الجزائر: في السينما وفي الثقافة (1)
للجزائر تاريخ سينمائي عريق بدأ قبل الاستقلال أثناء الثورة التحريرية، وقد صدق السينامئيون والنقاد الذين رفضوا اعتبار السينما الكولونيالية جزء من تاريخ السينما الجزائرية، فأنشطة مؤسسة الإخوة لوميير منذ نهاية القرن التاسع عشر في الجزائر وغيرها من الأنشطة التصويرية الفرنسية في فترة الاستعمار كانت أنشطة استعمارية تمجد الاحتلال وتظهر جنرالات الجيش الفرنسي أبطالا وشجعانا،
وقطعان المعمرين والمبشرين حملات شعبية لنشر الحضارة في أوساط ” العرب والمسلمين المتخلفين”، تُخفي المجازر والجرائم التي اقترفها الفرنسيون.
لا تسمح طبيعة الاستعمار الاحتلالي الاحلالي التدميري للكيان الجزائري البحث في بدايات دخول الكاميرا إلى الجزائر أثناء الاستعمار كما هو حال بعض الدول العربية الأخرى التي استطاع الوطنيون فيها حمل آلة التصوير وقص حكايتهم بأنفسهم أثناء وجود الاحتلال على شكل انتداب أو وصاية مثلما كان الحال في بعض الدول العربية. لم تبدأ القصة الوطنية في عالم السينما إلا وقت الثورة التحريرية وبدوافع ومقاصد ثورية وطنية، ولذلك أصول السينما في الجزائر أصول شريفة يجب على الأجيال المحافظة على شرفها والوفاء لمقاصدها.
كانت الأفلام الأولى أفلام وثائقية أنتجت في جبال الجهاد وصحبة المجاهدين، صورت جانبا من جهادهم، وسجلت لقطات من الخراب الذي كانت تتسبب فيها الطائرات الفرنسية في القرى والمداشر وحرائق النابالم في بيوت وحيوانات وأجساد المدنيين، وقد انتشرت تلك الأفلام في الدول الشقيقة والصديقة وفي العالم الانجلوسكسوني وأطلعت الناس بالصورة عما كان يحدث في الجزائر.
تشكلت أول خلية جزائرية من قبل الثورة سنة 1957 وكان ضمنها جمال الدين شندرلي من عنابة الذي بدأ علاقته بالصورة مع خاله طاهر حناش الذي اشتغل كثيرا في عالم االسينما في فرنسا منذ بداياتها وكذلك في مصر والمغرب، ومحمد الأخضر حامينة من المسيلة، وأحمد راشدي من تبسة، وكان هؤلاء مجاهدين مع إخوانهم في الجبال، وهناك شهداء قتلوا وهم يساهمون في التصوير في ساحات القتال.
ومن الأفلام الوثائقية التي أنتجت أثناء الثورة في 1957 فيلم عن هجوم نفذه المجاهدون ضد منجم الونزة، وفيلم عن دور الممرضات في الثورة، وفيلم عن خلية الإنتاج السينمائي الثوري ثم تصاعد التكوين والإنتاج، ولا يمكن أن نغفل فيلم “الجزائر تحترق” لصديق الثورة الفرنسي “ريني فوتيي” الذي ساهم كثيرا في فضح وحشية الجيش الفرنسي وفي دعم المجهودات السينماتوغرافيىة الثورية.
نظمت الحكومة المؤقتة القطاع السينماتوغرافي في 1960 بتأسيس جهاز خاص وضمنت التوزيع خارج الجزائر بما جعل ديغول يشعر بخيبة كبيرة بسبب انتشار الصور التي أراد إخمادها، وضمنت حماية النسخ المسجلة في يوغسلافية، الدولة الصديقة للثورة.
ومن الأفلام التي سجلت في هذا الإطار ستة 1961 “جزائرنا” لجمال الدين شندرلي ومحمد الأخضر حمينة، دكتور شولي، وكان الاعتماد على صور حقيقية بعضها التقطها شاندرلي، وبعضها التقطها روني فوتي وفلم “ياسمينة” و”بنادق الحرية” لشندرلي وحمينة.
وبعد الاستقلال كانت الحماسة كبيرة لاستمرار النضال الوطني عن طريق الإمتاع السينمائي فأُنتجت روائع خالدة في الستينيات منها فيلم ” معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو الذي نال شهرة عالمية وعُدّ من التحف السينمائية العالمية، وفيلم “ريح الأوراس” و” حسان طيرو” للخضر حمينة، وفيلم “الليل يخاف من الشمس” لمصطفى بديع. واستهل عقد السبعينات بالفيلم الشهير ” الأفيون والعصا” الذي يُعرف في الخطاب الشعبي ” علي موت واقف” لأحمد راشدي، والفيلم الذي لا يمحى من الذاكرة “دورية نحو الشرق” المشهور ب”عليكم من قالمة”، وفيلم “وقائع سنين الجمر” الذي نال جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان كأول فيلم أفريقي يحظى بهذا التتويج. وهي كلها أفلام واقعية مشحونة بقيم وطنية عالية ومتعة رائعة لا يزال الجمهور متعلقا بها إلى الآن، بالإضافة إلى أفلام الممثلين الكبار في قضايا متنوعة كحسن الحسني “بوبقرة” ، وحسن طيرو، وعثمان عريوات بطل رائعة “كرنفال في دشرة” ورائعة “امرأتان”، وحاج عبد الرحمن وزميله يحيى بن مبروك في مسلسل ” المفتش الطاهر”، ورائعة مسلسل “الحريق” للمخرج مصطفى بديع.
كان هذا النجاح مبنيا على أسس صحيحة تشكلت أثناء النضال المسرحي الثوري وتبعه أجيال من المخرجين والفنانين المرتبطين بالثورة والقيم الوطنية، فكانت الصناعة السينمائية الجزائرية بعد الاستقلال تملك هوية وتنتمي لثقافة، لذلك حققت ذلك التميز وارتبط بها الجمهور.
دخلت السينما الجزائرية في أزمة كبيرة في الثمانينات وتوقف التمويل الحكومي بسبب أزمة انهيار أسعار النفط وتراجع الحماسة الأيديولوجية الرسمية، ومن الأفلام التي حظيت برضا الجمهور رغم طوله فيلم بوعمامة للمخرج عمر بختي وبطولة عليوات.
ثم توقفت السينما الجزائرية تقريبا عن النمو في التسعينيات، ولم يظهر في المشهد أفلام تعلق بها الجمهور سوى فيلم “كرنفال في دشرة” لمحمد أوكاسي وتمثيل فنانين مقتدرين منهم عريوات، وأوغروت، ولخضر بوخرص، وقد عرف نجاحا كبيرا بسبب استجابته للواقع السياسي الذي كانت فيه الجزائر والذي عبر الممثلون بإبداع خصوصا صاحب دور رئيس البلدية عثمان عريوات.
حينما بدأت السينما تحاول النهوض من جديد في العقدين الأخيرين وجدت نفسها قد ضيعت كثيرا من عناصر القوة الفكرية في سنوات المجد السينمائي الجزائري ولم يعرف النجاح سوى عدد قليل من المسلسلات التي تُعرض في شهر رمضان، وبعض الأفلام الثورية الجديدة القليلة.
ظهرت في هذه المرحلة حالة سينمائية جديدة غريبة، وهي الأفلام التي أصبحت تنتج باسم الجزائر في الخارج وخصوصا فرنسا دون أن تعرض في الجزائر، ويتم عرضها في المهرجانات السينمائية الدولية باسم الجزائريين ولا يسمع بها الجزائريون.
بالإضافة إلى الأسباب المالية وضياع المهنة والمهارة وتخلي الدولة عن السينما وعدم اكتراثها بالقطاع أضيفت أزمة أخرى لم يكن لها أثر أثناء الاستعمار وأثناء الثورة وبعد الاستقلال وهي الأزمة الثقافية والشك في الهوية الذي زرعه الاستعمار قبل خروجه وحقق نتائجه بعد الاستقلال.
لهذا السبب أصبحت أغلب الأفلام التي تنتج في الفترة الأخيرة في الجزائر بلا مضمون والأفلام التي تنتج في فرنسا بلا انتماء، وحتى التي تتحدث عن الثورة تركز على قضايا هامشية كما ذكر الأستاذ محمد حازورلي، بل أصبح الفرنسيون ينتجون أفلاما عن الثورة تُحرف الواقع وتحاول أن تصور المجاهدين كمقاتلين همجيين وانتقاميين، وتصور الجندي الفرنسي في صورة المقاتل الشجاع، وتمعن في إذلال حتى الحركى الذين كانوا يقاتلون بجنب الفرنسيين ومن هذه الأفلام فيلم ” العدو الحميم” للمخرج فيورنتينا إيميليو سيري.
إن أركان الصناعة السينمائية هي كالآتي: الإنتاج، السيناريو، الإخراج، التمثيل، الأدوات والمهارة التقنية المتعلقة بالتصوير والتركيب والديكور والموسيقى وما إلى ذلك ثم يأتي التسويق.
إن وجود الفيلم يرتبط بالمنتج أولا، سواء كان المنتج فردا أو مجموعة، مستقلا يمول الفيلم بنفسه، أو ممثلا للمساهمين، عن طريق مؤسسة إنتاج خاصة أو حكومية. وقد يكون هو صاحب فكرة الفيلم فيبحث لها عن سيناريو ومخرج، أو تُعرض عليه الفكرة لينجزها. والمنتج هو المتحكم الأساسي في الفيلم ولا يستطيع أن ي يراجعه في قراراته سوى مخرج قوي له مكنة ومكانة. وقد يكون المنتج هو المخرج، بل قد يكون كذلك هو الممثل.
وعليه سيرسم المشهد السينمائي منتجو الأفلام، فإن توفر لبلد ما مخرجون لهم أفكار مفيدة ومربحة ومتماهية مع ثقافة البلد ولهم القدرة على الاستثمار فيها والمخاطرة المالية من أجلها ستكون سينما البلد مفيدة ومربحة للبلد وخادمة لثقافته. وإن تحكم في الإنتاج منتجون، من القطاع الخاص أو الحكومي، أو تجار لا يهمهم إلا المال، أو حاقدون أو متآمرون على ثقافة البلد والذوق العام للمجتمع، ستدخل ثقافة البلد في محنة وتَفسد أذواق الناس.
أما الانتاج والإخراج والتمثيل والمعرفة والمهارة التقنية، فهو أمر سهل التحكم فيه، من خلال صقل ما في البلاد من تجارب وخامات وإبداعات، ومن خلال تطوير هذه الأسس السينمائية الثلاثة بالتكوين والتعليم والتدريب والتحكم في التقنيات السينمائية، ومن خلال الاعتماد على المؤسسات التكوينية ذات الاختصاص في القطاع العام والقطاع الخاص، وفي الداخل والخارج، وقد يساهم في ذلك ونوادي الهواة في المدارس وفي المجتمع المدني التي تنشر ثقافة السينما وتكتشف المبدعين وتوفر الخطوات الأولى لكل المهتمين.
أما السيناريو فهو أهم شيء في الصناعة السينمائية، فهو إرث لا يتحكم فيه جيل واحد، بل هو أمانة الأجيال، وهو ثقافة الشعب، وهو المعاني والكلمات، والكلمات ذات المعنى هي روح الفنون كلها. وكل فن لا روح له هو تمظهر عبثي لا يلفت الانتباه، ولا يقدم خدمة، ولا يمتع ولا يبقى في الذاكرة.
أتذكر أنني التقيت أحد الفنانين الجزائريين المشهورين في جريدة الشروق فقلت له بصراحة أنت فنان عبقري في التمثيل، وتحاول تقديم شيء نافع، ولكن مشكلتك في الأفلام التي تقدمها هي السيناريو. وباعتبار أنه انتقل بسرعة من التمثيل إلى الإخراج وربما الإنتاج بميزانيات زهيدة، قلت له ليس بالضرورة أن يجمع الممثل في شخصه كل وظائف الصناعة السينمائية الأخرى.
إن أزمة السينما الجزائرية في فترة ما بعد التسعينيات حينما أرادت النهوض من جديد تتعلق بالسيناريو، لا ينقص قطاع الإنتاج السينمائي ممثلين مبدعين، والدليل على ذلك وجود طفرات تظهر فيها بصمة الممثل، كأفلام صالح أوغروت شفاه الله وأمثاله في جيله.
إن السيناريو هو الذي يعلي من مكانة الممثل والفيلم، وهو ما ينقص من مكانة صاحب الدور والمنتج السينمائي. ولذلك المدن والاستديوهات والشركات العالمية التي تكثر فيها الأفلام الناجحة هي التي تتوفر على شبكات كتاب السيناريو أصحاب مستوى وكفاءة وينالون الاحترام والتقدير والمقابل المادي المجزي، ومن ذلك هوليود وبوليود والسينما الأوربية عموما.
… يتبع
د. عبد الرزاق مقري