كل مقالات د. عبد الرزاق مقري

صلاح الدين مقري: التنافس على الخير وقسوة القرعة

ابني صلاح الدين مناضل صادق، ومثقف شجاع، وصاحب حجة وقلم، كان متفوقا طيلة فترة دراسته إلى أن تخرج من المعهد العالي للهندسة المعمارية بالحراش، تدرج في المسؤوليات النضالية منذ صغره، من خريجي مدارس جمعية الإرشاد وكتاتيب القرآن الكريم في المسيلة، ومن قادة العمل الطلابي في الحي الجامعي بباب الزوار كعضو في مكتب المؤسسة الطلابية، ومن مؤسسي أكاديمية جيل الترجيح للتأهيل القيادي، وهو الآن الأمين البلدي لأمانة التنظيم في حركة مجتمع السلم بادرارية. سكنت فلسطين قلبه كما هو حال كل العائلة، كان من رفقائي في حملة من حملات كسر الحصار البرية لإغاثة أهلنا في غزة، من أكثر المناضلين فاعلية في بلديته في تجميع المساهمات لصالح فلسطين، ومن الرافضين لقتل القضية في وجدان الناس ب”سكوت القبور” أمام الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، ورفض المسيرات والوقفات أمام السفارة الأمريكية، قبض عليه عدة مرات بسبب محاولاته الخروج، لم يسكت قلمه الفصيح في جبهات النضال الفكري والسياسي لصالح القضية الفلسطينية أبدا.

حينما قررنا المشاركة في أسطول الصمود عزم أن يكون عضوا فيه، لم أكن أريد أن يشارك من الأسرة اثنان، والحاجة إليه كبيرة في عدة مجالات، ولكنه أصر، وقال لي: ” لا أستطيع أن أفعل شيئا يُهدئ من غضبي تجاه الظلم الواقع على أهلنا في غزة، من الأعداء ومن القريبين، سوى المشاركة في الأسطول، وإن لم أذهب لا أتحكم في نفسي في ما يمكن أن أقوم به”. لم تساعدني أمه في إقناعه، إذ فصلت في الموضوع بخصوصي وخصوصه، بأنه “لا يُنهى أحدٌ عن القيام بالواجب، ولا يحدث إلا ما يريده الله، ولا يقتل سوى الأجل”.

وكانت زوجته رغم خوفها عليه تشجعه على الذهاب، تارة تدمع عينيها ولكن في كل الأحوال تصر على تشجيعه. ولكن حينما التقيت به في تونس ضمن الوفد الجزائري الكبير بقيادة الأستاذ مروان بن قطاية دعوته أن يقيم معي في نفس الحجرة فاستنأست به، وفرحت بانخراطه الكامل مع الفريق المشرف مع المايسترو المؤدب القدير زكريا شريفي .

ولكن حينما تغير شعوري وصرت أحرص أن يكون معي في هذه المهة سمعت قبيل ركوبي السفينة الجزائرية التي عُيّنت لركوبها نحو غزة، بأنه حُرم من الركوب في السفينة الجزائرية الأخرى التي كان من المفروض أن يكون فيها مع مروان وزكريا فحزنت وتأسفت كثيرا. ورغم الأسف حدث في سياق حرمان صلاح الدين من الذهاب ما يفرح له قلب المؤمن، وهو التنافس الشديد بين أعضاء الوفد السبعين الذي جاؤوا من الجزائر لركوب سفن أسطول الصمود حين تأكد بأن عدد البواخر المتاح وسعة المراكب المسموح لها بالإبحار لا يسمح بمشاركة الجميع في المهمة.لم يتنازل أغلب الأفراد فكان لا بد من إجراء القرعة، وحينما فصلت القرعة عمّ الحزن المقصيين ودمعت أعينهم، فارتفعت مقاماتهم جميعا في نفوس الجميع وتذاكرنا معا بشأنهم قوله تعالى في سورة التوبة: ((وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ – 92))، فكان ذلك شهادة لهم على مكانتهم وإن لم يتحقق لهم مرادهم، بل ثمة من ذكّر بقوله سبحانه في نفس السورة: (( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) فهم بنص القرآن الكريم وكأنهم معنا، يأخذون نفس الأجر لمن صدُقت نيته بإذن الله تعالى.

غير أن سبب إقصاء صلاح الدين ابني لم تكن القرعة العادلة، ولم يكن من المشاركين الذي قُبلوا بالصفة (الشخصيات الاعتبارية، الأطباء، الصحفيون)، ولكن الاجتهاد القيادي للقائد الفذ زكريا شريفي هو الذي فصل في أمره بكل مسؤولية وحب، إذ رأى بأنه على الشباب المسؤول في التنظيم أن يُعطي القدوة بالتنازل لغيرهم للمحافظة على الأجواء الطيبة، علاوة على أن صلاح الدين غاب أثناء القيام بالقرعة لمهمة كُلف بها، وحينما عاد ووجد بأن القرعة قد تمّت احتج على إقصائه، ولكن حين رأى الإرباك في وجوه من أنصفتهم القرعة تجنب إحداث إرباك مضاعف واضطر إلى الانسحاب وهو في غاية الحزن.لا أُخفي على الإطلاق بأنني تعاطفت كثيرا مع ابني صلاح الدين، وكرهت كثيرا أن أفتقده فلا أراه بجانبي في هذه المهمة التاريخية النبيلة، ولكن عساه يأخذ أجر الذين ذكرهم الله تعالى في الآيتين السابقتين، وأجر الصبر على عدم استفادته من القرعة، وأجر الإيثار في عدم إحزان إخوانه والله نسأله القبول من الجميع.

أسطول الحرية: لبيك غزة.

وصيتي الدائمة لأفراد عائلتي وفي محاضراتي أن لا تتركوا اليأس والأسى يشل إرادتكم لما ترونه من صور الإبادة الجماعية والقتل بالقصف والجوع والعطش والأمراض وصور التشريد والإهانة والتحطيم النفسي لأهلنا في غزة، ولا تسمحوا للغضب أن يفقدكم توازنكم  أمام المشاركة  الغربية الأمريكية الكاملة في الجريمة، وما يقابلها من خذلان النخب والحكومات  في العالم العربي الإسلامي  لهؤلاء الأبطال الذين يقاومون الاحتلال ببسالة لم يعرف لها التاريخ مثالا، ولهذا الشعب الذي  يقدم التضحيات التي لا تطيقها الجبال  من أجل التمسك بأرضه وبلده.

وإنما حوّلوا الحزن والغضب إلى عمل دائم وثابت ومؤثر ومستمر لنصرة فلسطين وأهلها بما يحقق التحرير حينا، أو بعد الحين.

لقد قدم أهل غزة كل شيء، ولم يبق شيءٌ يُطلب منهم أكثر مما يقدموه، إنهم يقاتلون ويصمدون من أجل بلدهم ومن أجل الأمة العربية والإسلامية، بلدا بلدا،  ومن أجل البشرية كلها، فإن أعجزوا الصهاينة فذلك طريق التحرير، وتلك هي نهضة الأمة، وذلكم هو تحرير العالم من الأقليات الاستعمارية التي تسيطر عليه، وإن كانت الأخرى – لا قدر الله – فسلام على القدس وفلسطين إلى حين، وستعيش بلداننا، كلها دون استثناء، ذليلة تحت هيمنة “إسرائيل الكبرى”، إلى قرن مقبل سيكون “قرن المهانة”، وستشتد قبضة القوى الشيطانية المسيطرة على أرزاق الناس وعقولهم وحكامهم في العالم نحو حتف البشرية كلها.

أنا متفائل جدا بأن الطوفان حالة سننية ستنتهي في الأخير لصالح تحرير فلسطين والأمة والبشرية. إن الله قادر على تحقيق النصر دون أسباب، وهو خالق الأسباب، وإنما يبتلينا الله لنسير على خطى من اصطفاهم الله في غزة لهذه المهمة العظيمة وفق قوله تعالى في سورة محمد: ((ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) )).

إن أصناف النصرة كثيرة، ينتقل الصادقون بين أصنافها صنفا صنفا بقدر فرصهم واستطاعتهم، وإن حملات كسر الحصار لمن أعظم الأصناف، فلا هي  تهوّر ولا استعراض ولا تبذير  للمال، كما يتشدّق  به المخذّلون، إنما هو جهاد في سبيل الله فيه من الفوائد عظيمها وأكثرها نفعا للقضية.

علاوة على أنه الطريق الذي يسلكه الغاضب الحزين ليلتحق بأهل غزة، نصرة وإغاثة، سواء وصل أم لم يصل، عذرا بين يدي ربه، سواء رجع إلى أهله أم لم يرجع.

وهو كذلك النبأ العظيم الذي يفرح به المظلومون إذ يدركون أن ثمة من إخوانهم في الدين وفي الإنسانية من يكترث لحالهم ويركب المخاطر لإغاثتهم.

وهو فضيحة صارخة تعرّي الصهاينة وحلفاءهم الظالمين بين الناس أجمعين، وحجة كاشفة على المنافقين والمتخاذلين، وهو دليل على بقية باقية من الحياة في المسلمين،  ومن ضمائر  الناس في العالمين، من ركب الأسطول فسار بنفسه لمقابلة العدو لعله يصل إلى الأحبة، أو الذي فكّر ونظّم وجهّز وشرح، وروّج للخير وفرح بالمنجَز ودافع عمّن ركبوا وسهر على بعث الأساطيل حملة بعد حملة، أو دعا وشجّع من بعيد، أو على الأقل لم يثبّط ولم يلمز النشطاء ولم يتّهمهم.

إننا ونحن نستعد لركوب السفن إلى غزة، قائلين “لبيك غزة”، متوكلين على الله، نتوقع المحاسن كلها، إما أن نصل غزة ونسلِّم اليسير من مواد الإغاثة، أو يقطع طريقَنا الصهاينة فيصيبنا شيء من العدوان ثم نرحل لبلداننا أكثر عزما على العودة كما كان حالنا مع إخواني في سفينة مرمرة عام 2010 وما لحقها من محاولات أخرى مع نشطاء آخرين عديدين كان آخرها سفينة حنظلة، أو يُلقى علينا القبض ويطبق الصهاينة تهديدهم الذي أطلقوه هذه المرة بإبقائنا في السجون فننال شرف الأسر من أجل أقدس قضية، ولو كنا لذلك كارهين، سائلين الله أن يرزقنا الصبر والثبات والرضا والتحمل حتى يقضي الله ما يشاء فينا، ونساهم إلى ذلكم الحين في تعظيم متاعب الظالمين ورفع معنويات المظلومين وتحريك شبكات عالمية من النشطاء والمتعاطفين، أو أن يُعجّل الله لنا بالشهادة التي هي أسمى أمانينا كمثل السائرين على درب الدعوة إلى الله والعودة الحضارية للأمة، وتحرير فلسطين والأمة والبشرية أجمعين، ولعل دماءنا تكون وقودا لتحريك الشعوب نحو  عالم أفضل أكثر رحمة وعدلا، يكون فيه المسلمون أعزاء ظاهرين.

إن الصهاينة خاسرون في كل هذه الحالات، ولئن كانت سفن صغيرة محدودة العدد قد ألهبت مشاعر الناس وفضحت الوجه القبيح للكيان فإن الغزوة المباركة التي يخط طريقها في البحر  سفن هذا الأسطول الكبير  من شأنها  أن تقرّب سقوط الطغيان .. هكذا ينبغي أن يكون الأمر، وهذا الذي يجب على المسلمين والنشطاء والأحرار في العالم الذي يسندون الحملة ولم يركبوا السفن أن يعملوا  من أجله معنا وبعدنا.

التخلي عن الواجب خوفا من ضياع المكتسبات (2)

التعسق في استعمال صلح الحديبية:

يستعمل  القادة بعض القادة كثيرا أحداث صلح الحديبية في إقناع أتباعهم بالتنازلات الخادمة لتكتيكاتهم الآنية والمضرة باستراتيجياتهم بعيدة المدى.

لقد اضطرّ رسول الله صلى عليه وسلم أن يقدم في صلح الحديبية تنازلات كبيرة للحفاظ على الدعوة واستمرار المسيرة، ومن ذلك القبول بحرية من يرتد عن الإسلام  والتحاقه بالكفار في  مكة فلا يردوه، وتسليم من يسلم ويهاجر  صوب المدينة إلى قريش.

أسلم أبو بصير ( عتبة بن أسيد) في مكة ولكن حين هاجر إلى المدينة أرسلت قريش رجلين لطلبه  فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم معهما وفق الاتفاق، وأثناء الطريق قتل أبو بصير  أحدهما وعاد إلى المدينة يتوسل رسول الله ألا يرده إلى الكفار يفتنوه عن دينه، فقال له:  (يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا)،  و حين سمع أبو بصير المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول عنه: “ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد”. ففهم الرسالة بأن لا مُقام له في المدينة وأنه عليه أن يبحث له عن دور خارجها يكون لصالح المسلمين.

انطلق هذا البطل خارج المدينة فورا، وتمركز  على ساحل البحر الأحمر في منطقة تسمى سيف البحر، وبات كل من سمع إيحاء رسول الله لا يأتي إليه حين يُسلم بل يلتحق بأبي بصير، حتى صار جمعهم جيشا قوامه ثلاثمائة رجل يغيرون  على قوافل قريش يقتلون من فيها ويأخذون أحمالها. وممن التحق به  الصحابي الجليل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ومعه سبعون فارسا ممن أسلم بعد الحديبية، وسهيل  بن عمرو أبوه هو مفاوض قريش في الصلح، أخذ ابنه  بنفسه من بين يدي رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي جندل حين استغاثه: (( اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا))،

لقد كانت هذه المبادرة الاستراتيجية، من أبي بصير وأبي جندل، التي لا تتحمل جماعة المسلمين في المدينة عبأها هي المخرج والفرج، ليس لأصحابها فقط بل للجماعة كلها ولمستقبل الإسلام.

فبعد أن تضررت قريش من فاعلية هؤلاء الشباب الأبطال الذين صنعوا مصيرهم بأيديهم، دون أخذ الإذن من الجماعة ومن الرسول القائد، جاءت تتوسل إلى رسول الله أن يُسقط ذلك البند الظالم وأن يُبقي عنده من يأتي إليه مسلما، فأرجع المصطفى عليه الصلاة والسلام أبطال جيش أبي بصير  وأبي جندل إلى الجماعة في المدينة معززين مكرمين،  ولم يصبح الناس، بما فعله هؤلاء،  يخافون من بطش قريش فكثر الوافدون على الإسلام جهارا وما هي إلا  سنتان حتى نقضت قريش الصلح فأدى ذلك إلى فتح مكة ونهاية حكم الشرك فيها.

إن العبرة الأساسية التي نستشفها من هذا الحدث في السيرة النبوية في الرد على من يريد كتم أنفاس الأتباع، خصوصا الشباب، ليكون الناس جميعا على عقليتهم ونمطهم القيادي، بدعوى المحافظة على المكتسبات، لا يملكون الفهم الصحيح للأداء الاستراتيجي، بأن يكون على يمينهم من يمكن أن يرفعوا سقف النضال والمقاومة،  دون أن يُتهموا بالمزايدة على القادة، حتى وإن لم يستشيروا في الأمر، خصوصا في زمن الإكراهات وما دامت أعمالهم تتجه إلى نصرة الإسلام وقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

إن القائد الاستراتيجي هو الذي يكون على يمينه، من الرجال والمؤسسات،  من يجب أن يرفع السقف أكثر مما تطيقه القيادة في ظرف من الظروف، كما قد  يكون على يساره من يخفّض السقف أدنى مما يصح أن تنزل إليه القيادة، ويخوض القائد الاستراتيجي معركة الكر والفر بين هاذين السقفين بما يخدم استراتيجية الجماعة والرؤى المتوسطة والبعيدة، لا استراتيجيات الأفراد وطموحاتهم. وبذلك فقط يتم المحافظة على المكتسبات. أما الجمود على نمط واحد من الأداء والمكوث في مساحة ضيقة من الفعل هو  ذلك ما يضّيع المكتسبات، هذا الذي تعلمناه من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد شرحنا هذه الأفكار في بعض كتبنا ومقالاتنا ودرّبنا عليها أجيالا قيادية وحققت نتائج محمودة بإذن الله وتوفيقه.

٢- إن مما يرد شبهة التخلي عن الواجب والتضييق على من يقوم بالواجب خوفا من ضياع المكتسبات، أن مستقبل القضية الفلسطينية لا يرتبط بالتنازل على القيام بالواجب الكامل تجاهها، وإنما يرتبط كليا بالمآل الأخير لطوفان الأقصى، فلو –  لا قدر الله- تم كسر  المقاومة والسيطرة على غزة نهائيا سيعمّم التطبيع على كل البلاد العربية والإسلامية، ومخرجات المبادرة السعودية الفرنسية في الأمم المتحدة تدل عل ذلك، وإذا وقع هذا سينتقل الدور إلى الفكرة التي أسست المقاومة في كل أنحاء العالم، وسيكون الثمن الذي تدفعه الحركة الإسلامية عندئذ فادحا يجعلها تندم على التنازلات التي قدمتها وعلى تجنب الاشتباك السلمي دفاعا عن المقاومة وأهلنا في غزة.

إن المحافظة الحقيقية على المكتسبات تتحقق حينما يعرف الحكام بأن لا سقف يحكمنا بخصوص القضية الفلسطينية، وأن التخلي عنها من قبل الأنظمة سيحوّلها الى مشكلة داخلية في كل بلد.

علاوة على أن سياسة الخوف من ضياع المكتسبات أدت إلى نتائج عكسية في العديد من تجارب الإسلاميين بشكل عام. فالحركات الإسلامية التي سايرت الأنظمة المحلية والإقليمية والقوى الدولية للحفاظ على المكتسبات تراجعت وضعفت وتم السيطرة عليها وعلى مؤسساتها من قبل الاستبداد ولم تصبح آمنة على مستقبلها وتقهقر تأثيرها، وبعضها تعرضت لانشطارات وانسحابات وفتور  واسع لدى مناضليها، حدث ذلك في المغرب والجزائر وتونس واليمن والأردن، بأشكال مختلفة وبعضها مشترك، وزاد في نفس الوقت في هذه البلدان وغيرها سيطرة الاستبداد، وتضييق هوامش الحرية،  وانتشار الفساد، وتعمّق في بعضها التطبيع وفقدان السيادة لصالح الصهاينة والقوى الاستعمارية، وتواطأت كلها على خذلان غزة واكتفت بالتصريحات والبيانات والمساعدات التي بات لا يصل أكثرها، وما وصل لا يسمن ولا تغني من جوع.

التخلي عن رفع السقف في القضية الفلسطينية خوفا على المكتسبات (1)

يتخلى بعض نشطاء القضية الفلسطينية، خصوصا على مستوى الحركات الإسلامية في العالم العربي،  عن واجبات أساسية في نصرة القضية الفلسطينية، بما يتناسب مع حجم المخاطر والمأساة،  بقولهم أنهم يحافظون بذلك على مكتسبات ثابتة في بلدانهم.

فيقولون في المغرب مثلا بأنهم لا يرفعون سقف الاحتجاج ضد التطبيع ولا يستعملون الوسائل السلمية الصارمة ضد وجود السفارة الصهيونية في بلادهم للمحافظة  على البعد الديني للملكية وإمارة المؤمنين، والسماح لهم بالمسيرات الضخمة في المدن المغربية لصالح فلسطين.

ويقولون في الجزائر بأنهم يتخلون عن المسيرات والوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الأمريكية ولا ينخرطون علانية وعمليا في أسطول الحرية، ويتساهلون مع التقصير الرسمي في نصرة القضية،  وغير ذلك،  للمحافظة على الموقف الرسمي الرافض للتطبيع وتساهل السلطات مع العمل الخيري والإنساني الشعبي لصالح القضية.

وقد كانوا يقولون في الأردن، قبل حظرهم ومنعهم من التعبير،  بأنهم لا يتعاملون بصرامة مع السفارة الصهيونية، ولا يرفعون سقف احتجاجاتهم بما يتناسب مع حجم مأساة قومهم وأهلهم، ولا يزحفون سلميا نحو الحدود،  ولا يعملون على دعم تصعيد المقاومة، خصوصا في الضفة، ويتبرؤون من المتطوعين الذين يُلقى عليهم القبض بسبب المحافظة على رصيدهم التاريخي في البلاد وعلى نشاطهم في مختلف المجالات، وعلى الهوامش الشعبية المتاحة لدعم القضية الفلسطينية، ولو لا الخوف من الإطالة لتوسعت في ضرب الأمثلة في العديد من دول العالم العربي والإسلامي ( وقد يتطلب الأمر التوسع في دراسة هذا الموضوع في إطار أشمل من القضية الفلسطينية بإعداد بحث تفصيلي خاص يرصد الحقائق ويتعمق في دراسة الأسباب ويحلل النتائج ويستشرف المستقبل ويقدم الحلول والبدائل العامة والقطرية).

غير أن الرد على الحجج التي يقدمها المقصرون في القيام بالواجب سهل جدا، هم ذاتهم يعرفونه في قرارة أنفسهم، ورفض توجهاتهم موجود في النقاش الداخلي على مستوى مناضليهم، ولكن الذي يفرض التخاذل إنما هم القادة لأسباب خاصة بهم نذكرها لاحقا.

وبسبب الطبيعة التنظيمية “العسكراتية” وغلق فضاءات التعبير  بالقدر الكافي لقادة الرأي الآخر في مؤسساتهم، وبسبب ضعف البنية الفكرية القاعدية، ومخاوف الأتباع من الاستهداف ضد التنظيم وقيادته ووحدة الصف، الوهمية والحقيقية، تتجسد “نظرية القطيع” التي يصفها المتخصصون في علوم الإدارة والمنظمات وحركات الحشود وعلم النفس وعلوم الاجتماع، فيُترك بسبب ذلك كثير من الواجبات ويتم تجاوز الحق، والتواطؤ الجماعي على الخطأ.      

لو سلمنا فرضا بأن كل المكتسبات المعبر عنها مكتسبات حقيقية وثابتة وقابلة للصمود، فإن ما يدفع إلى خفض سقوف النصرة للقضية الفلسطينية بسببها يدل على ضيق الأفق، وضعف الأهلية القيادية، وقلة الكفاءة في بناء الرؤى والاستراتيجيات الشاملة، وعدم توفر المهارة في بناء فرق العمل وتوزيع الأدوار والتكامل في الأدوار، للمحافظة حقا على المكتسبات. وأخطر ما في ذلك، عند بعض القادة، ما تنطوي عليه نفسياتهم من ضعف تربوي ينم عن رفض الحق إن لم يكن تحت قيادتهم، والخوف على مواقعهم من الفعل الذي لا يُوضع فورا وبشكل مباشر في كفتهم، وبُغض من يشتغل خارج إرادتهم، والنزوع لاحتكار المشهد ونجومية الفعل، وحسد المُجدين واتهام نواياهم ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالقضية ذاتها، بل الإضرار بحركاتهم وجماعاتهم ومنظماتهم وأحزابهم وبلدانهم نفسها.

إنه من العجب فعلا أن يعتقد بعضنا، ونحن في حالة الضعف التي نحن فيها، أننا نحن مركز العالم وكل ما يحدث مما يخالف توجهاتنا وقراراتنا هو باطل يجب التحرز منه، وتعميم التوجيهات للابتعاد عنه وعدم المشاركة فيه، وإن كان في ما يحذرون منه خدمة للإسلام والأوطان والمقدسات، ولعمري إن في ذلك ما ينافي سلامة القلب، التي تجعل الإنسان يفرح بالخير وإن لم يكن له فيه مصلحة محققة، كما بينه ابن قيم في تبيان أمارات صاحب القلب السليم على لسان صاحبه حين يقول” وأسمع بالقطر ينزل في أرض ليست لي فيها سائمة فأفرح”

ولو اتبع هؤلاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرائقه لإدارة الصراع لأدركوا حجم أخطائهم في فرض نمطيتهم الواحدة، ففي سيرته عليه الصلاة والسلام نماذج كثيرة في استيعابه  لمختلف الفواعل المتناقضة واحتوائه المشاهد المعقدة في زمن الإكراهات وإدخالها ضمن استراتيجياته واستعمالها لتحقيق أهدافه.

ومن ذلك حوادث صلح الحديبية، التي يستعملها القادة المتخاذلون كثيرا في إقناع أتباعهم بالتنازلات الخادمة لتكتيكاتهم الآنية والمضرة باستراتيجياتهم بعيدة المدى.

يتبع …

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (7)

أولا – الرد على الشبهات

6 – شبهة: المطلوب جمع المال فقط

يتذرع  بعض النشطاء في القضية الفلسطينية بأهمية بذل المال لها لتسفيه المناشط الأخرى والإقلال من شأنها، وهو تصرف خاطئ ومضر ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية، والمبالغة في هذا الحديث والإصرار عليه يدخل ضمن  سلوكيات التثبيط والخذلان، بقصد أو بغير قصد،  وسنعود لاحقا لشرح مختلف الأسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك.

لا شك أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم الطاعات والقربات، فالزكاة ركن من أركان الدين، و”الصدقة تمحو الخطايا والسئيات كما يطفئ الماء النار” كما جاء في الحديث الصحيح، وهي بركة في الصحة والرزق وتدفع عن صاحبها أنواعا كثيرة من البلاء في الدنيا وفق ما جاء في العديد من النصوص، والحضارة الإسلامية إنما بنيت أساسا بأموال أوقاف المحسنين  في كل المجالات، ومن أعظم أنواع الصدقات “ج” في سبيل الله بالمال، فهو قرين “ج” بالنفس في القرآن الكريم بل مقدم عليه في أغلب الآيات،  ومن ذلك قوله تعالى في سورة التوبة الآية 41:  (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). وفي الآية 20: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). وقد فسر العلماء سبب ذلك في الكثير من التفاسير ومن ذلك ما بينه الألوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة، فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).

ولا فرق في “ج” بالمال بين من غزا ومن جهز غازيا ومن دعم أهله، وقد بيّن رسول الله ذلك في هذا الحديث الصحيح العظيم:  (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا). وعلى هذا كان قادة الثورة التحريرية يعّون الإنفاق على الحاضنة الاجتماعية المساندة لهم التي تلحق بها  الأضرار الكبيرة في الأرياف أهم من الإنفاق على من هم في الجبال (وكلاهما كان مطلوبا)، وعليه نؤكد بلا مواربة بأن الإنفاق على أهل غزة من أقدس الأعمال الصالحة في هذه المرحلة.

غير أن الشريعة الإسلامية لا تخضع لفهومنا الخاطئة مهما كانت نوايانا جيدة، كما لا تحكمها مرامينا السطحية أو أهواؤنا أو إكراهاتنا الشخصية وحبنا للعمل السهل الذي لا مخاطر فيه، فلا تُحدد الأولويات إلا بفهم مقاصدها، ولا ينتفع بها إلا من يفهم مرونتها.

إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء الم”قا&وم’ة  هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت “م” أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين  والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية أما  السفارات الصهيونية والأمريكية والمصرية في العالم، وبتحريك الرأي العام بالعمل الإعلامي والسياسي وتعظيم أعداد المحتجين في الشوارع بالحد الذي تشغل فيه غزة العالم والناس جميعا أكثر من أي قضية أخرى.

لقد بين الإمام الكبير يوسف القرضاوي بأن فقه الأولويات مرتبط ب “فقه مقاصد الشريعة” فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدَف الشرع إلى تحقيقها. فلا يصح في العقل ولا في الشرع ولا في أي عرف أن يكون للتحسيني الأولوية على الحاجي، ولا للحاجي على الضروري. بل للضروريات بكلياتها الأولوية المطلقة على الحاجيات والتحسينيات”

إن نجدة  الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم  واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)

فالمواد الإغاثية من مختلف جهات العالم مكدسة في معبر رفح، ولكن أكثرها ممنوع من الدخول إلى غزة بسبب الحصار، وما يدخل منها لا يسمن ولا يغني من جوع، فالأولى اذن هو العمل على كسر الحصار. وحينما نقول الأولى لا يعني هذا التوقف عن جمع المال والمساعدات، بل وجوبها يظل قائما في كل وقت، وإنما ما يجب بذل المال والوقت والجهد  فيه أكثر هو  كسر الحصار وتوعية الناس بالمآسي التي يتسبب فيها، وتوجيه الجماهير للاحتجاج في الشوارع لرفع معنويات المظلومين والضغط على  الظالمين من الأمريكان وعملائهم وعبيدهم من بلادنا العربية والإسلامية. 

اتفاقية سيداو والحرب على الأسرة.

لا يخفى على الواعين أن ثمة حربا تشنها القوى الاستعمارية ضد العالم الإسلامي لضرب أساساته التي حفظته ضد الاحتلال والتغريب والإلحاق الثقافي والحضاري .

لقد أدركت القوى الاستعمارية بأن الذي حفظ الأمة الإسلامية في مختلف أقطارها هو تمسكها بقيمها وهويتها، وأن المشكلة التي يواجهونها لتطويع العالم الإسلامي ليست الحركات والمنظمات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية، ولا حتى الدول، وإنما هو الإنسان المسلم ذاته بسبب تمسكه بعقيدته وانتمائه، وأن هذا الإنسان المسلم هو الذي يحكم على الحكام والأحزاب والمنظمات بمقدار انتمائهم لهويته وقيمه ودينه وليس العكس، وقد تأكد لديهم بإن إضعاف الحركات والمنظمات الإسلامية، والحكومات المحافظة، لا يعني شيئا ما دام الإنسان المسلم متمسكا بهويته، وأن هذا الإنسان المسلم سيترك الأحزاب ويقاطع المؤسسات الرسمية التي تخون قيمه وينشئ لنفسه أطرا سياسية واجتماعية أخرى تواجه التوجهات الغربية ومن يحملها بعزيمة أكبر وضراوة أشد.

لقد علمت القوى العلمانية الرأسمالية  الاستعمارية، من خلال تجربتها الطويلة في أوربا بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، بأن تغيير الإنسان والتحكم في إرادته وتشييئه يكون من خلال كسر كل المرجعيات التي تشكل ثقافته وشخصيته سوى المرجعية الحضارية الغربية المادية الرأسمالية العالمية التي صنعوها للإنسان ضمن سياق تاريخي خاص بهم، وكانت طريقهم إلى ذلك في بلدانهم تفكيك الأسرة واحتكار صياغة المنظومات التربوية والتحكم في الإعلام وتحييد الدين وإنهاء تأثيره.

وبعد خسارتهم في السيطرة الثقافية والحضارية على العالم الإسلامي رغم الاستعمار الطويل المدمر، وعجزهم عن الحسم في المواجهة السياسية الديمقراطية أمام القوى المتمسكة بالثوابت رغم طول مرحلة التزوير الانتخابي والانقلابات الدموية التي دعموها والاستئصال والتدجين الذي حققوه، وكذا بعد  فشلهم في المواجهة المجتمعية رغم الدعم العظيم الذي قدموه للاستبداد وللنخب والقوى العلمانية المعادية للانتماء الحضاري للأمة، علموا بأن برامجهم يجب أن تتجه لتغيير الإنسان ذاته، وأنه بدل  الاستعمار المباشر والاستنزاف الطويل في المواجهة السياسية والفكرية يجب أن يضغطوا على حكام الدول العربية والإسلامية لتغيير قوانين الأسرة، والمنظومات التربوية والدينية ومنعها من أي مساهمة لتشكيل الشخصية الإسلامية الواعية الملتزمة بقيمها، المقاومة للاستعمار والظلم والفساد وتكثيف بدل ذلك برامج التفاهة والإفساد عبر مختلف وسائل الإعلام ونشر المخدرات والحفلات الصاخبة والقدوات السيئة.

تعتبر  “اتفاقية سيداو للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة”، من أخطر الاتفاقيات التي تهدف إلى تفكيك الأسرة وبناء مجتمعات تتبع مرجعية واحدة هي المرجعية العلمانية الرأسمالية الاستعمارية، وكأنها دين عالمي مقدس جديد من صنع البشر. وصدق الله تعالى إذ يقول في سورة النساء: : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).

لقد واجهت هذه الاتفاقية مقاومة شديدة من العديد من الدول تحفظت على عدد من بنودها، ومنها كثير من دول العالم الإسلامي، ولكن تحت الابتزاز والضغط، وبالنظر لضعف بعض هذه الأنظمة واهتزاز شرعيتها، وعدم قدرتها على التحصن بشعوبها، وبسبب الصراعات البينية بينها،  بدأت تتراجع عن تحفظاتها.

والذي يهمنا في هذه الاتفاقية بعدها الفلسفي المناقض للتصور الإسلامي للأسرة ومكوناتها وللمرأة وعلاقتها بالرجل.

إن المظالم المسلطة على المرأة في العالم سببها الأوضاع الثقافية والاقتصادية والاقتصادية والدولية التي خلقتها الفلسفة الليبيرالية الفردانية والنظام الرأسمالي التسلطي والحروب والأزمات التي أنشأها جشع الدول الاستعمارية، ولن تستطيع اتفاقية سيداو حماية المرأة بل ستزيدها بؤسا بسبب اتجاهاتها المخالفة للفطرة الإنسانية.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة آل عمران: (( وليس الذكر كالأنثى))، وقد تنوعت تفاسير المفسرين في هذه العبارة منهم من عدّها من كلام امرأة عمران ومنهم من عدّها من كلام الله كالصابوني في صفوة التفاسير والشوكاني في الفتح القدير، وهي في كل الأحوال من كلام الله، ولكنهم كلهم يتفقون أنها تعني أن الذكر والأنثى مختلفان في الخلق والدور في الحياة، ولا يصح التفضيل بينهما إلا بذكر المجال التي تفضل فيه المرأة الرجل أو الرجل المرأة.

إن المرأة في الإسلام ليست أدنى قيمة من الرجل وليست أعلى منه، وليست مساوية له ولكنها تختلف عنه، وبسبب هذا الاختلاف يقع التكامل وتنشأ الحياة البشرية وتزدهر وتستمر، وما الدمار البنيوي الذي تعيشه البشرية تحت قيادة القوى المناهضة للفطرة وديانة السوق والاستعباد الاستهلاكي وعبادة المتعة إلا بسبب الاعتداء على هذا الاختلاف في النوع والأدوار.

لقد فسّر كثير من فلاسفة الغرب المعادين للتوجهات الفردانية الليبيرالية الرأسمالية أن تفتيت الأسرة الذي وقع في الغرب هدفه  السيطرة على الإنسان فكريا بكسر مرجعية العائلة بعد كسر مرجعية الأديان، وزيادة اليد العاملة وخفض أجور العمال  بإخراج كل النساء للعمل ورفع معدلات الضرائب والاستهلاك لصالح أقليات تتحكم في ثروة العالم.

أما إذا أردنا أن نركز على المادة التي رفعت الجزائر تحفظها عنها، فإن أبعادها هو الحماية التشريعية للمرأة لتسهيل خروجها من بيتها والسفر حيث شاءت والسكن كما أرادت بغير إذن والدها وزوجها. وهي الفقرة الرابعة من المادة 15 التي “تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم”، وهذا التوجه بهذا الإطلاق غير جائز في الإسلام. فالأسرة في الإسلام مؤسسة اجتماعية تخضع للقوانين المؤسسية لكل كيان بشري منظم، أي يكون لها رئيس أو مدير أو ولي ( بغض النظر عن التسميات) يتم مشاورته في القضايا الأساسية ومنها الغياب والحضور ، ولقدسية الأسرة وأهميتها في استقرار المجتمع جعل الله لها رئيسا أبديا مبدئيا وهو الرجل وفق قوله تعالى في سورة النساء: (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)) فالرجل هو القائم على شؤون الأسرة، وسبب القوامة إنما هو التفاضل بينهم في أشياء مختلفة منها ما يكون الرجل فيها هو الأفضل فيه، كالقدرة على الحماية والكسب والنسب والإنابة ومواجهة الأزمات الخارجية، ومنها ما تكون المرأة أفضل كالقدرة على احتضان الأبناء وقوة العاطفة والتحكم في تفاصيل البيت الداخلية وغير ذلك، بالإضافة إلى الإنفاق المتعين وجوبا على الرجل دون المرأة. ولا تكون القوامة في الإسلام حكما مطلقا تسلطيا للرجل على المرأة، وإنما التشاور بين الزوجين هو من الصفات المطلقة في حياة المسلمين كقوله تعالى في سورة الشورى : (( وأمرهم شورى بينهم)) والنصوص من الكتاب والسنة كثيرة لبناء الأسرة على المودة والرحمة والاحترام والتعاون والتضامن، ليس المجال للتفصيل فيها.

ومع هذا الضبط في بناء الأسرة لم يغلق الإسلام أي مجال لارتقاء المرأة كالتعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وإنما يكون ذلك بالتشاور داخل العائلة كمؤسسة ترتقي بالنظام لا بالفوضى، وفرض  قوانين عامة وشاملة في تسيير شؤون الأسرة عابرة للثقافات هو ما ينشر الفوضى وينشئ الصراع داخل الأسرة.

لا يختلف علماء الأمة بأنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها إلا ما كان في إطار الضرورة أو ما هو متفق عليه ابتداء ، عبر ما يسمى بالإذن العام الذي يمنحه الرجل للمرأة فلا يحاسبها بعده على دخولها وخروجها، أو ما يُبرم في عقد الزواج كاشتراط المرأة على زوجها أن يسمح لها بالعمل أو مواصلة الدراسة أو نشاطها الاجتماعي، أو ما هو معمول به ومتوافق عليه عرفا فلا يحتاج إلى إذن.

إنه لا يوجد في بلادنا وفي أغلب البلاد الإسلامية أي مشكلة في خروج المرأة من بيتها في إطار تفاهم عام بين الزوجين، ولا يوجد في المجتمع حالات شكوى عامة عن منع الرجل لخروج المرأة من البيت في إطار المعقول، ولا يصح التشريع للحالات الشاذة.

إن الخوف من رفع تحفظ الجزائر على الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية سيداو  أن يطبق رفع التحفظ لسن تشريعات تحمي الحالات الشاذة من تمرد المرأة على الرجل وتوسيع حالات “النشوز”. ولنا مثل من الأمثلة في ما يمكن أن يحدث الجدال الواسع الذي وقع حول ارتكاز الحكومة المغربية على رفع تحفظ المغرب على هذه الفقرة من اتفاقية سيداو لعدم اشتراط الدفتر العائلي للزوجين عند الحجز للإقامة في الفنادق، إذ كثير من الأصلاء رفض ذلك  بسبب ما يتبعه من انتشار وحماية للفسق والمجون وإحراج العائلات والشخصيات المحترمة في الفنادق.

إن هذا التحول الذي وقع لدى صاحب القرار في بلادنا يدفعنا إلى الحيطة والحذر من آثار ضغوطات الدول الاستعمارية على سلامة عائلاتنا ومجتمعنا، ولا بد للقوى الفاعلة في المجتمع المرتبطة بثوابتها أن تسترجع حيويتها الحضارية وأن تخرج من الحسابات السياسية الضيقة، فإن استمرار مطاوعة النظام السياسي وهو  يزداد ضعفا وخضوعا أمام القوى الاستعمارية الدولية سيقضي عليها قبل غيرها، إذ لا وجود لها في هذا البلد إلا بالمحافظة على قيم هذا البلد واستقلاليته وسيادته، إن الفتوى بحرمة اتباع اتفاقية سيداو  معلومة وإن عدم المقاومة سيؤدي إلى تشريعات وطنية أخطر  من شأنها أن  تهدد انسجام العائلة وتفكك المجتمع وتخلق إشكالات كبرى لم تكن موجودة.