مكارم الأخلاق (5) | الشجاعة

ورد في الجامع الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: ((ألا أعلمُكَ كلامًا إذا قلتَه أذهَب اللهُ تعالى همَّكَ وقضى عنكَ دَينَكَ ؟ قُلْ إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيتَ ؛ اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ، وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ)).

إن في هذا الحديث علاج لأكثر الأمراض انتشارا في العالم، وهو القلق والكآبة التي من أسبابها الكبرى الهمّ الذي هو ضيق الصدر خوفا مما يُنتظر، والحزن وهو الأسف الشديد وضيق الصدر على ما وقع. وكلاهما مفسد للمزاح موتر للنفس مبدد للطاقة مقعد عن العمل محبط للمعنويات، وقد يؤدي اشتداده في أقصى درجاته إلى الانتحار، وذلك حين لا يتوفر لصاحبه أي مرجعية تداوي نفسه، وعلى رأسها الإيمان بالله.

يوجه هذا الحديث إلى الاستعاذة بالله من جملة من الحالات النفسية السلبية والأخلاق الذميمة والأوضاع الصعبة في حياة الإنسان. غير أنه علاوة على صيغة الدعاء في الحديث، فإن ثمة تنبيه إلى ما يسبب هذا المرض العضال الذي يفتك بملايين البشر  بشكل مروع في هذا الزمان.

أول هذه الأسباب هو العجز والكسل، والعجز هو عدم القدرة على فعل الشيء لسبب عضوي كالهرم يُعذرُ صاحبه،  أو لسبب نفسي كعلّة في الشخصية تعيب صاحبها كما قال المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس شيئا … كنقص القادرين على التمام.

أما  الكسل فهو ترك الشيء مع القدرة على فعله لطبع سيء دائم، أو لفتور النفس مؤقتا، أو بسبب ضعف الهمة على الشيء. والكسل طريق إلى العجز وكلاهما طريق إلى الفشل وعدم الإنجاز، والفشل وعدم الإنجاز يؤديان إلى وخز الضمير والنظر بالدونية إلى الذات داخليا، وقلة القيمة خارجيا بين الناس، واستمرار هذا الحال يصنع الهم والحزن والاكتئاب.

وفي قلب أسباب العجز والكسل فقدان خلقين من مكارم الأخلاق هما خلق الكرم، الذي سبق أن تحدثنا عنه، وخلق الشجاعة الذي نحن بصدده. فالكرم والشجاعة من أخلاق السيادة وركائز الريادة في مختلف شؤون الناس، فمن كان لئيما بخيلا لا يمكنه أن يسود فهو لا ينفق شيئا من أجل نجاحه، لا ينفق ماله ولا وقته ولا علمه ولا عواطفه، فيكون غير مقدّر في محيطه ولا يملك أدوات نجاحه. كما أن الجبان دائم الرهبة من بيئته، يخاف من كل الناس وكل الأحداث، تُشل إرادته أمام أي خطب، فلا يقتحم الأحداث ولا يواجه المخاطر ولا يثبت أمام من يريد أن يأخذ حقه ويفسد أمره، فيصبح مصيره في يد غيره.

وأسباب البخل والجبن كثيرة من أهمها ما ورد في آخر الحديث، وهو غلبة الدين (وفي رواية للبخاري “ضَلع الدين” أي اعوجاع ظهر المرء بسبب ثقل الدين) وقهر الرجال. غير أن هاتين الحالتين قد تكونان كلاهما بسبب الجبن والبخل، فهما عنصران لبيئة خطيرة تفسد طباع الناس، إذ غلبة الدين وتسلط الرجال وظلمهم يشلان الإرادة، فهي حالة تشبه الحلقة المفرغة، الجبن والبخل يؤديان إلى العجز والكسل، وهذان الأخيران يصنعان الأولَين، ولا حل لهذه البيئة القاهرة للأفراد والمجتمعات إلا سخاء النفس والاستعداد للبذل الواسع في مختلف دروب الخير، فذلك الذي يصنع الرفاه والوفرة ويشجع على النشاط والإنجاز، وكذلك حين تنبعث الشجاعة في الفرد وتشيع في المجتمع،  من قول الحق باللسان إلى بذل المهج في الميدان، يكثر الأبطال المقاومون للظلم والقهر وانتهاك حقوق وكرامة الإنسان.

فإذا توفر كل ذلك تنتشر الإيجابية والسعادة والسكينة والطمأنينة في الناس أفرادا وجماعات ومجتمعات وأوطانا وأمة.

إن هذا الحديث منهج متكامل في الأخلاق والتربية النفسية والسياسة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية، وهو حديث أكرره كثيرا في لقاءاتي ومحاضراتي، وخصوصا مع الشباب، وودت لو يُدرج بهذه المعاني المذكورة في مختلف البرامج التربوية والتكوينية في المنظمات والحركات والمعاهد فإن فيه نهضة الأمة وقومتها الحضارية من جديد.

وليس هذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي يستعيذ فيه رسول الله صلى الله عليه من الجبن، بل نجد ذلك في مواقع عديدة من السنة النبوية، ومنها الحديث الذي يوجهنا فيه النبي عليه الصلاة والسلام لتكون الاستعانة بالله من معرّة الجبن على نحو مستقر ومنظم دُبر كل صلاة، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان سعد يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة قيقول: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر)).

إن نفور رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجبن إلى هذا الحد إنما هو تأكيد على أنه شر مستطير لا ينبغي للمؤمن أن يتصف به، ويؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي ورد من عدة طرق الذي يقول فيه النبي الكريم:  ((شرُّ ما في رجل شحٌّ هالع، وجبن خالع))، وبالفعل لا يغيب عن مخالطٍ لأحوال الناس كم هو سيء خلق الجبن، وكم هي مهينة شخصية الجبان. والجبان صنفان: صنف يتوارى عن أي مواجهة دون أن يؤذي غيره فيعيش حياته على الهامش بلا إنجاز  ذي بال ولا تاريخ  يذكر، وصنف يخاف المواجهة ولكن يحرص على الكسب بأساليب النفاق المتعددة، لا يملك الشجاعة على المواجهة وركوب المخاطر من أجل تحقيق غاياته، ولكن يسعى للكيد الخفي والإرجاف من بعيد والهمز واللمز، ومصير هذا الجبان الفاعل أسوء من مصير الجبان المسالم، إذ قد يعطف الشجعان على الجبان الذي لا يؤذي وقد يكون محبوبا لخصال أخرى حميدة فيه، وبلا شك يبغض الناس  الجبان المتآمر، وقد يخسر في آخر المطاف ما لم يكن في حسبانه، لفقر نفسه وقلة عقله.

إن القرآن الكريم عامر بقصص الأبطال الشجعان، وعلى رأسهم الأنبياء الأكارم، عليهم السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وحينما نقرأ في القرآن الكريم الآيات التي  تقص قصص الشجاعة والشهامة والنجدة  نجدها ترتبط بقصص محددة ضمن دلالات قرآنية تؤكد أن الشجاعة هي ما يُكتب فعليا في سجل الرجال، بالأقوال والأفعال والمواقف وليس ادعاء بلا برهان، ومن ذلك قوله تعالى في سورة “الشجاعة” التي هي صورة الأنفال عن غزوة بدر: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. 16))، أو قوله في نفس السورة: : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ))، أو قوله في سورة التوبة، السورة الشقيقة لسورة الأنفال؟، في الحديث عن الجهاد: “انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. 41 )). وكان الأمر هنا يتعلق بغزوة تبوك فلم يعذر شيخ ولا شاب ولا فقير ولا غني من الإقدام فيها.

إن الشجاعة من أهم معالي الأخلاق وأشهرها بين البشر، فما تاريخ الأمم إلا تاريخ شجعانها وأبطالها، ولم يكتب لأمة من مجد وسؤدد بغير تضحيات الفرسان أولي النجدة والهمة والشجاعة. فقد يقوم مجتمع بوجود الجبناء ولكن لن يبلغ الأمان والرفاه والعز والمجد بدون هؤلاء الشجعان.

 والشجاعة منبعها قوة ذاتية في قلب الإنسان تجعله يقدم على المخاطر، بالقول أو العمل أو كلاهما، من أجل تحصيل منفعة أو دفع مضرة، وقد تكون المنفعة والمضرة مادية أو معنية، جديرة بأن يضحى من أجلها، والمنفعة والمضرة بالنسبة للمؤمن قد تكون عاجلة في الدنيا أو آجلة في الآخرة. والشجاعة مثل كل الأخلاق الفاضلة وسط بين مذمتين: “الجبن” و”التهور”. وبغير وجود المخاطرة لا يكون الإقدام شجاعة وإنما نشاط وحيوية فحسب، والجبن هو تجنب المخاطرة ولو أدى ذلك  إلى ضياع المصلحة أو حصول المفسدة، والتهور هو تحمل المخاطرة دون ظن بحصول منفعة أو دفع مضرة، أو أن تكون المخاطرة أقل جدوى بكثير مما يتحقق من مصلحة، أو ما يُدفع من مفسدة، كأؤلئك المغامرين الذين يضحون بحياتهم من أجل المال أو الشهرة فحسب.

والشجاعة قرار في لحظة ركوب الخطر تدفع إليه قوة نفسية متمادية، أصلها غضب أو أنفة أو رغبة جامحة في الحصول على شيء ما،  تحضر معها الحكمة وحسن التقدير. والدليل على أن الموقف ينم عن شجاعة حقيقية أن يسنده الثبات والصبر والتحمل عند حصول الألم أو الخسارة في الأول، فلو وقع التراجع على تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة بعد اللحظة النفسية الدافعة لركوب الخطر، قولا أو عملا، فإن ذلك مجرد تهور يتحول  إلى الجبن والخور اللذين هما نقيض الشجاعة.

 وقد يكون من الشجاعة الإحجام عن الفعل، قولا أو عملا، أو التراجع عنه لإدراك فرصة يتحقق بها المقصود، فتلك قوة كبيرة وشدة محمودة أشار إليها رسول الله  في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عنه أنه قال: ((ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ)). ولقد كان موقف خالد بن الوليد في تنظيم الانسحاب من معركة اليرموك بسبب الفرق الشاسع في العدد بين جيش المسلمين وجيش الروم شجاعة عظيمة سجل نفسه بها في تاريخ القادة العسكريين العظماء عبر العصور.

ولا يوجد في أشعار العرب توصيف لميزان الاعتدال في خلق الشجاعة كقول أبي الطيب المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان ….. هو أول وهي المحل الثاني

فإذا اجتمعا لنفس مرة  ……     بلغت من العلياء كل مكان

و لربما طعن الفتى أقرانه ……  بالرأي قبل تطاعن الأقران

وإنما الضابط في التحلي بخلق الشجاعة بقاء العزيمة متقدة  للإقدام على الأمر في الوقت المناسب، ولو أدى ذلك إلى بذل النفس كما جاء في كتاب “تهذيب الأخلاق” المنسوب إلى الجاحظ في تعريف الشجاعة: “الإقدام على المكاره، والمهالك، عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت” أو وفق ما ذكره ابن حزم في مصنفه ” الأخلاق والسير” في توضيح الحد الأقصى للشجاعة: (( حد الشَّجَاعَة: بذل النفس للموت، عن الدين، والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلمًا في المال، والعرض، وفي سائر سبل الحق، سواء قلَّ من يعارض أو كثر)).

ولا يوجد بالضرورة ارتباط بين القوة والشجاعة، فقد يوجد قوي مفتول العضلات، مكين الوسائل والإمكانات، ولكن يكون خوارا مهينا، وقد يكون ثمة ضعيف البنية معدوم أدوات البطش ولكن يكون مقداما يصرع الأقوياء بقوة قلبه وبثباته ورباطة جأشه وإصراره، ولنا في ضرب الأمثال عن هذا المعنى أبياتٌ للشاعر كُثيِّر عزّة:

تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ ….. وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ

وَيُعجِبُكَ الطَريرُ فَتَبتَليهِ ….. فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ

وشرح ابن القيم الجوزية شأن العلاقة بين الشجاعة والقوة في كتابه “الفروسية” بالاستشهاد بشخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: “وكان الصديق رضي الله عنه أشجع الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر وغيره أقوى منه، ولكن برز على الصحابة كلهم بثبات قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبتهم، ويشجعهم”.

لقد كانت الشجاعة متأصلة، بالفعل، في شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يكن هو الأقوى بين الصحابة، وإنما شجاعته من نبل أصله، وزاده الإيمان العميق والتصديق المطلق شجاعة، ورأى ترجمتها العملية في أسوته وقدوته المصطفى عليه الصلاة والسلام كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك في وصف النبي المجتبى قائلا: ((كان أحسنَ الناسِ ، و أجودَ الناسِ ، و أشجعَ الناسِ)).  وفي هذا الحديث ربط آخر بين الشجاعة والكرم وكأنهما خلقان كريمان شقيقان لا يفترقان في نفوس القادة الكبار، وأحسب أن أصل الكرم الشجاعة إذ البذل قرار شجاع يتحمل المخاطرة بنقص ما يُبذل منه.

لا شك أن القوة شرط أساسي للسؤدد، وإعدادها هو مانع اللعدوان من العدو قبل وقوعه، سواء العدو الظاهر أو الخفي،  وفق قوله تعالى في سورة الأنفال: ((وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. 60))، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر أبديا أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: ((المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ)). غير أن القوة الأولى ومبعث كل أنواع القوى هي القوة النفسية التي في داخل الإنسان وعمقه. ويبين النووي في شرحه على مسلم هذا المعنى فيقول: “والمراد بالقوة هنا، عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى”

لا يقتصر التلازم بين خلقي الشجاعة والكرم فقط، وإن كان ذلك ذلك شائع في القادة والسادىة، فالشجاعة تتجلى في مختلف شؤون الحياة، فثمة الشجاعة الغريزية التي يتسلح بها الإنسان للحصول على احتياجاته الإنسانية الأساسية، كمأكله ومشربه وأمانه وسلامته الجسدية، وهناك الشجاعة النفسية التي يسعى بها الإنسان لتحقيق طموحاته في الغلبة والظفر وصيانة عزته وكرامته، ومنها القدرة على قول “لا” أو قول “نعم” والاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ولو كان في ذلك مجازفة،  وتوجد الشجاعة العلمية والفكرية التي يلج بها الإنسان فضاءات النقاش والمحاججة، ويقتحم بها دراسة المسائل العلمية العويصة، والتعبير عن الأفكار غير المألوفة، وثمة الشجاعة الاجتماعية التي يندفع بها الإنسان لربط العلاقات مع غيره ممن لا يعرفهم ومن يُحذر التعامل معهم، والحديث في وسط الحشود ومواجهة الجموع، وتوجد الشجاعة الاقتصادية التي يركب بها الإنسان مخاطر الخسارة لتحقيق الأرباح المالية وتوسيع هوامشه الربحية وثروته وموجوداته، كما توجد الشجاعة الفضولية والرغبة في اكتشاف المجهول والسفر إلى مواقع الخطر، وهناك الشجاعة السياسية التي يتجاوز بها الإنسان الخوف من السلطان، ويواجه بها الظلم والطغيان ويتجاسر على المخاوف من أجل محاربة الفشل والرداءة أو المنافسة على الحكم والصولجان، وهناك أشرف أنواع الشجاعة وهي الشجاعة الجهادية، وهي التي تشمل كل ما سبق إن تعلقت النوايا بالمقاصد النبيلة وابتغاء وجه الله، ومن أكرمها الجهاد لإعلاء كلمة الله والذود على الأوطان ومقاومة الظالمين والمفسدين في الأرض، وأعلى مراتبها المخاطرة بالنفس وبذل الدماء زكية من أجل ذلك إرضاء لله تعالى.

ويذهب الناس في أمر الشجاعة مذاهب في الموازنة بين طاعة الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي السنة النبوية علاج كامل لهذه المعضلة،  في حديث شريف من جوامع الكلم يصلح أن نستخرج منه قواعد علمية في تسيير الناس أمورهم، في الاجتماع والسياسة والإدارة والاقتصاد وغير ذلك، وهو الحديث الصحيح الذي يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكون الشجاعة حقيقية وأصيلة باحترام المرء العقود والمواثيق فيطيع رئيسه أو أميره، في أي تجمع بشري منظم كان، في ما تحب نفسه أو تكره، وما له فيه نفع أو حرمان، دون أن يجبن أمام الذين ينازعون أميره، ودون أن يخشى أن يُقال عنه تابع،  ولكن – في نفس الوقت – لا يتردد أن يقول الحق في أي موقع كان، سواء كان في الحراسة أو في الساقة، يقول الحق وهو ضعيف لا يخشى أصحاب المكانة، ويقول الحق وهو قوي ولو ضيع المنصب والجاه والمكانة، لا يخشى في الله لومة لائم، إذ كل الذي يفعله ويقوله، ليس بدافع شخصي ولا لبواعث االحقد الحسد والانتقام، ولكن لوجه الله العزيز الجليل الكريم، فذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي الوليد عبادة بن الصامت قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم)).

إن هذا الحديث ينبه إلى المخاطر العظيمة التي تنجر عن عدم الاعتراف البيّن أو الضمني بالشرعية التي تتحقق وفق العقود والقواعد المتفق عليها أو المسلّم بها بما يجعل في الأخير للأمر أهلا له،  في الدولة أو الحزب أو الجمعية أو المؤسسة التطوعية أو الربحية. ذلك أن التنازع على موقع الرئاسة خارج الأطر الشرعية المتفق عليها تكون نتيجته دائما الفشل وذهاب الريح، سواء كان التنازع مكشوفا أو بالدسائس والتخريب الخفي، وهو أمر بيّنت النصوص الشرعية أنه لا يجب التساهل معه، لا من أجل هوى السلطان ولكن من أجل المصلحة العامة المؤكدة شرعا. غير أن الحديث نفسه يوجه إلى أن الشجاعة في قول الحق لا تتناقض مع عدم منازعة الحاكم، وتاريخ المسلمين حافل بالعلماء والدعاة والساسة والمصلحين منذ فجر الإسلام إلى اليوم، الذين يضحون من أجل سلامة وأمن واستقرار مجتمعاتهم وأمتهم ولكنهم في نفس الوقت يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يخافون في الله لومة لائم، فمن استشهد مقتولا، ومنهم من سجن دهرا، ومنهم من أخرج من بلده وصودر ماله، ومنهم يتعرض للقمع و التضييق، أو الإبعاد والتهميش.

… يتبع