أكتب مرة أخرى في شأن الحرب القائمة بين إيران والصهاينة وأساهم مع غيري في ضبط البوصلة ومعالجة حالة الهيجان الذي تفتق لدى العديد من الأفاضل ضد إيران، بالتشفي والحملات الإعلامية، بما يجعلهم – دون شعور منهم – ضمن البروباغندا الصهيونية في إدارة عدوانها ضد إيران.
ومما يمكن أن أُذَكِّر به مجددًا ما يلي:
أولًا – الرأي في الحرب القائمة بين الصهاينة وإيران كان مبنيًا عند عدد من العلماء والمفكرين والقادة على قناعات سابقة في مسألة الطائفية، القائمة على الدراسات الشرعية والحضارية والفهم الصحيح للأحداث التاريخية في الأمة والتحولات الجارية في العالم. ومع وقوع الحرب وتطور آثارها أصبح هذا الرأي معبرًا عنه أكثر ومجاهرًا به من المجاميع العلمية والفكرية والسياسية المقدَّرة في الأمة، كالأزهر، والموقف الرسمي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والإخوان المسلمون وكل الحركات الإسلامية والإصلاحية، بل حتى الدول السنية قاطبة (سواء كانت صادقة في هذا أم لا). فالأمة في المجمل منحازة لإيران في شرق العالم الإسلامي وغربه، ولم يخالف هذا الاتجاه سوى إخواننا السوريين واليمنيين وبعض العراقيين وبعض النخب من الاتجاهات الإسلامية والعلمانية.
ثانيًا – المواقف المعادية لإيران في زمن الحرب محكومة عند كثير من أصحابها بظروف العدوان الذي وقع على أهلنا في هذه الدول الثلاث، وذلك أمر مفهوم ومقدَّر، ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حاكمًا على الأمة كلها، ولا يجب أن تؤثر فينا اعتراضات واحتجاجات إخواننا وأخواتنا (وأكثرهم من سوريا) مهما كان حبنا لهم وتضامننا معهم، ومهما كان قربهم منا والنفع المتبادل بيننا وبينهم، فالحق أعز منهم ومنا ومن أهلنا وأبنائنا.
ثالثًا – إن المواقف المعادية لإيران في الحرب القائمة متأثرة بهذه الحالات الخاصة فلا ينظر أصحابها إلى المخاطر العدائية التي تهدد الأمة كلها بنفس الدرجة، فهي تركز بالمجمل على الخطر “الإيراني الشيعي” أكثر من تركيزها على الخطر الغربي الصهيوني الاستعماري الذي لا يحتل ثلاث دول فقط، على حد قولهم، بل يسيطر على دول العالم الغربي كله وباتت تأخذ من حكامها الجزية جهارًا نهارًا، وخلفية الحملات ضد إيران هي مرافعة منحازة لإقناع المتابعين بعدم مساندة إيران في هذه الحرب دون النظر إلى مآلات وتبعات انهزامها على الأمة.
رابعًا – الذين يُخرجون الشيعة من الإسلام تكفيريون، يخالفون رأي جمهور العلماء وما ذهب إليه عموم علماء السلف والخلف، وهم مع ذلك يؤججون مشاعر الطائفية عند عموم الشيعة ويظلمون شعبًا بكامله في إيران مع ما فيه من تنوع، ويسجلون على أنفسهم موقفًا مشينًا لن ينساه التاريخ. فيتهمون الإيرانيين بأنهم مجوس، وهذا انحراف عن جادة الشرع، وتارة فرس، ولا عيب في أن يكون المسلم فارسيًا، فالفرس أول الشركاء مع العرب في انبعاث الحضارة الإسلامية العظيمة، والذين شيعوا إيران ليسوا فارسيين، بل حكام الدولة الصفوية الأتراك، وعلماء الشيعة العرب.
خامسًا – حتى وإن اختلفنا في التصنيف والحكم على المشروعين الإيراني والصهيوني، فإن الأمر اليوم يتعلق بحرب قائمة، والواجب النظر إلى مآلاتها نظرة شرعية مقاصدية واعية. إنه لا يختلف عاقلان بأن هزيمة إيران تعني التحكم الكلي في المنطقة وتمكين الصهاينة والأمريكان والغرب من رقابنا ونهاية القضية الفلسطينية، وتسلط الاستبداد والعمالة والتطبيع، بل معنى ذلك تحكم المشروع الغربي الصهيوني في العالم بأسره لقرن مقبل، فأي عقل هذا الذي لا ينظر إلى المآل، ويفرض علينا أن لا ننظر إلى المسألة إلا من زاوية ما وقع سابقًا في سوريا واليمن والعراق.
سادسًا – إن موقف الانحياز إلى إيران في هذه الحرب موقف شرعي قبل أن يكون سياسيًا، ونحن بكل تأكيد لا نفرق بين السياسة والشرع، وإلا كنا علمانيين متصارعين على السلطة لا غير.
وثمة قواعد أصولية كثيرة توجب الوقوف مع إيران رغم وجوب معارضتها والوقوف ضدها في القضايا الأخرى المشار إليها، ومنها قاعدة “انفكاك الجهة” التي تعني أن الفعل الواحد قد يكون له جهتان مختلفتان، بحيث يمكن أن يكون مأمورًا به من جهة، ومنهيًا عنه من جهة أخرى، دون أن يكون هناك تلازم بين الجهتين بحيث يستحيل اجتماعهما.
كما أن القرآن الكريم وجه المؤمنين لابتهاج بانتصار الروم على الفرس، وفسر كثير من المفسرين بأن ذلك نصر من الله للروم، بالرغم من أن العداء الأبدي بين المسلمين وغيرهم، هو العداء مع الروم، فقد بدأ ببعث الجيوش لمحاربتهم قبل غيرهم منذ بعث أسامة وغزوة مؤتة وتبوك، إلى يوم الملحمة الكبرى في آخر الزمان، وما بينهما من أحداث كبرى في التاريخ. كما أن الانتصار على البويهيين لم يكن إلا بنهوض دولة سنية قوية وليس بالحروب الكلامية الطائفية كالتي يؤججها بعضنا اليوم، وقبل ذلك تعاون العلماء مع البويهيين في محاربة الروم على نحو ما جاء في البداية والنهاية لابن كثير وغيره. وأما سقوط الدولة الفاطمية فقد كانت بدايته نجدة نور الدين زنكي للوزير العبيدي الفاطمي شاور ضد الصليبيين وخصومه المتحالفين مع الفرنجة، وقبل أن يحكم صلاح الدين مصر صار هو الوزير لدى الخليفة الفاطمي العبيدي، ولم ينهِ الدولة الفاطمية إلا بعد عملية إصلاحية عظيمة مسنودة بالشوكة السلطانية، وليس بالعجز والكسل ومهادنة الاستبداد العلماني في بلادنا العربية والحروب الكلامية بين الشيعة والسنة.
وبناءً على كل هذا فإن الأولوية في العمل هي إقامة الدولة المسلمة الراشدية (أو على الأقل أن تكون مثل الدول السلجوقية أو الزنكية أو الأيوبية أو العثمانية، التي يذكر أمجادها المعادون لإيران، وهي لا شك مجيدة على ما فيها من ابتعاد عن حكم الراشدين)، وليس المعارك الطائفية داخل مجتمعاتنا بما لا يزيدنا إلا ضعفًا ومهانة. إن هذا الحماس ضد إيران والشيعة المبثوث في مواقف الطائفيين أو المكلومين من ظلمهم، يجب أن يتوجه أولًا لإقامة الدولة المسلمة المستقيمة على شرع الله، وإنهاء تلك الدول السنية العلمانية العميلة التي تخذل فلسطين وتتآمر عليها وتحاصر غزة، والتي يقبع تحت سلطتها ويأتمر بأمرها بعض الإسلاميين الذين يهجمون على إيران في هذه الحرب.
سابعًا – إن الذين يتكلمون عن المآسي التي حدثت في سوريا واليمن والعراق لا يفرقون بينها ولا يغوصون في أسبابها ولا يحملون المسؤولية إلا للجهات المسنودة من إيران، فاحتلال العراق كان بتحالف استعماري أغلب دوله من السنة، فمصر والدول الخليجية السنية هي كذلك التي سلمت العراق مع الأمريكان إلى الإيرانيين، والخذلان والتآمر الذي تعرض له العراقيون من الدول السنية سبب رئيسي لضعفهم، ولهذا السبب انخرط السنة في العراق في العملية السياسية التي يتحكم فيها الشيعة، وبعض القوى السنية اليوم هي حليفة للقوى الشيعية وهم مع إيران في الحرب القائمة. وأما اليمن فإن المؤامرة الكبرى التي وقعت ضد اليمنيين (شوافع وزيديين) هي من السعودية والإمارات، وخطأ بعض الذين يحملون على إيران في حربها ضد الصهاينة أنهم عجزوا عن معالجة المشكلة اليمنية في بداياتها بالحوار الوطني الداخلي، وكان الأمر ممكنًا على ما ذكره لنا من نثق بهم من الفلسطينيين، فهم الذين لعب بهم السعوديون وحاربهم الإماراتيون، وفككوا قوتهم ومزقوا شملهم وضربوا وحدتهم، وقد صاروا اليوم سجناء تحت سلطة السعودية لا يستطيعون مخالفتها في شيء، فهم ضحايا خياراتهم الخاطئة.
وما الحوثيون إلا منتج من منتجات سياسة علي عبد الله صالح والسعوديين المكرة، لم يكن لهم شأن من قبل البتة، فالأرضية التي سمحت بدخول الإيرانيين في اليمن صنعها السعوديون والإماراتيون وغفلة أحبائنا. أما القضية السورية، الجرح الدامي والمظلمة التاريخية العظيمة، فإن للدول السنية مسؤولية كبيرة في خذلان وتفتت المقاومة السنية، غير أنه ما يلفت الانتباه في القضية السورية هو سكوت الذين يريدوننا أن لا نُسند إيران في حربها ضد الصهاينة على أحمد الشرع في حواره وتكتيكاته ومهادنته للروس، وتغاضيهم عن التعاون السوري الروسي القائم والتفاهمات التي وقعت معهم بخصوص وجودهم وبقاء قاعدتهم العسكرية، وكذلك تفاهمات الحكومة السورية الجديدة مع ترامب والتنازلات التي قُدمت من أجل رفع العقوبات. أليست روسيا هي صاحبة البراميل المتفجرة والقتل الجماعي للسوريين؟ أليست أيديهم ملطخة بدماء أطفال غزة؟ فإن قيل إن تلك سياسة شرعية، فلماذا لا تنطبق على الإيرانيين؟
ثامنًا – لا أريد أن أتوغل كثيرًا في ذكر الشواهد الكثيرة من التاريخ الدالة على أن المآسي التي وقعت في سوريا والعراق واليمن هي شأن سياسي أُستُعمل فيه الدين، ولو كنا صادقين لكان اعتراضنا على الأنظمة التي تنتمي إلى العالم السني لا يقل صرامة عن اعتراضنا على إيران، فالذي يعمل على مسخ الدين ونشر الفساد والإلحاد والمجون، ويسلم البلد للاستعمار الأمريكي الغربي، ويعطي الجزية للأمريكان، ويحاصر غزة ويتحالف مع الصهاينة ضد فلسطين، هي الدول السنية وخاصة العربية، تلك الأنظمة التي يسعى كثير منا للتقرب منها ومهادنتها وتجنب معاداتها والسعي إلى نصحها بالتي هي أحسن، بالرغم من أن التجارب المتكررة دلت بأنه لا مجال لتحقيق ذلك، واسأل في ذلك به خبيرًا، وبعضها أبان عن مروق عن الدين بواح ومجون لا حد له وعمالة غير مسبوقة في التاريخ.
تاسعاً – وبالإضافة إلى كل ذلك يجب أن ننتبه بأن المشروع الإيراني التوسعي انتهى بالضعف الشديد الذي أصاب الجناح الذي يمثله، منذ بضع سنوات، ونحن الآن في مفترق الطرق: إما أن ندخل على الشأن الإيراني بالدعم والنجدة كما فعل نور الدين زنكي وشيركوه وصلاح الدين مع الفاطميين لنجعلها في دائرة الأمة، وتركيا تستطيع أن تفعل ذلك لو أرادت ولو استجابت لنصائحنا، على شاكلة ما عليه في هذا الشأن باكستان، نوعًا ما، أو نسلمها للمشروع الغربي الصهيوني إن انهزمت، أو نجعلها إذا خرجت من الحرب سالمة ترتمي في أحضان المشروع الروسي والصيني وهي تحمل أحقادًا عظيمة ضد من خذلها من المسلمين.
وفي الخاتمة أقول لأصحاب المواقف المتشددة ضد إيران، بأن رأيي هو وجهة نظر بكل تأكيد، ولكني موقن به أن دعم إيران في الحرب القائمة هو العمل الصالح الذي نتقرب به إلى الله، ولا يمنعنا من ذلك إلا التعصب الطائفي، الذي قد يكون خفيًا لا ينتبه إليه صاحبه، أو التأثر العاطفي حين لا تلجمه نظرات العقول ومقاصد الشرع العظيم، أو عدم إدراك المآلات والتداعيات، أو المصالح والولاءات التي نسجتها الظروف من حولنا.
لا شك أن معرفة الحق واتباعه ليس بالأمر الهين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأى الغيب رأي العين، كان يدعو في أشرف الأوقات في افتتاح قيام الليل بهذا الدعاء: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
فكيف بنا نحن الذين اُمْتُحِنَّا بالغيب؟!
فالله سبحانه، نسأله أن تمنّ علينا بمعرفة الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن تكرمنا بمعرفة الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
آمين,