أما عن إصلاح القطاع العمومي التجاري وحوكمة المؤسسات العمومية، فعلى الحكومة أن تبين أولا ما هي فلسفتها الاقتصادية الحقيقية بين دور القطاع العام والقطاع الخاص.
لا يزال المتابع للحياة الاقتصادية في الجزائر لم يفهم التوجهات الحقيقية للدولة، فكما أشرنا أعلاه هناك تصريحات تتحدث عن اقتصاد السوق وقوانين تشرع من أجل ذلك وهناك ممارسات وعقليات تنتمي لنمط الاقتصاد المتحكم فيه إداريا الموروث عن الحقبة الاشتراكية، والنتيجة هي اللااقتصاد الذي يعشعش فيه الاقتصاد المافيوي.
لا يوجد في الجزائر جهة سياسية تتسم بالوضوح في تحديد فلسفتها في هذا الموضوع مثل حركة مجتمع السلم حيث بينا في برنامج الحلم الجزائري بأن قطاعات الإنتاج التي يجب أن تهتم بها الدولة بشكل متساوي من حيث التشريع والتسهيلات الإدارية وبيئة الأعمال ثلاثة: القطاع العمومي الذي يتخصص في القطاعات الاستراتيجية الذي تم التوافق عليها في قانون مالية سابق وكانت الحركة ترافع على ضرورة توضيحها وتحديدها لسنوات خلت من قبل.
يمكن للقطاع العام أن يهتم كذلك بالقطاعات ذات الاحتياج الأساسي التي لا تكون مربحة في البداية بالنسبة للقطاع الخاص إلى أن يتم تثمينها وتحويلها إلى قطاعات مربحة ثم إمكانية التخلي عنها عن طريق الخوصصة كليا أو جزئيا. أما القطاع الثاني فهو الخاص وهو يدخل في كل شيء سوى القضايا الاستراتيجية وإذا ساهم في هذه الأخيرة فهو يساهم فيما لا علاقة له بالسيادة كقضية المحروقات ودون خمسين بالمائة، ويجب اعتبار القطاع الخاص الشريك الأول لتحقيق التنمية، ونجاحه مرتبط ببيئة الأعمال، أما القطاع الثالث في رؤية حركة مجتمع السلم فهو القطاع التكافلي أو التضامني الذي يهدف إلى تحويل الفلسفة الإسلامية في التوزيع العادل للثروة ومحاربة الفقر والتضامن الاجتماعي إلى عمل مؤسسي يساهم في التنمية الوطنية ومن ذلك تحويل الزكاة إلى مؤسسة تمويلية للمشاريع المصغرة والصغيرة والمتوسطة لإخراج الفقراء من الفقر وتحويلهم إلى قوى منتجة للثروة، وإحياء ثقافة ومشاريع الأوقاف وتوجيهها نحو الوقف النامي بتشجيع الميسورين المحسنين إلى بناء مؤسسات اقتصادية تدر أرباحا دائمة ونامية على الموقوف عليهم في مختلف المجالات الاجتماعية والصحية والتعليمية والحرفية والثقافية على غرار ما كانت عليه الحضارة الإسلامية التي أخذ عنها الغرب هذا التوجه وهو ينتفع به في عصرنا هذا أكثر من المسلمين أنفسهم.
ولا بد في هذا السياق أن نذكر بفضائح السيطرة على العقار الصناعي والفلاحي في عهد الخوصصة التي فرضها صندوق النقد الدولي في التسعينيات دون أن يؤثر ذلك في إنقاذ المؤسسات العمومية.
إن المؤسسات العمومية المفلسة لا تُشترى حين تكون مفلسة إلا إذا كانت لها أسواق وموارد طبيعية وأصول عقارية وماركات مشهورة وخبرات متراكمة، وإنما وجدت نفسها أمام حالة ركود بسبب سوء الإدارة أو انقطاع السيولة أو لأي سبب آخر فتبتلعها مؤسسات أكثر منها، ويكون الضحايا دائما عمالها.
أما إن لم يكن لها أي شيء من هذا ولا تملك إلا العقار فإن بيعها معناه بيع العقار فقط، فالأولى أن تسترجع الدولة العقار، ولن يكون هناك حل حقيقي للعمال الذين أفلست مؤسساتهم إلا إذا كانت هناك حياة اقتصادية حقيقية يتم من خلالها استيعاب هؤلاء العمال في مؤسسات أخرى. والمؤسسة المشترية لن تحتفظ إلا بجزء من العمال في الغالب، وعلى على أسس اقتصادية، فالمفاوضات مع القوى المالية التي تشتري المؤسسات المنهارة قامت دائما في الجزائر على التحايل على مصير العمال لإسكاتهم وتفويت غضبهم ولكن في الأخير يُتخلص منهم بطريقة أو بأخرى.
وباعتبار أن القطاعات الاستراتيجية قد حددها القانون فإن المقاومة ضد التفريط فيها من خلال خوصصتها أو فتح رأسمالها على أسس مضرة بالسيادة الوطنية ستكون سهلة علينا أثناء دورنا الرقابي كمعارضة.
أما ما يتعلق ببيئة الأعمال فإن أساسه على نحو ما ذكرناه أعلاه هو تغيير عقلية التحكم لدى صاحب القرار وعدم الشك في كل مجهول وترك الناس يتقوون اقتصاديا حتى ولو كانوا من المعارضين للنظام السياسي ما التزموا بالقوانين، وإنهاء عهد الامتيازات الاقتصادية على أساس العرق والجهة التي تتحكم فيها أقليات مؤثرة داخل الدولة أصبحت مكشوفة الأثر لدى عموم الجزائريين، وتبعا لذلك إنهاء عهد الوصاية الفرنسية على الاقتصاد الوطني والتوقف عن إعطائها امتيازات حصرية مضرة بالمصالح الجزائرية، ثم معالجة مشكل الفساد والرقابة عليه بكل أنواعه بالبناء المؤسسي وليس بالعزمات والتصريحات الفردية للحكام، ولا يكون ذلك إلا بالديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة التي تضمن وجود مفهوم “القوى المضادة” بضمان استقلالية وفاعلية المؤسسات التشريعية والرقابية والقضائية والإعلامية والمجتمعية وحتى المؤسسات الرقابية الحكومية، ثم تغيير الذهنية الإدارية الثقيلة الموروثة عن فرنسا والتوجه إلى أنماط إدارية منفتحة وسلسة وفاعلة وسريعة، وهذه التحولات تبدأ على مستوى التجديد والتغيير في داخل الإنسان من ناحية الإرادة السياسية الفعلية والثقافة والممارسة لدى المسؤولين في مختلف المستويات الإدارية، ثم يمكن أن نتحدث على الاقتراحات الجيدة التي جاء بها المخطط مثل الشباك الوحيد الذي جعله الرئيس السابق محور أساسي في خطابه السياسي دون أثر، ومشاريع حاضنات الأعمال التي إن توفرت لها البيئة ولم يُتعامل معها بخلفيات سياسية ستبهر الجميع وتظهر الكفاءات العالية التي يتمتع بها الجزائري خاصة الشباب.
د. عبد الرزاق مقري