كل مقالات د. عبد الرزاق مقري

سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآلات.

بدأنا مقالنا الأول عن سوريا  بعنوان “تطور الوضع في سوريا : الواقع والمآل”، فكانت الأحداث أسرع منّا إذ تهاوى النظام السوري بشكل سريع ومذهل، بما يجعلنا نغير العنوان ليصبح : “سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآل”. وقد قصدنا فهم خلفيات السقوط السريع من خلال اِستحضار مختلف التطوّرات الحاصلة على مستوى القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، فبدأنا الحديث عن إيران ووضّحنا التحولات الداخلية والخارجية التي جعلت هذا البلد يُحجم عن نجدة حليفه السوري بشار الأسد، وسنتناول في هذا المقال الخلفيات التي أدّت إلى تحوّل الموقف الروسي وتخليه عن النظام الذي أنقذه من قبل من السقوط، وفي مقالات مقبلة سنتطرق إلى تطورات وخلفيات الموقف التركي، ثم سياسات وطبيعة الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الأحداث، ثم نتحول إلى الحديث عن مكوّنات قوى المعارضة وخلفياتها الأيديولوجية وعلاقاتها مع القوى الأجنبية، لنخلص في الأخير لدراسة السيناريوهات المحتملة للشأن السوري والقضية الفلسطينية والمنطقة كلها. 

2 – روسيا: 

لقد كان للتدخل الروسي في الأحداث في سوريا دور أساسي في حسم الصراع المسلّح لصالح نظام بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة، منذ 30 سبتمبر / أيلول 2015، وكانت حجّة الروس حينذاك محاربة الإرهاب،  ثم اعتبرت أن لوجودها الطويل في سوريا طابعا شرعيا على أساس أنّ قواتها حطّت رحالها في الأرض السورية بطلب من الدولة السورية “الشرعية”. وقد استغلت هذا الوجود القانوني لتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس ليتجاوز وجودها في سوريا الأزمة السورية إلى حماية مصالحها في المنطقة كلّها وكلّ الفضاء الجغرافي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط. 

غير أنّها لم تكن تجهل تناقص المصالح وصراع الإرادات الدولية في بلاد الشام، فما إن أنهت وجود القوى المسلحة في شرق حلب بقوة نارية جبارة ذهب ضحيتها كثير من المدنيين الأبرياء؛ قتلا وتهجيرا، حتى اِتجهت إلى الاِتصالات الدبلوماسية من خلال مسار أستانا مع تركيا وإيران. 

اِكتفت ترتيبات مسار أستانا بالاِتفاق على خفض  التصعيد، وهو ما نقل القضيّة السورية نوعا ما إلى ما بعد بيان جنيف 2012 الذي بني عليه قرار مجلس الأمن 2254 في 2015 المدعوم من أمريكا، والذي اِقترح مشروعا سياسيا كاملا يقوم على تغيير الدستور وبناء نظام سياسي جديد يستوعب كلّ الطوائف وإجراء اِنتخابات حرة ونزيهة. 

لقد كان لروسيا دور كبير في تعطيل المسار السياسي، مدعومة بإيران، ثم زاد البعد عن الحلّ السياسي محاولات تركيا فتح صفحة جديدة مع النظام السوري من أجل حلّ مشكلاتها المتعلقة بالمهاجرين والأكراد، وحين اِنفتحت الدول العربية على بشار الأسد من جديد اِنغلق الأفق السياسي كلية وظنّ بشار بأنّه حسم الأمر نهائيا، رغم بقاء هذه الدول متمسكة بالحلّ في إطار ذات القرار الأممي.

لا شك أنّ قرار مجلس الأمن كان على الهوى الأمريكي ممّا أفقد الثقة فيه عند العديد من الأطراف ولكن لم يُعرض أي بديل له من داعمي النظام، أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، سوى ما صرح به وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مايو 2023 بأنّ “بلده سيطبق ما يهمه من مضامين القرار 2254”!

ولكن بعد كلّ هذه المجهودات لحماية النظام السوري ظهر الموقف الروسي اتجاه التطورات الجديدة باهتا، بشكل مفاجئ وغير مفهوم لدى الكثيرين. وقد بدا عدم الاِهتمام واضحا من الوهلة الأولى عبر طريقة تناول وسائل الإعلام الروسية للأحداث، حيث لم تتحرك البروباغاندا الروسية المعهودة، واِكتفى مذيعو القنوات ووسائل الإعلام الأخرى  بنقل الأخبار ، واِهتم المحلّلون بتقديم التحليلات والتفسيرات فحسب. ثم جاءت تصريحات المسؤولين فأكّدت بأنّ بشار  بات بلا دعم فعلي من صديقه بوتين.

اِكتفى المتحدث باسم الكرملين بالتصريح في اليوم الثاني من هجوم المعارضة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة “السلطات السورية إلى اِستعادة النظام الدستوري بسرعة” مصرحا بأنّ “روسيا تقوم باتصالات مناسبة وتحليل الوضع” وأنّها “ستسعى لتحقيق الاِستقرار في سوريا”، ومؤكدا بأنّ “روسيا قادرة على تقديم المساعدة للنظام السوري اِعتمادا على تقييم الوضع ميدانيا”. وقد تكون هذه التصريحات مؤشرا على أنّ الأمر لا يتعلق بعدم القدرة على تقديم المساعدة وإنّما ثمة توجه آخر يستند على دراسة تطورات الوضع الميداني. 

لا شكّ أنّ هذه التصريحات قد اُلتقطت من قادة الجيش النظامي فعلموا أنّه لا يمكنهم الاِعتماد لا على إيران كما بيّنا سابقا ولا على روسيا، ممّا جعلت معنوياتهم تنهار وصفوفهم تتفكك وأخذوا بالفرار من جبهات القتال. ويمكننا أن نقول بأنّه لم يصرح أي مسؤول دولي تصريحا مهينا للنظام السوري المتهالك ، كما كان تصريح مسؤول روسي مقرّب من الكرملين، وفق ما نقلته وكالة بلومبرغ، الذي قال فيه: “إنّ روسيا لا تملك خطّة لإنقاذ بشار الأسد ولا ترى إمكانية لإيجاد واحدة، طالما اِستمر الجيش في التخلي عن مواقعه”، وحينما دعت السفارة الروسية رعاياها إلى مغادرة دمشق كانت اللعبة قد أغلقت على حليف الأمس.

سارعت كلّ من روسيا وتركيا وإيران إلى الاِجتماع لمناقشة إمكانية تخفيض التصعيد وفق مسار أستانا، ولا شكّ أنّ ما جمعهم هو خوفهم من التدخلات الأمريكية، إذ أشار جميعهم إلى القوى الكردية الحليفة للأمريكيين، بل إنّ لافروف أشار إلى مصلحة الإسرائيليين في تغيير الوضع في سوريا. ثم اِلتحق بهذا الثلاثي مجموعة الدول العربية الخمس، ودخل الجميع في النقاش للعودة إلى القرار 2254، غير أن الذين كانوا في الميدان لم يمهلوا أحدا ودخلوا دمشق وأسقطوا الطرف الذي كان يطلب منه دوليا أن يدخل في المفاوضات من أجل تطبيق القرار، وبعد فرار الأسد لم يبق إلا طرف واحد وهو الطرف المنتصر، ولم يبق شيء يناقَش عن مستقبل سوريا سوى مع هؤلاء. 

لا شكّ أن اِنشغال الروس بالحرب  مع أوكرانيا يمثّل سببا رئيسا في إحجامهم عن التورط مجددا في المواجهة المسلحة في سوريا، وقد يكون بوتن قد أحسّ بأنّه يراد اِستدراجه في جبهة أخرى تستنزفه. غير أنّ  ثمة أسبابا أخرى بالغة الأهمية أثرت في موقف  تراجع الطرف الروسي عن دعم النظام السوري، سوى بعض الطلعات الجوية القليلة غير ذات الجدوى. 

إنّ جذور ذلك قد تعود إلى تغيّر الموقف التركي ورغبته في الحوار مع بشار الأسد لحلّ مشكلة اللّاجئيين والتوصّل إلى تفاهمات بخصوص الملف الكردي، وقد عُقد بهذا الشأن لقاءات رسمية عالية المستوى بين المسؤولين الأتراك والروس، واِتصل بوتن نفسه  ببشار الأسد بهذا الخصوص فرأى تصلبا كبيرا منه. 

وعلاوة على ذلك بات ثمة تفهّم كبير من القيادة الروسية لحاجة الأتراك للتدخّل المباشر في سوريا بغرض كبح جماح منظمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية المسنودة والمسلحة والمحمية من الخصم المشترك؛ الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن التداخل العميق للمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، بين تركيا وروسيا ساعد على تحقيق الاِستقرار في الخطوط الدبلوماسية بين البلدين، ومن ذلك تجنب الاشتباك بين الطرفين بأيّ شكل من الأشكال مهما كانت الصعوبات وحل المشاكل المعقدة وتضارب المصالح بالاِتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية. 

ثمّ إنّ ثمة مصلحة مشتركة أخرى بين البلدين، وهو الرغبة الثنائية في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، حيث أنّ روسيا كانت دائما تعتبر بأنّ إيران هي البلد الوحيد الذي ينافسها فعليا، سياسيا واِقتصاديا، في سوريا ومع النظام السوري ويُعقّد عليها تحكمها في الأوضاع في المنطقة، وقد بين هذا الامتعاض الروسي ما كان يتداوله محللون سياسيون في القنوات الروسية في نقد النظام السوري، واِتهمه البعض أنه يلعب على حبلين. 

ومن جهة أخرى ظلت البرودة في العلاقات بين إيران وتركيا ثابتة رغم الحوار القائم بينهما، ولم يكن أردوغان ينظر إلى تعنت بشار الأسد في الدخول في الحوار إلّا من زاوية أنّه مسنود في موقفه من إيران. وبسبب التطورات الداخلية والخارجية التي حكمت الوضع الإيراني أصبح إخراج إيران من اللّعبة ممكنا، وقد ساعد على ذلك شعور عدد من الدول العربية بأنّ اِنفتاحهم على الأسد كرئيس دولة عربية لم يبعده عن إيران وأنّ مصانع المهلوسات (الكبتاجون) في سوريا التي اِشتهرت بها عائلة بشار والمقربين منه أصبح ترويجها في الدول العربية بمثابة حرب ضدهم. 

وكلّ هذه الاعتبارات تأخذ كثيرا من المصداقية؛ الأخبارُ التي تؤكّد على أنّ تفاهمات روسية تركية كانت قد تمت قبل الهجوم تضمن مصالح روسيا، وخصوصا على مستوى القاعدة العسكرية في حميميم وطرطوس. وممّا يساعد على قبول هذه الأخبار أن المعارضة لم تتعرض للوجود الروسي بأيّ شكل من الأشكال، وأنّه خلافا للقوى الإيرانية وحزب الله اِلتزمت التشكيلات العسكرية والأمنية بدون إجراءات اِستثنائية مواقعها، رغم المشاركة الروسية الكبيرة في ما لحق الشعب السوري من بلاء عظيم.

ولا يمكن من وجه آخر إغفال اِلتزام روسيا بحماية الكيان الصهيونىّ من خلفيات تراجع روسيا عن حماية النظام السوري، فهي لا يهمها أن تعجز إيران عن اِستعمال الأراضي السورية لدعم حزب الله ونقل السلاح إليه، إن كانت تضمن مصالحها. 

وفي كلّ الأحوال، لا يعتقد أنّ روسيا كانت تريد أن يحدث اِنهيار تام للنظام السياسي، وإنّما كانت تريد تغيير شيء من الواقع على الأرض لصالح المعارضة وتركيا لكي يقبل الجلوس على الطاولة بخصوص ضمانات سلامة اللاجئين عند عودتهم وحلّ معضلة علاقته المشبوهة مع القوى الكردية الموالية لأمريكا، ولكنّ الأقدار شاءت غير ذلك، ولم يكن ثمّة من يستطيع وقف زحف قوى المعارضة نحو دمشق حين أتيحت لها الفرصة.

تطور الوضع السوري: الواقع والمآل

في تطورات متتالية وسريعة منذ 27 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي حققت المعارضة السورية تقدما عسكريا كبيرا في الشمال الغربي للبلاد يقدر إلى حد الآن بحدود 22 ٪؜ من الأراضي، سيطرت فيها على محاور استراتيجية ومدن مهمة منها حلب إدلب وحماة وعدة مطارات وكليات عسكرية وثكنات عسكرية وعدد كبير من العتاد العسكري.
بدا هذا التقدم السريع والواسع مفاجئا لكثير من المراقبين، وبات السؤال المتكرر الذي يُطرح هو أين سيصل توسع المعارضة على حساب النظام السوري وما هي آثار ذلك على المنطقة، ويلح المنخرطون والمساندون لطوفان الأقصى والحرب ضد الكيان ما هو مآل ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية.
سنحاول أن نفهم خلفيات هذه التحولات المهمة من خلال تتبع أوضاع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة وأهدافها ومكاسبها وخسائرها. ولكن قبل ذلك لا بد أن نؤكد مسألة مبدئية وهي أن النظام السوري نظام مجرم أوغل في دماء السوريين وهجّر الملايين منهم وسلم البلد للأجانب وأدخل سوريا كلها في مأساة عظيمة، وكان بإمكانه أن يحل الأزمة التي انفجرت في ظروف الثورات الشعبية العربية في 2011 عبر الحوار السياسي والحلول السلمية، لا سيما وأنه دُعي إلى ذلك من قوى المقاومة فرفض واختار القمع والإجرام. وفي كل الأحوال لا يمكن لحاكم فعل في شعبه مثلما فعل بشار الأسد في السوريين أن يستتب له الملك طويلا، ونهايته ستكون مؤكدة سواء في هذه الأحداث أو لاحقا، وأن السكان الذين ظلمهم وهجّرهم من حقهم استرجاع بلداتهم ومنازلهم وإنهاء غربتهم وتشردهم .
إن من أهم أسباب الانتصارات العسكرية التي حققتها المعارضة هو الانهيار السريع للجيش السوري في مواقع الاشتباك ، إذ ما إن تأكد ضباط وجنود هذا الجيش بعدم التدخل القوي لروسيا وإيران و حزب الله لنجدتهم حتى تركوا مواقعهم وعتادهم وفروا إلى الخطوط الأكثر أمنا. وقد أكد هذا الضعف والانهيار بأن النظام كان في طريقه إلى الزوال في وجه الانتفاضات الشعبية السورية، وأن الذين كانوا يديرون المعركة ضد الشعب السوري إنما هو الجيش الروسي والجيش الإيراني ومقاتلو حزب الله، وقد تحولت المعركة في الأرض السورية إلى معركة بالوكالة بين عدة مشاريع : المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، المشروع الروسي، المشروع الإيراني، المشروع التركي. فصار الوضع معقدا بمثابة الفتنة العمياء التي تذر الحليم حيران.
لا نريد أن نتطرق إلى طبيعة هذه الحرب الإقليمية، بل العالمية، بين مختلف المشاريع ولكن نحاول فهم ما يحدث في الوضع الراهن من خلال تطور أوضاع مختلف القوى الإقليمية والدولية، وذلك على النحو التالي:
١ – إيران: ربما يعتبر أهم تطور في المنطقة، كان له أثر على الأحداث القائمة حاليا في سوريا، هو تراجع المشروع الإيراني. ولا يُعزى هذا التراجع فورا إلى الحرب مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله، فقد بينت الضربات الصاروخية المكثفة التي وجهتها إيران لدولة الكيان بأن لها القدرة على الفعل، ولو رغبت في توجيه ضربات صاروخية للمعارضة السورية أثناء تقدمها لفعلت. ولكن ثمة تطورات أعمق تسكن في الداخل الإيراني، حيث أن طول الحصار المضروب على هذا البلد، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، دفعت الى صعود التوجه الذي يريد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية ليصبح هذا البلد بلدا عاديا يهتم بشؤونه الداخلية وحل أزماته الاقتصادية من خلال إنهاء الحصار والتصالح مع المحيط الخارجي، ويساند هذا التيار الإصلاحيون المعروفون في الشأن السياسي، و”البزاريون” وهم معروفون في الشأن الاقتصادي كطبقة قوية من رجال الأعمال الذين ساندوا الثورة في عهد الخميني ثم باتوا الآن يبحثون عن بيئة أعمال أفضل، وقد تُوّج هذا الصعود في الانتخابات الرئاسية السابقة على حساب المحافظين القريبين من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
تعود هذه الخلافات إلى سنوات عديدة سابقة، وتعتبر فترة الرئيس محمد خاتمي محطة مهمة في بروز هذه الصراعات، وقد اطلع الرأي العام على رسالة صارمة وجهها نفر من قادة الحرس الثور، منهم قاسم سليماني، إلى خاتمي يحذرونه فيها من تساهله مع مظاهرات الطلاب في يوليو / جويلية 1999، وبقي الخلاف يتصاعد إلى أن بلغ أشده في الفترة الأخيرة.
عندما تهيكل الخلاف وأخذ طابعا أمنيا توجه الحرس الثوري، خصوصا في عهد قاسم سليماني، إلى فصل قوى المقاومة عن التحولات السياسية داخل إيران، وبدأ يجهز ويدرب القوى الشيعية في مختلف البلدان، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن، لكي تحافظ على قدراتها العملياتية مهما كانت الظروف في الداخل الإيراني. غير أن الخلاف بلغ أشده في السنوات الأخيرة ووصل الى حد بات الاتهام يتداول داخل الشبكات المساندة لمحور المقاومة بأن مقتل قاسم السليماني والرئيس الإيراني السابق ومن كان معه في الطائرة التي سقطت، وكذا إسماعيل هنية ونصر الله كان بتخابر داخلي من قوى تريد إخراج إيران من الصراع، خصوصا الوضع الذي وجدت نفسها فيه بعد طوفان الأقصى دون أن تخطط الدولة الإيرانية لذلك.
لا يتوقع أن تكون المواجهة بين التيارين سهلة، فالتيار الاصلاحي ومن على شاكلته يستفيد من التطورات الإقليمية والدولية، وعلى قوته الاقتصادية، والتمركز المؤسسي ويستند على أغلبية شعبية لا تحكمها الأيديولوجية الصلبة، والتيار المحافظ يملك قوة عسكرية جبارة، وتتجه الشرعية الدينية لصالحه، وله قوة اقتصادية وكتلة مالية كبيرة، ولأنصاره جلد وصبر كبيرين، وهو يستطيع أن يحدث انقلاباً بالقوة لو لا التطورات العميقة في المحيط.
أما عن حزب الله فهو غير قادر على العودة الى المغامرة التي تورط فيها سابقا، من جهة أنه في وضع صعب بالنظر للخسائر التي تلقاها في مواجهته مع الكيان، ومن جهة أن المشروع كله في تراجع كبير والحلفاء الذين احتاجوا اليه سابقا غير راغبين في النجدة العسكرية لبشار الأسد إلى حد الآن، ومن جهة أنه ربما لا يرغب في افساد صورته مرة أخرى بعد أن رمم الكثير منها في انخراطه في طوفان الأقصى نصرة لأهل غزة، ومن جهة أن الأمر لم يصبح مجديا أمام الانهيارات الكبيرة للجيش السوري وهو يرى أن تدخلاته السابقة ذهب مفعولها هباء منثورا.
ضمن هذه التطورات الداخلية، لم يتم نجدة بشار الأسد من قبل ايران بشكل مباشر وقوي، ليس لأن إيران ليس لها القدرة، ولكن لأن القرار السياسي غير موجود، أو ربما غير متفق عليه، بسبب الكلفة الكبيرة المتوقعة، لا سيما أن التدخل الإيراني هذه المرة قد يجلب المواجهة المباشرة مع قوة إقليمية لها مصالح حيوية هي تركيا، والموقف الروسي غير واضح لحد الساعة، فالأفضل لإيران البحث عن حلول دبلوماسية من خلال مسار أستانا مع روسيا وتركيا.
٢ – روسيا
… يتبع ..

كيف نفهم وقف إطلاق النار في لبنان؟

حاول الاحتلال الصهيوني وقادة الولايات الأمريكية المتحدة وطوابير العمالة إظهار اتفاق وقف إطلاق النار بأنه هزيمة للمقاومة وأن طوفان الأقصى كله آيل للانكسار، وقد أثر خطاب هذه القوى الظالمة في معنويات كثير من مناصري الحق الفلسطيني وداعمي المقاومة، كما جاء هذا التحول على هوى المتخاذلين والمخذلين الذين يريدون الرجوع إلى دوائرهم الآمنة فلا تنغص عليهم الحالة الفلسطينية الملتهبة وصور المآسي السكانية في غزة حياة الدعة والهدوء المألوفة.

من يعتقد بأن المعركة قد انتهت فهو واهم، سيبقى طوفان الأقصى يظهر عجائبه، وما هذه الهدنة إلا وجه من وجوه هذه الظاهرة العجيبة، ولعل أعظم درس نستشفه من المواجهة المسلحة بين جيش الكيان وحزب الله، أننا أمام صورة جديدة واضحة بيّنة لحقيقة الجيش الإسرائيلي، وما يمكن أن يحدث له حينما يحكم البلاد العربية والإسلامية حكام سادة أشاوس يمثلون حقيقةً شعوبهم، فهذا الجيش الإسرائيلي  الذي هزم البارحة ستة جيوش عربية واحتل كامل فلسطين وسيناء والجولان في ستة أيام لم يستطع بعد سنة كاملة أن يحتل أكثر من كيلومترين من جنوب لبنان، ورغم الضربات المباغتة التي وجهها لحزب الله فقضى بها على طبقة قيادية كاملة من وحدة الرضوان والمجلس الجهادي وعلى رأسها الأمين العام، والرجل التاريخيّ الرمز حسن نصر الله، ظلت البلدات المحتلة التي يسكنها الاسرائيليون تتلقى القصف الصاروخيّ، ألحق ببعضها أضرارا جسيمة، كبلدة المطلة  وكريات شمونة والمنارة، بل إن تل أبيب نفسها لم تأمن، وحين تتحدث وسائل الإعلام بأن الهرع إلى الملاجئ يصل إلى أربعة ملايين فهذا يبين حجم مأساة الإسرائيليين لمدة أكثر من سنة.

إن الاسرائيليين فهموا بأنهم تورطوا في الحرب في لبنان، وأنها ستكون حرب استنزاف مدمرة لهم ولمستقبلهم، وأنه لا يمكن أبدا تحقيق أهداف الحرب المعلنة المتعلقة بنزع سلاح حزب الله وكسر خط المقاومة في لبنان، فقبلوا وقف إطلاق النار واعتمدوا على الولايات الأمريكية المتحدة لتحقق لهم مكاسب شكلية تحفظ لهم ماء الوجه، كمسألة خروج حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وعدم السماح لحزب الله بالتسلح وصناعة السلاح.

 فحزب الله رغم الخذلان الكبير الذي تعرض له من قبل الطابور الخامس اللبناني وضغط الحواضن الاجتماعية التي لا تناصره، والأوضاع الصعبة لحاضنته التي شردت في اللجوء،  بقي جزء أساسيا من منظومة الدولة، وهو جزء من الجيش الذي سينتشر في لبنان، واللاجئون الذين سيعودون إلى مساكنهم في الحدود مع فلسطين كثير منهم هم منه وله، علاوة على أنه حظي بتأييد كبير رسمي وشعبي من القوى السنية التي قاتل بعضها معه، فهو قد خرج بمكانة معتبرة وسيجد الطرق المناسبة لإعادة بناء ما خسره في الحرب.

غير أنه لا يمكن أن نقول بأن حزب الله خرج منتصرا مظفرا في هذه الحرب، إذ الهدف الأساسي الذي اندفع من أجله للمواجهة قد توقف، وهو مناصرة غزة ووحدة الساحات. لا شك أنه أعطانا صورة واضحة لضعف الجيش الاسرائيلي ومنهجا متكاملا في كيفية هزيمته وإنهاء وجود الاحتلال  من الأراضي الفلسطينية  في مستقبل غير بعيد ولكن الضربات القاسية التي تلقاها والضغوطات الخارجية ومخاطر الانفلات الداخلي ضده ألجأه إلى قبول وقف القتال في لبنان دون أن يتوقف في غزة. وهو في كل الأحوال مشكور مبرور على النصرة التي منحها، والتضحيات الجسيمة التي قدمها مختارا بتلقاء نفسه دون أن يستشار في إطلاق طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية.

وإذا ما سألنا عن مصير غزة وهي تواجه مصيرها وحدها فإن أول ما نقوله أن لها الله العزيز الجبار المتكبر، ولسان حال مجاهديها وسكانها هو قول الله تعالى في سورة آل عمران: ((  الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)))، ثم إن الطريقة التي دخل بها حزب الله الحرب شغلت الاسرائيليين ولكنها لم تكن حاسمة في وقف العدوان على غزة، إذ أن حسابات حزب الله واستراتيجياته وتكتيكاته الحربية في البداية لم تكن على النحو الذي آلت إليه في الأخير إلى درجة أنه فرض وقف الحرب على لبنان، فلو دخل بكل قوته منذ البداية كانت الأمور تكون مختلفة ومؤثرة في مسار الحرب على غزة. وعليه فإنّ سُكونَ جبهة لبنان لن يؤثر دراماتيكيا على الأوضاع في جبهة فلسطين في غزة والضفة، ولا توجد جريمة لم يقترفها الصهاينة لتحقيق أهدافهم ضد حماس وحاضنته، فعلوا من الجرائم ما لا تتحمله الجبال، فما حرروا الأسرى ولا أنهوا المقاومة، ولا فرضوا قوة عميلة تسير القطاع،  فماذا عساهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوا، فالمسألة مسألة  ثبات ورباطة جأش ومواصلة استنزاف العدو ولو بوتيرة أقل مما كانت عليه، بما يجعل بقاء جيش الكيان في غزة مكلفا يوما بعد يوم.

والأهم من تفسيرات الخنوع والخذلان الذي يسارع إليه ضعاف النفوس في أمتنا، وبدل حالة الإحباط والبقاء في مشاعر الإشفاق  تجاه أهلنا في غزة فإن الواجب أن تهب الأمة قاطبة لنصرة غزة وتغطية الفراغ الذي سيتركه حزب الله، وهذا الحديث يتجه أكثر إلى الذين أغرقونا في خطاب الطائفية ضد حزب الله، ها هو الحزب قد توارى عن معمعة الحرب فأرونا بطولاتكم وخذوا خشبة سباق التتابع (على نحو ما قاله القائد أسامة لأحدهم)!

أما تهديدات بايدن فهي من جنس جرائمه السابقة في حلفه مع الكيان في عدوانهما على أهلنا في فلسطين، أما قوله وقول وزير خارجيته وعدد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض بأن وقف الحرب في لبنان هو للتفرغ لحماس فهو شرف لحماس وتأكيد للعالمين بأن معركة الشرف إنما هي في فلسطين وأن أشراف الأمة هم أبطال المقاومة الفلسطينية قبل غيرهم. وفوق ذلك سيسعى بايدن  ذاته بدعم من خليفته ترامب لإبرام صفقة أخرى مع حماس قبل رحيله، وما حديثه بأن لدى حماس خيار واحد هو تسليم الرهائن إلا  هراء لا طائل منه، وقد أعطته المقاومة الجواب فورا بأنهم ثابتون على مطالبهم لوقف القتال، وأيم الله قد صدقوا! هل يمكن أن ترفع الراية البيضاء بعد كل تلك التضحيات الجسام في وجه جيش بدأ ضعفه بينا في لبنان وفلسطين. فإن تم الاتفاق على وقف القتال في غزة قبل مغادرة بايدن  بما يحقق مطالب الفلسطينيين  فهو ذاك ولله الحمد، فإذا لم يتم ذلك فإن مجيء ترامب قد يكون أضمن لنهاية العدوان، ذلك أن الديمقراطيين محكومون بالمؤسسية والتأثير العميق باللوبيات،  والمؤسسية لها قدرة على الصبر والمثابرة، أما ترامب قد يظهر منه عنف أشد في البداية ولكن إذا رأى الثبات والصمود لدى الفلسطينيين فإن ذهنيته التجارية ستدفعه للتفاوض من أجل وقف القتال ليفي بوعده الانتخابي وليوقف نزيف الخسائر المادية لبلده دعما لإسرائيل،  وليتفرغ لأشياء أخرى تهمه أكثر على الجبهة الصينية، والحرب في أركرانيا. أما إن قامت القوى الحية في الأمة بواجبها لتحريك الشعوب في كل البلدان في الساحات وبمحاصرة السفارات الأمريكية على سبيل المثال، وربما تسرب أعداد من المقاتلين الشباب إلى ساحات المعركة ضد الكيان وبروز أمارات على تحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة فإن دفع الرئيس الأمريكي المقبل لوقف التوتر سيكون مؤكدا.

إن مسؤولية الأمة بعد توقف الحرب في لبنان  صارت كبيرة جدا، لقد كشف دخول حزب الله الحرب ومن ورائه ايران حالة الخذلان في باقي الأمة الإسلامية في عالم السنة، ونأي إيران وحلفائها بالنفس عن الحرب سيكشف هذا الخذلان أكثر إن لم تتحرك الأمة بحكوماتها وقواها الحية لنصرة غزة والضفة، لا سيما أن تحولات كبيرة في الداخل الإيراني ستدفع إيران للانشغال بنفسها، فرئيس الجمهورية الجديد ينتمي لتيار يؤمن بالتخفف من التبعات الخارجية والتركيز على بناء الذات وهو تيار قوي يحمله “البزاريون” الذين يسيطرون على جزء معتبر من القطاع الخاص في الاقتصاد الإيراني، ولا غرابة أن يكون هذا التيار قد شارك مع الأمريكان في مفاوضات وقف إطلاق النار، وسيكون ذلك سبيلا مناسبا لإعادة مناقشة الملف النووي بعد عودة ترامب لتجنب التهديدات التي أطلقها بايدن ونتانياهو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار. أما الجناح الإيراني القوي المرتبط بالحرس الثوري والمرشد الأعلى فقد تلقى ضربات موجعة بعد وفاة قاسم سليمان والرئيس السابق، وخصوصا بعد مقتل حسن نصر الله الذي كان يمثل ركيزة أساسية في الرؤية الثورية ضد الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وسيتطلب رجوعه للفعل والتأثير وقتا ثمينا.

إن الزمن إذن هو زمن عالم السنة، ولئن وقع الاستبدال بالإيرانيين وحلفائهم إلى غاية اليوم فإن الاستبدال هذه المرة سيكون من داخل عالم السنة بتيار عام في الأمة يغير كل الموازين لصالح فلسطين ولصالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء.

ما الذي سيتغير مع عودة ترامب؟

إن اختيار الأمريكيين بين كاميالا هاريس ودونالد ترامب هو خيار بين مقاربتين  مختلفين في إدارة الشأن العام الداخلي وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية، مع اجتماعهما في الثوابت الأمريكية في المجالات الاقتصادية والثقافية الحضارية وفي الفلسفة الحاكمة للمنظومة  الاقتصادية الرأسمالية، ونفوذ اللوبيات الكبرى وعلى رأسها اللوبي الصهيوني.

فكاميلا هاريس هي فرد في منظومة مؤسسية قوية، لم تختر نفسها ولكن اختارتها المؤسسية الراسخة، التي تصرفت في سلوكها وأفكارها وخطابها وقرارتها بعد ترشيحها،  وهي المؤسسية التي تحكمها الفلسفة الحضارية الأمريكية الغربية الرأسمالية المهيمنة، بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين لم يكن بينهما فروق جوهرية قبل ترامب.

أما دونالد ترامب فقد جاء كنتيجة لمرض هذه المؤسسية الرأسمالية ضمن صعود موجة اليمين المتطرف في الدول الرأسمالية في أوربا وأمريكا.

كان اليسار سابقا هو المعبر عن الآثار الاجتماعية السلبية للتوجهات الرأسمالية الليبيرالية والنيوليبيرالية، ولكن الجزء الأكبر من اليسار اتجه إلى الوسط منذ منتصف ونهاية التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واقترب من اليمين بفعل إكراهات السياسة وتحكم اللوبيات المالية وأرباب الشركات العابرة للقارات في قادته الجدد الذين لم يكن لهم رصيد ثوري ونضالي في اليسار التقليدي، وكان توني بلير أبرز قائد يساري دفع إلى تغيير أيديولوجية هذا التيار، ولم تبق إلا أقليات في أقصى اليسار تكافح ضد عقيدة السوق واستغلال الشعوب، تحافظ على توجهاتها التحررية في الجانب الشخصي والعائلي ولكن تكافح كذلك لصالح حركات التحرر من الاحتلال، وقد وجدت في العدوان الاسرائيلي على غزة فضاء واسعا عبرت فيه بقوة مدهشة عن وقوفها مع القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية فجلبت إليها أصوات العرب والمسلمين رغم الخلافات الأيديولوجية والسلوكية  الكبيرة، وقد برز ذلك بشكل أكثر في فرنسا مع حزب فرنسا الأبية.

حينما اكتملت سيطرت اللوبيات المالية على الساحة الحزبية في أوربا وأمريكا، وترك اليسار أيديولوجيته العمالية الاجتماعية، أفرزت الرأسمالية المتوحشة تيار اليمين المتطرف الذي لجأت إليه الفئات الشعبية المحبطة من تدهور ظروف المعيشة، غير أن هذا التيار اليميني الصاعد لم يشكك في التوجهات الرأسمالية، ولم يتعب نفسه في  البحث عن بدائل تعالج ديكتاتورية المتحكمين في الثروة وإنما حملوا اللاجئين المسؤولية واتهموهم بسرقة مناصب الشغل من السكان، وتهديد ثقافة البلدان التي أقاموا فيها، وأنهم البيئة التي ينشأ فيها الإرهاب.

حاولت كاميلا هاريس مواجهة خطاب ترامب الذي ركز على طرد المهاجرين غير الشرعيين، باستمالة الأقليات بوعود انتخابية تشبه خطاب اليسار الأوروبي فاقد المصداقية، كمسألة الرعاية الصحية والتحفيزات في مجال السكن، وتعزيز الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى من خلال تخفيف التكاليف الضريبية عن الطبقة الوسطى والدنيا وزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى  إلى 28% وفق ما ورد في تقرير وكالة بلومبيرغ. غير أن الناخبين في الطبقات المستهدفة لم يصدقوها، كما لم يصبحوا يصدقون يسار أوربا،  وعدُّوها خادمة للوبيات المالية وأن وضعهم ازداد سوء في فترة حكم الديمقراطيين.

 لن يستطيع ترامب هو الآخر إصلاح الوضع الاقتصادي في أمريكا أثناء عهدته، سيكتفي بالخطاب الشعبوي والإجراءات التسكينية،  وتحميل المهاجرين المسؤولية، وابتزاز الأمم الغنية الضعيفة لأخذ خيراتها وأموالها مقابل المال، وسيطلق العِنان لنفسه في مسألة الاستغلال المفرط للطاقة الأحفورية التقليدية وغير التقليدية دون مراعاة المخاطر البيئية واضطراب الأسعار في السوق الدولية،  فهو ذاته صورة من صور الأزمة الاقتصادية العالمية.

لن يستطيع حل مشكل الاقتصاد الأمريكي لأن المنظومة الرأسمالية نفسها في أزمة مستدامة، يقول عنها العديد من علماء الاقتصاد والاجتماع الغربيين، منهم عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين، بأنها نهاية منظومة وليست أزمة اعتيادية للمنظومة،  وحتى الفلسفة الليبيرالية التي وراء النظام الرأسمالي انتقلت من فلسفة حرية في المجالات الاقتصادية والسياسية وغيرها إلى نمط تفكير لاهوتي، السوق هو بمثابة الإله القوي، وله أنبياء وتوصيات لا يمكن تخطيها، على حد استطلاع رأي العديد من الباحثين في مختلف التخصصات قام به الكاتب الفرنسي ستيفان فوكار، وعبارة إله السوق وعبادة الاستهلاك والشهوات صارت دارجة عند كثير من الفلاسفة في العالم، وما ترامب إلا واحد من أنبياء المنظومة، فهو ذاته ملاحق في قضايا أخلاقية كثيرة كانت ستدخله السجن، ربما، لو لا نجاحه في الانتخابات، كما أنه سياسي تاجر يسوس الشأن العام بالصفقات والابتزاز والاحتيال، وليس له من مبادئ سوى الربح وتعظيم الفائدة.

إن المرجح أن تكون ولاية ترامب الثانية ذات أثر كبير على الوضع الداخلي في أمريكا من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو يملك الأغلبية في المجلسين ولن تكون له، على الأقل في مدى عامين، كوابح تمنعه من تنفيذ مخططاته.

إن مخططات ترامب تستجيب في الأساس لتيار شعبي عام تشكل على يمين الحزب الجمهوري  يعتبر أصحابه أنهم يمثلون أمريكا الحقيقية، البيضاء  ذات الجذور الأوربية البروتستانتيّة،  على نحو الوصف الذي ذكره صامويل هنتنتن في كتابه “من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية”  الذي صدر عام 2005، وقد تصاعد هذا التيار كرد فعل للتيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي والذي مثل صعود باراك أوباما الصورة الأبرز له.

لم يتماسك التيار  التقدمي في الحزب الديمقراطي بعد أن خفت الحلم الأمريكي الذي “يدمج كل الأعراق والديانات والشرائح” منذ أن اتضح بأن باراك أوباما ذاته هو ( أو صار ) جزء من المؤسسة الأمريكية التقليدية التي تحسن استغلال التنوع لاستمرار بقائها فحسب، كما تعمق التشتت حينما اعتقد الديمقراطيون بأن المؤسسية وما تملكه من أدوات جبارة تعفيهم من الحاجة إلى قائد كارزمي جامع و مقتدر يحافظ على الحلم ويعطي الأمان للجميع والهيبة أمام الآخرين، فكان اختيارهم لجو بايدن مدمرا لهم ثم كان استخلافه بكمالا هاريس أكثر إحباطًا، غير أن ثمة سببين رئيسين آخرين وراء خيبة أمل التقدميين في الحزب وهما الأوضاع المعيشية وجرائم قادة الحزب في غزة، والفوضى الحاصلة في العالم، وتلك هي المعطيات التي استغلها ترامب كما أشرنا إليه سابقا.

ولئن تزعزع تماسك التيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي فإن التيار اليميني الشعبوي الذي تشكل على يمين الجمهوريين [والذي كان بروزه الأول مع حركة “حزب شاي” الذي تأسس عام 2008 ] قد وجد شخصا قويا استطاع أن  يجمعه ويحوله إلى ظاهرة فرضت نفسها من خارج المؤسسية الأمريكية وهو دونالد ترامب أو ما يسمى بالظاهرة الترامبية.

ثمة تفاعلات كثيرة غير واضحة العواقب ستحدث في الداخل الأمريكي  في العهدة الثانية لترامب تتداخل فيها طموحات البيض اليمينيين للسيطرة على المؤسسات والقرار في كل المستويات، وطموحات الملونين السود واللاتينيين الذين تتصاعد جرأتهم أكثر فأكثر و الذين سيصبح عددهم الإجمالي قريبا اكثر من عدد البيض، وتفاعلات القضية الفلسطينية وتصاعد فاعلية العرب والمسلمين والأمريكيين الآخرين المتعاطفين معها، والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والمشاكل المعيشية التي لا يظهر لها أفق للحل ضمن هيمنة الرأسمالية المتوحشة التي ستطغى أكثر، والاختلافات القيمية والثقافية التي تتعمق بشكل أبين، والتطورات الدولية التي ستفرض نفسها على أمريكا وتقلص من أثرها وهيمنتها في العالم.

أما عن التطورات الدولية فإن صعود ترامب يجسد موجة متصاعدة في العالم يسميها الفلاسفة ومفكرو العلوم السياسية ” الأوليغارشية – الديمقراطية” وهي الديمقراطيات المرتكزة على حزب أو شخصية قوية مهيمنة تصعد إلى الحكم بالانتخابات الديمقراطية ولكن تكون متحكمة في القرار دون إشراك فعلي للمواطنين وممثليهم في ذلك، ويعدّون أنظمة القوى الصاعدة من هذا النوع في روسيا والصين والهند وتركيا وإيران على سبيل المثال.

يتحدث  المؤرخ والعالم الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود عن تحلل الديمقراطية الأميركية، و”نهاية نظام الاستحقاق والانتقال إلى نوع من الأوليغارشية المغلقة التي سدت آفاق الحراك الاجتماعي والارتقاء المهني”، وكما تنبأ هذا الفيلسوف بنهاية الاتحاد السوفياتي فقد تنبأ مجددا بقرب أفول أمريكا،  التي لم يعد فيها، حسبه، فرق بين التسلطية النخبوية الليبيرالية والاستبداد الروسي، وأن ذلك التسلط المتصاعد، لدى الجمهوريين والديمقراطيين، هو الذي سيعمق الأزمات الاقتصادية والفروق الاجتماعية والثقافية مستقبلا في الولايات الأمريكية المتحدة بما يسرع أفولها، وما الجديد الذي يمثله ترامب في هذا الشأن إلا أنه يُظهر حقيقة هذه الأوليغارشية الانتخابية الأمريكية التي يحاول الديمقراطيون إخفاءها.   

إن أكبر المتضررين من رجوع ترامب هي دول الاتحاد الأوربي، وبالذات الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار ، الذين يرون في ذلك تشجيعا لأحزاب اليمين المتطرف، كما أنه سيتَكشّف لهم بفزع كبير الآن حجم الورطة التي أدخلهم فيها الديمقراطيون الأمريكانيون بشأن الحرب في أوكرانيا. يمثل ترامب توجها مختلفا عن الديمقراطيين في السياسة الخارجية، فهو لا يؤمن بالتحالفات الدولية المستقرة وهو ينتمي إلى حد ما إلى ” النزعة الانعزالية” الأمريكية  والتي يمثلها في خطابه شعار “أمريكا أولا”. وبالرغم من أن له شركاء في البنتاغون والكونغرس من لا يرون ذلك سيعمل على جعل علاقة أمريكا بالأوروبيين على أساس المساهمات المالية في الحلف الأطلسي  وتقليص ميزانية الدعم الأمريكي بالسلاح لأوكرانيا، وعدم التدخل المباشر في الحروب، وعدم الالتزام بالدفاع المبدئي عن الحلفاء .

لقد مثل انسحاب امريكا من أفغانستان في عهد بايدن دون تنسيق مع الأوربيين مخاوف كثيرة لدى هؤلاء فقرروا الاعتماد على أنفسهم بوضع سياسة  دفاع أوربي مشترك في لقاء بين مؤسساتهم العسكرية في الأسبوع الموالي للانسحاب، ولكن أمريكا أفهمتهم بأن خلفية الانسحاب هو تمتين تحالفات المعسكر الغربي، في مواجهة الصين وروسيا. ولقطع الطريق عليهم ورطتهم في الحرب مع روسيا ( ضد مصالحهم)  ليبقوا تحت المظلة الدفاعية الأمريكية.

أما ترامب فإنه سيمثل تهديدا أكبر لهم بسياسته الانعزالية المحمية جغرافيا والتي لا تخضع للتحالفات الإستراتيجية بعيدة المدى كما هو شأن المؤسسية الأمريكية. تحالفاته غير متوقعة التحولات وتقوم في جوهرها على الصفقات الموضعية، غير أن الورطة في أوكرانيا كبيرة وقد يبدأ الأوربيون بتغيير مقارباتهم في العلاقة مع روسيا وربما في العلاقة بينهم على مستوى الاتحاد الأوربي.     

أما عن الدول  الصاعدة دوليا وإقليميا فإنها ستكون بالمجمل سعيدة برجوع ترامب، وذلك بسبب سياسته الانعزالية التي لا تكترث بالأوضاع الداخلية للدول، ولا يهمها الحديث عن الديمقراطية ووضع الأقليات، ولو نفاقا كما هو حال الديموقراطيين، وعليه سيكون الحوار مع ترامب أسهل للبحث عن مصالح مشتركة قريبة الأمد.

ستكون روسيا هي الأكثر سرورا بسبب المشاكل التي سيسببها ترامب في علاقته  بالناتو ، واحتمال إنهاء الحرب في أوكرانيا بما يكون أكثر كسبا لبوتين. وبعد بوتين سينظر أردوغان إلى عودة ترامب بالنظر للعلاقة السيئة  بينه وبين الديمقراطيين، ولسهولة تواصله معه وعقد صفقات لصالح الطرفين، خصوصا إذا استطاع أن يبعده عن دعم الأكراد كما كان الحال مع المؤسسية الأمريكية في عهد بايدن.

أما بالنسبة لإيران فإن الأمر ملتبس، يصعب لمن يعتمد على المعلوم عن العقلية الترامبية أن يصدق بأن أمريكا ستتورط في الحرب مع إيران كما يأمل نتنياهو، ولكن إن لم يستطع  ترامب كبح جماح المجرم نتنياهو ووقف الحرب فإن الاحتمالات تصبح واردة بحسب تطورات الأزمة، وقد تكون عهدة ترامب الثانية هي سبب ميلاد القنبلة النووية الإيرانية، بسبب إمكانية تعثر المفاوضات .

أما الدولة التي ستعتبر أن صعود ترامب يمثل تهديدا لها فهي الصين، من جهة أنه ثمة اجماع عند الخبراء والاستراتيجيين وأصحاب القرار في أمريكا أن الصين هي الخطر الأول والأكبر على الهيمنة الأمريكية، في مجال التجارة والتطور التكنولوجي حاليا وفي مجال الجيوستراتيجي والعسكري لاحقا، ولذلك كل الإجراءات الكبرى التي اتخذت في امريكا هو باتفاق الديمقراطيين والجمهوريين، مثل ” قانون الصين” لتمويل الأبحاث العلمية، واتفاقية أوكوس مع المملكة المتحدة البريطانية وأستراليا، واتفاقيات الدفاع المشترك مع اليابان وكوريا الجنوبية وغير ذلك. ومن جهة أخرى هناك البعد التجاري لشخصية ترامب التي جعلته يشتبك في هذا المجال عدة مرات مع الصينيين في عهدته السابقة، غير أن الصينيين يمكنهم الاطمئنان بعدم تفضيل الساكن الجديد للبيت الأبيض لخيار الحرب بخصوص قضية تايوان،  وعليه سيلعب القرب الجغرافي لصالح الصين في هذه القضية، والقادة الصينيون لهم القدرة على المناورة في القضايا التجارية .

أما بخصوص الدول العربية، فإن الأكثر ابتهاجا بصعود الترامب هي المملكة العربية السعودية التي وجدت صعوبات كبيرة في ضبط العلاقة مع الديمقراطيين الى درجة أنها اتجهت شرقا تجاه روسيا والصين وكادت تقيم ثكنة عسكرية صينية على أرضها، وهي لا تخشى الرئيس الأمريكي الجديد لأنها ستكون مستعدة لتدفع له، ولن يكون عندها مشكل للانضمام إلى قطار التطبيع بحسب مآلات طوفان الأقصى، وستجد الإمارات فرصة لها بعودة ترامب لقيادة المنطقة نحو  اتفاقيات أبراهام، وهو لن يحاسبها على علاقاتها المتميزة مع بوتين واعتماد هذا الأخير على الإمارات في الاستيراد واعادة تصدير البضائع الروسية، للتحايل على الحصار  الغربي الأمريكي. أما باقي الدول العربية والإسلامية فستبقى تحت السقف الأمريكي كائنا من كان الذي يحكمها.

غير أنه بإمكان الدول العربية والإسلامية، لو تعي وترشد،  أن تعرف أن العالم سيتجه إلى شكل من التعددية القطبية التي ستزداد فرصها مع الوضع الجديد في أمريكا، وأن تلك مصلحتها وفرصتها، ولكن دون ذلك رؤية وخطط وعزائم ووحدة على تحقيق المصالح المشتركة غير متوفرة للأسف الشديد.

وعن القضية الفلسطينية سيحاول ترامب أن يضغط على الجميع لإنهاء الحرب ومنع توسعها.  وسيكون الأكثر صبرا وقدرة على الصمود، بين الفلسطينين والإسرائيليين،  هو الأكثر استفادة من الواقع الجديد، وبلا شك لن يكون الحكام العرب داعمين للفلسطينيين في هذا الشأن.

وبما أنه لا يمكن أن يطلب من أهل غزة والضفة الغربية أن يقدموا أكثر مما قدموه ولا يمكن أن تتحمل ايران وحلفاؤها في محور المقاومة العبء كله نيابة عن الأمة لدعم فلسطين ولبنان، فإن الأسلوب الذي سيفهمه ترامب ويتفاعل معه بشكل إيجابي لصالح القضية الفلسطينية هو أن يتحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة، وتنخرط كل القوى الحية في المعركة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ومعهم الأحرار في كل القارات للضغط على الحكام المتخاذلين، خصوصا في دول الطوق،  ولتعبئة الجماهير في كل مكان ضد الصهيونية وحلفائها، حتى يَفهم ترامب وغيره بأن الكيان الصهيونى صار عبئا على العالم يجب التخلص منه.

لماذا خسر الديموقراطيون الانتخابات في أمريكا؟

حينما يريد الله تعالى الانتقام من الطغاة والظالمين يجعل لذلك أسبابا كثيرة. من حيث يحتسبون ويحاولون تجنبه فيعجزون، ومن حيث لا يحتسبون فتكون مفاجأتهم بحجم الخسران كبيرة، وهي حالة سننية لا يلحظها إلا أولو النهى، والقرآن الكريم عامر بالآيات المعبرة عن كيفية إنذار الظالمين أو إهلاكهم.

ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأرض إنه كان عليما قديرا﴾ سورة فاطر 43-44

فهل رأينا استكبارا أكثر من استكبار الرئيس الأمريكي بايدن وفريقه في الحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم خليفته التعيسة للترشح في الانتخابات الرئاسية كاميلا هاريس، لم تؤثر فيهم صور الدمار الشامل والإبادة الجماعية في غزة، وراحوا يعلنون بلا حياء مشاركتهم في الجريمة، ويتبجحون بيهوديتهم على نحو ما قاله وزير خارجيتهم وانتمائهم العلني للصهيونية كما اعترف بذلك الرئيس نفسه، وقدموا   دعما لا محدودا للمتوحشين الصهاينة، بالسلاح والمال والتغطية السياسية والدبلوماسية والإعلامية، بلا خشية من أي عاقبة ودون أي اعتبار للاحتجاجات العالمية الكبيرة، ولا أي تقدير لأصوات الشباب والطلبة في حزبهم ذاته، والمظاهرات الإنسانية في مختلف أنواع العالم، فظنوا بأن مكرهم السيء لا يقدر على كسره شيء وأن لا قوة فوق قوتهم تقهرهم، فحاق بهم مكرهم، كما بينته الآية، ضمن مساقات سننية ماضية في الإنسان والمجتمعات البشرية، لا تتغير ولا تتبدل، يعرف الراسخون في علم التاريخ كيف عملت في أمم عظيمة قوية من قبل، وصل بعضها إلى التربب وادعاء الألوهية،  وكيف تعمل في كل وقت، ويشهد المؤمنون من خلالها بقوة الله تعالى  الذي لا تعجزه أمريكا، ولا جيوشها ولا جبروتها، وإنما يُمضي حركة السنن وقوانين الكون بعلمه والمقادير التي يريدها دون أن يكون فوق قدرته قادر أبدا، سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

لقد كانت استطلاعات الرأي ترشح الديمقراطيين للفوز رغم تقارب النتائج بين الطرفين، وكان كثير من صناع الرأي يشيعون بأن دونالد ترامب رجل غير سوي، يعتمد الشعبوية ويستند على صعود اليمين المتطرف الأبيض ولن يستطيع هزيمة المؤسسية الأمريكية الراسخة مرة أخرى، فإذا بالخسارة كانت مدوية شاملة تاريخية، ليس على مستوى الرئاسة فقط بل خسارة المجلسين، وخسارة معاقل كانت محتكرة من الديمقراطيين.

إن الله تعالى يسير الكون بالقوانين والسنن، وهو ما نسميه تارة الأسباب، والأسباب التي جعلت كاميلا هاريس تخسر الانتخابات كثيرة منها ما يلي:

  • أهم تلك الأسباب تراجعها في أصوات الناخبين المحسوبين دوما على الديمقراطيين، وهي أصوات السود واللاتينيين،  حيث ارتفع التصويت لصالح ترامب عند السود من 8% إلى 13% وعند اللاتينيين من 32% إلى 45%، وهؤلاء يمثلون أكثر الشرائح الاجتماعية تضررا من الأزمات الاقتصادية للنظام الرأسمالي المتوحش، الذي لا فرق بشأنه بين الديمقراطيين والجمهوريين، إذ كلاهما يشتغل أساسا لصالح اللوبيات المالية والتوجهات الاقتصادية المركزة للثروة في أيادي قليلة من الناس، بل إن أوضاع تلك الشرائح الاجتماعية ساءت أكثر في زمن بايدن مما كانت عليه في عهدة ترامب السابقة، في ما يتعلق بالتضخم وارتفاع مستوى المعيشة، ووقود السيارات، وغير ذلك، رغم الوعود العريضة التي عادة ما يقدمها الديمقراطيون بهذا الخصوص، بل إن العديد من تلك الفئات صارت تشعر بأن حكامهم الديمقراطيين صاروا يهتمون بمصير الإسرائليين أكثر من اهتمامهم بمصير الأمريكيين. كما أن ثمة عامل آخر رصده المتابعون لتوجهات الرأي العام في امريكا، وهو ما يتعلق برفض كثير من اللاتينيين المسيحيين، خصوصا الكاثوليكيين، التوجهات التي باتت تميل اكثر فأكثر إلى ما يخالف قناعاتهم والتزامهم الدينية بخصوص العائلة ومسائل الجندرة والمثلية وغير ذلك.
  • ثم هناك الأداء السيء لبايدن، وحالة الخرف التي ظهر بها، و الانطباع الذي ساد في الأذهان عن حالة ضعفه، وتسلط توجهات متطرفة على قراراته في البيت الأبيض، على رأسهم اللوبي الصهيوني، الذي مثل وزير الخارجية توني بليكن الوجه العلني الأبرز  فيه. وقد كان حرصه على الترشح مخالفا لوعد كان قد قطعه بأنه لا يترشح إلا لعهدة واحدة لضمان حسن الانتقال من المرحلة الكارثية التي مثلها ترامب للمؤسسية الأمريكية، على حد ظنه، ثم كان تراجعه عن الترشح في جويلية 2024 بعد افتضاح ضعف قدراته الذهنية متأخرا جدا لم يعط الوقت لهاريس في الثلاثة أشهر المتبقية لتخرج من عباءته سيئة المنظر، كما أنها هي ذاتها لم تسع لذلك، ولم تتبرأ من أي سلوك سيء السمعة لرئيسها، وهو أمر مهم جدا في الديمقراطية الأمريكية، بل وقعت في خطأ جسيم استغله ترامب بكثافة في خطبه وأشرطته الإشهارية، وذلك حين قالت بعد تردد ” لا شيء يخطر ببالي”  في جوابها على سؤال طرحه عليها مذيع قناة ABC يوم 8 أكتوبر  قائلا: “هل كنت ستتصرفين بشكل مخالف لجو بايدن في الأربع سنوات من رئاسته” وكان يقصد القضايا الاقتصادية والهجرة ودعم إسرائيل. وقد كشف فريق كامالا هاريس عن قناعتهم وحملوا بايدن مسؤولية الخسارة، ولكن بعد فوات الأوان حين دوّت الهزيمة التاريخية. كما أن كثيرا من المتخصصين أكدوا ذلك، مثل الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة فرجينيا لاري ساباتو الذي بين بأن المعركة كانت خاسرة منذ أن قرر جو بايدن الترشح وعمره ثمانين سنة، وكيف أن الاستبدال الذي وقع في آخر لحظة لم يكن ناجحا، حيث لم تدخل هاريس بأي برنامج يخصها.
  • وعلاوة على ذلك ساهم تيار ” غير ملتزم” الذي تشكل من القواعد النضالية للحزب الديمقراطي، من الطلبة والشباب البيض خاصة، ومن معهم من العرب والمسلمين، على إثر الجرائم التي شارك فيها قادة حزبهم في غزة،  وقد نشط هؤلاء كثيرا في الجامعات، من خلال التظاهرات والاعتصامات في كلياتهم، والاحتجاجات المتواصلة ضد أي مساهمة لإدارتها ومشاريعها في دعم الكيان الصهيونى، وقد تمكن هؤلاء من تشكيل تيار فاعل لعدم التصويت، وقد مثل ذلك إعاقة إضافية لهاريس وحزبها، بدأت ملامحها تظهر منذ  الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي حين خسر بسببها جو بايدن نصف مليون صوت ولكن لم تصحح هاريس هذا المعطى المهم فدفعت ثمنه.
  • الحملة الانتخابية الجيدة لدونالد ترامب، حيث عرف كيف يصوب نقده إلى نقاط ضعف الديمقراطيين والأداء السيء  لبايدن، ومن ذلك تحميلهم تراجع مستوى المعيشة وإظهار المقارنات الرقمية بين عهدته وعهدة الديمقراطيين بعده، كما عرف كيف يدافع عن برنامجه بخصوص الهجرة غير القانونية التي تثير ناخبيه البيض كثيرا، دون أن يخيف الناخبين من غير البيض، بتركيزه على العامل غير الشرعي للهجرة، وتصويرها بأنها تتسبب في تضييع فرص عمل السود واللاتينيين، وأن هجرة هؤلاء إلى أمريكا مرحب بها في إطار القانون. ومن جهة أخرى رسم لنفسه صورة الشخصية السياسية المرتبطة بالشعب البسيط وسكان الأرياف، حيث ترك المجمعات السكنية الكبرى لتوجهاتها الانتخابية الاعتيادية وذهب لزيارة السكان التجمعات الهامشية وفي الأطراف والأرياف الذين لا يلتقي بهم الساسة بشكل مباشر عادة، وهو الخطأ الذي وقعت فيه هاريس كذلك. علاوة على خطابه الاعتيادي المتعلق بالوعود الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة، والحديث المثير للنزعة القومية كإعادة مجد أمريكا، ومكانتها الدولية وضبط الفوضى في العالم وتحقيق السلام وإنهاء الحروب.
  • وبخصوص الناخبين العرب والمسلمين، فإنه يمكن القول بأنه وقع تحول تاريخي في سلوكهم الانتخابي من زاويتين، من حيث عدم التصويت  للديمقراطيين، على غير العادة، بالمقاطعة أو التصويت لمرشحة حزب الخضر جيل ستاين الداعمة بقوة لفلسطين،  أو التصويت لترامب  ، ومن حيث الأثر الذي تحقق بتحويل ولاية ميشيغان التي يتركز فيها صوت العرب والمسلمين أكثر لصالح المرشح الرئاسي الجمهوري، والمساهمة في جلب كل ” الولايات المتأرجحة لصالح ترامب وكسر ما يسمى بالجدار  الأزرق. وقد كان السبب الرئيسي لتحول الناخبين العرب والمسلمين العدوان على غزة وتورط البيت الأبيض بقيادة الديمقراطيين في الجريمة، وقد عرف ترامب كيف يستغل هذا الوضع بانتقاله بنفسه للسكان العرب والمسلمين والحديث معهم ومع زعمائهم الدينيين ووعدهم بأنه سيوقف الحرب لغزة، خلافا لهاريس التي تهتم بهم ولم تزرهم ولم تتحدث معهم.

لا شك أن انتخاب ترامب لن يمثل تحولا جذريا لصالح القضية الفلسطينية بشكل تلقائي، حيث أن الجمهوريين في الكونغرس والرئاسة منحازين كلية لدولة الكيان ، ولكن الذي سيفعل ذلك هو طوفان الأقصى وبطولات المقاومة وثبات السكان في غزة ولبنان، فهم المعطى السنني الأساسي الذي سيحدث التحولات التي تفرض على ترامب وغيره في العالم وقف الحرب وتغيير نظرتهم للقضية الفلسطينية، وقد أحسن قادة حماس حين وضحوا ذلك في تصريحهم بعد ظهور النتائج بالقول : “تعقيباً على نتائج الانتخابات الأميركية التي تُظهر فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب، فإن على الإدارة الأميركية الجديدة أن تعي أن الشعب الفلسطيني ماضٍ في مواجهة الاحتلال، وأنه لن يقبل أي مسار ينتقص من حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”

الحرب في لبنان: الفهم والواجب

كلما تطورت أحداث الحرب التي أشعلها طوفان الأقصى يتعمق الاختلاف بين فئتين في الأمة، فئة تعد الطوفان حالة سننية ربانية انطلقت لكي لا تتوقف حتى التحرير، كما هي الثورات التحريرية في الشعوب، يطلقها وطنيون صادقون مع أوطانهم، متوكلين على الله، قرروا إما النصر أو الشهادة، وفي أغلب الأحيان هي مجموعة  قليلة شرفها الله بالسبق، لم تستشر أحدا للقيام بالواجب،  على نحو ما قام به مجموعة الاثنين والعشرين في الثورة التحريرية الجزائرية، وبعد صعوبات جمة يلحق بهم قادة آخرون والجموع. وفئة يهوّلها الرد العنيف للاحتلال ويخيفها جنون قادة العدو وتكسر أهوالُ الخسائر إرادتَها، تصرف أهوالُ الميدان عقول هؤلاء عن القراءة السننية والتمعن في تاريخ البشرية، فلا ينتبهون بأن التضحيات هي طريق النصر، وأن هيجان العدو دليل بأنه شعر باقتراب النهاية.  

إن أسباب تهور نتنياهو ثلاثة: أقلها أهمية ما يقوله الكثيرون بأنه لو تتوقف الحرب يدخل السجن، وثانيها أنه يزج بجيشه وكل كيانه في حرب مدمرة من أجل إنقاذ مجده إذ كان يعد نفسه في نفس مرتبة “بن قوريون” و لا يوجد في من جاؤوا، من قادة الكيان، بعد التأسيس اللعين  من هو في مقامه، وثالث الأسباب أهمها، وهو أنه أدرك بأن المعركة نهائية صفرية، إما تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية أبدا، والسيطرة على المنطقة كلها،  أو بزوال دولة الكيان، وزوال كل الأنظمة العميلة والاستبدادية في المنطقة .

وهكذا يجب أن نفهم الحرب القائمة، إن طوفان الأقصى الذي فجره أبطال غزة معركة مقدسة نبيلة اندلعت على عين الله سبحانه، لتشمل الأمة كلها. ولئن كان الفضل قد سبق إليه حزب الله وجماعة الحوثي وكل محور المقاومة فإن الأمة كلها ستنخرط في المعركة لتكون حربا شاملة غير متناظرة تنخرط فيها الأمة كلها بكل مذاهبها وطوائفها، إذ سيفهم الجميع بأنها معركة مصير، ليس لفلسطين وحدها بل لكل المسلمين، إما هوان الأمة الأبدي وإما العودة الحضارية الشاملة، ووالله الذي لا إله إلا هو لن يكون إلا هذا الأخير ، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر..

ليس هذا الحديث حديثا عاطفيا،   بل هو عين العقل لمن يتأمل في عمق التطورات ويرفع بصره عاليا لينظر إلى الأفق البعيد. إنه ليس شرا ألّا تدخل إيران الحرب كدولة الآن،  بل في ذلك الخير،  ومن يتكلف في إظهار غضبه على إيران لأنها لم تدخل الحرب، أو يزعم أنها تخلت عن حزب الله فهو يتحدث بنفَسٍ طائفي انتقامي، متوقف في اللحظة التي أجرمت فيها إيران والميليشيات المحسوبة عليها إجراما عظيما في سوريا والعراق، إجراما وجب إدانته بلا مواربة، أو أنه لم يوفق للنظر في المآلات في ما ينفع فلسطين والأمة، وكم من أمم تقاتلت ثم تحالفت ضد عدو يهدد مصير الجميع. كما أن من يستعجل حزب الله للدفع بكل مقدراته في بداية المعركة لم ينتبه إلى ما يريده الصهاينة والأمريكان.

لا يختلف اثنان أنه حين أُسست دولة الكيان من طرف البريطانيين أُسست لتكون دولة وظيفية كثكنة عسكرية في موقع متقدم في جبهة الصراع الأبدي بين العالم الإسلامي والاستعمار الغربي، صُممت وتعهدها الأمريكان من بعد لتكون متفوقة في كل شيء، ولكن مع مرور الزمن أتاحت المساحات المفتوحة لليهود في الدول الغربية في كل المجالات لدولة الكيان أن تتطور طبيعتها لتصبح  جزءا أساسيا في المنظومة الغربية بشراكة كاملة في الاستراتيجيات والقرار، فصارت الآن أمريكا وأغلب الدول الغربية هي إسرائيل وإسرائيل هي أمريكا وأغلب الدول الغربية، ثم جاء طوفان الأقصى فأكد هذه الحقيقة وبيّنها في أوضح صورة. فمن يحارب إسرائيل اليوم سيجد نفسه يحارب أمريكا وأغلب الدول الغربية أو كلها، بشكل مباشر وليس بالوكالة فحسب.

على هذا الأساس، لو استشارني الإيرانيون في دخول الحرب لقلت لهم لا تدخلوا ولحدثتهم عن البديل الواجب الأهم لنصرة المقاومة في غزة ولبنان. لا يمكن لإيران أن تدخل الحرب لمواجهة أمريكا وحدها. وذلك سيكون قرارها ولا شك، لن تدخل الحرب وحدها، لن تقرر ذلك بغير اتفاق مع روسيا ومن ورائهما الصين، ولو دخلت روسيا والصين الحرب مع إيران معنى ذلك أننا ولجنا حربا عالمية ثالثة، ولا أظن أن روسيا والصين يريدان ذلك حاليا، ولا حتى أمريكا تريد ذلك، مع أن الحروب تتدحرج أحيانا لتصل إلى حدود لم يرغب فيها صانعو الأزمات.

ستتوسع الحرب ولا شك ولكن شيئا فشيئا، سيتحمل حزب الله وكل لبنان عبئا كبيرا، والضمان لصمود حزب الله أن لا يُطعن من الخلف من قوى مسيحية وسنية لا يخفى على متابعٍ علاقتها بأمريكا وبعض دول الخليج.

إن الحرب مستمرة والسبيل لتحقيق الانتصار فيها أن تبقى الحرب غير متناظرة إلى أمدٍ طويل يتم فيه استنزاف الكيان والأمريكان على نحو ما حدث في الجزائر والفيتنام قديما وما حدث غير بعيد في العراق وأفغانستان. وواجب الدول العربية والإسلامية كلها (إيران وتركيا والدول العربية)، أن تدعم المقاومة في هذه المعركة المصيرية، وذلك هو الشرف وذلك هو الواجب، فإن لم تفعل فمن حق الشعوب أن تتجاوزها.

إن المعركة اليوم في لبنان، إنها في بلد شقيق ذي سيادة عضو في الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي. والكيان الصهيوني لا يفرق مرة أخرى في جرائمه بين عسكري ومدني، وشيعي وسني ومسيحي، وعلماني وإسلامي، يقتل الأطفال والنساء ويدمر المنشآت المدنية والعسكرية والدينية على السواء. ولئن كان الحكام يقولون لا نستطيع دعم غزة بسبب الحصار وغلق المعابر، فها هي لبنان مفتوحة فلتهب الدول العربية والإسلامية إلى دعم الدولة اللبنانية ودعم  المقاومة وإغاثة المدنيين، فليظهر لنا الحكام بأننا كنا مخطئين في اتهامنا لهم وفي إساءة الظن بهم.

إن جيش الاحتلال سيحاول دخول  جنوب لبنان بعد القصف، وسيعمل على ترحيل سكان الجنوب، وربما سيحاول الوصول إلى بيروت. فليفهم الحكام العرب بأنه إن سقطت لبنان ستسقط بعدها الأردن، إذ يراد لها أن تكون الدولة البديل للفلسطينيين في الضفة الغربية، وستسقط كذلك سيناء لأنه يراد لها أن تكون الوطن البديل لأهل غزة، وبعدها ستسقط كل الدول العربية بإرادة حكامها الخانعين، ليبقوا هم وشعوبهم يعيشون الذل والمسكنة لعقود طويلة مقبلة.

لن يحدث هذا السيناريو المرعب بحول الله، لأنه إن تخلى الحكام عن واجباتهم، ستُحّولُ الشعوب، بكل مذاهبها وطوائفها،  لبنان إلى أرض معركة مصيرية ضد العدو الصهيوني، لا أدري كيف سيحدث ذلك، ولكن هذا الذي يفهمه كل دارس لحركة الشعوب حين يبلغ فيها اليأس مداه، وتنكسر في مخيالها القدوات وتسقط قيمة الزعامات، إلا من بقي من هؤلاء القادة صامدا ثابتا تدعمهم التيارات الشعبية بأجيال جديدة من الزعماء يستبدل بهم الله من أقعدهم العجز والآفات .

 ولن يتوقف الأمر في لبنان فقط، ستُسقط العنجهية الصهيونية الدولة الأردنية، وتتحول الأردن كلها إلى أم الساحات شرقي نهر الأردن، وينهض شام الوعد الميمون، ولا ندري ماذا سيحدث في مصر هذا العملاق النائم، الذي حين ينهض تنهض الأمة كلها، والأمل كل الأمل في هذا البلد العظيم في قادة مخلصين موجودين ولا شك في الدولة والمجتمع، ثم سيأتي من غرب الأمة أمثال أبي مدين الغوث صاحب ساحة المغاربة الخالدة، ويأتي من أقصى شرق الأمة أحفاد من سارعوا إلى نجدة الخلافة وهي تتهاوى لو لا الأحداث الأليمة يومذاك  المتسارعة. 

هذه هي الرؤية التي يجب استشرافها، وهذه المعركة التي يجب أن تنخرط فيها كل القوى الحية في الأمة. إنه لم يصبح ثمة شيء تستطيع أن تفعله هذه القوى الحية في أقطارها ودولها إذ سيطر الاستبداد على كل شيء وجعل كل شاردة وواردة تحت يده الباطشة، بل أصبحت حياة ونمو المنظمات والأحزاب والمؤسسات والشخصيات تحت رحمته المخادعة، وبعضهم حشروا أنفسهم في أزقة الطائفية الضيقة، يتهجمون على من يقاوم الصهاينة، وهم لا يقاومون، ولو قاومنا واشتبكنا بمجموعنا مع العدو نصرة لغزة  لحلت المشكلة إذ نحن السواد الأعظم في الأمة، بل فيهم من يتشفى في قتلى من يقاوم في جنوب لبنان بلا حياء، ويغالي في تفسيرات يدحضها الواقع وشلال الدماء من القادة والجنود والمدنيين في لبنان.

إن  الأجدر  بنا جميعا أن نحول البوصلة تجاه فلسطين ولبنان وحيث توجد فرصة لضرب العدو، ففي ضربه حياتنا جميعا وسؤددنا ونهضتنا، من طنجة إلى جاكرتا.