ملاحظة: لم تسمح لي الظروف المختلفة ان أكتب مقالا جديدا بمناسبة ذكرى وفاة محفوظ نحناح هذه السنة فذهبت إلى نشر هذا المقال القديم الذي هو جزء من بحث قدمته في ملتقى الشيخ محفوظ نحناح في إسطنبول نظمه مكتب الحركة في تركيا يوم 25 جوان 2022 تحت عنوان: “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وسيصدر البحث في كتيب في الأيام المقبلة بحول الله.
ولد الشيخ محفوظ في 27 جانفي سنة 1942 وتوفي في 19 جوان 2003. نشأ في بيئة الحركة الوطنية وتحت تأثير الحركة الإصلاحية الباديسية، ووافقه اندلاع الثورة التحريرية وهو شاب في مقتبل العمر فشارك في الجهد النضالي في مدينة البليدة ونواحيها رفقة أقرانه وأصحابه على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. وبعد الاستقلال انخرط في العمل الدعوي والسياسي لاستكمال عهد الشهداء والمجاهدين ومواصلة مسيرة الإصلاح الاجتماعي فأسس جماعته الإسلامية – جماعة الموحدين – وأظهر معارضته الصارمة للتوجه العلماني الاشتراكي الذي سار عليه الرئيس هواري بومدين، ومن مواقفه الشهيرة رسالته ذائعة الصيت ” إلى أين يا بومدين؟” ضد التوجه الأحادي والأيديولوجية اليسارية. ألقي القبض على الشيخ محفوظ وبعض رفاقه سنة 1975 وقضى في السجن خمس سنوات. وفي فترة الثمانينات ركز جهده على العمل الدعوي وتوسيع دعوته إلى مختلف أنحاء الوطن، وانتهج في الشأن السياسي خطابا وطنيا ونهجا معتدلا في معارضة نظام الشادلي بن جديد الذي انتهج نهجا أكثر انفتاحا من سابقه، فصارت جماعة الشيخ محفوظ الأكثر قوة وانتشارا في مختلف أنحاء الجزائر.
بعد التحول إلى التعددية السياسية سنة 1989 التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر 1988 حاول الشيخ محفوظ نحناح أن يجسد مقاربته التجديدية لخلق تيار سياسي جديد ” إسلامي وطني” مبني على التقارب بين التيارين الإسلامي والوطني اللذين يجتمعان على أرضية بيان نوفمبر ، والذي جسدته مبادرة “التحالف الوطني الإسلامي”، والتعاون على نهضة الوطن بين النظام السياسي المتحكم على المستوى الرسمي والمعارضة الإسلامية القوية في الساحة الشعبية، رغم الاختلافات السياسية بينهما، عبر تأسيس نظام سياسي ديموقراطي جديد.
غير أن الاستقطاب السياسي الشديد الذي فرض نفسه في أجواء الانتخابات المحلية والتشريعية بين 1990 – بداية 1991، ومخاطر الحرب الأهلية التي تلت ذلك، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أدى بالشيخ محفوظ نحناح إلى تغيير أولوياته، وتسخير جماعته وحزبه الناشئ إلى البحث عن سبل توقيف سيل الدماء والمحافظة على التماسك الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية، ولو على حساب المصلحة الحزبية وركوب المخاطر وما يهدد مصيره ووجوده، فكان موقفه واضحا ضد إلغاء الانتخابات من جهة وضد استعمال العنف في العمل السياسي مهما كانت الأسباب من جهة أخرى، واستعمل مكانته وقربه من كل التيارات وعلاقاته مع القوى الرسمية وقوى المعارضة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال الحوار ، فأطلق بالاستعانة برجاله ورفقائه عدة مشاريع في هذا الصدد منها: مبادرة المصالحة الوطنية، مبادرة السبعة، مجموعة السبعة + 1، مبادرة السلام الوطني، مبادرة الصلح الوطني. وبعد فشل كل مبادرات التوافق التي أطلقها الشيخ محفوظ أو أطلقتها الجهات المتصارعة، كمبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، أو مبادرة الندوة الوطنية التي أطلقتها السلطة اختار رحمه الله الرجوع إلى الشعب والدخول في مسار انتخابي الجديد سنة 1995 والذي قاطعته المعارضة في البداية ثم التحق به جلها ابتداء من سنة 1997.
لقد كانت ضريبة إدانة الإرهاب والعنف الذي انتهجته الجماعات المسلحة من جهة وسياسات الهيمنة وأساليب العنف المختلفة التي انتهجتها السلطة من جهة أخرى كبيرة حيث قتل في صفوف الحركة في حدود 400 من أعضائها على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني، وتعرض الشيخ محفوظ نحناح نفسه لمحاولةالاغتيال، كما بات رحمه الله المستهدف الأول للتيارات العلمانية المحسوبة على المعارضة وامتداداتها القوية داخل النظام السياسي.
بعد أن قاد الشيخ محفوظ حزبه نحو المشاركة في المسار الانتخابي تغيرت أولوياته، إذ أصبح يرى بأن مشاركته في مؤسسات الدولة هو الأنسب لمصلحة الوطن وللمشروع النهضوي الإسلامي الذي يحمله، فأطلق مقاربة فكرية جديدة تدعو إلى التفريق بين الدولة والسلطة، فيكون الحزب خادما للدولة بالضرورة وفي كل الأحوال، ولكن قد يكون مشاركا في السلطة أو معارضا لها حسب مقتضيات كل مرحلة وما يكون أنفع للبلد والدولة، وفي ذات الاتجاه قام الشيخ محفوظ ببلورة العديد من المفاهيم واهتم بكثير من القضايا الفكرية التي لا تزال الحركة تسير عليها وتطوِّرها مثل الوسطية والاعتدال، مفهوم الشورى والديموقراطية، المشاركة السياسية، قضايا التنمية والتطور، التعايش، الاحترام المتبادل، المجتمع المدني، الحريات وحقوق الإنسان، حوار الحضارات، توسيع قاعدة الحكم، التداول السلمي على السلطة، حقوق الأقليات ..
لقد مثل بقاء الدولة بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح عنوان بقاء البلد وضامن وحدته وسلامة أهله، وهو ما يُبقي فرصة الاستدراك والإصلاح والنهضة قائمة، وكان يعتقد رحمه الله أن بسقوط الدولة تضيع الوحدة الوطنية وتحل الفتنة والاقتتال والضعف والهوان والسقوط التام في مخططات القوى الأجنبية المعادية للأمة الإسلامية، وعلى هذا الأساس لم يكن يرى الشيخ محفوظ نحناح من حرج في أن يضحي بمصلحة حزبه، وبمكانته وفرصه السياسية خدمة للدولة الجزائرية والمصلحة الوطنية.
غير أن رجال النظام السياسي الذين سكنوا الدولة لم يكونوا في مستوى هذا الأفق العالي للشيخ محفوظ فتعاملوا معه رحمه الله ومع حزبه وفق مصلحة النظام السياسي وليس مصلحة الدولة، ووفق مصالحهم الشخصية وليس وفق المصلحة الوطنية. فزوروا عليه الانتخابات الرئاسية سنة 1995 التي أظهرت شعبيته العارمة التي كان عليها قبل التعددية الحزبية عبر المهرجانات الضخمة ونتائج الصناديق الانتخابية التي تم قلبها ومصادرتها بالقوة فحرموه وحرموا البلد من قيادته للجزائر نحو نهضتها ، ثم زوروا الانتخابات التشريعية سنة 1997 فحرموه وحرموا البلد من قيادة الحكومة لاستدراك جرم تزوير الانتخابات الرئاسية، ثم زوروا الانتخابات المحلية تزويرا شاملا، وفي سنة 1999 منعوه أصلا من الترشح للانتخابات الرئاسية.
كان بإمكان الشيخ محفوظ نحناح أن يقود قطاعات شعبية واسعة للثورة الشعبية ضد النظام السياسي الذي لم يراع تضحياته وتضحيات حزبه، وحرَمه من حقه، الذي أخذه بإرادة الشعب، في تسيير البلاد وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق النهضة الوطنية وفق ما رسمه في كتابه: ” الجزائر المنشودة” وعبر خطاباته ومصطلحاته السياسية التي أثرى بها القاموس السياسي الجزائري. لم يتجه رحمه الوجهة المتشددة للدفاع عن حقوقه الضائعة حفاظا على البلد، وحقنا لدماء الجزائريين، ورحمة بالجزائريين المثقلين بأوزار الفتنة التي طال مداها، وإيثارا للمصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية.
رغم استئثاره بالحكم وسيطرته على مقاليده كلها، لم يستطع النظام السياسي خدمة البلد، ولم يستفد من تضحيات الرجال الوطنيين الذي بذلوا أنفسهم من أجل إيقاف الفتنة، سواء الشيخ محفوظ ورجال الحركة أو غيرهم، من داخل الدولة وخارجها، فبقيت الجزائر تنتج أزماتها، أزمة بعد أزمة جراء سياسات التزوير الانتخابي والفساد والهيمنة، و أحيانا كثيرة خدمة للمصالح الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية.
لقد أيقن الشيخ محفوظ نحناح رحمه بعد إقصائه المشين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بأنه لا يوجد شريك له في الطرف الرسمي، وأن النظام السياسي متجه بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فبدأ يفكر في تغيير سياسته في التعامل مع النظام السياسي، فأخذ يُحدّث المقربين منه بخطاب غير معهود عنه في رأيه وموقفه من النظام السياسي، وبدأ ينظّر لمرحلة جديدة عبر كتاب جديد لم يكتمل ولم يصدر عنوانه ” الدولة وأنماط المعارضة”، لعله كان يبحث من خلاله سبلا جديدة للتعامل مع نظام سياسي استغل الفتنة واستعملها لإعادة إنتاج نفسه، سبلا لا تؤدي إلى الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة وما ينجر عن ذلك من زيادة التوتر في بلد مأزوم ومشتت، ولكن في نفس الوقت بما لا يجعل المسؤولين يتصرفون في البلد كما يشاؤون دون أن يكون ثمة من يعارضهم ويمنعهم من الإضرار بالدولة وبالبلد. لم يتمكن الشيخ محفوظ نحناح من استكمال بناء منهجه الجديد وتوفي رحمه الله حزين القلب معلول الجسد ولكنهترك وراءه حركة كبيرة باتت محل تقدير واحترام جسدت الخطالقويم في التعامل مع ” ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وفق ما نسير به الحركة اليوم بعده، استطاعت بعد مرحلة اضطراب، عادة ما تَحقّ بالمنظمات بعد وفاة المؤسس، أن تجيب عن سؤال: وماذا بعد؟ إذ انتقلت إلى المعارضة السياسية وفق نفس النهج القائم على التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بما كان يأمله الشيخ محفوظ ويحدث به ولم يطل به العمر ليجسده
لقد استطاعت الطبقات القيادية التي خلّفها الشيخ محفوظ نحناح، التي سارت على نهج المقاومة السياسية، أن تثمن التضحيات التي قدمها رحمه الله، وأن تحول ما ضاع من مصالح حزبية في سبيل المصلحة الوطنية إلى مكتسبات حزبية ووطنية معتبرة ومن ذلك:
• ارتفاع سمعة الحركة ورمزيتها ومصداقيتها لدى الجماهير وفي نفوس النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، في المجتمع والدولة، لِما أبانت عليه من جدية ونزاهة وما قدمته من برامج واقتراحات ومبادرات، وبسبب شجاعتها في مواجهة الفساد والرداءة والاعتداء على الحريات، والتزامها أثناء ذلك بالاعتدال والحرص على الاجتماع والتوافق الوطني.
• استقرار الحركة وانتهاء عهد الصراعات الداخلية التي لم تتوقف منذ التأسيس الرسمي، سمحت بالانشغال بالعمل وتوجيه الطاقة لانتشار الهيكلي حيث حقق في ذلك نموا بالضعف، والانفتاح على الطاقات الجديدة حيث أقبل على الحركة موارد بشرية متنوعة خصوصا الأجيال الجديدة من الشباب بأعداد هائلة، وترشح في قوائمنا كفايات وشخصيات مؤهلة وذات سمت أخلاقي تمثل في حدود 70% من منتخبينا، وامتدت علاقاتنا الخارجية وتمثيلنا وتأثيرها في المنظمات الدولية إلى آفاق لم ندركها منذ التأسيس.
• ما طورته الحركة من أفكار وبرامج خصوصا على مستوى النهج السياسي الذي يرتكز على دراسة السنن الاجتماعية ومقاربة ” المكان المناسب” بتجنب الصدام من جهة ورفض الاحتواء والذوبان من جهة أخرى ومحاولة الاستشراف، والتعامل، بقدر الإمكان، مع المدخلات السننية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية. والتنظير والتجسيد الميداني لمقاربة التمييز بين السياسي والدعوي بما يؤهل لبناء حزب سياسي عصري همه نهضة الوطن وتحقيق التنمية من خلال الانتخابات والمدافعة السياسية السلمية دون التفريط في مختلف الوظائف الاستراتيجية الأخرى.
• ابتكار أنماط تسيير جديدة ضمن مقاربة ” التخصص الوظيفي” بتوجيه المناضلين إلى العمل الجمعوي والعمل في مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الشباب والنساء ومختلف الشرائح والاحتياجات المجتمعية، وإحياء وترقية الوظائف الاستراتيجية الحضارية دون إثقال كاهل الحزب بإدارة تلك الوظائف وقد حققت الحركة في هذا المضمار نتائج كبيرة بحمد الله تعالى.
• وبالنسبة للنتائج الرقمية على الصعيد الشعبي فإن الحركة قاربت النتائج الانتخابية التشريعية الأعلى التي حققتها سنة 1997 من حيث عدد المقاعد والرتبة في البرلمان، مع التفوق على نتائج تلك السنة من حيث الرتبة الحزبية اذ احتلت الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات في 26 ولاية وتأتي بعدها جبهة التحرير التي احتلت المرتبة الأولى في 12 ولاية فقط ثم تأتي بعد جبهة التحرير باقي الأحزاب تباعا، مع فروق جوهرية في الظروف المحيطة ببين الانتخابات في تلك المرحلة وفي الانتخابات الأخيرة حيث كانت الحركة موحدة في انتخابات 1997 ولا ينافسها في محيطها الأقرب غيرها كما هو حاصل اليوم . أما بالنسبة للانتخابات المحلية فقد عادت الحركة إلى النتيجة الأعلى التي حققتها سنة 2007 من حيث عدد البلديات التي تسيرها في حدود مائة بلدية مع التميز في الانتخابات الأخيرة بتسيير بلديات حضرية كبيرة كبلدية وهران وبلدية عناية وغيرهما . مع فرق جوهري بين المرحلتين حيث لم يكن يشترط للترشح سنة 2007 جمع توقيعات المواطنين في البلديات للتمكن من الترشح كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.
• وكل هذا مع استمرار حالة التزوير الانتخابي التي لولاها لكانت الحركة هي من يسير الحكومة اليوم، وقد قمت بنفسي بشرح البراهين الساطعة عن التزوير لمسؤولين كبار لم يستطيعوا رد تلك الحجج.