نشهد هذه الأيام تحولات سريعة وعميقة في العراق، فجأة ينهار الجيش العراقي في محافظات عديدة وتسيطر البشمرغة على المناطق التي ظل الأكراد يعتبرونها كردية، وتسيطر الجماعات المسلحة وقوى العشائر السنية على المحافظات السنية. الكثير من الحاقدين على المالكي والنفوذ الإيراني في المنطقة وأصحاب العواطف الجياشة والباحثين عن انتصارات ولو ظاهرية فرحوا فرحا كبيرا بهذه التحولات ولكن قليلا من تحمل عناء التأمل وسأل عن ماذا تعني هذه المفاجآت؟
وهل صحيح أن القوى الإقليمية والدولية لم تكن تتوقع هذا؟ إن الفهم والتحليل الذي ينبني عن معرفة طبائع القوى الاستعمارية ومصالحها ومصالح القوى الإقليمية المتورطة في مواجهة ثورات الشعوب من أجل الحرية وعن العمالة الكبرى التي تتصف بها النخبة الحاكمة في البلاد العربية يدل على أن المقصود في تسارع الأحداث هو تقسيم العراق.وكان يمكن إدراك ذلك قبل هذه التحولات من مجرد ملاحظة التصرفات المتطرفة لحاكم العراق أنور المالكي العامل المزدوج لخدمة المصالح الأمريكية والإيرانية.
إن الطريقة الناجحة التي لا تزال القوى الغربية تستعملها لضمان مصالحها في البلاد العربية هو فرض أنظمة فاشلة متعنتة متكبرة وقاسية تجمع كل أسباب الضعف والصراع والاحتقان إلى حد وضع نفسها في عزلة تامة أمام شعبها وفي مواجهة حادة مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية الوطنية، وعندئذ تلجأ تلك الأنظمة لإرضاء الخارج حتى تستمر في حكمها، فيصبح ذلك ” الأجنبي” متحكما في اللعبة كلها ويختار هو بنفسه المصير الذي يعطيه للبلد الذي يحكمه أولئك الفاسدون الفاشلون، إما استمرار الأمر الواقع والعمل على إجهاض ثورات الشعوب ما دام الأمر يسمح باستنزاف الخيرات والسيطرة على القرار في ظل الحكام الفاسدين، أو استغلال الثورات لتقسيم البلد وفق خارطة المصالح والأسواق ومصادر الطاقة وممرات نقلها وتجزئة الوطن الواحد إلى بلدان صغيرة متحاربة في أغلب الأحيان تكون كلها في حاجة لحماية الأجنبي.للوصول لهذه الحالة في بلد ما لا بد من فرض نظام سياسي تطلق فيه أيادي الفساد والظلم والمحسوبية والجهوية والطائفية ومنع الحريات وتُستنزف الخيرات ويكثر الصراع داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع، وبين الدولة والمجتمع، وتنتقل الدولة من الترهل إلى الفشل إلى اللاحكم وعدم القدرة على ضمان احتياجات الناس وفي لحظة من اللحظات تنفجر الأوضاع بشكل تلقائي أو بطريقة مدبرة وتعم الفوضى وُيسخّر الشعب الذي في المؤسسات العسكرية والأمنية لقمع الشعب الذي في المجتمع وتطول المعاناة حتى يصبح الناس مستعدين لقبول أي حل ولو كان التقسيم.
في تونس لو لا حاكم كابن علي وأصهاره، وفي مصر حاكم كمبارك وأبنائه، وفي سوريا كبشار وأسرته، وفي ليبيا كالقذافي وعشيرته، وفي اليمن كعلي عبد صالح وقبيلته وفي العراق كالمالكي وطائفته لما وقعت الثورات في هذه البلدان. وإننا نخشى على بلدنا الجزائر أن تصير إلى هذا الوضع، فعناصر الانفلات متشابهة في نظامنا السياسي، لا تظهر للغافلين والبسطاء والمستفيدين والانتهازيين ولكنها ظاهرة لأولي النهى، والواجب على كل وطني نزيه في المجتمع و في مؤسسات الدولة أن يفعل ما يجب عليه أن يفعل من أجل أن يحفظ البلد ويحفظ استقراره ووحدته ومستقبله. هذه هي الوطنية الحقة، وغير ذلك ادعاءات مخادعة.
د. عبد الرزاق مقري
نشرت في 15 جوان 2014