أردوغان، نحناح: المنصور والمظلوم 1/3

1 ـ أردوغان المنصور.

حقق أردوغان انتصارا جديدا في الانتخابات البلدية التي تحولت إلى استفتاء على شخصه بالنظر للصراعات المحلية والإقليمية وحتى الدولية التي استهدفته في الشهور الأخيرة. وأمام هذا الظاهرة الاستثنائية التي تعبر عن نجاح تاريخي مستدام غير مسبوق في ظل بيئة داخلية وخارجية معادية ومتربصة يحق لنا أن نسأل هل هذا النجاح متعلق فقط برجل استثنائي لا مثيل له في العالم العربي والإسلامي أم أن ثمة كذلك بيئة داخلية وخارجية مناسبة ومساعدة.

حينما نتأمل في بداية ظهور أردوغان يتضح لنا بأنه سلك طريقا غير اعتيادي على ما كان عليه تكوينه ومحيطه، فهو داعية إسلامي تربى في بيوت الله والمدارس القرآنية وعاش ردحا من الزمن في أجواء الصراع التقليدي بين الحكام والإسلاميين تحت قيادة شيخه وأستاذه الأستاذ نجم الدين أربكان، وهو في حد ذاته معروف بصلابته وميله للمواجهة واستعماله الخطاب المتشدد الذي أوصله للسجن في يوم من أيام تجربته. غير أنه انتبه بأن حالة الاستقطاب الحاد والصراع الصفري بين أردوغان الإسلامي والجيش العلماني لن تنفع تركيا ولن تدع التجربة التي أسسها شيخه تسلك طريقها للنجاح. فهم عندئذ بأنه لا بد من التغيير لكي يحقق النجاح، لا بد من التغيير في الخطة السياسية، وفي الخطاب، وفي منظومة العلاقات، وإدارة الحزب، ونمط التحالفات، وحتى مضمون البرنامج. ولكن دون أن يكون هذا التغيير بيعا للذات والتاريخ والكرامة والقبول بالتبعية للفساد والفاسدين وفقدان الرجولة والمروءة ، فبقي أردوغان الذي غير الخطة هو ذات أردوغان القوي الصلب العنيد الذي لا يفرط في ثوابته وبلده وأمته وقضاياه المركزية.

كانت خطوات أردوغان الأولى صعبة جدا حيث اتُّهِم في بيئته الداخلية وفي جزء كبير من الرأي العام التركي والعربي والإسلامي بأنه تحالف مع الجيش الذي انقلب عسكريا على شيخه أربكان بعد أن نجح هذا الأخير في الانتخابات وصار رئيسا لوزراء تركيا، وأنه فرط في المشروع الإسلامي وتحول إلى رجل علماني تابع للمشروع الأمريكي وله علاقات مشبوهة مع الكيان الصهيوني. لقد سمعت كل هذا الكلام بنفسي من قيادات إسلامية عريقة ومن زعماء إسلاميين عرب من جماعة الإخوان المسلمين وغيرها. ولو تنظر إلى سلوك أردوغان لعلمت بأن ثمة ما يجعل الناس يقولون هذا، فهو لم يتوان في إعلان التزامه بالعلمانية التي يتضمنها الدستور التركي، وحافظ على الطقوس الأتاتركية كلها، وتصالح مع الجيش بلا تردد، وتحالف مع قوى علمانية قومية معروفة، إثنين منها هي جزء من حزبه من التأسيس إلى الآن، وقبِل أن يمنع الحجاب، وأن تتعامل مؤسسات تركيا بقوانين مخالفة للإسلام، وأن يزور الكيان الصهيوني ويُبقي على العلاقات الرسمية معها، وأن يكون جزء في الحلف الأطلسي وأن تبقى دولته حليفا لأمريكا في المنطقة. غير أن الصورة الانطباعية التي تشكلت عنه تلاشت في خمس سنوات، ثم نمى تعلق الأتراك والشعوب العربية والإسلامية به حتى أصبح منصورا مظفرا مصدر فخر وعزة لكل هؤلاء ورمزا تاريخيا غير مسبوق في البلاد العربية والإسلامية.

ما الذي حدث، ماالذي جعل أردوغان يستمر في النجاح؟  سيقول أغلب الناس، ونقول معهم:  إنه الطموح والهمة والخطة، ، كان طموح أردوغان تركيا، كان طموحه الريادة والقيادة، في تركيا وخارجها، لم يكن طموحه مجرد وزارة أو ورئاسة يبيع بهما نفسه ثم ينتهي كل شيء. ثم إنها النزاهة والنظافة، ثم هي الإنجازات والتوفيقات، ومعها  قوة الرجل وصرامته وثباته في مواجهة الخصوم والمعضلات. سيقال هذا الذي جعل الناس يتعلقون به، الكل سيتذكر بأن عربون النجاح الأول هو نجاحه في رئاسته لبلدية اسطمبول قبل تأسيس العدالة والتنمية، ثم لحقها نجاحه في تسيير شأن تركيا باسم العدالة والتنمية ثم جاءت فتوحاته الخارجية وعلى رأسها مواقفه التاريخية في صالح أهل غزة وفلسطين، فأصبح بهذا كله رمزا تاريخيا لا يشق له غبار.

وقبل أن نتحدث عن الفرق المفصلي في تجربتي الشيخ محفوظ نحناح وأردوغان، وما يقوله بعض الناس عن هذا وذاك نضيف في ذكر مسار أردوغان بعد أن غير االنهج والخط السياسي بأنه لم يصل للحكم إلآ بعد أن عارض النظام العسكري القائم ثم انتصر في الانتخابت، ثم حكم فأحسن الحكم، وحينما نجح في رفع شأن بلده وحسّن وضع تركيا داخليا انطلق إلى البحث عن مصالحها اقليميا ودوليا، وكان شعاره التعاون مع الغير بلا مشاكل، ولكن بشأن فلسطين تحلى بالصرامة والاندفاع ولو أدى ذلك إلا زعزعة بعض العلاقات مع أصدقاء تركيا التقليديين. وفي آخر المطاف حينما أصبح النجاح حقيقة ماثلة لا مراء فيها أنجز ما كان صعبا في البداية: وضع المؤسسة العسكرية في مكانها النافع لها ولتركيا، وفكك اللوبيات التي كانت تتربص به أو تريد التحكم في إرادته، وكان آخرها جماعة غولن الشقيقة القوية، ومنع الحلف الأطلسي من استعمال أراضي بلاده لضرب تركيا، ثم دخلت المحجبات مظفرات للبرلمان وصروح العلم بعد عقود من الحرمان ضمن قبول وتوافق تركي مدهش، الكل فيه رابح، لا غالب فيه ولا مغلوب. ورغم تعقد أوضاع الثورات العربية التي فاجأته كما فاجأت الجميع وأفسدت علاقات الوصال التي أبرمها في المحيط العربي وألبت عليه بعض خونة وعملاء وأعراب العرب استطاع أن يصمد وأن يبقى قريبا من إرادة الشعوب التي أهداها شعارا للبطولة والشهادة ورمزا للحرية والإباء، ينافس بقدسيته شعارات الحرية في العالم بأسره هو شعار رابعة.

هل هذا المسار وحده هو الذي جعل أردوغان ينجح، جعله يكون منصورا مظفرا؟ جوابي الصارم والواضح لهذا السؤال الكبير: لا ! ليس هذا فقط. لو كان هذا فقط لسبقه في النجاح بنفس الكيفية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.

لقد كانت خطوات الشيخ محفوظ الأولى في العمل السياسي العلني صعبة جدا، لقد سلك مسلكا اتهم فيه كما اتهم أردوغان بأنه تحالف مع الجيش ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فهم أغلب الجزائريين بسبب السوابق السرية للعمل الإسلامي بأنها أسبق من حركة المجتمع الإسلامي (حماس)، وأنه فرط في المشروع الإسلامي وتحالف مع العلمانيين، وأنه سكت عن الفاسدين ووصف الإسلاميين بأشنع الأوصاف، وأنه ترك الدعوة واحترف السياسة. وحينما نتابع سلوك الشيخ محفوظ نحناح نرى بأن ثمة ما يبرر هذه الأقاويل، غير أنه لا أحد سأل نفسه عن دوافعه ومقاصده وتأصيلات نهجه، ثم لم تأت رياح النجاح كما يحبها الناس لتمحو كل هذا كما وقع مع أردوغان.

حينما نتأمل في بداية العمل السياسي العلني للشيخ محفوظ نحناح يمكنا أن نستعمل نفس العبارات التي وصفنا مسار أردوغان بأنه رحمه الله سلك طريقا غير اعتيادي على ما كان عليه تكوينه ومحيطه، فهو داعية إسلامي تربى في بيوت الله وحلق الذكر والمدارس القرآنية وعاش ردحا من الزمن في أجواء الصراع التقليدي بين الحكام والإسلاميين، وهو في حد ذاته كان معروفا بصلابته وسلوك طريق المواجهة واستعماله الخطاب المتشدد في فترة السبعينيات مما أوصله للسجن في تلك الأيام من أيام تجربته. غير أنه انتبه بأن حالة الاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين في المجتمع والدولة لن تنفع الجزائر ولن تدع التجربة التي أسسها تسلك طريقها للنجاح. فهم عندئذ بأنه لا بد من التغيير لكي يحقق النجاح، لا بد من التغيير في الخطة السياسية وفي الخطاب وفي منظومة العلاقات وإدارة الحزب ونمط التحالفات، ومضمون البرنامج. ولكن دون أن يكون هذا التغيير بيعا للذات والتاريخ والكرامة والقبول بالتبعية للفساد والفاسدين وفقدان الرجولة والمروءة ، فبقي الشيخ محفوظ الذي غير الخطة هو ذات الشيخ القوي الصلب العنيد الذي لا يفرط في ثوابته وبلده وأمته وقضاياه المركزية.

أعلن الشيخ محفوظ تميزه بشكل واضح عن نهج الجبهة الإسلامية للإنقاذ. حينما لم تفلح محاولات التميز والاستمرار في مشروع الإصلاح عن طريق التربية والإرشاد لغلبة التيار السياسي الجارف، وأصبح ماثلا بين عينيه بأن المعادلة الصفرية التي فرضت بين المؤسسة العسكرية والجبهة الإسلامية للإقاذ ستأكل الأخضر واليابس وقد تذهب بالوطن بكامله، وأن أول ضحاياها هو المشروع الإسلامي سارع إلى الانتقال إلى العمل السياسي المباشر وأسس حزبه وكان يريد أن يكون هو البديل الجامع الذي يحفظ الجميع، ويحقق المصالحة الحقيقية التي تحفظ حقوق الجميع.  حاول رحمه الله أن يجد بذلك فرصة ليخدم بلده بمشروعه وخطه السياسي الجديد تماما مثل ما فعل أردوغان. دفعه هذا الاختيار الصعب إلى انتقاء مفردات قاسية في حق التطرف ورموزه لكي يتميز عنه في أذهان كل الجزائريين بلا استثناء، واستمعل عبارات أقسى في حق من حملوا السلاح قاصدا بذلك تهديم الأسس الدينية والفكرية لنهجهم  بل وكسر شوكتهم لما يعرف من خطورتهم كمطية سيستعملها العلمانيون المغالون النافذون لتدمير ثوابت الأمة والاستفراد بالسلطة. كما انتهج سياسة تطمين الوطنيين والعلمانيين المعتدلين في مختلف المؤسسات وخصوصا في المؤسسة العسكرية، تماما كما فعل أردوغان فاستعمل في سبيل ذلك عبارات لم يهضمها أتباعه ذاتهم وزعزت صف الحركة داخليا ، وشوشت صورتها في أعين كثير من محبيها، وأججت الحقد في قلوب مناوئيها واستعملها حاسدوها لضربها وملاحقتها ولا يزال بعضهم يفعل ذلك إلى اليوم.

وحينما نلاحظ التشابه في المسار نسأل أنفسنا لماذا تحمّل الرأي العام التركي والعربي الإسلامي السلوك السياسي غير الاعتيادي إسلاميا لأردوغان ولم يتفهم سلوك الشيخ محفوظ غير الاعتيادي كذلك في ساحة التيار الإسلامي؟ الجواب على ذلك في المقال المقبل بحول الله.