أرشيف التصنيف: أخبار

مروان بن قطاية: شاب بألف.

تعرّف الرأي العام بشكل أوسع على مروان بن قطاية بمناسبة دوره الريادي في قافلة الصمود، وكرئيس لمؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي. غير أن مروان لم تصنعه قافلة الصمود، ولم يكن منتَجا حصريا لمؤسسة جيل الترجيح ( واسمها الأصلي أكاديمية جيل الترجيح)، وإنما كانت القافلة تكريما له من الله تعالى على انخراطه الصادق الشجاع في القضية، نصرة لأهلنا في “غ” ضمن تطورات ” ط أ”، كما أن مؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي إنما كانت محطة أساسية في حياته ضمن مسار طويل في التربية والتأهيل والتكوين، وجد فيها ما يُمثّل أفكاره التي نشأ بها، وطموحاته في إصلاح الوطن التي شبّ عليها، وتطلعاته للعمل من أجل الاستنهاض الحضاري للأمة التي رغب فيها، وللتميز في الحياة في مختلف المجالات الذي كان صورة له.

ولد مروان بن قطاية في بلدية العطف ولاية غرداية في أسرة محافظة من والدَين صالحين كانت تربية الأولاد وتنشئتهم على الدين والأخلاق هي مبلغ علمهما، فحفظ القرآن صغيرا في القرية، وكانت بوابة دخوله العمل الدعوي هي تربية الوالدين وحفظ كتاب الله الكريم، ثم تواصل بناؤه التربوي ودخل العمل الميداني النضالي منذ صغره في الكشافة الإسلامية الجزائرية،  فكانت الكشافة هي مدرسته الجماعية الأولى للتكوين على الانضباط والجندية والروح الوطنية والمسؤولية الجماعة والفاعلية الميدانية، وتطور فيها حتى صار قائدا كشفيا محترما ومبجلا، وفي المرحلة الثانوية التحق بحركة مجتمع السلم  فاستفاد من أسرها التربوية معالم المنهج الدعوي والوعي الإسلامي وأشواق الالتزام بالعبادات والانضباط الأخلاقي والتطلع إلى العودة الحضارية للأمة، مع المحافظة الدائمة على التفوق الدراسي والحرص المستمر على رضا الوالدين والعطف على الأشقاء إذ كان هو بكر العائلة. وحين دخل الجامعة فُتحت له أبواب النضال في مختلف المجالات على مصراعيها، فكان من مؤسسي فرع الاتحاد العام الطلابي الحر في جامعة غرداية، ولتميزه لم يلبث طويلا ليكون رئيس الفرع طيلة حياته الجامعية، فصُقلت في الجامعة بواكير شخصيته القيادية المتكاملة، فكريا ودعويا وتربويا واجتماعيا وثقافيا.

ولأن مروان من الشباب الذين يمنعهم الطموح من الراحة والسكون، ولا يرضون بالرقي دون المعالي، توسعت اهتماماته خارج العائلة والمسجد والجامعة، فاهتم بالمجال الفني عبر تأسيسه فرقة الضياء الإنشادية التي برزت فيها موهبته الإنشادية وصوته الشجي الذي لازلنا نتمتع به إلى الآن، خصوصا حين يقرأ القرآن وهو يؤمنا في الصلاة،  وكان عبر تلك الجمعية سببا لاكتشاف مواهب شبابية فنية أخرى، كما اهتم بالرياضة في سن مبكرة وكانت هوايته الفنون القتالية، وبالتحديد رياضة “الكونغفو”، التي واصل مساره فيها إلى أن وصل بعد عشر سنوات إلى الحصول على الحزام الأسود.

وحين أوصله القدر إلى مؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي وجد فيها ضالته وما يعبر عن رؤيته، ووجدَته هي نعم القائد الجاهز الذي يجب صقل شخصيته وترقية مدركاته وتوسيع مداركه وعلاقاته، وفتح الفرص له بلا حدود، كما هو حال الرشد في التأهيل الذي يتمسك  بالطاقات والمواهب ويصبر عليها ولا يبذرها. وكان منهج الأكاديمية ذاك ما يناسب مساره ويُكمل دربه ويقوّم أخطاءه ويُفجّر طاقاته ويُستفاد من كفاءته، وذلك من خلال منهجها الذي يؤهل القادة وفق قواعد “الشمول والتوازن”، والتعميم والتركيز”، و”القيادة العامة والقيادة المتخصصة”و “شيء عن كل شيء وكل شيء عن شيء”، عبر الأفواج على المستوى الأفقي لتركيز التربية والتكوين والتأهيل، ومشاريع الفاعلية على المستوى العمودي في فرق العمل لاكتشاف المواهب وصقلها.

التحق مروان بن قطاية بالأكاديمية في دفعتها الأولى بغرداية، ومن هناك صار عضوا في قسم السلوك، ومن قسم السلوك أسس مع نظرائه المتميزين، خصوصا في مجال القرآن الكريم والتربية السلوكية، مشروع النهضة بالقرآن، مكلفا بقسم المشايخ بالإدارة الوطنية.   

لم يأت مروان بن قطاية إلى رئاسة الأكاديمية كمظلّيٍ مُقحَمٍ من الأعلى، بل تدرّج فيها من مرتبة إلى مرتبة، إذ بعد نجاح مشروع النهضة بالقرآن واستقلاله بنفسه، بحمد الله، في فضاء المجتمع الفسيح، أصبح مروان رئيس قسم الحملات في قسم الفاعلية، ثم رئيسا للقسم، في المكتب التنفيذي للأكاديمية ثم مديرا تنفيذيا، ثم صار بشكل منطقي رئيسا للمؤسسة حين احتاجت المؤسسة أن يكون أحد أبنائها من يقودها.

لقد تابعتُ مروان من بعيد وهو يمارس القيادة في منظمة مترامية الأطراف تتوزع أفواجها في كل أنحاء الوطن، فرأيت فيه كثيرا من الصفات القيادية النادرة التي تحتاجها المنظمات والأحزاب والبلدان والدول والأمم لكي تصنع نهضتها، سواء على مستوى الالتزام الشرعي والأخلاقي وابتعاده عن الشبهات وانضباطه في العبادات، أو من حيث الصفات الشخصية القيادية كالشجاعة ورباطة الجأش والصدق والوفاء والكرم والمروءة والمصداقية، وأخرى لا أجد لها سوى عبارة بالعامية هي “الرُّجْلة”، أو من حيث الصفات المهارية القيادية، كالرؤية والخطابة والبيان والقدرة على الإقناع والقدرة على ربط العلاقات العامة، أو على مستوى العلاقات الاجتماعية، سواء حسن رعايته لوالدته وأشقائه وشقيقاته بعد وفاة والده، وخيريته لأهله، أو حرصه على صلة أرحامه، وإكرام السابقين في غرداية ومن لهم فضل عليه في تنشئته، بذكره  الحسن الدائم لهم وإقراره بجميلهم، خصوصا الأستاذ عز الدين قادري رئيس مجلس الشورى الولائي الذي كان سبب التحاقه بالحركة، واهتمامه بمن هو مسؤول عليهم في الأكاديمية، ووفاؤه النموذجي  للكشافة والاتحاد ولأكاديمة جيل الترجيح ولكل من كان لهم فضل عليه في ما وصل إليه . 

لا شك أن مؤسسة جيل الترجيح كانت هي العتبة التي اعتلاها مروان للوصول إلى المسؤوليات العليا في حركة مجتمع السلم، كما هو حال أغلب الشباب الذين هم حول رئيس حركة حمس حاليا، القائمين بشؤونه في الديوان والإعلام والمقر وغير ذلك، ولكن وصوله إلى المسؤولية في المكتب الوطني لم يأت من علٍ، بل صعد صعودا متدرجا ابتداء من عضويته في المكتب البلدي للحركة في غرداية، إلى عضوية الأمانة الولائية للشباب والطلبة، إلى عضوية مجلس الشورى الوطني، إلى عضوية الأمانة الوطنية للشباب، إلى عضوية مجلس المؤسسات، إلى عضوية المجلس الاستشاري للشباب، إلى عضوية لجنة تحضير المؤتمر.

لا يمكن لقائد متميز، صاحب رؤية وخبرة وصادق اللهجة في الدفاع عن رأيه، أن لا يصل العالمية في مساره النضالي، فها هو مروان بن قطاية يتحول إلى رمز دولي يشترك في تأسيس “ملتقى شباب العالم الإسلامي” ويكون أحد قادته المقدّرين بين أعضائه من كل أنحاء العالم، ثم يتم اختياره في ظروف صعبة ليكون عضو المكتب التنفيذي الدولي بالاتحاد الإسلامي الدولي للمنظمات الطلابية والشبابية (الإيفسو)، ويشهد له أقرانه بقدرته على التشبيك وربط الشباب عالميا بروح الرسالة والوحدة والعمل.

وحين اعتقد العديدون بأنه تلقى ضربة كبيرة في مسيرته القيادية رفعه الله من حيث لا يحتسب بأقدس قضية في الأمة وهي القضية الفلسطينية، أعطاها بشجاعة وصدق في تعامله مع طوفان الأقصى فأعطته من الرفعة ما لم يكن في باله بقيادته قافلة الصمود. لقد كان مروان بن قطاية من الذين اجتهدوا من أجل النجاح في امتحان طوفان الأقصى، أحسبه كذلك والله حسيبه وحسيبنا، إذ حرص أن يكون في المكان الصحيح من التاريخ ضمن سننية الطوفان، فلم يتوان في بذل الجهد المسموح والممنوع لنصرة أهلنا في غزة، فأوذي في سبيل ذلك إيذاء شديدا وظن من عاقبه بأنه عاقبه بأشد العقاب، على “تعنته” وإصراره في القيام بالواجب وتميزه على الآخرين، فلم يُحبط ولم يكسر، ولما جاءت فرصة قافلة الصمود بادر إلى تشريف الجزائر وتكريمها بالحضور، ضمن ظروف صعبة وإعراض بئيس ومخاطر جمة، فنظّم وأطّر وعبّأ وأنفق، والتقى في العمل مع شيخ فاضل وقائد كريم، يحيى ساري، فكانت المشاركة الجزائرية تحت قيادتيهما، المنطلقة من مقر مؤسسة جيل الترجيح والعائدة إليها، تاريخية رائدة رغم قلة العدد بالنسبة لعدد الليبيين والتونسيين، وصار مروان هو نجم القافلة كلها، وسمعت من التونسيين والليبيين، ثم من الفلسطينيين، حديثا عن مروان جعلني أعتز بجزائريتي، وبحركتي، وبمؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي …

إنني أستطيع أن أقول بلا مجازفة بأن مروان بألف شاب، على نحو وصف عمر بن الخطاب لبعض صحابة رسول الله صلى عليه وسلم، وهو من الرواحل الذين لا تكاد تجد مثلهم في المائة على نحو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه في الحديث،  وإني لأرى لهذا الشاب، الذي وهو في الثلاثينيات من عمره كأنه في الأربعينيات، مستقبلا قياديا زاهرا بحول الله، بأي حال من الأحوال، إذ أمامه فسحة طويلة من الزمن أسأل الله أن يطيل عمره ويصلح عمله. سيكون له حقا شأن كبير، بإذن الله سبحانه ومشيئته، نسأله تعالى لنا وله حسن الخاتمة.

إن الشهادة التي أشهدها في مروان بن قطاية أشهدها لوجه الله، لأنه يستحق ذلك، وكل ما قلته فيه صادق، ولا أزكي على الله أحدا، وقد حرصت على الشهادة في هذا الوقت بالذات وقوفا معه في وقت الشدة، كما يقف الرجال مع الرجال، ولفضله الكبير على الأكاديمية ومكانته فيها، ولوفائه الرجولي، وخصوصا لموقفه المشرف تجاه القضية الفلسطينية. ولم أقف هذا الموقف لأن مروان أقرب الشباب إلي، فعلاقتي اليومية الشخصية بغيره من بعض الشباب أكثر، وهو لم يكن لطيفا معي في كل الأحوال قبل أن يعرفني عن قرب إذ أساء إلي  ( رغم موقعه المتقدم آنذاك في الأكاديمية ) مع عدد من الطلبة بمناسبة مؤتمر من مؤتمرات الاتحاد قبل أن ينتبهوا إلى حجم خطئهم وتسميم معلوماتهم،  كما أن موقفي من مروان ليس  موقفا طارئا في حياتي، فأنا لا أتمالك نفسي أبدا حين أشهد الظلم ولو في الطريق، حتى لا أبالي في رد الفعل على الظلم بالمآل أحيانا، وفي الحركة وقفت مع الشيخ محفوظ نحناح أمام الملايين في حصة ملتقى الاتجاهات بالتلفزيون الجزائري ومسحت الأرض بمن ظلمه عام 1999، وكان رحمه الله كريما شهما، في قمة الوفاء، إذ رد الإحسان بالإحسان وغمرني بجميل صنعه منذ تلك الحادثة ( دافع عني برجولة ومروءة في وجه الجنرالات والمسؤولين الذين أرادوا الإساءة إلي بسبب دفاعي عنه وقد شهدت ذلك بنفسي، وعرض عليّ الوزارة بعد الانتخابات، وحين رفضت قبِل من قدّمتُه له بدلي، وبقي يدافع عني حتى في وجه من يؤذونني بسبب نقدي له، ويذكرني بخير ويرفع مقامي حتى توفاه الله رحمه الله)، ووقفت مع الشيخ بوجرة علانية حين استهدف في شخصه أثناء الاضطرابات الداخلية وعندما أساء له بوتفليقة وآذاه أويحي، ووقفت مع الرئيس الحالي للحركة قبل أن يتمكّن في منصبه بعد المؤتمر، ودافعت عن مسؤولين في الحركة مركزيا ومحليا حين ظُلموا وزُبروا من القوائم الانتخابية.

أنا أؤمن بمروان بن قطاية، وهو فرصة كبيرة للحركة والوطن والأمة والقضية الفلسطينية وأدافع عنه دون أن أنتظر منه شيئا ولا يهمني هل سيكون وفيا كريما مثل الشيخ محفوظ نحناح أم أنه سينسى المعروف أو ينقلب عليه، فالله أعز وأكرم. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله

توينبي وقصة تفكيك الدولة الوطنية (1).

لا يوجد بلد عربي يتمتع بمساحة معتبرة غير مهدد بتفكيك الدولة الوطنية: الجزائر مهددة، المغرب مهدد، ليبيا مهددة، مصر مهددة، السودان مهدد ( مرة أخرى)، السعودية مهددة، العراق مهدد، سوريا مهددة، الأردن مهدد، أما الدول الصغيرة فهي مهددة بالابتلاع . إنها كلها مهددة، ونحن على أعتاب سايكس بيكو جديد، لا قدّر الله، والخرائط الجديدة لبعض الدول مرسومة، وبعضها معلن. وكل حكام هذه البلدان لا يُقصّرون في إخافة شعوبهم من هذه المخاطر، وكل حاكم يوهم شعبه بأن بلده هو البلد الوحيد المهدد، لما يملكه – بزعمه – من خصائص لا توجد عند غيره! وكل الأحزاب والمنظمات التي تريد التقرب من أصحاب القرار يتفنون في تكرار الخطاب الرسمي بخصوص موضوع التهديد. وكل من يريد أن يقول كلمة في نقد أو نصح الحكام في ما يحفظ البلدان حقا من التهديد، أو يعبر عن وجهة نظر أخرى يُرفع في وجهه – من السلطة والأحزاب والأقربين – هذا الشعار: “خطر تفكيك الدولة الوطنية”، وربما يُتّهم بأنه متواطئ مع القوى الأجنبية التي تهدد الدولة الوطنية.وإذا سألت: من الذي يهدد الدولة الوطنية؟فالسمفونية جاهزة: هي قوى خارجية متربصة بالوطن، ولا أحد يعطيك جوابا شافيا كافيا عن سؤال: من هي بالضبط هذه القوى الأجنبية؟ وتارة يتم التلميح إلى قوى هي الأقرب في الواقع لمن بيدهم الحكم، وتتمتع – وأزلامها – بامتيازات لا يعطيها لهم إلا الحاكم، ولا يوجد من يُلاحَق ويُضطهد في هذا الوطن المهدد أكثر ممن يخاصم تلك القوى الخارجية، فعليا، فكريا وسياسيا وبشكل علني. أما إذا سألت عن حال الجبهة الداخلية وعن التحصينات الوطنية: ما الذي، وكيف، ومن الذي، جعلها تضعف إلى الحد الذي جعل الخطر وشيكا؟يقال لك عليك أن تسكت وتلغي رأيك وآمالك وتصطف وراء الحاكم، فلا رواية في زمن التهديد سوى رواية الحاكم! إن وقوع الدول تحت التهديد مسألة قديمة قدم وجود الدول، لا توجد دولة ليست مهددة في التاريخ، ولم تتوقف الخرائط عن التحرك والتغير عبر الزمن، وفي كل زمن يوجد غالبٌ يُغيّر الخرائط لصالحه ومغلوبٌ تتغير على حسابه. فالسؤال الأهم كيف تكون غالبا وكيف تكون مغلوبا؟ إن التهديدات الخارجية حقيقية، وهي طبيعية، والتصدي الجماعي لها واجب،. ولكن: والله الذي لا إلا هو : إنه لا يوجد من خطر يهدد البلدان سوى خطر الاستبداد فيها.كنت دائما أقول في زمن العهد البوتفليقي بأنه لا خطر على البلاد غير النظام السياسي، وكان الكثير يعدُّون حديثي راديكالية، حتى جاء ” الحراك الشعبي المبارك” فأكد جميع من كان يتهمني مقولتي، ثم ظننا أن البلاد ستقوى بعد الحراك فتسقط على أسوارها كل التهديدات الخارجية فإذا بذات السمفونية تعود، وعلى الجميع أن يسكت فلا حديث غير حديث الحاكم وأعوانه وأزلامه. للأسف الشديد حين تُمارس السياسة بلا فكر ولا علم، ويتصدر المشاهد العقول البسيطة أو المحكومة بالأهواء المقودة بالانتهازية تغيب الحقائق وتتوارى المعايير الحقة التي ثبتها العلماء في الحكم على الأحداث والظواهر. إنه لا يوجد عالم من العلماء الكبار الذين درسوا تاريخ ومجتمعات الدول والأمم والحضارات منذ فجر التاريخ إلى الزمن الراهن لم يتوصل إلى النتيجة الحاسمة: إنما تتهاوى الدول والأمم والحضارات من الداخل. بإمكاني أن أستحضر قانون الأطوار الخمسة والأجيال الثلاثة للعلامة العظيم عبد الرحمن بن خلدون في رسمه مسارات قيام الدولة وأفولها، وحديثه عن “جيل الهدامين” في قصور الحكم الذي يُجهزون على الدولة. وبإمكاني أن أتحدث عن المراحل الثلاث ( مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة) للمفكر الفذ مالك بن نبي وكيف تسقط الحضارات حين يقود البلدان نخب القلة العاجزون الذين تقودهم غرائزهم، وباستطاعتي أن أذكر توصيف ويل ديورانت الموسوعي للدول والحضارات التي تغلبها قوى أخرى من الخارج وتبتلعها لما تتآكل من الداخل ، ولكن سأكتفي بتلخيص مفيد لفكرة المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير أرنولد توينبي، التي تتفرع عن عبارته المشهورة “لا تُقتل الحضارات بعدوان خارجي ولكنها تنتحر انتحارا”
يتبع ….

النهائي لصالح إيران

كانت سقوف أهداف الكيان وأمريكا عالية جدا في بداية حرب 12 يوما: تدمير البرنامج النووي ووقف منظومة الصواريخ، تغيير النظام.
كانت هذه الحرب بين دولة واحدة وحلف صهيوني غربي علني فيه أقوى دولة في العالم ومع ذلك لم تتحقق الأهداف.
ثمة ما يؤشر بأن الضربات المتبادلة في الأخير كانت ترتيبات وتفاهمات، ولكن في كل الأحوال انتهت الحرب ولم تتحقق الأهداف الأساسية للكيان رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها إيران، والأهم والأهم والأهم: إسرائيل ضُربت في قلبها وكبريائها لأول مرة في تاريخها، ويرى شعبها ( الذي هرب كثير منهم الى الخارج ) ذلك الدمار غير المسبوق.
إن هذه الصورة هي مشهد مصغّر كامل كيف ستكون النهاية قريبا بحول الله.
استراتيجيا : الكاسب هي إيران، والجدال في امريكا وبين الصهاينة حول سؤال هل هزمت إيران أم لا؟ يشرح ذلك.
لو رفعت إيران الراية البيضاء لكانت الخسارة لفلسطين ( بالرغم من أن إيران لم تدخل هذه الحرب من أجل فلسطين) ، ولأمتنا و للعالم كله.
كانت الصين وروسيا حريصين على وقف الحرب في المستوى الذي وصلت اليه لأنهما يعلمان أن أمريكا لم تكسب الحرب، وهذا أمر مهم لهما، وأمريكا والصين وروسيا ثلاثتهم لم يكونوا يرغبون أن تنهار “إسرائيل” لأنه لو طالت الحرب لكانت دولة الكيان هي أول من ينهار.

ضبط البوصلة بشأن الحرب القائمة بين إيران والصهاينة.

أكتب مرة أخرى في شأن الحرب القائمة بين إيران والصهاينة وأساهم مع غيري في ضبط البوصلة ومعالجة حالة الهيجان الذي تفتق لدى العديد من الأفاضل ضد إيران، بالتشفي والحملات الإعلامية، بما يجعلهم – دون شعور منهم – ضمن البروباغندا الصهيونية في إدارة عدوانها ضد إيران.

ومما يمكن أن أُذَكِّر به مجددًا ما يلي:

أولًا – الرأي في الحرب القائمة بين الصهاينة وإيران كان مبنيًا عند عدد من العلماء والمفكرين والقادة على قناعات سابقة في مسألة الطائفية، القائمة على الدراسات الشرعية والحضارية والفهم الصحيح للأحداث التاريخية في الأمة والتحولات الجارية في العالم. ومع وقوع الحرب وتطور آثارها أصبح هذا الرأي معبرًا عنه أكثر ومجاهرًا به من المجاميع العلمية والفكرية والسياسية المقدَّرة في الأمة، كالأزهر، والموقف الرسمي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والإخوان المسلمون وكل الحركات الإسلامية والإصلاحية، بل حتى الدول السنية قاطبة (سواء كانت صادقة في هذا أم لا). فالأمة في المجمل منحازة لإيران في شرق العالم الإسلامي وغربه، ولم يخالف هذا الاتجاه سوى إخواننا السوريين واليمنيين وبعض العراقيين وبعض النخب من الاتجاهات الإسلامية والعلمانية.

ثانيًا – المواقف المعادية لإيران في زمن الحرب محكومة عند كثير من أصحابها بظروف العدوان الذي وقع على أهلنا في هذه الدول الثلاث، وذلك أمر مفهوم ومقدَّر، ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حاكمًا على الأمة كلها، ولا يجب أن تؤثر فينا اعتراضات واحتجاجات إخواننا وأخواتنا (وأكثرهم من سوريا) مهما كان حبنا لهم وتضامننا معهم، ومهما كان قربهم منا والنفع المتبادل بيننا وبينهم، فالحق أعز منهم ومنا ومن أهلنا وأبنائنا.

ثالثًا – إن المواقف المعادية لإيران في الحرب القائمة متأثرة بهذه الحالات الخاصة فلا ينظر أصحابها إلى المخاطر العدائية التي تهدد الأمة كلها بنفس الدرجة، فهي تركز بالمجمل على الخطر “الإيراني الشيعي” أكثر من تركيزها على الخطر الغربي الصهيوني الاستعماري الذي لا يحتل ثلاث دول فقط، على حد قولهم، بل يسيطر على دول العالم الغربي كله وباتت تأخذ من حكامها الجزية جهارًا نهارًا، وخلفية الحملات ضد إيران هي مرافعة منحازة لإقناع المتابعين بعدم مساندة إيران في هذه الحرب دون النظر إلى مآلات وتبعات انهزامها على الأمة.

رابعًا – الذين يُخرجون الشيعة من الإسلام تكفيريون، يخالفون رأي جمهور العلماء وما ذهب إليه عموم علماء السلف والخلف، وهم مع ذلك يؤججون مشاعر الطائفية عند عموم الشيعة ويظلمون شعبًا بكامله في إيران مع ما فيه من تنوع، ويسجلون على أنفسهم موقفًا مشينًا لن ينساه التاريخ. فيتهمون الإيرانيين بأنهم مجوس، وهذا انحراف عن جادة الشرع، وتارة فرس، ولا عيب في أن يكون المسلم فارسيًا، فالفرس أول الشركاء مع العرب في انبعاث الحضارة الإسلامية العظيمة، والذين شيعوا إيران ليسوا فارسيين، بل حكام الدولة الصفوية الأتراك، وعلماء الشيعة العرب.

خامسًا – حتى وإن اختلفنا في التصنيف والحكم على المشروعين الإيراني والصهيوني، فإن الأمر اليوم يتعلق بحرب قائمة، والواجب النظر إلى مآلاتها نظرة شرعية مقاصدية واعية. إنه لا يختلف عاقلان بأن هزيمة إيران تعني التحكم الكلي في المنطقة وتمكين الصهاينة والأمريكان والغرب من رقابنا ونهاية القضية الفلسطينية، وتسلط الاستبداد والعمالة والتطبيع، بل معنى ذلك تحكم المشروع الغربي الصهيوني في العالم بأسره لقرن مقبل، فأي عقل هذا الذي لا ينظر إلى المآل، ويفرض علينا أن لا ننظر إلى المسألة إلا من زاوية ما وقع سابقًا في سوريا واليمن والعراق.

سادسًا – إن موقف الانحياز إلى إيران في هذه الحرب موقف شرعي قبل أن يكون سياسيًا، ونحن بكل تأكيد لا نفرق بين السياسة والشرع، وإلا كنا علمانيين متصارعين على السلطة لا غير.

وثمة قواعد أصولية كثيرة توجب الوقوف مع إيران رغم وجوب معارضتها والوقوف ضدها في القضايا الأخرى المشار إليها، ومنها قاعدة “انفكاك الجهة” التي تعني أن الفعل الواحد قد يكون له جهتان مختلفتان، بحيث يمكن أن يكون مأمورًا به من جهة، ومنهيًا عنه من جهة أخرى، دون أن يكون هناك تلازم بين الجهتين بحيث يستحيل اجتماعهما.

كما أن القرآن الكريم وجه المؤمنين لابتهاج بانتصار الروم على الفرس، وفسر كثير من المفسرين بأن ذلك نصر من الله للروم، بالرغم من أن العداء الأبدي بين المسلمين وغيرهم، هو العداء مع الروم، فقد بدأ ببعث الجيوش لمحاربتهم قبل غيرهم منذ بعث أسامة وغزوة مؤتة وتبوك، إلى يوم الملحمة الكبرى في آخر الزمان، وما بينهما من أحداث كبرى في التاريخ. كما أن الانتصار على البويهيين لم يكن إلا بنهوض دولة سنية قوية وليس بالحروب الكلامية الطائفية كالتي يؤججها بعضنا اليوم، وقبل ذلك تعاون العلماء مع البويهيين في محاربة الروم على نحو ما جاء في البداية والنهاية لابن كثير وغيره. وأما سقوط الدولة الفاطمية فقد كانت بدايته نجدة نور الدين زنكي للوزير العبيدي الفاطمي شاور ضد الصليبيين وخصومه المتحالفين مع الفرنجة، وقبل أن يحكم صلاح الدين مصر صار هو الوزير لدى الخليفة الفاطمي العبيدي، ولم ينهِ الدولة الفاطمية إلا بعد عملية إصلاحية عظيمة مسنودة بالشوكة السلطانية، وليس بالعجز والكسل ومهادنة الاستبداد العلماني في بلادنا العربية والحروب الكلامية بين الشيعة والسنة.


وبناءً على كل هذا فإن الأولوية في العمل هي إقامة الدولة المسلمة الراشدية (أو على الأقل أن تكون مثل الدول السلجوقية أو الزنكية أو الأيوبية أو العثمانية، التي يذكر أمجادها المعادون لإيران، وهي لا شك مجيدة على ما فيها من ابتعاد عن حكم الراشدين)، وليس المعارك الطائفية داخل مجتمعاتنا بما لا يزيدنا إلا ضعفًا ومهانة. إن هذا الحماس ضد إيران والشيعة المبثوث في مواقف الطائفيين أو المكلومين من ظلمهم، يجب أن يتوجه أولًا لإقامة الدولة المسلمة المستقيمة على شرع الله، وإنهاء تلك الدول السنية العلمانية العميلة التي تخذل فلسطين وتتآمر عليها وتحاصر غزة، والتي يقبع تحت سلطتها ويأتمر بأمرها بعض الإسلاميين الذين يهجمون على إيران في هذه الحرب.

سابعًا – إن الذين يتكلمون عن المآسي التي حدثت في سوريا واليمن والعراق لا يفرقون بينها ولا يغوصون في أسبابها ولا يحملون المسؤولية إلا للجهات المسنودة من إيران، فاحتلال العراق كان بتحالف استعماري أغلب دوله من السنة، فمصر والدول الخليجية السنية هي كذلك التي سلمت العراق مع الأمريكان إلى الإيرانيين، والخذلان والتآمر الذي تعرض له العراقيون من الدول السنية سبب رئيسي لضعفهم، ولهذا السبب انخرط السنة في العراق في العملية السياسية التي يتحكم فيها الشيعة، وبعض القوى السنية اليوم هي حليفة للقوى الشيعية وهم مع إيران في الحرب القائمة. وأما اليمن فإن المؤامرة الكبرى التي وقعت ضد اليمنيين (شوافع وزيديين) هي من السعودية والإمارات، وخطأ بعض الذين يحملون على إيران في حربها ضد الصهاينة أنهم عجزوا عن معالجة المشكلة اليمنية في بداياتها بالحوار الوطني الداخلي، وكان الأمر ممكنًا على ما ذكره لنا من نثق بهم من الفلسطينيين، فهم الذين لعب بهم السعوديون وحاربهم الإماراتيون، وفككوا قوتهم ومزقوا شملهم وضربوا وحدتهم، وقد صاروا اليوم سجناء تحت سلطة السعودية لا يستطيعون مخالفتها في شيء، فهم ضحايا خياراتهم الخاطئة.

وما الحوثيون إلا منتج من منتجات سياسة علي عبد الله صالح والسعوديين المكرة، لم يكن لهم شأن من قبل البتة، فالأرضية التي سمحت بدخول الإيرانيين في اليمن صنعها السعوديون والإماراتيون وغفلة أحبائنا. أما القضية السورية، الجرح الدامي والمظلمة التاريخية العظيمة، فإن للدول السنية مسؤولية كبيرة في خذلان وتفتت المقاومة السنية، غير أنه ما يلفت الانتباه في القضية السورية هو سكوت الذين يريدوننا أن لا نُسند إيران في حربها ضد الصهاينة على أحمد الشرع في حواره وتكتيكاته ومهادنته للروس، وتغاضيهم عن التعاون السوري الروسي القائم والتفاهمات التي وقعت معهم بخصوص وجودهم وبقاء قاعدتهم العسكرية، وكذلك تفاهمات الحكومة السورية الجديدة مع ترامب والتنازلات التي قُدمت من أجل رفع العقوبات. أليست روسيا هي صاحبة البراميل المتفجرة والقتل الجماعي للسوريين؟ أليست أيديهم ملطخة بدماء أطفال غزة؟ فإن قيل إن تلك سياسة شرعية، فلماذا لا تنطبق على الإيرانيين؟

ثامنًا – لا أريد أن أتوغل كثيرًا في ذكر الشواهد الكثيرة من التاريخ الدالة على أن المآسي التي وقعت في سوريا والعراق واليمن هي شأن سياسي أُستُعمل فيه الدين، ولو كنا صادقين لكان اعتراضنا على الأنظمة التي تنتمي إلى العالم السني لا يقل صرامة عن اعتراضنا على إيران، فالذي يعمل على مسخ الدين ونشر الفساد والإلحاد والمجون، ويسلم البلد للاستعمار الأمريكي الغربي، ويعطي الجزية للأمريكان، ويحاصر غزة ويتحالف مع الصهاينة ضد فلسطين، هي الدول السنية وخاصة العربية، تلك الأنظمة التي يسعى كثير منا للتقرب منها ومهادنتها وتجنب معاداتها والسعي إلى نصحها بالتي هي أحسن، بالرغم من أن التجارب المتكررة دلت بأنه لا مجال لتحقيق ذلك، واسأل في ذلك به خبيرًا، وبعضها أبان عن مروق عن الدين بواح ومجون لا حد له وعمالة غير مسبوقة في التاريخ.

تاسعاً – وبالإضافة إلى كل ذلك يجب أن ننتبه بأن المشروع الإيراني التوسعي انتهى بالضعف الشديد الذي أصاب الجناح الذي يمثله، منذ بضع سنوات، ونحن الآن في مفترق الطرق: إما أن ندخل على الشأن الإيراني بالدعم والنجدة كما فعل نور الدين زنكي وشيركوه وصلاح الدين مع الفاطميين لنجعلها في دائرة الأمة، وتركيا تستطيع أن تفعل ذلك لو أرادت ولو استجابت لنصائحنا، على شاكلة ما عليه في هذا الشأن باكستان، نوعًا ما، أو نسلمها للمشروع الغربي الصهيوني إن انهزمت، أو نجعلها إذا خرجت من الحرب سالمة ترتمي في أحضان المشروع الروسي والصيني وهي تحمل أحقادًا عظيمة ضد من خذلها من المسلمين.

وفي الخاتمة أقول لأصحاب المواقف المتشددة ضد إيران، بأن رأيي هو وجهة نظر بكل تأكيد، ولكني موقن به أن دعم إيران في الحرب القائمة هو العمل الصالح الذي نتقرب به إلى الله، ولا يمنعنا من ذلك إلا التعصب الطائفي، الذي قد يكون خفيًا لا ينتبه إليه صاحبه، أو التأثر العاطفي حين لا تلجمه نظرات العقول ومقاصد الشرع العظيم، أو عدم إدراك المآلات والتداعيات، أو المصالح والولاءات التي نسجتها الظروف من حولنا.

لا شك أن معرفة الحق واتباعه ليس بالأمر الهين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأى الغيب رأي العين، كان يدعو في أشرف الأوقات في افتتاح قيام الليل بهذا الدعاء: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).

فكيف بنا نحن الذين اُمْتُحِنَّا بالغيب؟!

فالله سبحانه، نسأله أن تمنّ علينا بمعرفة الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن تكرمنا بمعرفة الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
آمين,

لماذا ندعم إيران ولماذا يجب أن تسْلَم، وكيف نعالج الفتنة الطائفية؟

ما إن اندلعت الحرب بين جمهورية إيران الإسلامية ودولة الكيان حتى اندلعت معها معركة كلامية حامية الوطيس في العالم الإسلامي، وذهب الناس في هذا الأمر ثلاثة مذاهب، منهم من اندفع بلا تردد يدعم إيران، وهم غالبية المسلمين من عموم الناس وكثير من النخب نشرح توجهاتهم في آخر المقال، ومنهم من وقف مع الصهاينة متمنيا هلاك إيران وهلاك المقاومة الفلسطينية بعدها وكل ما يمت بصلة لقوى الإحياء الحضاري للأمة، وهم عملاء الكيان وأمريكا من الحكام والساسة والعلماء والنخب المستلبة حضاريا المنخرطة في المشروع المارق المسمى “البراهمية” والتطبيع و بناء ما يسمونه ” الشرق الأوسط” على ما يريده الاستعمار الغربي الصهيوني، وهناك فئة ثالثة اختلط عليها الأمر، يريد أصحابها هلاك الكيان ومعه هلاك إيران، ولم يتبين لهم ما هي الكفة التي يريدونها أن ترجح، كلما ابتهج المسلمون بالضربات الموجعة التي توجهها إيران للكيان ينزعجون خوفا من أن يكون في ذلك نصر للإيرانيين، وكلما توجهت الضربات المؤلمة لإيران يُخفون ابتهاجهم خوفا من أن يُتهموا بأنهم يساندون الكيان، فترتفع أصواتهم بالدعاء: “اللهم أضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين” في حالة انتظارية غير مجدية وعجز شديد من فعل أي شيء يسلم به المؤمنون، و ينهض به المسلمون بعد أن “يفني الظالمون بعضهم بعضا”! ومن هؤلاء من لا يمكن لومهم، وهم الذين اكتووا بعدوان وإجرام القوى والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، في سوريا والعراق واليمن، إذ مآسيهم المحلية لا تسمح لهم بالارتفاع إلى النظرات الكلية، وأي منا قد يكون له نفس الموقف لو مر  بتجربتهم المفزعة، ولكن ثمة آخرون على ذات الموقف من النخب السياسية والعلمائية، بعضهم طيبون متوقفون عندما وصلت إليه دراساتهم الشرعية والتاريخية لا يقبلون النقاش بخلافها، وبعضهم صادقون سذج ينقصهم الفهم والاطلاع على القضايا الجيوستراتيجية والتدافعات الحضارية العالمية، وما يُرسم من خرائط جيوسياسية مستقبلية، وبعضهم يحكمهم النَّفس الطائفي، بتأثير من توجهاتهم السلفية أو بيئتهم السياسية والاجتماعية والفكرية.

إن المتمعن  في تطورات الحرب الإيرانية الصهيونية يفهم بسهولة بأنها مصيرية ليس للكيان وحده بل لإيران وفلسطين والأمة الإسلامية قاطبة والعالم كله، ولا يمكن لصاحب رسالة أن يكون حياديا بشأنها، وما يساعد على فهم ذلك أبعاد عديدة منها:   

الأبعاد السننية الربانية:

يعلم عدد من قادة المقاومة وقادة التيار الإسلامي بأنني لم أكن من المتفاجئين بطوفان الأقصى، فقد وصفته لهم كما وقع ودعوت  إليه دون أن أسميه ودون أن أعرف ما سيكون اسبوعاً قبل وقوعه، والذين حدثتهم بتفاصيل ما يجب أن يكون بشأن القضية الفلسطينية وواقع الأمة الإسلامية قبل السابع من أكتوبر بعضهم استشهد وبعضهم لا يزال على قيد الحياة،  يشهدون بما ناقشته معهم بهذا الخصوص.

كنت أقول لهؤلاء بأن الأمة وحركاتها الإصلاحية قد خسرت كل شيء بخصوص مشروعها الحضاري، ففلسطين في طريق التصفية في كل ملفاتها، والحركات الإحيائية خرجت من الفعل، فهي إما مستأصلة من قبل الاستبداد أو قابعة تحت سقوفه،  وبعض قادتها قبلوا الاندماج في بيئة الاستبداد خوفا منه أو طمعا في ما يمنحه لهم من مصالح، ولو كانت مجرد اعتراف بوجودهم ووجاهة شخصية في بيئتهم ، ولا بد حيال ذلك من قلب الطاولة على الجميع لإعادة بناء التوازنات،  ولا يكون ذلك إلا بعمل مقاوم في فلسطين غير مسبوق، يفسد مخططات تصفية القضية ويحرك العالم العربي والإسلامي ويبعث مشروع الاستنهاض الحضاري من جديد، ويربك الهيمنة الأمريكية الغربية الظالمة.

وحينما حدث طوفان الأقصى، قلت  في أسبوعه الأول بأننا نعيش ” حالة سننية”، من الحالات التي تأتي في زمن يتغول فيه الظلم إلى درجة التربّب ويستكين المظلوم ويستسلم، فتغير تلك الحالة الموازين فتكسر الظالمين وتظهر ضعفهم، وتعطي في المقابل فرصة للمظلومين لعلهم ينتفضون ليدافعوا عن أنفسهم وعن قضاياهم.

إن الحرب الإيرانية الصهيونية هي نتيجة من نتائج الطوفان وإفرازاته، تماما كما هي الأحداث التي وقعت في سوريا، وما يحدث في العالم من تحولات عميقة على مستوى الرأي العام والتحولات السياسية والفكرية والاجتماعية في العالم، علاوة على الصمود الذي يتجاوز المعقول لدى الشعب الغزاوي، وبطولات المقاومة الخارقة.

فطوفان الأقصى لم يأت كمعركة عادية مع الكيان، ولكنه تحول سنني يحرك الأحداث الكبرى في فلسطين وإقليميا ودوليا نحو  نهاية الكيان ونهضة الأمة الإسلامية. وضمن هذا المآل يجب وضع الحرب القائمة بين إيران والكيان، فهي حرب مباركة من بركة فلسطين وطوفان الأقصى، ولا يمكن أن تنتهي إلا لصالح المسلمين، كل المسلمين بكل طوائفهم التي تنتمي لملة المصطفى عليه الصلاة والسلام .. مهما كانت الخسائر التي يتكبدها الإيرانيون.

التحولات الداخلية الإيرانية:

لا يدرك الغارقون في الفكر الطائفي ما وقع من تحولات عميقة في إيران قبل حدوث الطوفان،  حيث أن مشروع المقاومة الذي اعتُقد أن الإيرانيين كانوا يأخذون منه شرعية كبيرة  للتمدد في المنطقة قد انكسر وتراجع داخل إيران ذاتها، وقد عبّر عنه صعود الإصلاحيين المفاجئ في الانتخابات الرئاسية السابقة الذي اضطرّ المرشد العام إلى التأقلم معه كأمر واقع.  والإصلاحيون تيار قوي سياسيا، تسنده شبكة “البازاريون” الذين يتحكمون في جزء كبير من التجارة والاقتصاد الإيراني، ومعه شبكة كبيرة من المفكرين ونشطاء المجتمع المدني، يتفقون كلهم على مخطط انكفاء إيران على نفسها، والعمل لكي تتحول إلى دولة ذات مشروع قومي، على النمط التركي، صاعدة اقتصاديا وعلميا وعسكريا غير منخرطة في المواجهات الإقليمية، ومتحالفة مع القوى الدولية الصاعدة.

لقد أدرك المحافظون خسارتهم داخل إيران فحاولوا حماية خط المقاومة خارجيا من التحولات الجارية داخل دولتهم،  ولكنهم فشلوا في ذلك بسبب الاختراقات الداخلية التي قضت على السليماني وكانت سببا رئيسيا في الخسائر التي تكبدها حزب الله في حربه ضد الكيان  دفاعا عن غزة، وخصوصا عند استشهاد زعيمه نصر الله، الذي كان زعيما روحيا لخط المقاومة الذي يسنده المحافظون كله.

لقد كانت نتائج المواجهة في لبنان لصالح التيار الإصلاحي لو تركهم الأمريكان والصهاينة في حالهم، ولكن لم يكن لهذه القوى الاستعمارية أن تسمح بنهضة إيران دون أن تنزع مخالبها وسيادتها – ولو قررت الانكفاء على نفسها –   فلا بد من إخضاعها بالقوة  لكي تكون بعد هزيمتها دولة تابعة بلا سيادة كما هو شأن الدول العربية في العالم السني.

لقد دفعت السياسة الأمريكية والعدوان الصهيوني إيران إلى اجتماع  كل قواها ونسيان خلافاتها لتدافع عن نفسها، ولكي تفشل  العدوان والمخططات الأمريكية. ولو تضامنت الدول والشعوب السنية مع إيران لثبّتت مشروع رجوع إيران إلى حجمها في الأمة والانكفاء على نفسها كجزء من العالم الإسلامي وقوة المسلمين، بما يسمح بالتعايش والتحالف معها لصالح الإسلام والمسلمين،  ولكن الخيانات التي وجدتها من الدول التي تشارك في  اعتراض صواريخها سيكرر تجربة التصلب الإيراني بعد بدء الحرب ضدها من قبل صدام حسين المسنود آنذاك من الدول الخليجية، وذلك الذي يعمل كثير من الواعين حضاريا الصادقين في مواقفهم على منعه بالعمل لوجه الله تعالى لتكون الأمة الإسلامية كلها إلى جنب إيران ضد الصهاينة.

لا شك أن إيران ستتلقى في الحرب القائمة ضربات موجعة وستتكبد خسائر عظيمة لن تتعافى منها بسهولة ولكن يجب عليها أن تُفشل أهداف العدوان المتمثل في وقف برنامجها النووي وتدمير صواريخها الباليستية وتدمير دولتها، ولكي لا تُسلّمَ إيرانُ بعد ذلك كلها إلى نخب علمانية عميلة للأمريكان والصهاينة فتكون أشد على العرب والمسلمين وعلى فلسطين من الأنظمة العربية الخائنة لله ورسوله والمؤمنين المشاركة في حصار غزة والتآمر على المقاومة. وأنا أتعجب حقيقة من بعض من يحسن الحديث عن فقه الأولويات والمقاصد والقواعد الشرعية، خصوصا قاعدة انفكاك الجهة، كيف يعميهم التعصب فلا يبصرون المآل لو انتصر المخطط الأمريكي الصهيوني في إيران، أتعجب حقيقة كيف يجهلون وقوف علماء كبار من المذاهب السنية مع حكام روافض في بعض حروبهم ضد الروم، وتشجيعهم على قتالهم، ذكرهم بذلك ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” الجزء الحادي عشر ، كالفقيه أبو بكر الرازي الحنفي، وأبو الحسن علي بن عيسى وابن دقاق في دعمهم للحاكم البويهي باختيار عز الدولة بن معز الدولة مؤسس الدولة البويهية الشيعية التي احتلت بغداد وتسلطنت على الخلافة العباسية.

لو استطاع الكيان أن يدمر قوة الرد الإيراني من الضربة الأولى لحقق الأهداف المعلنة مبكرا،  ولكن تلقيه ضربات صاروخية إيرانية متتالية في العمق الإسرائيلي وتدمير عدد كبير من المقرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية وتدمير هائل للبنايات والمؤسسات العلمية والاقتصادية، كما لم يحدث منذ تأسيس الكيان، قد يتيح لها هامشا للأمان في مواجهة الحلف العالمي الصهيوني الغربي العربي ضدها بما يجعلها تستمر كدولة تحاول بناء نفسها من جديد بعد الحرب.

إن طاقة الصمود متوفرة عند الإيرانيين أكبر مما لدى الإسرائليين، وذلك بسبب فروق مهمة لصالح إيران تتعلق بالجغرافيا وعدد السكان، وخبرة واستعدادات تحمل أعباء الحرب ومشاهد النار والدمار  والقتل في المدن والقرى الصهيونية . مع حسبان التطور المهم الذي وقع في صعوبة التدخل الأمريكي المباشر لصالح الكيان، وما يتعلق بتوريد السلاح والمعدات لصالح ايران من قوى شقيقة وصديقة لأسباب جيوستراتيجية.

التحولات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية.

لم يكن العالم أقرب إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة كما هو الحال مع هذه الحرب الإيرانية الإسرائيلية، فرغم أبعادها العدائية المعلومة بين البلدين يمكننا القول أنها تحولت إلى حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية، بين أمريكا والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، وهي تطورات في صالح إيران ولا شك، وسيجعل ذلك أمريكا تراجع دعمها المباشر للكيان خوفا من أن تتورط في حرب عالمية تضعف الرؤية الاقتصادية التي يؤمن بها رئيسها ترامب وتورطها في حرب برية ستخسرها من جديد كما خسرت في الصومال وأفغانستان والعراق من قبل. غير أن الغياب الإسلامي العربي في هذه المواجهة وقوة اللوبيات الصهيونية في الصين وروسيا لصالح الكيان يجعل تفاؤلنا نسبيا.

لقد انخرطت إيران منذ سنوات ضمن المحور الصيني الروسي المعادي لأمريكا، وقد تم إدماجها  في منظمة البريكس وهي منظمة تعمل على تحقيق التوازن الاقتصادي في مواجهة الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، وتم إلحاقها كذلك بمنظمة شنغهاي، وهي منظمة أمنية تأسست لمواجهة القوى الأمنية العسكرية الغربية الأمريكية، فصارت الصين وروسيا أقرب إلى إيران من أي دولة عربية وإسلامية أخرى، وقد قدمت إيران لروسيا مساعدات عسكرية معتبرة في حربها مع أوكرانيا ولا يمكن لروسيا أن تغفل عن أهمية مساعدة إيران بشكل ما  في مواجهة العدوان الاسرائيلي الذي هو عدوان أمريكي بالأصالة، كما أن هزيمة إيران وسقوطها في حضن المعسكر الغربي يمثل خطرا على خطوط التوريد الصينية و مشروع الطريق  والحرير ويضعف رؤية الصين للتحول من الأحادية القطبية الدولية الأمريكية إلى التعددية  القطبية الدولية التي تنتهي فيها الهيمنة الأمريكية على العالم.

ومما يجب ملاحظته التطور المهم الذي حدث في السياسة الخارجية الباكستانية، من ناحية أن باكستان أدركت بأنها تتعرض لتهديدات كبيرة من دولتين حليفتين للولايات الأمريكية المتحدة، هما الهند التي تجرّأت على انتهاك الأجواء الباكستانية وقصف مواقع في داخلها وقتل عدد من السكان، والكيان الصهيونى الذي صرح زعيمه المجرم نتنياهو بأنه بعد إنهاء الدور الإيراني سيتجهون إلى إنهاء دور باكستان وتدمير سلاحها النووي.  

لقد أدى هذا الإدراك الباكستاني إلى تعميق تقاربها التقليدي مع الصين في مواجهة الخصم الهندي القديم المشترك، والاعتماد على السلاح الصيني ضد السلاح الأمريكي الأوربي الذي تملكه الهند، وذلك رغم علاقاتها الوطيدة مع الولايات الأمريكية المتحدة. وضمن هذه التحالفات الجديدة ضد الهيمنة الأمريكية أظهرت باكستان علانية تأييدها لإيران وباتت الأخبار التي تفيد بوجود عمليات توريد السلاح والمعدات الحربية من الصين وروسيا عن طريق باكستان غير خافية عن المتابعين، وذلك لا شك سيعين إيران على صمودها في مواجهة الجبهة الداخلية الإسرائيلية المتداعية.

إن هذه التحولات الإقليمية والدولية توفر هوامش مهمة وفرصا ثمينة لنهضة المسلمين، وستتعزز هذه الهوامش والفرص لو خرجت إيران سالمة من هذه الحرب القاسية، ولا نقول هذا من منطلق  العاطفة والاندفاع ما دامت إيران تواجه إسرائيل على نحو ما هو عليه كثير من المساندين لإيران دون النظر إلى أخطائها الجسيمة ومشاركتها المباشرة في جرائم المليشيات الشيعية في سوريا مثلا، ولا نقوله بدافع التقارب الفكري والسياسي والمصلحي مع إيران كما هو حال بعض من نعرفهم في العالم العربي،  ولكنه رأي طائفة من الواقفين معها على أساس رؤية شرعية حضارية كبيرة تقوم على المسلمات التالية:

  • تعاضد المسلمين ونصرة بعضهم بعضا واجب شرعي لا تقف أمامه التوجهات الطائفية التكفيرية، وشيعة إيران مسلمون عند جمهور العلماء، ولا عبرة بغلاة الشيعة المارقين عن الدين عندهم الذين هم أقلية، على نحو ما هم عليه أقلية غلاة السنة التكفيريين عندنا،  وما وقع من ظلم وعدوان إيراني على أهلنا في سوريا والعراق واليمن هي جرائم سياسية وقع مثلها في التاريخ من كل المذاهب، ويوجد مثلها في عصرنا الحديث على يد حكام مستبدين من السنة، وإنما يُستعمل الدين والمذهبية عند هؤلاء وهؤلاء لأغراض السلطوية. ورغم  تفهمنا لمواقف من وقع عليهم العدوان في سوريا والعراق واليمن، وضرورة جبر خواطرهم وضمان حقوقهم،  لا يجب على قادة الأمة وعلمائها أن يقفوا عند تلك الأحداث بما يجعلنا ندمر بعضنا بعضا داخليا في مواجهة عدو يريد الشر بنا جميعا، بكل طوائفنا،  ويسعى لجعلنا جميعا تحت سيادته وإرادته،  وإنهاء ديننا وحضارتنا إلى الأبد.   
  •  إن انتصار ايران في الحرب القائمة، أو خروجها على الأقل سالمة،  هو  انتصار لفلسطين، وفيه خلاص أهلنا في غزة مما يتعرضون إليه من ظلم عظيم وعدوان بلغت همجيته عنان السماء.
  • إن انتصار إيران هو هزيمة للاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي المساند للكيان والمشارك في حصار غزة.
  • إن انتصار إيران هو هزيمة للولايات الأمريكية المتحدة وحلفائها الأوربيين الذين هم سبب كل بلائنا، كما أن ذلك سيساعد على انتقال العالم إلى التعددية القطبية التي تمنحنا هوامش واسعة لنهضة عالمنا الإسلامي.

وعلى أساس كل ذلك إن المشروع الذي يشتغل عليه الذين يساندون إيران انطلاقا من رؤية الاستنهاض الحضاري للأمة يرون أن حل مآسي الأمة لا يكون بمحاربة إيران وإشعال نيران الطائفية، فإن في ذلك مصلحة القوى الصهيونية الغربية الاستعمارية الغاشمة،  وإنما الحل  بنهضة الدول السنية وخروجها من التبعية واسترجاع سيادتها وتحقيق وحدتها، ولو وقع ذلك ستُنسّب إيران طموحها وتأخذ مكانها الطبيعي كأقلية  في الأمة وجزء منها، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك يطول استحضارها، وهذا الذي يعمل عليه زمرة من القادة في العالم الإسلامي ، ليس على الصعيد النظري فقط، بل على الصعيد الميداني كذلك، وقد يبدو هذا الحلم جنونا، ولكن صدق من قال: ” أحلام اليوم حقائق الغد” والله المسدد والموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله.

العلاقات الجزائرية الفرنسية وكيف ينبغي أن تكون

سبق للعلاقات الجزائرية الفرنسية أن عرفت توترات عدة مرات منذ الاستقلال، ثمّ عادت المياه إلى مجاريها  المفضلة في كلّ مرة،  حتى شبّهها بعض الذين يتفننون في إيذائنا بأنّها “علاقة زوجين يتناوشان كثيرا ثم يعودان إلى بعضهما البعض، ومن يتدخل بينهما يندم على ذلك”.
 لا شكّ أنّ التوتر في المرحلة الراهنة بلغ حدّا غير مسبوق، ولكن بلا شك ستعود الأمور إلى مسارها المبجل ويتأكد أمان المصالح الفرنسية كما كان عليه، ومن يستهين بقوة اللوبيات الفرنسية وشبكات الفساد الخادم لفرنسا وتأثير الفرونكوفيليين المتطوعين لخدمة المصالح الفرنسية في بلادنا مخطئ. 
إنّ الضجة القائمة والظواهر الصوتية المكرِّرة، دون وعي -كما العادة- لتوجهات رسمية  قررت الدخول في معارك كلامية مع فرنسا لا تعبّر البتة عن إرادة حقيقية لقطع دابر الامتيازات الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تحظى بها دولة الاستعمار  في بلدنا،   مازالت لغة المستعمر سيدة في تعاملات  العديد من الوزارات والمديريات ومختلف المؤسسات الرسمية، وهي لغة الاتصال السائدة عند كثير من المسؤولين، وماتزال العلاقات الاقتصادية التجارية والمالية مع فرنسا في المراتب الأولى بين الدول، وما تزال لغة المستعمر مفضلة في المؤسسات التعليمية في العديد من الشُّعب رغم تدحرج اللّغة الفرنسية في هذا المجال دوليا، ولم تُزعزِعْ التصريحات النارية لشبكات الفاعلين في المعركة القائمة وضعَ لافتات المحلات التي تهيمن عليها اللّغة الفرنسية، بل إنّ الأمر زاد عمّا كان عليه في سنوات سابقة فباتت بعض المؤسسات الرسمية الكبرى تشترط لمن يتعامل معها لنيل الصفقات أن تكون اللغة المستعملة في الملف اللغة الفرنسية حصرا (وقد صدمت حقا حين أظهر لي أحدهم نموذجا عن ذلك لمؤسسة جزائرية عريقة). والأغرب من كلّ هذا أن الجهات الرسمية والأحزاب الموالية هي التي تعطل إلى اليوم مشروع قانون تجريم الاستعمار في البرلمان الجزائري.
إنّنا لا نحتاج إلى الضجيج الإعلامي والتصريحات النارية من المسؤولين، أو من شبكات الزبونية التي تضبط بوصلتها دوما وفق ما يريده الحاكم، وتدور مع إرادته حيثما دار وكأنّه هو القرآن المنزل من الله تعالى. 
إنّنا نحتاج إلى رؤية وطنية واضحة وخطط وإجراءات هادئة تنفذ فعليا، ولو بالتدرج المتصاعد، دون الحاجة لتهييج العواطف بلا فائدة تذكر. 
إنّنا نحتاج أوّلا أن نعلم أنّ مشكلتنا مع الدولة الفرنسية ليست مع اليمين المتطرف فقط كما يحاول الذين يريدون استعمالنا في المعركة القائمة لإبقاء فرصة العودة إلى العلاقة الحميمية مع فرنسا قائمة. لقد كانت مشكلتنا سابقا مع اليسار التقليدي، وعرفت حدّا يشبه حالة اليوم في زمن “فرانسوا ميتيران”، وبقي هذا التيار الذي يمثّل البيت الأصلي للصهيونية الفرنسية هو العدو اللّدود للجزائر، ومن يعرف تاريخ هذا التيار وكيف تشكل يفهم ما نقول. ومشكلتنا اليوم  مع من يسمون أنفسهم “تيار الوسط” بزعامة إيمانويل ماكرون هي المشكلة الحقيقية ، ولم ينكر وجودنا كأمّة ولم يؤذ ذاكرتنا كما فعل هذا الرئيس الفرنسي.
لقد حاول المسؤولون الكبار في الدولة الجزائرية أن يزيّنوا لنا صورة الرئيس الفرنسي “ماكرون” ووصفوه لنا بأنه شاب ذو نوايا طيبة ويريد أن يفتح صفحة جديدة مع الجزائر، وأنه لا علاقة له بأفكار “الجزائر الفرنسية” التي يحملها اليمين المتطرف، وأنّ أصحاب تلك الأفكار هم الذين يضغطون عليه. 
لقد نبهت في مقال نشرته بضعة أسابيع بعد صعود “ماكرون” للرئاسة في عهدته الأولى، ونصحت بعض المسؤولين مباشرة بأنّ هذا الرجل هو الأخطر من بين الساسة الفرنسيين، وبينت بالدلائل بأنه صنيعة الصهيونية والماسونية والمؤسسة المالية العالمية الاستعمارية، وشرحت كيف اِلتقطه “جاك أتالي” أحد أهرامات الصهيونية الفرنسية من الجامعة ووضعه في “بنك روتشيلد” ثم ضمّه إلى لجنته – “لجنة أتالي” من أجل النمو الاقتصادي الفرنسي -، وعرّفه إلى الرئيس اليميني ” نيكولاس ساركوزي” ثم إلى الرئيس اليساري “فرانسوا هولاند” ثم تمّ دعمه ليصل الى مراتب عليا ووزارات مهمة في الدولة الفرنسية، إلى أن تمّ ترشيحه لرئاسة الجمهورية في وقت عرفت فيها فرنسا أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة أدّت إلى توجه بيّن إلى التشدد نحو اليمين ونحو اليسار حتى في الأحزاب التقليدية، كان من الممكن أن يؤدي إلى صعود رئيس للجمهورية من اليمين أو اليسار لا تتحكم فيه الصهيونية العالمية،  مما صنع فراغا كبيرا في “الوسط” بين اليمين واليسار اِستغله مساندو “ماكرون” بتسخير كل وسائل الإعلام الثقيلة لتلميعه وإيهام الشعب الفرنسي -خاصة الأقليات- بأنّ الحل عنده.
لقد شرحت اللعبة في ذلك المقال ( مايزال منشورا)  وتنبأت بأن “ماكرون” لن يحل مشكلة فرنسا، ووقع ذلك فعلا بخروج الفرنسيين البيض الى الشوارع ضمن اِنتفاضة أصحاب “السترات الصفراء” التي لم يوقفها سوى وباء كورونا. 
لم يجد الساسة الفرنسيون، على اختلاف توجهاتهم لحلّ مشاكلهم الاقتصادية سوى اِستنزاف خيرات المستعمرات الفرنسية القديمة، كما هي عادتهم، ومنها الجزائر التي رأينا كيف سُخرت بحبوحتها المالية في العهدة البوتفليقية لإنقاذ العديد من المؤسسات الفرنسية المفلسة. 
وللأسف في الوقت الذي تنتفض فيه إفريقيا ضد ذلك الاستغلال والهيمنة، ما زلنا في بلادنا نكتفي بالتصريحات والضجيج الإعلامي. 
ليس المطلوب أن ندخل في حرب مع فرنسا، بأيّ شكل من أشكال الحروب -إلا في حالة العدوان- ولا أن نقطع العلاقات معها، ولكن ما ينبغي فعله هو العمل بصمت وفق الرؤية والإجراءات التالية: 
تمرير قانون تجريم الاستعمار في البرلمان. 
اِسترجاع الأرشيف ورفات الشهداء وخرائط الألغام والوثائق والمعلومات المتعلقة بالتجارب النووية والكيمياوية وكل ما يتعلق بملف الذاكرة. 
تقنين مسألة اعتراف فرنسا بجرائمها والاعتذار عن ذلك والتعويض عن الضرر كما فعلت دول أخرى مع مستعمراتها القديمة وكما تطلب فرنسا ذلك من غيرها، ثم ترك هذا المطلب يتفاعل تلقائيا دون صخب وفق تطورات موازين القوة دوليا. 
إنهاء الهيمنة الثقافية الفرنسية في التعليم وإنهاء اِستعمال اللغة الفرنسية في المراسلات والخطاب والتعاملات الرسمية  وكأنّها لغة رسمية فعلية.
وقف تجميد قانون تعميم اِستعمال اللغة العربية. 
إنهاء الاشتباك المفتعل بين اللغة العربية والأمازيغية، ومنع أي جهة خارجية لاستعمال التنوع السكاني في الجزائر، وتعميق أواصر الأخوة والمحبة بين الجزائريين بمختلف أعراقهم، وتجريم أي خطاب عنصري أو مؤجّج للفتنة، والتعامل مع كل السكان ونواحي البلد في إطار العدل والمساواة والتضامن.  
معالجة الهيمنة الثقافية الفرنسية في المحيط وتقنين الاستعمال الأبرز للّغة الوطنية دستوريا  في لافتات المحلات والمؤسسات. 
منع أي اِمتياز خاص لفرنسا في النشاط الاقتصادي ومراجعة صفقات الامتياز القائمة كلّها. 
ضبط معايير محددة لضمان سلامة وكرامة وحقوق الجزائريين المقيمين في فرنسا وتمكينهم من المساهمة في خدمة بلدهم واِرتقائهم فيه في مختلف المجالات. 
 توجيه مكونات الجالية الجزائرية في فرنسا، لا سيما المجنسين، لينظّموا أنفسهم ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا حتى يكونوا فاعلين مؤثرين قادرين على حماية قيمهم ومصالحهم وخدمة بلدهم الأصلي كما هو حال العديد من جاليات مختلف الدول في أنحاء العالم ( la Diaspora).
بناء قوة ناعمة جزائرية داخل التراب الفرنسي في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية وغير ذلك ضمن إطار القوانين الفرنسية. 
تطوير جهاز الاستخبارات والمقدرات الاستشرافية الأمنية لحماية المصالح الجزائرية من المخططات العدائية الفرنسية القائمة والمحتملة. 
بناء التحالفات مع الدول الواعية التي تدافع عن نفسها  ضد تهديدات المستعمر القديم المختلفة.  
التعامل الدبلوماسي المعمول به دوليا مع الأزمات دون صخب ولا ضجيج، من التنبيه إلى اِستدعاء السفير الفرنسي للجزائر، إلى سحب السفير الجزائري في فرنسا، إلى خفض التمثيل، إلى مراجعة الاتفاقيات، إلى قطع العلاقات، إلى التطور الإيجابي في الاتجاه المعاكس حسب التطور الإيجابي للعلاقات.  
والانتهاء إلى تثبيت العلاقات مع فرنسا كعلاقة عادية غير عدائية ما لم تتعرض الجزائر للعدوان ولا مفضّلة كما هي العلاقة مع الدول الشقيقة والصديقة،  تقوم على أساس المصالح المشتركة، و لا تقبل التطور  الإيجابي إلا بعد تجسيد كل النقاط السابقة وبقدر تحقّق المصالح الجزائرية.  
وأثناء تجسيد هذه الرؤية؛ الالتزام بالرزانة الرسمية وعلى مستوى النخب وتجنّب التصريحات والهيجان الكلامي والمعارك الهامشية والتركيز على الفعل والإنجاز.