الذين منعوه من الترشح قائلا: “إنكم قوم متخلفون”، كان رحمه يتقلب ضحكا وهو يكرر للإخوة هذه العبارة التي وصفتُ بها ظالميه. نعم والله إنه التخلف الذي جعلهم يقترفون تلك الجريمة التي لولاها لكانت الجزائر اليوم مثل ماليزيا أو تركيا.

لو مُنع أردوغان مثل ما مُنع الشيخ محفوظ ففشل في تحقيق رؤيته لذهبت تنازلاته هدرا ولما اعترف أحد بجدواها ولقيل إنه دعّم العسكر وتحالف مع العلمانيين ولربما لُعن على رؤوس الأشهاد اليوم، خلافا للشيخ محفوظ الذي لم يُسأ به الظن إلى هذه الدرجة بل بدأ الناس يفهمون منهجه وبعضهم يقول في الخطاب السياسي ما كان ينكره عليه. إن التنازلات التي قدمها أردوغان لم يصل إليها الشيخ محفوظ نحناح، خصوصا في العلاقة مع الغرب والكيان الإسرائيلي والالتزام الصارم بالعلمانية ضمن ظروف لم يكن له خيار سوى هذا، ولو نجح الشيخ محفوظ في تحقيق رؤيته لكان اليوم قديسا. فالعبرة إذن ليست في التنازلات ولكن العبرة بالقصد والنية وبقاء هذه التنازلات في إطار السياسة الشرعية، ومهما كان الأمر فإن النجاح الذي يحققه المبادر هو الذي يثمن خياراته حتى لو اعترض عليها الناس في البداية، أما إذا لم يتحقق التوفيق فيهبط  قدرها في أعين البشر مهما كانت التضحيات التي قٌدمت على طريقها، وقد يستدرك التمكين على الآجل فيتذكر الناس أصل النهج ويقدرونه.

إن العلماء والمجربين يفهمون قيمة المنهج ولو لم يحقق ثماره على العاجل، أذكر يوما كان الشيخ أحمد بوساق يستمع لأحد الدعاة والساسة الجزائريين ممن يكثرون نقد الشيخ محفوظ نحناح حيا وميتا. وفي تلك الجلسة بالغ الرجل في الحديدث عن تنازلات بل انحرافات الشيخ محفوظ فأوقفه الشيخ بوساق وقال له: ” أنت تظلم الرجل وتضيق عليه ما وسعه الشرع وهو لم يصل إلى حد التنازل الذي وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره يينود صلح الحديبية وركز له عن رد رسول الله من أسلم لقريش فيفتنوه عن دينه. وقال له:  “ماذا تقول لو فعل محفوظ نحناح مثل هذا”. ثم بين له بأن السياسة الشرعية تتسع لما فعل محفوظ بل ولأكثر مما فعل، وإنما العبرة بالمقصد والنية وعدم التعارض مع نصوص ثابتة غير مختلف عليها في ثبوتها ودلالتها، هل التنازل هو لوجه الله ومصلحة عامة أم هو لمصلحة شخصية فحسب؟ وهل التنازل يخدم رؤية أوسع أم هو مجرد اضطرار ومعالجات آنية؟ وهل التنازل مناسب للظرف ويتجاوب مع البيئة الداخلية والخارجية أم لا؟ إن المؤمن يعلم بأن سداد النية والاختيار الأنسب للوقت هو مسؤولية الإنسان ولكن النجاح هو بتوفيق من الله وحده، فهو سبحانه من يختار بقدر لكل إنسان في كل زمن ما يصلح من له من الأدوار والإنجازات، فقد يكون الدور هو دفع مضرة وإبعاد مفسدة، وهذا هو الدور الذي نعتقد بأنه سُخر له الشيخ محفوظ نحناح، وقد يكون الدور هو رفع مستوى إنجازات الأمة وأدائها من طور إلى طور ونحسب أن ذلك هو دور أردوغان، وقد يكون الدور هو نتيجة حاسمة لصالح الأمة، وهو الدور الذي أسند لصلاح الدين الأيوبي رحمه الله. والثابت الذي يأخذه هؤلاء جميعا إن صدقوا هو الأجر والثواب، ولا يدري أحد ما هو الأجر الأوفر لهؤلاء أوهؤلاء.

لقد ظلم الشيخ محفوظ نحناح مرات ومرات ، لقد ظلم حقا من البعيدين عنه والقريبين:

ـ لقد ظلم من أصحاب القرار ( المؤسسة العسكرية والرئاسة) الذين أعاقوا طريقه وكسروا تجربته، بل أذلتوه وأهانوه. وهم بظلمهم له ظلموا الجزائر كلها، فالشيخ محفوظ نحناح لم يكن خطرا على أحد، ولم يكن صاحب رؤية حزبية ضيقة، ولم يكن انتهازيا ولا طماعا، ولم يكن جبانا ولا خوارا، ولم تكن له مصلحة شخصية سوى طموحه الذي يناطح السحاب في إخراج البلاد من الأزمة وصناعة وطن شامخ مزدهر مع كل الجزائريين، ولو يعلم الناس كم هو عدد الأكفاء الذين كان يشتغل معهم لتهيئة مستقبل الجزائر لاندهشوا، وأنا أذكر جيدا، ونحن في بداية التجربة البرلمانية سنة 1997، كم كان حلمه كبيرا في تهيئة حكومة قبل الوصول للحكم ( حكمة ظل) تتشكل من مختلف الكفاءات  تكون جاهزة لتسيير البلد بعد الأزمة مع غيرنا من الجزائريين. غير أن هؤلاء الذين يحكموننا لا يريدون أن يكون في الجزائر حلم سوى حلمهم، وها هي أحلامهم تتحول إلى كوابيس تزعج هدوء الجزائر.

ـ لقد ظلمه رحمه الله الذين أساؤوا به الظن ممن يستمرون في إيذائه ميتا، بسبب مواقفه في ظل الأزمة، وأنا لست أدري لماذا يستمر هؤلاء في نقده و في نفس الوقت يعظمون تجربة أردوغان ( وهي حقا كبيرة) بالرغم من أن هذا الأخير سلك نفس النهج الذي سلكه الشيخ محفوظ. أليس من الواجب أن يصارحوا أنفسهم فيقولوا أن معايير حكمهم على التجارب هي النتائج فحسب، فلا حديث عن المبادئ ولا اكتراث بالتنازلات.

ـ لقد ظُلم عليه رحمة الله من بعض أصحابه وأتباعه الذين أخطؤوا فهم منهجه وبعضهم تعمد الخطأ، فأفرغوه من المقاصد وتمسكوا ببعض الظواهر. تماما مثل أؤلئك الذين يتعاملون مع ظاهر النصوص الشرعية ويغفلون عن مقاصدها فيجتنبوا الصواب، وبعضهم يخطئ الطريق، وبعضهم يتنكبه  وينحرف عنه. وأسوء هؤلاء جميعا أولئك الذين يرفعون إسمه ويتحدثون عن منهجه انتهازية، لا يريدون سوى مصالحهم الشخصية، وأسوء هؤلاء أولئك الذين ينخرطون باسم منهج الشيخ في مناهج وسياسات ومجموعات نهض رحمه الله لمحاربتها أصلا..

ولكن هل انتهى كل شيئ وهل توقف فعلا منهج الشيخ محفوظ نحناح في الحياة؟ والجواب: لا وألف لا ! أحسب أنه لو لم يقعده المرض ولو لم تأخذه الوفاة لجدد منهجه بنفسه ولنقل الحركة لواقع جديد، ولي في ما كان يقوله لبعض خلصه بعد ظلم 1999 برهان ودليل لو يشهدون معي، وأحسن من الكلام العمل، سأعمل مع الثابتين على العهد، الصابرين على ما يكرهون، ومن لحق بهم من الشباب والأنصار الجدد لتجسيد ذلك التجديد الذي لم تسعف الأيام الشيخ محفوظ ليقوم به، لقد اخترنا لذلك شعارا رفعناه في مؤتمرنا الخامس: ” حركة تتجدد.. وطن ينهض” وسأبين في المقال الثالث والأخير كيف سنستفيد من منهج الشيخ ومنهج أردوغان وما هي إبداعاتنا الخاصة لتحقيق النجاح الذي لا نطلبه إلا من الله ونحن في كل الأحوال راضون بقضائه طامعون في توفيقه.

يتبع..