ابني صلاح الدين مناضل صادق، ومثقف شجاع، وصاحب حجة وقلم، كان متفوقا طيلة فترة دراسته إلى أن تخرج من المعهد العالي للهندسة المعمارية بالحراش، تدرج في المسؤوليات النضالية منذ صغره، من خريجي مدارس جمعية الإرشاد وكتاتيب القرآن الكريم في المسيلة، ومن قادة العمل الطلابي في الحي الجامعي بباب الزوار كعضو في مكتب المؤسسة الطلابية، ومن مؤسسي أكاديمية جيل الترجيح للتأهيل القيادي، وهو الآن الأمين البلدي لأمانة التنظيم في حركة مجتمع السلم بادرارية. سكنت فلسطين قلبه كما هو حال كل العائلة، كان من رفقائي في حملة من حملات كسر الحصار البرية لإغاثة أهلنا في غزة، من أكثر المناضلين فاعلية في بلديته في تجميع المساهمات لصالح فلسطين، ومن الرافضين لقتل القضية في وجدان الناس ب”سكوت القبور” أمام الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، ورفض المسيرات والوقفات أمام السفارة الأمريكية، قبض عليه عدة مرات بسبب محاولاته الخروج، لم يسكت قلمه الفصيح في جبهات النضال الفكري والسياسي لصالح القضية الفلسطينية أبدا.
حينما قررنا المشاركة في أسطول الصمود عزم أن يكون عضوا فيه، لم أكن أريد أن يشارك من الأسرة اثنان، والحاجة إليه كبيرة في عدة مجالات، ولكنه أصر، وقال لي: ” لا أستطيع أن أفعل شيئا يُهدئ من غضبي تجاه الظلم الواقع على أهلنا في غزة، من الأعداء ومن القريبين، سوى المشاركة في الأسطول، وإن لم أذهب لا أتحكم في نفسي في ما يمكن أن أقوم به”. لم تساعدني أمه في إقناعه، إذ فصلت في الموضوع بخصوصي وخصوصه، بأنه “لا يُنهى أحدٌ عن القيام بالواجب، ولا يحدث إلا ما يريده الله، ولا يقتل سوى الأجل”.
وكانت زوجته رغم خوفها عليه تشجعه على الذهاب، تارة تدمع عينيها ولكن في كل الأحوال تصر على تشجيعه. ولكن حينما التقيت به في تونس ضمن الوفد الجزائري الكبير بقيادة الأستاذ مروان بن قطاية دعوته أن يقيم معي في نفس الحجرة فاستنأست به، وفرحت بانخراطه الكامل مع الفريق المشرف مع المايسترو المؤدب القدير زكريا شريفي .
ولكن حينما تغير شعوري وصرت أحرص أن يكون معي في هذه المهة سمعت قبيل ركوبي السفينة الجزائرية التي عُيّنت لركوبها نحو غزة، بأنه حُرم من الركوب في السفينة الجزائرية الأخرى التي كان من المفروض أن يكون فيها مع مروان وزكريا فحزنت وتأسفت كثيرا. ورغم الأسف حدث في سياق حرمان صلاح الدين من الذهاب ما يفرح له قلب المؤمن، وهو التنافس الشديد بين أعضاء الوفد السبعين الذي جاؤوا من الجزائر لركوب سفن أسطول الصمود حين تأكد بأن عدد البواخر المتاح وسعة المراكب المسموح لها بالإبحار لا يسمح بمشاركة الجميع في المهمة.لم يتنازل أغلب الأفراد فكان لا بد من إجراء القرعة، وحينما فصلت القرعة عمّ الحزن المقصيين ودمعت أعينهم، فارتفعت مقاماتهم جميعا في نفوس الجميع وتذاكرنا معا بشأنهم قوله تعالى في سورة التوبة: ((وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ – 92))، فكان ذلك شهادة لهم على مكانتهم وإن لم يتحقق لهم مرادهم، بل ثمة من ذكّر بقوله سبحانه في نفس السورة: (( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) فهم بنص القرآن الكريم وكأنهم معنا، يأخذون نفس الأجر لمن صدُقت نيته بإذن الله تعالى.
غير أن سبب إقصاء صلاح الدين ابني لم تكن القرعة العادلة، ولم يكن من المشاركين الذي قُبلوا بالصفة (الشخصيات الاعتبارية، الأطباء، الصحفيون)، ولكن الاجتهاد القيادي للقائد الفذ زكريا شريفي هو الذي فصل في أمره بكل مسؤولية وحب، إذ رأى بأنه على الشباب المسؤول في التنظيم أن يُعطي القدوة بالتنازل لغيرهم للمحافظة على الأجواء الطيبة، علاوة على أن صلاح الدين غاب أثناء القيام بالقرعة لمهمة كُلف بها، وحينما عاد ووجد بأن القرعة قد تمّت احتج على إقصائه، ولكن حين رأى الإرباك في وجوه من أنصفتهم القرعة تجنب إحداث إرباك مضاعف واضطر إلى الانسحاب وهو في غاية الحزن.لا أُخفي على الإطلاق بأنني تعاطفت كثيرا مع ابني صلاح الدين، وكرهت كثيرا أن أفتقده فلا أراه بجانبي في هذه المهمة التاريخية النبيلة، ولكن عساه يأخذ أجر الذين ذكرهم الله تعالى في الآيتين السابقتين، وأجر الصبر على عدم استفادته من القرعة، وأجر الإيثار في عدم إحزان إخوانه والله نسأله القبول من الجميع.