عن مخطط عمل الحكومة (12)

في الثقافة والسينما

وبخصوص المسألة الثقافية فإن مخطط عمل الحكومة خصص الحديث في هذا المحور  للسينما فقط، فهل انتبه المسؤولون  إلى أهمية القوة الناعمة في إدارة شؤون الدول؟ من حيث حماية ثقافتها وتسجيل حضورها وفرض نفوذها خارج حدودها.

إنه لم تصبح الأعمال الفنية، ومختلف الأنواع السينمائية من الأفلام الطويلة والقصيرة والمسلسات الدرامية والأفلام السينمائية الوثائقية،  أداة للترفيه فحسب، بل أصبحت سلاحا ناعما لحماية الذات الثقافية في مواجهة الثقافات الأجنبية المتسربة عن طريق فنون الصورة، وأداة للترويج السياحي وتثمين الوجهات السياحية للبلدان، وقطاعا مربحا لدعم النمو الاقتصادي الوطني، ووسيلة فاعلة لتحسين الصورة الذهنية للأمم، و طريقة هادئة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول.

لقد باتت السينما دبلوماسية ثقافية مؤثرة، وركنا أساسيا في تفاعلات الجغرافية السياسية الحديثة، مكّن لها تطور وسائل الاتصال الحديثة، من القاعات السينمائية إلى الشاشات التلفزية إلى الأقراص المدمجة إلى منصات البث الالكتروني للأفلام، فهي التي توصل رسالة أصحابها إلى المستهدفين قبل وصول الأدوات الرسمية الصلبة والناعمة الأخرى. وهي تُعد اليوم، عند الحكومات الرسالية، ضمن معطيات القوة وحسابات النفوذ، إذ هي – حسب نظرية القوة الجديدة – التي تستطيع أن “تحقق النصر المستدام والامتياز بعيد مدى، عبر الأدوات الناعمة التي تجعل المستهدف يلبي المطلوب منه على المدى الطويل، دون أن يشعر بالبعد القصري، الذي قد يجدي على المدى القصير ويتلاشى أثره مع الزمن”.

للسينما تاريخ عريق منذ صناعة أول آلة عرض من قبل الإخوة “لوميير”  (Les frères Lumière ) في فرنسا سنة 1895، وتحولها إلى حالة جماهيرية في أمريكا بعد ذلك، وكانت ذروة صناعة السينما آنذاك في أمريكا مع الفيلم الصامت “ميلاد أمة” سنة 1915 الذي يتحدث عن المجتمع الأمريكي في نشأته بخلفية عنصرية تمجد البيض والأعمال العدائية ضد السود. رغم عنصريته بقي هذا الفيلم الأعلى من حيث الإيرادات إلى أن خرج الفيلم العاطفي الشهير ” ذهب مع الريح” الذي بقي متربعا على سلم الإيرادات رغم إيحاءاته العنصرية وتصنيفه من بعض المؤسسات وكثير من الأكاديميين بأنه يحرف التاريخ ولا ينصف ضحايا العبودية، فكانت السينما الأمريكية منذ بدايتها أداة ناعمة مؤثرة في الجماهير يمر من خلالها  كل أنواع الاعتداء على الحق والحقائق.

حينما تحكمت الولايات الأمريكية المتحدة في الصورة  سيطرت على شاشات العرض حتى أصبحت الثقافة الأمريكية واللسان الأمريكي، والتاريخ الأمريكي والقيم الأمريكية والأذواق والسلع الأمريكية “حالةَ هيمنة مُعولمة” تنبئ عن قوة حضارية أمريكية غربية جبارة، ثم تحولت أداة إلى كل الأفكار والسلوكيات التي شيّأت الحضارة الغربية المهيمنة وجعلت الإنسان عبدا لغرائزه ونزواته العنفية،  واستطاعت السينما أن تنقل ثقافة العنف والجنس والبذاءة لكل الصناعة السينمائية في العالم.

هيمنت الصناعة السينمائية الغربية على العالم لعقود طويلة فكانت مدينة “هوليود السينمائية ” في لوس أنجلس الأمريكية   مركز أكبر  وأشهر استوديوهات السينما في العالم، وبقيت الأفلام الأمريكية الأكثر  مشاهدة وتأثيرا، وتُحقق في المتوسط 60% من عائدات شباك التذاكر من داخل الولايات الأمريكية و40% لوحدها من خارجها.

   رغم الهيمنة الأمريكية استطاعت بعض الدول أن تجد لنفسها مكانة في السوق السينمائية في وقت مبكر كالسينما الأوربية المتميزة من حيث العراقة، خصوصا السينما الفرنسية والإيطالية والبريطانية والاسبانية، التي رغم تأثرها بالنمط السريع والتشخيصي الأمريكي بقيت تحافظ على نمطها البطيئ والتأملي الذي يميل إلى الواقعية أكثر، غير أنها في المحصلة تعبر عن توجه حضاري غربي واحد.  أما من حيث غزارة الإنتاج تأتي  مدينة “بوليود” في بومباي الهندية، وبعدها مدينة “نوليوود” بلاغوس النيجيرية.

ولو نحفظ الطفرة النيجيرية التي تتقدم في كثافة الإنتاج ولا تكاد تذكر من حيث التأثير ولا ترتب ضمن أرقام أعمال الصناعة السينمائية العالمية سيظهر لنا بأن التنافس السينمائي هو بين الحضارات الآسوية والحضارة الغربية الأمريكية الأوربية، فقد ذكر بيان عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) أن الإحصاء العالمي بشأن صناعة السينما الذي أجراه معهد “اليونسكو” للإحصاء  سنة 2007، أفاد أن السينما في الهند (بوليوود) أنتجت 1091 فيلماً سينمائياً طويلاً في عام 2006 ، مقابل 872 فيلماً (على أشرطة فيديو) أنتجتها السينما في نيجيريا (نوليوود)، فيما أنتجت الولايات المتحدة 485 فلماً طويلا.

وأضاف الاحصاء أن ثمانية بلدان أخرى تنتج أكثر من 100 فيلم طويلا سنوياً  هي: اليابان (417 فيلماً) والصين (330 فيلماً)، وفرنسا (203 أفلام)، وألمانيا (147 فيلماً)، واسبانيا (150 فيلماً)، وايطاليا (116 فيلماً)، وكوريا الجنوبية (110 أفلام) والمملكة المتحدة (104 أفلام).

وفي 2017 دخلت دولتان إسلاميتان التريب للدول التي تجاوزت إنتاج 100 فلم في السنة هما تركيا واندنوسيا، ودون ذلك بقليل إيران، على النحو التالي وفق منظمة اليونسكو :

الهند (1998)، نيجيريا(997 )، الصين (874)، الولايات الأمريكية المتحدة (660)، اليابان (594)، كوريا الجنوبية (494)، فرنسا (300)، المملكة المتحدة (285)، اسبانيا (241)، ألمانيا(233)، الأرجنتين (220)، المكسيك (176)، إيطاليا (173)، البرازيل (160)، تركيا (148)،  روسيا (128)، سويسرا (118)، اندنوسيا(117)، إيران (98)، كندا (92).

ومن حيث أرقام الأعمال للناتج الإجمالي للأفلام سنة 2017 ترتب الدول ، حسب موقع  (statista)،  على النحو التالي: الولايات الأمريكية المتحدة، الصين، اليابان، المملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، الهند، كندا، استراليا، البرازيل، ثم تأتي كوريا الجنوبية وبعدها إيطاليا. وفي السنوات الأخيرة التحقت تركيا بالركب، وتميزت أكثر في إنتاج المسلسلات  واحتلت المرتبة الثانية بعد أمريكا.

ولا يوجد في الترتيب أية دولة من أفريقيا أو من الدول العربية  بما يؤكد بأن التنافس على القيادة العالمية هو بين الحضارة الغربية والحضارات الآسوية، وأن الصناعة السينمائية جزء أساس من هذا التنافس، وأن الدول التي تنوب عن الأمة الإسلامية في هذا المجال هي تركيا وإندونيسيا ثم إيران.

وفي إطار هذا التنافس الحضاري يعرف العالم اليوم اهتماما كبيرا بالسينما، فأصبح بناء الهياكل القاعدية للإنتاج السينمائي شأنا سياديا تحرص الدول على بذل الميزانيات فيه وتشجيع القطاع الخاص له، تماما كما تحرص على بناء المدارس والمطارات والسدود والطرقات.

ومع تطور الوسائل التكنولوجية، وتحكم الأمم في ممرات المعرفة والمهارة، لم يصبح ثمة احتكار للصناعة السينيمائية ذات الجودة العالية في العالم. فاهتبلت الدول التي يحكمها حكام أصحاب كفاءة ورؤية ورسالة فبعثوا ما كان لديهم من تراث سينمائي وطوروا مكانتهم في تنافسية الصورة في العالم، فحققوا نجاحات عظيمة واخترقت أفلافهم ومسلسلاتهم الدول، وصارت قيمهم وثقافتهم، وأسماء مدنهم وأشكال شعبهم وأسماؤهم وعاداتهم، معلومة ومُستأنَسة بين الأمم.

إن ثمة دولا ذات رؤية ورسالة تعيش حالة نهضوية كبيرة في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية، يعتبر التطور السينمائي عندها جزء من هذه النهضة. ومن هذه الدول الصين

التي قرر مسؤولوها أن ينافسوا الأقوى في عالم السينما لتكون السينما الصينية أكثر انتشارا وتأثيرا في العالم في حدود سنة 2035 من السينما الأمريكية، واعتبروا أن السينما جزء من  “الحلم الصيني لإحياء الدولة الصينية”

وخلال مؤتمر  ضم مسؤولين حكوميين وكوادر سينمائية وممثلين من كبرى شركات الإنتاج ال سينمائي  أقيم في بكين سنة  2011  حددت وزارة الإعلام الصينية، على لسان تشاو وانج المدير التنفيذي للوكالة القومية للسينما ” مسار تنمية صناعة السينما في الصين لتبلغ المستوى الذي يعكس قوة الصين في العالم”، ولتحقيق هذا الطموح بنت الصين استديوهات عملاقة في منطقة (تينسيل تاون)، جذبت إليها صناع السينما من داخل هذا البلد وخارجه .

لم يتأخر نجاح هذه الخطة كثيرا، فبعدما كانت الصين سوقا رئيسية للأفلام الأميركية، اتسع سوق  السينما فيها ليصل إلى 9.2 مليار دولار عام 2019 بعدما كان حجمه فقط 800 مليون دولار عام 2009، متأخرا على السوق الأمريكية بملياري دولار فقط. وقد كان المواطن الصيني مهوسا بالافلام الأمريكية كغيره من سكان العالم إلى أن أصبحت سينما وطنه أكثر جاذبية وملاءمة لأذواقه وقيمه. ففي عام 2007 كان هناك 14 فيلما أميركيا ضمن أعلى 25 فيلما من حيث الإيرادات في دور العرض الصينية، وفي عام 2019  أصبح 17 فيلما صينيا ضمن أعلى 25 فيلما من حيث الإيرادات داخل الصين، بما يمثل زيادة كبيرة في الطلب على الفيلم الصيني على حساب الفلم الأمريكي.

وقد اقتضت خطة الصين الناعمة في مجال التنافسية السينمائية تحسين جودة المنتج السينمائي المحلي مع فرض شروط على من يريد أن يعرض أفلامه داخل السوق الصيني الواسع، بما جعل كبار المنتجين السنمائيين الأجانب يتكيفون مع المقاييس الوطنية الصينية. يقول آدم غودمان، المدير السابق لشركة “بارامونت بيكتشرز” (Paramount Pictures) في حديث مع صحيفة “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) : “قبل 10 أعوام لم نفكر بالصين أبدا، أما الآن فيبدو أننا لا نستطيع العيش بدون الصين” وقد أثار توجه استديوهات الإنتاح والممثلون والمخرجون الأمريكيون إلى السوق السينمائية الصينية استياء المسؤولين الأمريكيين، فعبر عن ذلك وزير العدل السابق وليام بير، حيث اعتبر أن معركة الصورة بين أمريكا والصين جزء “من صراع بين الأجيال سيحدد المستقبل السياسي للعالم” وأعاب كثيرا على هوليود رضوخها لرقابة الحكومة الصينية ومؤسساتها الإنتاجية السينمائية.

ومن خصائص الصناعة السينمائية، وفق ما تبينه  الإحصاءات السينمائية العالمية، أن معيار التفوق الأول ليس غزارة الإنتاج، وإنما قبول منتجاتها في الأسواق الداخلية لبلدانها ثم تميزها في الأسواق الخارجية، ولا تستطيع السينما الوطنية أن تجد لها مكانة إن كانت مستلبة حضاريا يمجّها أهل البلد، تقدم نسخا مكررة لحضارات أخرى غالبة، لأن الجمهور المرتبط بالحضارة المهيمنة سيبقى متعلقا بالنسخة الأصلية وليس بنسختها المكررة، ويبقى الناس يبحثون عن البديل الذي لا يصادم قناعاتهم إلى أن يجدوه،  وأسوء ما يصيب الصناعة السينمائية الوطنية هو فقدان الهوية.

والمثل الواضح في ذلك السينما الأفريقية عموما، والنيجيرية خصوصا، هذه الأخيرة التي تحقق أرقاما عالية من حيث الإنتاج إذ هي الثانية دوليا، وتوفر مداخيل جيدة للاقتصاد النيحيري وتساهم نسبيا في توفير مناصب الشغل،  إلا أنه لا أثر لها على المستوى العالمي لأنها مدخولة جدا بالثقافة والقيم والسلوكيات الغربية،  ومما يقوله الكاتب النيجيري والناقد السينمائي النيجيري نواشوكو فرانك أوكاديك: “إن الدول الأفريقية رغم استقلالها السياسي في ستينيات القرن العشرين لم تحقق استقلالا ثقافيا واقتصاديا يسمح بإنتاج سينما افريقية الهوية حيث ظلت آثار الاستعمار القديم تحول دون ظهور سينما قومية حقيقية قادرة على التعبير عنهم ولهم، باستثناء أفلام قدمها مخرجون أفراد ولكنها لم تمثل تيارا فنيا أفريقيا” ومما يقوله المخرج النيجيري المقيم في السويد المكرم عن فيلمه “بينما نعيش” الناطق باللغة السويدية: داني كواتي: واحدة من أكبر الحالات  الدرامية لإفريفيا  اليوم أزمتها الهوياتية، أفريقيا يجب أن تُعرّف نفسها أولا لكي تستطيع فرض نفسها بوضوح، ويستشهد بمقولة البروفيسور جوزيف كي زيربو: ” حينما لا نعرف من نحن لا نستطيع معرفة ماذا نريد”.  

إن ما أصاب السينما الأفريقية هو تقريبا ما أصاب السينما في العالم العربي والإسلامي، ونأخذ على سبيل السينما المصرية  التي هيمنت على الشاشات في العالم العربي لعقود بسبب عراقتها التي تتجاوز المائة سنة منذ ظهورها في نفس الوقت تقريبا الذي ظهرت فيها السينما في العالم، وبسبب كثافة إنتاجها إذ ظلت لعقود طويلة تنتج أكثر من نصف عدد الأفلام العربية كلها. استُعملت السينما المصرية منذ عهد “الأبيض والأسود” في ضرب البنية الأخلاقية والقيمية للمجتمع المصري والعربي، بدعم من الاستعمار البريطاني، ورغم المجهودات الكبيرة التي بذلها مخرجون وكتاب سيناريو وممثلون مصريون في خدمة التاريخ والقيم والرسالة العربية الإسلامية بقي الاتجاه الغالب بعيدا عن تصوير حقيقة المجتمعات العربية والإسلامية، يركز على المظاهر السلبية لسكان القصور والفيلات، وانخرافات سكان القبور والأحياء الفقيرة، فلم تستطع السينما المصرية فرض نفسها في الساحة العالمية لغياب لحرمانها من خصوصية حضارية تمثلها، أو قوة علمية واقتصادية ومهارية من ورائها، أو حماسة نابعة من تبني قضايا مبدئية كبيرة لها، وفي السنوات الأخيرة  زاد الانحراف  فأضحت السينما المصرية تمعن في تصوير مظاهر الإسفاف الأخلاقي في التعبير والمشاهد، وتغرق في الشأن المصري الهامشي حضاريا،  وقد عبر عن ذلك الناقد السينمائي المصري الكبير مصطفى درويش الذي يعتبر أن “الإنسان اخترع الفن، حتى يحدث له نوع من التوازنات، والفن يؤثر على المجتمع لأن الإنسان لم يخترع الفن إلا رغبة فى التأثر به”، ويرى أن تأثير السينما صار أكثر سلبية فى الفترة الأخيرة، خاصة أن الأفلام أضحى ينتشر فيها الإسفاف والضحك دون لزوم، واهتمام المنتجين لجمع الإيرادات عن طريق زيادة «البهارات»، فهى تؤثر فى أزياء الشباب وسلوكياتهم، والأخلاق العامة باتت فى تدهور مستمر، نتيجة عدم وجود توازن فى نوعيات الأفلام” ومما ذكره الكاتب أحمد شوقي في هذا الشأن أن السينما المصرية تعيش كارثة  لا يُمكن أن تستمر، إذ لم تصبح حسب رأيه النخب المثقفة والفاعلة في المجتمع معنية هذه السينما المنحدرة أخلاقيا فيقول:”  فصنّاع السينما السائدة المنتشون بالنجاح في شباك التذاكر المحلي وأحيانا العربي لا يدركون أنهم صاروا راضين بجمهور درجة ثانية ـ وأحياناً ثالثة ـ من العالم العربي، وأن الشاب الأردني أو الجزائري أو حتى الخليجي الذي يمتلك حداً أدنى من الثقافة والانفتاح على العالم، لم يعد تعنيه مطاردات عز والسقا ونكات هنيدي وسعد ..”

وقد دعا الصحفي أشرف العشري في صحيفة الأهرام رئيسه السيسي إلى التدخل ” لمنع كل هذا الفجور والاسفاف لوطننا ومجتمعاتنا حيث إن صمتنا هذا فضيحة وسيلعننا التاريخ وستظل هذه النوعية من الافلام والمسلسلات كاشفة وفاضحة لثقافة المصريين وجرح لن يذول من تاريخهم، حيث يفطر لها القلب.

واذا لم يصوب الابداع والانتاج الثقافى والفنى والسينمائى بوعى وحكمة سيعرض البلاد وثقافة المصريين للخطر”

وفي السنوات الأخيرة لجأت السينما المصرية إلى الأموال الخليجية، خصوصا السعودية،  بسبب غياب سياسة سينمائية رسمية فنشأ بما يسمى “سينما المقاولات” التي تؤثر توجهات رجال المال السعودي والخليجي المعروفين بتأثيرهم الخطير في نشر الأفلام والفن المدمر للكيان العربي عبر منصاتهم التلفزية السينمائية، ثم استقل رجال الأعمال  الخليجيين  بالإنتاج باسم دولهم مباشرة وأصبحت في صدارة الدول العربية في إنتاج الأفلام  على النحو التالي وفق إحصائيات اليونسكو لسنة 2017:  الإمارات، قطر، مصر، المغرب، لبنان، الجزائر، تونس، الكويت، سوريا، فلسطين عمان. ويظهر في هذا الترتيب تأخر سوريا رغم عراقتها في الانتاج السينمائي وانتشار الدراما السورية في كل العالم عربيا قبل المحنة التي وقعت فيها. ومهما يكن من أمر فإن البلد الذي يملك صناعة سينمائية حقيقية في العالم العربي هي مصر، ومشكلتها إنما هي الانهيارات السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تعيشها.

وعن القضية الأخلاقية في الصناعة السينمائية، للأسف الشديد تسربت سينما الرذيلة للإنتاج السينمائي في العديد من الدول العربية المشرقية والمغربية، والذي يجب أن ننتبه إليه على العموم أن التأثير متبادل، الانهيارات الاجتماعية وتدني الأذواق تؤدي إلى بروز أفلام منحطة، والأفلام المنحطة تساهم في إنشاء مجتمعات منهارة أخلاقيا، وانزواء النخب المحترمة عن الفعل الاجتماعي والفني يفسح المجال للقوى الاجتماعية السائبة فترفض مستواها المنحط على المنتجين الطامعين في الربح السريع بإنتاج أفلام غير مكلفة بلا سيناريو ولا قضية ولا متعة، ويغطي على ذلك التوابل والبهارات التي تحرك الغرائز وتورث بعد ذلك القلق والوحشة، ويخرج المتفرج من الفيلم وهو يحتقر نفسه قد ضيع وقته. ثم تنشأ لوبيات منحرفة تديم الإسفاف الأخلاقي في السينما.

ولو نلاحظ تطور السينما الغربية نجد بأن انتشار الانحرافات كالإدمان والعنف والشذوذ سببه لوبيات أصبحت تؤثر في الإنتاج السينمائي، فلنا أن نتذكر كيف أن المافيا الأمريكية أثرت في سيناريوهات الأفلام فمنعت الكثير منها من إبراز ” المافيا” كمنظمة شريرة، وتوصل بها الحال سابقا أن تدخلت في سيناريو الفلم الشهير ” العرّاب” بطولة ألباسينو ومارلن بروندو وأدخلت بعض أفرادها ضمن الممثلين في الفلم. أما اليوم فقد تفاقم الأمر وأصبحت لوبيات المثليين مثلا تشترط إدخال نسبا محددة من مشاهد المثلية في الأفلام، حتى أصبح المتفرجون، وفق ما تنقله المقالات والدراسات المتابعة للسينما، لا يكادون يَسلمون من هذه الممارسات أو الإيحاءات اللاخلاقية الشاذة، والغريب في الأمر أن مشجعي إطلاق العنان لمشاهد الرذيلة والعلاقات الحميمية في السينما ييبررون ذلك بمفهوم الواقعية باعتبار أن السينما مرآة المجتمع وأنها تصور الحالات الموجودة في المجتمع فعليا، والحقيقة أن هذا التبرير خداع مكشوف لأن ممارسة العلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة سواء كان ذلك في إطار الزواج أو ضمن أفعال الرذيلة لا يقوم بها الناس في الطرقات وعلى مرأى ومسمع الناس، فالواقعية الحقيقية هي التي تظهر ما هو ظاهر وتخفي ما خفي فعليا في حياة الناس.

والسينما العربية التي تحاكي المظاهر الشاذة في المجتمع لن تفلح في مسعاها، سواء كان ذلك لأغراض تجارية، أو وفق مخططات تدميرية للمجتمعات العربية، – كما يعتقد المدون المصري عماد أبو الفتوح رئيس تحرير مجلة أراجيكالرقمية في مقاله عن السينما المصرية –   لأن العالم العربي محصن بالإسلام الذي تكفل  الله سبحانه عز وجل بحفظه. فالسينما المصرية استُعمل جزء منها لتدمير المجتمع العربي فانكسرت هي وتراجعت،  وتغلبت الصحوة الإسلامية، ورجع المجتمع المصري والعربي إلى دينه بعد فترات الاستيلاب الحضاري  الذي فُرض في وقت الاستعمار وبعده، وكانت السينما من أهم أدواته. إن ما هو مباح من الناحية الشرعية واسع جدا ليشمل كل قضايا الإنسان ويعالجها بواقعية ومتعة وإفادة، دون الحاجة إلى الانحطاط الأخلاقي الذي تنحدر إليه السينما والتي باتت الدول الجادة تحاربه، ومنها جمهورية الصين الشيوعية التي شكلت لجانا لحماية البناء الثقافي والأخلاقي في المجتمع الصيني، ومنها روسيا التي اتخذ رئيسها قرارات وتدابير صارمة لحماية المجتمع الروسي من الألفاظ والممارسات المدمرة للأخلاق والذوق العام.

وعلاوة على الأبعاد الحضارية والثقافية الغائبة في السينما العربية المصرية وغير المصرية بقي التأثير السياسي متحكما ومانعا لتطور الصناعة السينمائية، بالمنع والرقابة السياسية من جهة، أو التسخير لخدمة توجهات الحكام أو بالإهمال وعدم إدراك أهمية الصناعة السينمائية وأبعادها الحضارية. 

وفي العالم الإسلامي خارج المنطقة العربية يمكن أن نضرب المثال بالسينما التركية فهي الأخرى سينما ذات عراقة عميقة تمتد إلى أكثر  من قرن من الزمن ابتدأت معتمدة على  الفن المسرحي  سنة 1914 وبعد ثلاثين سنة عرفت طفرتها بالانتقال إلى المشهد السينمائي المبني على الصورة المتراكمة مع عميد السينما التركية عمر لطفي العقاد، وعرفت عصرها الذهبي إلى غاية الانقلاب العسكري الدموي في سبتمبر 1982 ودخول تركيا في أزمات داخلية كبيرة بسبب قلق الجيش من الصعود السياسي للتيار الإسلامي، وبقيت أزمة السينما مصاحبة للأزمة السياسية إلى غاية عقد التسعينيات. تدخل الأوربيون على الخط لدعم السينما التركية كوسيلة لدمج الأتراك ثقافيا في أوربا وحل معضلة شعبية التيار الإسلامي بواسطة القوة الناعمة السينمائية، فانضمت تركيا إلى منظمة ” الصورة الأوربية” (Eurimages) التي تدعم المشاريع السينمائية في بعض الدول الأوربية حيث تلقت شركات الإنتاج السينمائية التركية بين 1990-2013  ما يوازي 21 مليون يورو عبر إنتاج مشترك وقروض بدون فائدة. غير أن اليقظة الفنية، حسب المتخصصين في الشأن السينمائي، تعود لسنة 2005  حين سنت الحكومة التركية بقيادة طيب رجب أردوغان قانونا جديدا لإلغاء الضرائب على المنتجين السينمائيين، واستمر دعم الصناعة السينمائية إلى غاية 2016 لإنتاج 200 مشروع سينمائي، حيث صرح الرئيس التركي أردوغان منتصف عام 2019 بأنه تمت مضاعفة الدعم الحكومي للأنظمة الثقافية 50 ضعفا عما كانت عليه في بداية حكم حزب العدالة والتنمية عام 2002. ولا يخفى على أحد بأن الحكومة التركية دخلت عن طريق تشجيع الأفلام والمسلسلات التاريخية التي تعلي من شأن الأبعاد الثقافية الإسلامية في القطاع الخاص في مواجهة ناعمة مع الصناعة السينمائية التركية المتمسكة بالثقافة الأوربية التي لم تتوقف أوربا عن دعمها المباشر  إلى أن يئست ابتداء من 2013 من التوجهات الحضارية الجديدة للحكومة التركية، ونحن كمجتمع عربي مستهلك نشعر بهذه الازدواجية الثقافية التركية بين مسلسلات الإغراء وتطبيع العلاقات غير الشرعية من جهة، ومسلسلات الإباء والبطولة والشرف من جهة أخرى. 

ولو قارنا الواقع السينمائي العربي بالواقع السينمائي التركي من ناحية التوجهات الرسمية، لا نشعر بأن الحكومات العربية تحمل رؤية سينمائية تعبر عن انتماء ثقافي وحضاري فهي إن لم تعرقل السينما الجادة لأغراض سياسية تطلق العنان لسينما المسخ الثقافي الباحث عن الربح السريع أو المسنود من قوى غربية لأغراض ثقافية إدماجية. ولذلك يمكن أن نقارن السياسة الحكومية التركية  بالتوجهات السينمائية الصينية، إذ نجد كلاهما ينتميان لرسالة حضارية ورؤية ثقافية وطنية. غير أن الاختلاف بينهما أن النظام السياسي الصيني غير تعددي يعتمد على الحزب الشيوعي الواحد.  فالحكومة وإن كانت تسير وفق توجهات رأسمالية في الاقتصاد وتعتمد على كثير من نظريات الليبيرالية الاقتصادية، فهي لا تتبنى النظام الليبيرالي السياسي، وهذا ما يتيح لها هوامش تحكم حكومية كبيرة في مواجهة الغزو الثقافي الأمريكي السينمائي لمن يريد عرض منتجاته في السوق الصينية الضخمة. ولعلمها بعدم القدرة على التحكم في الأفراد بسبب الانفتاح اللامحدود لوسائل الاتصال ومنصات البث الإلكتروني فهي تجتهد لتوفير البديل المنافس على مستوى الصناعة السينمائية ووسائل الاتصال الرقمية. ورغم مجهوداتها الكبيرة في هذا المضمار بقيت أعداد كبيرة من الشباب الصيني يتأثر بالثقافة الغربية التي تنقلها الأفلام والفنون الأمريكية، لذلك اتجه الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى الاحتفاء بالفلسفة الكونفوشيوسية التي خاصمتها الثورة الشيوعية الصينية، لمحاولة تحصين المجتمع الصيني الذي تصل فيه نسبة اللادينية أكثر من 80 بالمائة، مما جعله مرتعا سهلا للثقافة الأمريكية الغربية.  أما التجربة الحضارية الثقافية التركية فهي تنافس في فضاء ديمقراطي مفتوح لا  يسمح  بالغلق، وعليه فالتيار الحضاري الثقافي التركي الأصيل يَجهد كثيرا في منافسة الإنتاج السينمائي التركي التغريبي، ولكنه يحقق نتائج كبرى يوما بعد يوم.

وعلى العموم تحقق الصناعة السينمائية تقدما كبيرا   فقد احتلت الأفلام التركية في عام 2008 المراتب العشرة الأولى في شباك التذاكر التركي على حساب أفلام هوليوود الأمريكية، وقد صرح الرئيس التركي، حسب وكالة أناضول الإخبارية في 17 نوفمبر سنة 2019، بأن تركيا تحولت إلى ماركا عالمية في إنتاج المسلسلات التي تحظى حاليا بمشاهدة  500 مليون شخص في 156 دولة. وهي تطمح لجني مليار دولار من القطاع السينمائي بحلول 2023 .

والذي سيجعل الاتجاه السينمائي الحضاري في تركيا يتغلب على الاتجاه التغريبي والمفرط في العبثية والاسفاف هو المقاومة المجتمعية المسلمة والنهضة الحضارية التي تعرفها البلاد، بما يجعل الشعب التركي ينتبه إلى أن تاريخه المشرّف مرتبط بالإسلام وأنه لم تقم له حضارة بغير الإسلام في تاريخه، بل بالإسلام فقط قاد العالم الإسلامي كله لسبعة قرون. وفي كل الأحوال لا يُتوقع أبدا أن يغلب إنتاج الأفلام الجادة الرسالية إنتاج الأفلام العبثية في أي بلد، ولكن نماذج قليلة من الأفلام الرسالية تؤثر أضعاف المرات من زخم أفلام الإفساد، فالفضيلة  تقود دائما رغم قلتها حين يكون أهلها جادين، فلنا أن نتصور التأثير الإيجابي الكبير الذي فعلته مسلسلات قوية مثل وادي الذئاب وأرطغل وعثمان والسلطان عبد الحميد الثاني في المجتمع التركي والمجتمعات العربية الإسلامية، وبعيدا عن السينما التركية لنا أن نتذكر الأثر الجبار الذي فعلتاه رائعتا المخرج المبدع مصطفى العقاد، فيلم الرسالة وفيلم عمر المختار.

لقد قدمنا في هذا المقال محاولة لفهم عام عن تطور السينما في العالم وفي العالم العربي والإسلامي وعلاقته بالأبعاد الحضارية والثقافية، وفي المقال المقبل نتحدث عن الثقافة والسينما في الجزائر على النحو المنهجي الذي اختاره مخطط عمل الحكومة.

يتبع ..

د. عبد الرزاق مقري