ملاحظة قبل القراءة: لقد قمنا في هذه الدراسة بجمع وتحليل ما نعرفه من معلومات تاريخية ومعطيات فكرية عن التجربة التركية متفرقة في دراسات أخرى، كما ثبتنا الخلاصات التي ستسهّل علينا لاحقا الخوض في الفرضية (الحلقة المفقودة) التي دفعتنا إلى القيام بهذه الدراسة، بما قد يجعل القارئ الذي يصبر على طول هذه المساهمة من غير المتخصصين ينظر إلى التجربة التركية بغير ما ألفه من زوايا النظر.
تتمة الدراسة: لم يظهر في النقاشات والتصريحات والبرامج التي قدمتها الأحزاب المتنافسة في الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية التركية خلافات حول التوجهات الاقتصادية والمقاربات الاجتماعية. لو نتمعن في الملفات الانتخابية التي قدمها تحالف الجمهور بزعامة أردوغان تحت شعار “قرن تركيا” أو ما قدمته الطاولة السداسية في إطار ما أطلق عليه “نص الاتفاقات المشتركة” وما قدمه حزب الشعب الجمهوري تحت شعار “المئوية الثانية” سنجد بأن الفروق لم تكن في الجوهر وإنما في الوعود التي قُدمت بخصوص كل ملف، ومن ذلك ما يتعلق بالعملة المحلية والتضخم والبطالة والبنى التحتية والاستثمار والتصدير ومعدل النمو ونصيب الفرد من الدخل القومي والسياسة الاجتماعية.
وكان خطاب التحالف الحاكم في هذا الإطار أكثر تماسكا وقوة معتمدا على إنجازات كبرى أظهرها أثناء الحملة الانتخابية.
ومن ناحية الفلسفة الاقتصادية انتمت مقاربات الطرفين إلى مذهب واحد وهو المذهب الرأسمالي، وذلك بالرغم من أن اللون الغالب في تحالف المعارضة هو اللون الاشتراكي الأحمر، متمثلا في الوجهة اليسارية لحزب الشعب الجمهوري أو الجذور الماركسية اللينينية للحزب الكردي. والغريب في الأمر أن الطرح الأكثر رأسمالية جاء من هذه الأحزاب ذات الجذور الحمراء مثل مسألة رفع سعر الفائدة التي تؤكد عليها المؤسسات المالية الرأسمالية الغربية ومسألة الاستثمارات الأجنبية التي وعد بها كمال كليشدار أوغلو نظرا للوعود التي قدمت له من الولايات الأمريكية المتحدة والدول الأوربية في حالة فوزه.
مع العلم بأن أردوغان نفسه وجد مشكلة في إقناع معسكره في الإبقاء على خفض سعر الفائدة، خصوصا مع وزير المالية الجديد الذي اختاره في حكومته، وكانت الكلمة الأخيرة لهذا الوزير.إن التحالفات التي أبرمتها المعارضة في الانتخابات التركية لهذا العام 2023 لم تكن على الأساس البرامج وإنما لغرض سياسي جوهري اجتمعت عليه أحزاب الطاولة السياسية (تحالف الأمة) كلها وهو إسقاط الرجل الذي يقطع الطريق على طموحاتهم السياسية بنجاحه الانتخابي المستمر، ولغرض قومي مذهبي أيديلوجي يقصده الحزبان الأساسيان المشكلان لتحالف الأمة وهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي الذي يربط بينهما خيط العقيدة العلوية في المستويات القيادية.
الذي يهمنا في هذا المقال هو المحور الاستراتيجي ل”تحالف الأمة” من حيث أنه هو المؤثر على التطورات المستقبلية، وقبل ذلك نتناول بسرعة المكونات الثانوية لهذا الحلف. وتتمثل هذه المكونات الثانوية أولا في الأحزاب الثلاثة ذات الخلفية الإسلامية تاريخيا (السعادة\المستقبل\الديمقراطية والتقدم) التي قدمت مرشحيها للناخبين باسم حزب الشعب الجمهوري ضمن سلوك سياسي مخالف للقناعات السياسية والفكرية وإنما في إطار المناكفة والحسابات الانتقامية ضد شريك الأمس أردوغان وللحصول على موقع سياسي ومقاعد في البرلمان في مواجهة الأمواج السياسية العالية للظاهرة الأردوغانية التي منعتهم من أي تموقع في الساحة السياسية والانتخابية، وقد أدى هذا إلى تململ كبير داخل حزب الشعب الجمهوري ذاته إذ اعتبر كثير من قادته ومناضليه أن حزبهم خسر رهان إسقاط أردوغان بالتعاون مع “أصدقائه” وتصدق بمقاعد من حصته لهؤلاء الذين لم يقدموا شيئا لتحقيق الهدف المشترك، وزاد أردوغان بالضغط على الجرح حينما صرح مستهزئا في وسائل الإعلام بعد نتائج الانتخابات بأن كمال كليشدار منح مقاعد في البرلمان لأحزاب لا وجود لها في الواقع.وهناك مكون ثانوي مهم وهو الحزب الجيد برئاسة السيدة ميرال أكشنار وزيرة الداخلية سابقا في حكومة العدالة والديمقراطية وهي المرأة القوية التي كانت عضوا مؤسسا لحزب التنمية والعدالة ضمن التيار القومي المشارك في التأسيس، وبعد أن استقالت منه أصبحت عضوا بارزا في حزب الحركة القومية، وكانت تهدف إلى الإطاحة برئيسه دولة بهجتي، وبعد أن فشلت أسست الحزب الجيد عام 2017 وحصلت في انتخابات 2018 على 43 مقعدا غير بعيد عن حزب الحركة القومية الذي تحصل على 49 مقعدا، وبعد اضطراب وتردد حسمت أمرها بالانضمام إلى الطاولة السداسية في هذه الانتخابات 2023 ضمن توجه مخالف للنزعة القومية لحزبها المتحفظ من التحالف مع حزب اليسار الخضر الكردي التابع عمليا لحزب العمال الكردستاني، ورغم تحفظها كذلك على ترشيح كمال كليشدار أوغلو. غير أن الهدف المشترك لأحزاب الطاولة السداسية المتمثل في إسقاط أردوغان هو الذي جعلها تحسم الأمر وتعود للطاولة، وضمن هذا الهدف المشترك كان لها هدفها الخاص وهو إسقاط دولة بهجتي المتحالف مع أردوغان في حالة سقوط هذا الأخير لكي تتفرد بزعامة التيار القومي في المجتمع التركي، ولهذا رشحت مرشحيها باسم حزبها ضمن هذا التحالف، وبالرغم من أنها حافظت على نتيجتها ب43 مقعدا يمكن القول بأنها فشلت في هدفها الخاص وبقي حزب الحركة القومية هو الحزب الأكبر الممثل للتيار القومي ب50 مقدا بزيادة مقعد واحد في هذه الانتخابات 2023، وقد عقّد طريقها كذلك ظهور الشخصية السياسية القومية سنان أوجان الذي حقق نتيجة 5 بالمائة في الانتخابات الرئاسية ضمن تحالف الأجداد وتحالفه في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية مع أردوغان. لقد استطاع الطيب رجب أردوغان أن يتعامل مع هذه المكونات الإضافية لتحالف حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي بالمحافظة على تحالفه مع حزب الحركة القومية وبجلب حزب الرفاه الجديد الذي يرأسه ابن نجم الدين أربكان الذي حقق نتائج إيجابية بتقدم مرشحيه للانتخابات البرلمانية باسم الحزب.
وقد تكون النتائج التي حققها أحزاب التيار الإسلامي لصالح معالجة الحلقة المفقودة التي نتناولها في هذه الدراسة، خصوصا إذا أضفنا لها تقدم الحزب الإسلامي الكردي هدى بار (حزب الدعوة الحرة).
وإذا نظرنا في المحصلة إلى نتائج الانتخابات البرلمانية في حلف الحكومة والحلف المعارض ومعها نتائج الانتخابات الرئاسية يمكننا أن نقول أن التيار القومي المحافظ هو المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات. غير أن الخطر الذي يبقى يهدد استمرار التجربة التركية الأردوغانية هو المحور المركزي لتحالف الأمة المتمثل في حزب الشعب الجمهوري وحزب العمال الكردستاني وفق ما سنراه في هذا المقال.
إن من الأبعاد التي تعقد العمل السياسي في تركيا مشكلة الاستقطاب القومي والمذهبي الحاد والأبعاد العرقية المهيمنة على التوجهات والمواقف، بما يجعل التجربة التركية مهددة وهامش المناورة فيها عند الناخبين على أساس النتائج الاقتصادية والخدمية ضيقا وفق ما رأيناه في الانتخابات الأخيرة، فالصوت الكردي الغالب مغلق لصالح قوة سياسية قومية كردية ذات خلفية انفصالية، وحزب الشعب الجمهوري صار قلعة العلويين بالإضافة إلى كونه مأوى التيار الأيديولوجي العلماني الأتاتركي ، وهؤلاء لهم كتلة ناخبة كبيرة لا تغير خياراتها الانتخابية، وموقفها العدائي لحزب العدالة والتنمية ولقادته لا يتبدل مهما عمل هؤلاء لصالح الشعب التركي ومكانة تركيا بين الأمم.
إن ثمة حلقة مفقودة في التجربة السياسية التركية، التي تحقق نتائج مادية مذهلة إلى الآن بقيادة القائد التاريخي رجب طيب أردوغان، وتتمثل هذه الحلقة المفقودة في كيفية معالجة التطرف الأيديولوجي وجسر التباعد القومي، وإنشاء مساحة أمان انتخابي حضاري واسعة، إذ بإمكان القوى الأيديولوجية المتطرفة والقومية الكردية والتركية المتشددة أن تقلب المعادلة في أي انتخابات مقبلة في حالة بقاء الموازين الانتخابية على حالها، لا سيما أن السنن التاريخية تؤكد بأن دولا وجماعات ومؤسسات انهارت بعد غياب مؤسسيها حينما لا ينتبهون أثناء مجدهم للحلقات المفقودة. إن تحالف حزب العدالة والتنمية مع التيار القومي تحالف طبيعي إذ كلاهما ـ كحزبين ـ من سلالة التيار القومي الليبيرالي العثماني العلماني الذي نشأ في أواخر الدولة العثمانية وفق ما بيناه في الحلقات الماضية، ووجود شخصيات ذات جذور إسلامية على رأسها أردوغان نفسه لم يغير من طبيعة هذا التحالف إلى الآن إذ هذه الشخصيات ذاتها تقر العلمانية والبعد القومي التركي لمشروعهم. غير أن هذا التحالف القومي يمثل تحديا خاصا لأردوغان في معالجة القضية الكردية، رغم إدخال حزب كردي إسلامي فيه، إذ المشكلة ثقافية اجتماعية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية.
يصعب حقيقة على أردوغان التوصل إلى اتفاق مستقر مع الأكراد باستعمال خطاب قومي تركي فحسب، في بلد متعدد القوميات، وبالتحالف القوي الحصري مع حزب الحركة القومية المتشدد الذي كان له في السبعينات ذراع شبابي عنيف يسمى ” الذئاب الرمادية” نسبة إلى أسطورة تمجد العرق التركي وقد أنشأه ألب أرسلان توركيش عام 1969 بعدما اعتبر أن حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال قد ابتعد عن المبادئ الأتاتوركية، وقد كان هذا الحزب يحاول أن يجمع، منذ تأسيسه، بين فكرة سمو العرق التركي والانتماء الإسلامي للأتراك والمعارضة الشديدة لأي تسوية مع الأكراد أو منحهم الحقوق الثقافية والتعليمية والإعلامية، ودعوته إلى حل المشكلة معهم أمنيا. وبعدما كان هذا الحزب يعارض حزب العدالة والتنمية الحاكم بسبب المفاوضات مع الأكراد، بدأ يقترب منه في أجواء تعثر المفاوضات ثم صار حليفا له بشكل علني منذ 2015 بعد أن انهارت التسوية كلية.
إن المسألة الكردية لا تؤثر على العملية الانتخابية في المناطق الكردية فحسب، بل بإمكانها خلط الأوراق والتأثير في التحالفات والحسابات الانتخابية والسياسية في كل تركيا. وقد صرح أردوغان في خطابه الشهير بديار بكر سنة 2005 قائلا: “إن المشكلة الكردية ليست مجرد مشكلة جزء من هذه الأمة، بل هي مشكلة بالنسبة للأمة جمعاء، كما أنها مشكلتي أيضا” وأُطلق مبادرتين كبيرتين للمصالحة في سنة 2009 وبين 2013 و2015 جعل أساسَهما الإقتصاد والتحول الديمقراطي، ورغم التقدم المهم الذي تحقق توقفت المحاولة بعودة العنف واتهام حزب الشعوب الديمقراطي بالعلاقة بالإرهاب مع حزب العمال الكردستاني والانخراط في مشاريع أجنبية معادية لتركيا ولمجهودات أردوغان وحزبه من أجل نهضة تركيا. سنعود إلى الحديث عن مسار المصالحة والتسوية السياسية مع الأكراد، ولكن لفهم الأسباب العميقة لتعثرها، نرجع إلى جذور المشكلة، مرحلة بعد مرحلة، على النحو التالي: لم يكن في الزمن القديم مشكلة قومية كردية، كما لم يكن ثمة مشكلة قومية تركية.
لقد كان الأكراد والترك والفرس والمغول يعيشون ضمن قبائل متعددة متجاورة متداخلة أعراقها من وسط آسيا إلى غربها، وبعد أن دخلوا الإسلام صاروا يعيشون جنبا إلى جنب في إطار الأخوة الإسلامية ومفهوم الأمة المحمدية الواحدة وكانوا جزء أساسيا في الحضارة الإسلامية، وبرز منهم قادة وعلماء في مختلف المجالات.
وبالرغم من أن جذور الشُعُوبية قديمة منذ دسائس المجوس وقتلهم لعمر بن الخطاب، وخصوصا في زمن الدولة العباسية، فقد كان التسليم لريادة العرب أمرا محسوما بسبب التفوق الحضاري الذي جعل اللغة العربية منذ نهاية القرن الهجري الأول هي لغة العلم في العالم، وكل الشعوب المسلمة غير العربية كانت مأسورة بجاذبية العرب والعربية، فأبدعت بهذه اللغة حتى تفوق كثير منهم على العرب في مختلف العلوم والفنون، ومنها قواعد اللغة العربية ذاتها، وزاد التأصيل الشرعي للإمارة في القرشيين تسليما لعدم منازعة العرب في قيادة الأمة، ولكن حين ضعفت الخلافة العباسية بدأت الأعراق الأخرى تشكل كيانات سياسية وأقامت لنفسها دولا كثيرة قوية كان أكثرها من الأتراك والفرس والمغول الذين أسلموا، وكوّن الأكراد إمارات كردية عبر العديد من الأزمنة أغلبها بقي محدودا جغرافيا ومحدودا في الزمن، ولكن بعض الشخصيات الكردية سيطرت على دول كبيرة خارج كردستان منها الدولة الشيعية الزندية في بلاد فارس (1750-1736) والدولة الأيوبية السنية في مصر وبلاد الشام والحجاز واليمن والنوبة.وفي الرمق الأخير للدولة العباسية كانت دول إسلامية كبرى متنافسة هي الدولة العثمانية السنية الصاعدة (1299-1924) والدولة الصفوية الشيعية الطامحة (1501-1736) والدولة المملوكية راعية الخليفة العباسي المقيم في مصر (1250-1517)، وكان في كردستان الواقعة بين الأراضي العثمانية والصفوية عدة إمارات سنية كردية تنظم شؤون السكان وكان هؤلاء يتعرضون لسوء معالمة الصفويين فساهم ذلك في انحيازهم للدولة العثمانية في معركة جالديران في 23 أغسطس\ أوت عام 1514م التي انتصر فيها السلطان سليم الأول العثماني على الشاه إسماعيل الأول الصفوي.
كان الشيخ حسام الدين إدريس البدليسي مؤرخا وشاعرا ومترجما كرديا ذا تأثير كبير على الزعماء الأكراد فساهم في توحيدهم على رأي واحد ليكونوا جزء من الدولة العثمانية ضمن حكم ذاتي وراثي في إماراتهم، مع الدعوة على المنابر للسلطان وتقديم رسومات سنوية والمشاركة في الحروب التي تخوضها الدولة والدفاع عن الأراضي العثمانية خصوصا في مواجهة الصفويين، وكانت إمارة بدليس أقوى إمارة كردية انضوت تحت الحكم العثماني بعد معركة جالديران بعدما كان يسيطر عليها الصفويون. أدى انتصار سليم الأول إلى إضعاف الصفويين وفُتحت الطريق للعثمانيين للتوسع جنوبا نحو مصر والقضاء على الدولة المملوكية الوصية على الخليفة العباسي في مصر، والتحكم في قلب الأمة الإسلامية في بلاد الشام والعراق والحجاز واستحقاق فتوى انتقال الخلافة الإسلامية من العرب إلى الأتراك العثمانيين من قبل جمهور العلماء. غير أن صراعهم مع الصفويين والدول الشيعية الأخرى التي خلفتهم في حكم بلاد فارس (الأفشارية، الزندية، القاجارية، البهلوية ) بقي مستمرا وكانت ساحات معاركهم الأساسية الأراضي الكردية، وعُقدت على إثر تلك المعارك عدة اتفاقيات كرست انقسام الأراضي الكردية منها معاهدة أماسيا عام 1555 في زمن نهضة العثمانيين ومعاهدة نصوح باشا عام 1614 في فترة ركودهم، ومن أهمها معاهدة قصر شيرين عام 1639 بعد انتصار السلطان مراد الرابع العثماني على الشاه الصفوي عباس الأول وقد بقيت هذه الاتفاقية مرجعا لاتفاقيات ترسيم الحدود لاحقا بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، وصعبت إنشاء دولة كردية كبيرة على كامل كردستان.
في فترات متعددة حاولت بعض الإمارات الكردية الانفصال عن الدولة العثمانية، من أهمها إمارة بدليس في عهد السلطان مراد الرابع بعد انتصاره على عباس الأول الصفوي فتم اكتساحها من قبل الجيش العثماني وأصبحت بدليس ولاية عثمانية، وزاد من عناء الأكراد الحروب المستمرة بين إماراتها طيلة القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر أخذ النفوذ القيصري الروسي لأسباب توسعية والبريطاني والفرنسي لأسباب استعمارية اقتصادية يتصاعد في كردستان بالاعتماد على حالة الفوضى في المنطقة وبداية أفول الدولة العثمانية، وصار لكثير من زعماء ومثقفي الأكراد علاقات وثيقة بهم ظنا منهم أن هؤلاء الوافدين المسيحيين الجدد سيساعدونهم على تحقيق طموحاتهم في تقرير مصيرهم كما فعلت قوميات أخرى تحت السلطة العثمانية كالعرب والأرمن والألبانيين وغيرهم. ومن جهة أخرى تقلد، في كل هذه المراحل، العديد من الشخصيات الكردية مناصب عليا في الدولة وصار الكثير منهم من أقرب المقربين إلى السلاطين العثمانيين.
في فترة انحطاط الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر بدأت الرابطة الأخوية الإسلامية تتفكك وأثر النفوذ الأجنبي الأوربي والروسي في النخبة التركية والكردية على حد سواء، وتشكلت التيارات العلمانية فيهما على نحو ما ذكرناه في المقال السابق، وكان لكليهما دور أساسي في إسقاط الدولة العثمانية وإزاحة الخلافة الإسلامية العثمانية.
فقد شارك الأكراد في تأسيس منظمة تركيا الفتاة وكانوا من المنظمات الفاعلة فيها حينما كانت جامعة لكل الأقليات الدينية والعرقية والتوجهات العلمانية المناهضة للسلطان عبد الحميد الثاني، وبعضهم شارك في تأسيس جمعية ثم حزب الاتحاد والترقي وصاروا أعضاء فاعلين فيه إلى أن غلب توجهه القومي التركي فتركوه، ومن أبرزهم المفكر عبد الله جودت الكردي الذي لجأ إلى حزب الائتلاف الليبيرالي الذي كان يدعو إلى دولة عثمانية علمانية لا مركزية كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق.يمكن أن نعدّ فترة حكم السلطان عبد الحميد من أفضل الفترات بالنسبة للأكراد إذ استعان بهم في مواجهة المؤامرات الروسية والبريطانية لتفكيك الدولة، لا سيما عندما حاولت هذه القوى الأجنبية تأسيس دولة قومية أرمينية على حساب الأكراد في الشمال الشرقي لكردستان في الجهة الشمالية الشرقية لتركيا حاليا بالرغم من أن النسبة السكانية للأرمن في تلك المنطقة لم تكن تتجاوز 19 بالمائة، فقرب عبد الحميد الأكراد وأدخلهم المعركة ومكنهم من الدفاع عن أراضيهم وأشركهم في حماية أراضي الدولة في مواجهة التهديدات الروسية في شرق تركيا الحالية، إذ شكل منهم ألوية الخيالة (63 لواء) التي يضم كل لواء منها أكثر من ألف إلى ألف وخمسمائة مقاتل.
وقام بإعفاء الأكراد من الضرائب وقرّب العائلات الكردية العريقة حتى صاروا مسؤولين في بلاطه على شاكلة عبد القادر خان ابن الزعيم الكردي التاريخي بدرخان الكبير.
وقد استطاع السلطان عبد الحميد بسياساته المختلفة التي فصلناها سابقا أن يؤجل سقوط الدولة العثمانية ثلاثين سنة.ولكن بعد إنهاء حكمه بانقلاب 1908ـ1909 وتوريط حزب الاتحاد والترقي الدولةَ العثمانية في الحرب العالمية الأولى وخسارتها الحرب تكالبت عليها الأمم لتقسيمها وفق اتفاقيات سرية أهمها وأكثرها تأثيرا اتفاقية سايكس بيكو التي رتبها البريطانيون والفرنسيون عام 1916 قبيل نهاية الحرب بدعم من روسيا القيصرية والتي فضح أمرها البلشفيون بعد ثورتهم الشيوعية على القيصرية عام 1917. وتعتبر اتفاقية سايكس بيكو هي أول اتفاقية دولية تُكرس تقسيم الأراضي الكردية بترتيب من ثلاث دول خارج العالم الإسلامي.
تحفظت الولايات الأمريكية الصاعدة بين الحربين العالميتين على اتفاقية سايكس بيكو بعد افتضاح أمرها وأعلن الرئيس الأمركي وودرو ويلسن (1856-1925) مبادئه الأربعة عشر عام 1918 الداعية إلى تقرير الشعوب مصيرها فتشجع بها الأكراد في مسيرتهم لتقرير المصير. بعد نهاية الحرب أُجبِرت الدولةُ العثمانية على إبرام اتفاقية “سيفر” في باريس عام 1920 مع البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين لتقسيم “تركة الرجل المريض”، واستغلت الأقليات القومية والمذهبية الفرصة وكان لكل منها قوى دولية تسندها سوى الأكراد الذين اتفقوا أن يمثلهم في مفاوضات باريس شخصية سياسية منهم من أسرة كردية عريقة كان موظفا ساميا في الدولة العثمانية كوزير للخارجية ومستشار للسلطان عبد الحميد وسفيرا في عدد من الدول إلى أن انشكفت صلته بجمعية الاتحاد والترقي وظهر عداؤه المبطّن ضد الدولة العثمانية فاستقال من منصبه كسفير للدولة العثمانية في السويد آنذاك. انتهت المفاوضات الباريسية باتفاقِ تخلِّي الدولة العثمانية عن كل الأراضي التي تقطنها أغلبية غير تركية، ولأول مرة اتُّفق دوليا على إمكانية منح الأكراد دولة مستقلة في كردستان، ولهذا يتعلق الأكراد كثيرا باتفاقية سيفر إلى الآن.
لم يَقبل القوميون الأتراك في الجيش العثماني، وعموم الشعب هذه المعاهدة ورفضوا اجتياح الحلفاء بلادهم ودخولهم العاصمة اسطمبول وثاروا ضد احتلال اليونان أزمير والمناطق المحيطة بها فقادهم مصطفى كمال لخوض حرب الاستقلال ولإسقاط الاتفاقيات التي أبرمتها السلطنة العثمانية المتهاوية وحققوا انتصارات كبيرة أسقطت معاهدة سيفر، وأثناء المفاوضات مع الأوربيين لإبرام معاهدة جديدة رفضوا منح الاستقلال للمناطق الكردية خلافا للقوميات الأخرى التي كانت تابعة للدولة العثمانية خارج الأناضول وتراقيا الشرقية، وكانت حجتهم أن الأتراك والأكراد أشقاء مسلمون ومصيرهم مشترك، علما أن أتاترك كان يستعمل أثناء حرب الاستقلال التركية الخطاب الديني لتجنيد السكان ووعد أنه سيعيد بناء الدولة على أساس ديني وحدوي ويكون الأتراك والأكراد عناصر أساسية فيها، وفق ما كتبه المؤرخ التركي والنائب السابق للعدالة والتنمية عن ديار بكر في مجلة “التاريخ العميق” والذي يؤكد بأن وثيقة الاتفاق الذي أبرم مع الأكراد في 27 حزيران\يونيو 1920 لا تزال موجودة في أرشيف الرئاسة التركية.لم يكن البريطانيون والأوربيون مهتمين بمصير الأكراد لأسباب عديدة ، منها ضعف الأهمية الاقتصادية لمناطقهم وخوفا من ارتماء المفاوض التركي في أحضان الدولة الشيوعية الصاعدة، وبسبب غياب التغطية الرسمية للأكراد وتشتتهم وعدم وجود جهة ثابتة تمثلهم، فتراجعوا في اتفاقية لوزان بسويسرا في 20 أوت\اغسطس 1922 عن وعودهم للأكراد، مكتفين بوعود حكام تركيا الجدد بأن الجمهورية التركية الناشئة ستمنح كامل الحقوق المدنية للأكراد وستكون تركيا الحديثة دولة لامركزية تمنح هوامش واسعة في التسيير المحلي لكل مناطق البلاد. اتضح للأكراد في آخر المطاف بأن الدول الأوربية استغلتهم عبر مسار تاريخي طويل لإضعاف الدولة العثمانية لا غير وفهمت النخب الكردية المنبهرة بالحضارة الغربية أن تبنيهم للنهج العلماني الليبيرالي المناقض للإسلام وللوحدة الإسلامية لم يُجدها نفعا لدى القوى الأوربية العلمانية المسيحية، وحين تمكن مصطفى كمال أتاترك وسيطر على الدولة نكث عهوده للأكراد وانتهجت حكومته نهجا قوميا تركيا متطرفا لإلغاء هوية القومية الكردية إلى جانب محاربته للهوية الدينية الإسلامية، فتذكرت النخب الكردية المتدينة المكانة المشرفة للأكراد مع السلاطين العثمانيين الملتزمين منهم بالقيم الدينية والأخوة الإسلامية في الدولة والذين كان آخرهم السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله.
لم يقبل زعماء الأكراد المتدينون الذين كانت لهم وجاهة كبيرة في الأوساط الشعبية المحلية التوجه العلماني وسياسة التتريك فقاموا بعدة ثورات أهمها ثورة الشيخ سعيد بيران سنة 1925 التي قامت لإعادة روح الخلافة الإسلامية وإعادة جمع شعوب المنطقة على أساس الإسلام – وليس الانفصال – شارك فيها أكثر من نصف مليون كردي في أغلب المناطق الكردية وساندهم فيها العديد من الأقليات الأخرى ولكن تم إخمادها بقسوة كبيرة وأعدم زعماؤها على رأسهم الشيخ سعيد.كما قامت ثورات كردية أخرى انفصالية مثل ثورة الأرارات 1930، وثورة درسيم ضد قانون الترحيل القسري وفق قانون إعادة التوطين 1930 التي وقعت فيها مذبحة مروعة، اعتذر بشأنها الرئيس الطيب أردوغان باسم الدولة لسكان المنطقة في التلفزيون يوم 23 نوفمبر 2011 واتجه إلى كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري يدعوه أن يتحمل مسؤوليته باعتبار أن حزبه هو الذي كان يحكم آنذاك. وفي تلك الأثناء وضمن الحركات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت بعد سقوط الخلافة الإسلامية في العالم الإسلامي للدعوة إلى الإسلام والاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية برزت في تركيا الحركة النورسية التي أسسها المصلح الكبير الشيخ سعيد النورسي، وهو كردي الأصل والمنشأ ولد لوالدين كرديين عام 1878 م في قرية نورس بإقليم بتلس شرقي الأناضول، اشتهر بحكمته وعلمه في مختلف العلوم حتى سمي بديع الزمان، وعُرف بجهاده في مواجهة الروس القيصرية في الحرب العالمية الأولى حيث تم أسره ولكن نجح في الهروب من السجن بسيبيريا كما قاتل في الصفوف الأولى في مواجهة الحلفاء أثناء احتلالهم اسطنبول فنال مكانة كبيرة في الأوساط العسكرية، وقد تكون هذه المكانة هي التي حفظته لاحقا من الإعدام. وبعد إسقاط السلطان عبد الحميد أسس الشيخ سعيد النورسي جمعية “الاتحاد المحمدي” التي شملت مختلف القوميات والأعراق في تركيا من أجل الإصلاح على النهج الإسلامي ضد توجهات جمعية الاتحاد والترقي، وحينما ظهرت حقيقة التوجه الأتاتركي كرس النورسي عمله ضد إلغاء الخلافة والتوجهات العلمانية وسياسات التتريك وإلغاء التعليم الديني واستبدال الحروف العربية في اللغة التركية ومنع الأذان باللغة العربية وفرض النظرية الطورانية وكل السياسات المعادية للدين ووحدة الأمة الإسلامية وتنوعها، وكان نهجه سلميا لا يؤمن بالقتال إلا ضد الكفار الأجانب ولذلك أعاب عليه بعض معاصريه عدم دعمه لثورة سعيد بيران. تعرض بديع الزمان النورسي إلى المحاكمات الظالمة والنفي والتعذيب والتضييق والانتقال من سجن إلى سجن واتهم بأنه يسعى لهدم العلمانية والأتاتركية وإعادة الخلافة وإشاعة التدين في تركيا عبر منظمة سرية، وقضى آخر زمانه في المنفى رحمه الله حيث توفي سنة 1960 ، وبعد الانقلاب الذي وقع في نفس السنة هدمت السلطات قبره ونقلت رفاته إلى مكان غير معلوم إلى اليوم. استطاعت الحركة النورسية أن تنشأ تيارا إسلاميا حول مؤلفات الشيخ النورسي أهمها رسائل النور، وهو تيار أقرب إلى التيارات الصوفية خرجت منه العديد من المنظمات التي نسبت نفسها إلى الحركة النورسية، غير أن المرحلة الأخيرة في حياة بديع الزمان المتسمة بخيبة الأمل في السياسة واتجاهه رحمه الله أكثر إلى الحياة الإيمانية وبغضه للسياسة جعلت أتباعه الأوفياء له يكتفون بالدعوة إلى إصلاح النفس ولم يتأثروا بحياته الجهادية ومجهوداته الأولى في الإصلاح السياسي على مستوى تنظيماتهم.استمرت السياسة الصارمة للحكومة التركية الأتاتركية ضد القومية الكردية وأنكرك وجودها وعملت على دمجها بالقوة ضمن القومية التركية فسمّت الأكراد “أتراك الجبال” وحرمت سكان كردستان من حقوقهم الثقافية واللغوية وحاولت تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، فلم تأت هذه السياسات المتشددة بنتيجة وتصاعدت المطالب الانفصالية في سبعينيات القرن الماضي أثناء بروز الصدام بين اليسار واليمين في تركيا في ظل الحرب الباردة والدعم الأمريكي المطلق للجيش التركي في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وكذلك من أجل إحداث التوازن مع إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية الشيعية، وللحد من صعود التيار الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان وتقاربه مع التيار القومي التركي المحافظ. في تلك الظروف تأسس حزب العمال الكردستاني الماركسي اللينيني عام 1978 وأعلن منذ البداية هدفه الانفصالي، وبعد الانقلاب العسكري التركي المسنود أمريكيا عام 1980 تحول في 1984 إلى العمل المسلح ضد القوى الأمنية والعسكرية وضد المدنيين الأتراك، وضد المدنيين الأكراد الموالين للدولة التركية، وضد الأجانب والسواح والمصالح التركية في الخارج، مما جعله يُعدّ لاحقا منظمة إرهابية في تركيا والعديد من الدول، وأدت المواجهة بينه وبين القوى الأمنية والعسكرية التركية إلى خسائر بأكثر من 45 ألف قتيل وأعداد هائلة من الجرحى والخسائر المادية، وآثار اقتصادية واجتماعية وإنسانية ونفسية خطيرة خصوصا في المناطق الكردية. كانت فترة الثمانينات والتسعينات أخطر مرحلة من مراحل النزاع المسلح بين الأكراد والحكومة التركية، ومن مظاهرها الخطيرة توسع المدى الجغرافي لحزب العمال الكردستاني إلى بلدان الجوار والتنسيق والعمل المشترك مع أكراد العراق وإيران وسوريا، وقد أخذ هذا التنسيق بعدا مؤسسيا بتأسيس مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردي عام 2007.
تلقى الحزب ضربة موجعة حين ألقي القبض على زعيمه عبد الله أوجلان في 1 سبتمبر عام 1999 وحكم عليه بالإعدام، ومن سجنه أعلن توقف العمليات القتالية وانتقال مقاتليه إلى جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية، وخفف عليه بعد ذلك حكم الإعدام إلى المؤبد، وفي عام 2002 ـ الذي صعد فيه حزب العدالة والتنمية للحكم ـ أعلن أوجلان وقف القتال والتحول إلى العمل السياسي وبدأت سلسلة من المفاوضات خفضت التوتر إلى المستويات الدنيا ولكن بعد تطورات إيجابية في معالجة الملف الكردي انهار مسار التسوية ورجعت العمليات المسلحة في 2015.لم يكن عموم القوميات المتساكنة في تركيا، التركية أو الكردية أو العربية موافقة على التوجهات العلمانية الراديكالية الطورانية التي فرضها أتتاترك وحزبه “حزب الشعب الجمهوري” الذي يعتبر امتدادا ل”حزب الاتحاد والترقي” المتطرف، ولا على التطرف العلماني اليساري الكردي الذي رهن المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية، فقد كانت ثمة قوى أخرى معتدلة تعارض تلك التوجهات قبل تأسيس الجمهورية وبعدها – وقد أشرنا إلى هذا الأمر سابقا ـ غير أن فرض الحزب الواحد، وفشل كل محاولات التعددية إلى غاية 1950 لم تسمح بظهور هذه الحقيقة الاجتماعية المعتدلة العميقة.
ولكن فور ظهور الحزب الديمقراطي الذي أسسه عدنان مندريس عام 1947 كممثل للتيار المعارض للتوجهات العلمانية المتشددة المناقضة للدين والمنكرة للقوميات غير التركية اتجه أغلبية الشعب التركي إليه ففاز في الانتخابات عام 1950 وأزاح حزب الشعب الجمهوري المتربع على السلطة لمدة 27 عاما، فقام بخطوات إصلاحية مهمة على الصعيد الاقتصادي والحريات والهوية الدينية مكنته من النجاح لعهدة ثانية فتم الانتقلاب عليه عام 1960 وأعدم شنقا من قبل المؤسسة العسكرية.
بقي يستفيد من التعاطف الشعبي معه بعد وفاته رحمه الله الأحزاب والشخصيات التي اعتُبرت امتدادا له على رأسهم حزب العدالة ثم حزب الطريق القويم ورئيسها سليمان ديميريل. وعبر عن هذا التوجه في مرحلة لاحقة برز السياسي الناجح تورغت أوزال رئيس حزب الوطن الأم عبر دورتين انتخابيتين 1983 و1987 وقد عُرف بتعاطفه مع الأنشطة الإسلامية وقناعته بالحل السلمي مع الأكراد إلى أن توفي في أبريل 1993 بشكل مفاجئ بسكتة قلبية وفق تقارير طبية شككت فيها زوجته معتقدة بأنه تم تسميمه حيث صرحت قائلة: “إن انشغال أوزال قبل وفاته بإيجاد حل سلمي نهائي للمشكلة الكردية ورفضه القيام بعمليات غير قانونية لمواجهة المتمردين الأكراد قد أثار استياء المؤسسة العسكرية”.
كما مثل نجم الدين أربكان هذا التوجه بنزعة إسلامية أكثر وضوحا والتزاما، غير أن هذا المفكر والأب الروحي للتيار السياسي الإسلامي في تركيا، المؤمن بالأخوة الإسلامية التركية الكردية والحل السلمي للمشكلة، لم يطل كثيرا في الحكم بسبب إجباره عن التنحي عن رئاسة الوزراء عام 1997، ثم جاء تلميذه رجب طيب أردوغان فأكمل مسيرته وكان ملف معالجة القضية الكردية هي من أهم الملفات التي عالجها.
حينما جاء رجب الطيب أردوغان إلى الحكم بعد نجاحه في انتخابات 2002 ، عام واحد بعد تأسيس حزب التنمية والعدالة عام 2001 تقدم بنفس خلفية أسلافه عدنان مندريس وتورغت أوزال وخصوصا نجم الدين أربكان من حيث منح المجال لتعبر تركيا عن انتمائها الإسلامي وليجد المسلمون فيها السبيل إلى التعبير عن هويتهم الدينية، كما جاء ليحل المعضلة الكردية بقاعدة الأخوة الإسلامية في الوطن التركي الواحد، فكان تأسيس الحزب من شخصيات انتمت لأحزاب سابقة تؤمن بهذا التوجه، على رأسهم حزب السعادة سليل الأحزاب العديدة التي أسسها نجم الدين أربكان، وحزب الوطن الأم الذي أسسه تورغت أوزال وحزب الطريق القويم الذي يعد امتدادا للحزب الديمقراطي الذي أسسه عدنان مندريس، كما كان من مؤسسيه عدد كبير من الأكراد ووصل عدد النواب الأكراد في البرلمان التركي في هذه الفترة أكثر من 80 نائبا وهو أمر غير مسبوق، مما يدل بأن عموم الأكراد رجعوا إلى الاعتقاد أن العمل السياسي في زمن قوة التيار المحافظ هو الأمل في الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية والعيش في أمن في إطار العدل والمساواة بين جميع الأعراق والقوميات في تركيا.لقد أدرك رجب الطيب أردوغان عند وصوله للحكم أنه لا يمكن لتركيا أن تنهض ويستمر تقدمها وتطورها ما لم تحل القضية الكردية، وأن الخسائر المادية والبشرية الناجمة عن المواجهات كلفة إنسانية واقتصادية واجتماعية وسياسية باهظة الثمن.
كما أن التأخر في معالجة هذه المسألة الشائكة المستدامة هو ما يوفر البيئة المناسبة للتدخلات الأجنبية والابتزازات الخارجية وأن شرط حلها هو أن تبقى قضية داخلية بين الأشقاء مهما اختلفوا، وأنه يجب على الحكومة الاعتراف بما وقع على الأكراد من مظالم عبر الزمن والسعي الجاد لضمان حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من خلال رؤية شاملة وسياسات متكاملة لصالح سكان المنطقة وليس من خلال الحل الأمني وحده، والتوجه إلى تطبيق الحلول بالتدرج من أجل تجنب مقاومتها في البيئتين القوميتين التركية والكردية وعدم تخريبها من المتطرفين في الجهتين، ومن جهة أخرى يجب على الجماعات الكردية المسلحة أن تلقي السلاح وتدخل في المفاوضات بصدق وصبر وجدية.ولإظهار حسن النية بادرت حكومة أردوغان إلى القيام بالعديد من الإجراءات الأولية للتهدئة قبل بدء الاتصالات. ومن إجراءات التهدئة ما يتعلق بإعادة الاعتبار للغات الأخرى غير التركية وخصوصا الكردية من خلال الدورات التعليمية وفتح أقسام لها في الجامعات والسماح باستعمالها في التأليف والنشر وفي القنوات التلفزيونية وفي القضاء وفي الدعاية السياسية الرسمية، وإعادة تسمية قرى وبلدات كردية بأسمائها الأصلية وتغليظ عقوبة جرائم التمييز على أساس اللغة والعرق والقومية، وإطلاق مشاريع تنموية عديدة في جنوب شرق البلاد على مستوى الهياكل القاعدية والمدارس والمستشفيات والمطارات والمرافق السياحية وغير ذلك، وإقرار “قانون الإرهاب وتمتين الوحدة الاجتماعية” بما يجعل القضية في يد الحكومة ويسمح باتخاذ إجراءات سياسية خارج الملاحقات الجنائية ويفسح المجال للعفو عمن يلقي السلاح ويرغب في العودة للحياة الاجتماعية والسياسية.أثناء ذلك كانت الاتصالات مع الجماعات المسلحة تتم في سرية تحت عنوان “مشروع الوحدة والأخوة” إلى أن تم الكشف عنها عام 2010، وتُوجت برسالة من عبد الله أوجلان تدعو إلى إلقاء السلاح وحل القضية بالطرق السلمية تم قراءتها على المحتفلين بعيد النيروز في 21 مارس\آذار 2013. وتضمن الاتفاق مغادرة المقاتلين تركيا على مراحل إلى جبال قنديل، والسماح لمن لم يتورطوا في التفجيرات والقتل بالرجوع إلى عائلاتهم، والإقرار المبدئي من طرف الحكومة بالإصلاحات الدستورية الضامنة لحقوق الأكراد، والعمل المشترك على الترويج للحل السلمي من قبل الشخصيات الاعتبارية والحكماء والفنانين وأصحاب الرأي، وتشكيل لجنة من حزب الشعوب الديمقراطي بدأت عملها في جانفي\كانون الثاني 2013 للوساطة بين الحكومة وأوجلان في سجنه للتشاور في الخطوات السياسية العملية.
غير أنه ما إن شُرع في تنفيذ الخطوات الأولى للاتفاق حتى حدثت تطورات محلية وإقليمية عرقلت مسيرة التسوية منها ما يبدو أنه كان مدبرا مثل مظاهرات “جزي بارك” في جوان\يونيو 2013 التي انطلقت بحجة الاعتراض على مخططات للمنشآت في المنطقة غير أن زخمها واتساع مداها دل أنها مظاهرات ضد حزب العدالة والتنمية من الناحية السياسية، وكانت خطابات المؤثرين فيها تشيد بكل أنواع المخالفات الدينية الإسلامية مثل السكر والمثلية وغير ذلك وتتهم أردوغان بأنه يسعى لأسلمة تركيا، وكان من أكثر النشطاء الفاعلين فيها العلويون، وفسرها العديد من الملاحظين بأن من أهدافها عرقلة مسار التسوية بعد أن ظهرت ملامح نجاحها. أما السبب الأكثر تأثيرا في عرقلة المسار هو التطورات في شمال سوريا بعد إعلان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني حكما ذاتيا في يناير 2014 وتصاعد قوات وحدات حماية الشعب الكردي الذراع العسكري للاتحاد الوطني الكردستاني بتسليح ودعم أمريكي بحجة محاربة تنظيم داعش في كوباني\عين العرب، مما فرض على الحكومة التركية التدخل العسكري لحماية حدودها بإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، ولمنع تمدد مطالب الحكم الذاتي إلى أراضيها ذات الأغلبية الكردية أو العلوية، ولقطع الطريق على القوى الأجنبية المختلفة، الأمريكية والروسية والإيرانية، المتعودة على استعمال الملف الكردي، مع استصحاب سابقة الدعم الأمريكي البريطاني للحكم الذاتي الكردي في كردستان العراق بعد غزو العراق خارج الأمم المتحدة وإعلان المناطق الكردية العراقية محمية من قبلهما دون اللجوء إلى الأمم المتحدة.
كان لنجاح التدخل العسكري التركي في شمال سوريا وقدرة الحكومة على المناورة الدولية لصالحها وفشل التحركات الشعبية “جزي بارك” ضدها وضغطها المتواصل على حزب العمل الكردستاني ومواصلة الاتصال بزعيمه أوجلان نتائج جيدة في إقناع هذا الأخير بتثبيت رغبته في الانتقال إلى الحل السلمي التي عبر عنها في رسالته الثانية التي قرأت على المشاركين في احتفالات النيروز سنة 2015.
اعتبر البعض بأن هذه النتيجة مشجعة وابتهجوا بها ولكنها كانت مخيبة للطرف الحكومي من حيث ارتفاع سقف مطالبها، بالشكل الذي لا يقبله كثير من المتحالفين القوميين والمؤسسة العسكرية وقطاع كبير من الشعب التركي، مما أدى بالرئيس أردوغان إلى انتقادها علانية، وقد فهم البعض بأن رفع السقف كان تكتيكا من قبل حزب العمال الكردستاني للعودة للمواجهات المسلحة ضمن ظروف إقليمية ودولية مناسبة، وبالفعل في الثاني عشر من شهر جويلية\يوليو أعلن حزب العمال الكردستاني التراجع عن وقف إطلاق النار ونفذ مقاتلوه هجومات عديدة رد عليها الجيش التركي بحملة مضادة ابتداء من العشرين من نفس الشهر، وبقيت التوترات متواصلة إلى الآن. ومما زاد من تعقد الوضع في تلك المرحلة توتر العلاقة مع روسيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر 2015، إذ بات مسلحو وحدات الشعب الكردي تتسلح من الولايات الأمريكية وروسيا في نفس الوقت، علاوة على الدعم السياسي الروسي العلني للأكراد كرسالة في اتجاه تركيا تمثلت في استقبال موسكو ممثلي الاتحاد الوطني الكردستاني.
لا شك أن الاهتمام الدولي الكبير بالقضية الكردية في ظل التطورات الحاصلة شجع أكراد تركيا على رفع مستوى طموحاتهم، معتقدين بأن القوى الدولية ستساعدهم بالنظر للحاجة إليهم في “مواجهة الإرهاب”، غير مستفيدين بالخذلان الذي تكبدوه مع بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وقد اتضح ذلك جليا من حيث أن الطرف الكردي في تركيا أصبح، في ظل هذه الأحداث، يطالب بحضور الإدارة الأمريكية كطرف مراقب في المفاوضات مع الحكومة التركية، كما أن صلاح الدين ديمرتاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا زار هو الأخر موسكو وصرح تصريحات ضد الحكومة التركية. ومما زاد في تملص الطرف الكردي من مسار التسوية ارتفاع أسهمه في الانتخابات البرلمانية التركية ـ مستفيدا من التفاف الأكراد حوله كطرف قبلته السلطات التركية ممثلا للأكراد في المفاوضات ـ إذ أصبح القوة الثالثة في البرلمان في انتخابات 2015 في مقابل الصعوبات التي وجدها حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة بين الدورة الأولى في جوان والإعادة في نوفمبر من نفس السنة.
ومما عقد مسار التسوية سطوة قيادات جبل قنديل على القرار، الرافضة للتسوية التي أقرها عبد الله أوجلان من سجنه من البداية، لا سيما العنصر العلوي صاحب النفوذ الكبير في حزب العمال الكردستاني، في فترة التأسيس وخصوصا في الفترة الأخيرة على مستوى المنظمات الأساسية التابعة لحزب العمال الكردستاني بعدما قُتل العديد من القيادات المهمة السنية، ومن هذه المنظمات اتحاد مجتمعات كردستان الهيئة الأكثر سلطة في الحزب التي ترأسها بشكل مشترك رجل وامرأة كلاهما من العلويين (جميل بايق وهوليا أوران)، وقد تسرب بأنه كادت تحدث اشتباكات مسلحة بين القيادات الكردية في جبل قنديل بخصوص فشل مسار التسوية حيث اتهم القائد مراد قريلان السني قائدين علويين هما جميل البارق ودوران كاكان بأنهما سبب تعثر مسار التسوية مع الحكومة التركية وسقوط مزيد من الضحايا عبر عملياتهم المتهورة حتى اضطرا الرجلان إلى الهروب إلى إيران على متن مروحية إيرانية.
إن من أسباب اتساع الخلافات داخل الصف الكردي غياب الرئيس المؤسس عبد الله أوجلان ولكنها تعمقت أكثر نظرا لتراجع الأيديولوجية اليسارية التي تشكلت على أساسها أحزابهم ومنظماتهم، فباتت أحزابهم ومنظماتهم وشخصياتهم حليفة للقوى الإمبريالية الرأسمالية التي نهضت لمحاربتها، مما أثر في عقيدة المقاومة لديهم، وجعلت الفرز المذهبي والقومي يبرز من جديد.
وهذا الذي يفسر اقتراب شرائح مهمة من الأكراد السنة من حزب العدالة والتنمية على شاكلة حزب هدى بارت وأعداد لا بأس بها من النخابين الأكراد الذين باتوا يشعرون بأنهم أقرب إلى حزب أردوغان من العديد من القيادات الكردية التي لم يبق لها من الانتماء الشيوعي سوى العداء للدين، وعلى رأسهم القيادات والإطارت العلوية في حزب العمال الكردستاني وغيره من الأحزاب والمنظمات اليسارية. إنه مثلما إن لقضية الأكراد جذورا قديمة تساهم في تفسير واقعها الراهن، فإن لمسألة العلويين جذورا غائرة في الزمن تشرح تطوراتها في الوقت الحالي يحسن بنا مراجعتها بحثا عن الحلقة المفقودة في مستقبل التجربة السياسية والحضارية التركية. إن العليين فرقة دينية تختلط فيها عقائد تراثية تركية قديمة قبل الإسلام مع عقائد شيعية وعقائد نصرانية، وعقائد صوفية، وهي في المجمل معتقدات سرية يصعب الاطلاع عليها.
يعتبر علماء الفرق والعقائد أن العلويين فرقة من فرق الشيعة الاثني عشرية، ويعتبرهم بعض الشيعة فرقة منهم متشددة أو منحرفة، ويعتبرهم علماء السنة فرقة غير مسلمة ويقول فيهم ابن تيمية رحمه الله قولا عظيما، فهم لا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون صيام المسلمين ويحلون شرب الخمر، لهم أماكن عبادتهم الخاصة التي تسمى “بيوت الجمع” وصلاتهم في بيوت الجمع تختلط فيها أذكارهم بأنغام الموسيقى، اسمها “السماح” ويؤدونها رجالا ونساء معا.عدد العلويين في تركيا غير معلوم بشكل رسمي ذلك أن الدولة التركية لا تقوم بإحصاءات على أساس الدين والمذهب والعرق بسبب الخلفية العلمانية “اللائكية” المستمدة من فرنسا كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأول من هذه السلسلة، غير أن مؤسسات ومراكز دراسات خاصة تذكر تقديرات غير متفق عليها بينها، ومن أهم الدراسات في هذا الصدد ما قامت به وكالة كوندا للأبحاث والاستشارات عام 2019 تحت عنوان “النوع الاجتماعي في تركيا” أن نسبة العلويين في تركيا هي 5 بالمائة، وبالاعتماد على أسئلة غير مباشرة للشرائح المستطلعة ارتفعت النسبة المحتملة إلى 11.4 بالمائة. وهناك تصريح شبه رسمي من وزارة الشؤون الدينية التركية مفاده أن عدد العلويين سبعة ملايين، وفق ما نُشر عن ترك برس، وترجح هذه الوكالة الإعلامية أن عددهم في حدود ثمانية ملايين، أي في حدود 12 بالمائة، وبعض رموز العلوية يقولون أن عدد العلويين بين 15 و 25 مليونا. ويتوزع العليون في تركيا بين مختلف الأعراق بنسب متفاوتة، فحسب مساهمة في موقع ترك برس تكون نسبتهم عند الأكراد 35 بالمائة من مجموعهم في تركيا، وحسب بيانات مؤسسة كوندا 43 بالمائة من العلويين هم من الأتراك، و42 بالمائة من الكرد، و7 بالمائة من العرب، والباقي من أعراق مختلفة. وكل هذه الإحصائيات تؤخذ بحذر إذ لا يوجد إحصاء رسمي معتمد من الدولة التركية، ومؤسسة كوندا نفسها خسرت الكثير من مصداقيتها لما ظهرت كل استطلاعاتها خاطئة بخصوص الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة عام 2023.
ومن الناحية الجغرافية يتوزع العلويون بين منطقتين، هناك علويو الأناضول وهم الأغلبية، وينسب هؤلاء إلى الفرقة الصوفية البكتاشية التي تؤله الإمام علي وفق ما يقوله كثير من العلماء منهم محمود عكام مفتي حلب وإمام المسجد الأموي سابقا، مع اختلاف كبير بين دارسي العلوية في نسبتهم إلى البكتاشية، وهناك علويو جنوب تركيا بلواء الاسكندرون وهؤلاء على العموم من العرب ونسبتهم ضعيفة ولهم امتداد مع العلويين في سوريا، علما بأن العلويين في الأناضول يختلفون اختلافات جوهرية في المرجعيات العقائدية والدينية عن العلويين في سوريا الذين يسمون في الأصل بالنصيرية قبل أن يطلق عليهم الفرنسيون اسم العلويين أثناء احتلالهم لسوريا.
وكثير من العلويين يعتبرون أن العلوية فلسفة وليست دينا وقليل منهم ينسب نفسه إلى الإسلام، ومنهم من يعتبر العلوية دين قائم بذاته، على نحو ما قاله سابقا ممثل العلويين في بريطانيا اسرافيل أرييل “أن العلوية دين جديد يبحث عن الاعتراف الرسمي”.
وبالنسبة لعلاقتهم مع الأغلبية السنية ومرجعياتها الرسمية والمجتمعية في تركيا فكانت موضوع صراع منذ القدم، فقد حاربوا الدولة السلجوقية التركية عبر ثورة فرقة البابائية عام 1240م وهي أصل فرق القزلباش التي حاربت مع الصفويين ضد العثمانيين. وطيلة الصراع الصفوي العثماني الذي أشرنا إليه أعلاه ساند العلويون الدولة الصفوية، فتعرضوا لعقاب شديد من بعض سلاطين العثمانيين، وكانوا من وقود الحرب ضد الخلافة العثمانية.
وبعد أن تمكن مصطفى كمال من الحكم قرّبهم، بل فضل الأكراد العلويين على الأكراد السنة، بسبب أن الأكراد العلويين كانوا أكثر انسجاما مع توجهاته العلمانية ودعموا محاربة العربية في الديانة الإسلامية، ولم يقاوموا كثيرا غلق تكاياهم في الجنوب وبيوت الجمع خاصتهم في الأناضول، وحينما قاوموا سياسة التهجير والتتريك عبر ثورة درسيم 1937-1938 تم التعامل معهم بدموية من قبل عساكر حكومة حزب الشعب الجمهوري الأتاتركي. في فترة الخمسينات تشكل رأي عام لدى قادة العلويين بترك الأساليب العنيفة في مواجهة الدولة التركية والانشغال بقضاياهم الثقافية والاهتمام بالعمل السياسي وتشكيل المنظمات المدنية وتشكيل الأحزاب السياسية ولكن خصوصا التسلل داخل الأحزاب القوية، فدعموا عدنان مندريس في فترة قوته بين 1950-1957، وحينما شهدوا ميولاته الدينية السنية تحولوا إلى دعم عصمة إينونو خليفة أتتارك ورئيس حزب الشعب الجمهوري، وتمكنوا من أن يضمنوا وجودا دائما في البرلمان بمختلف الطرق في حدود 16 بالمائة، وحينما توغل زعماؤهم هي الوجهة اليسارية في السبعينيات في زمن الحرب الباردة تأزمت علاقتهم بحزب الشعب برئاسة بولند أجاويد، الذي رغم ميولاته اليسارية كان قوميا عصيا اشتهر بالتدخل العسكري في قبرص التركية عام 1974 أثناء تحالفه الحكومي مع نجم الدين أربكان رئيس حزب السلامة، وكان شديد المعارضة للولايات الأمريكية المتحدة ومتعاطفا مع القضية الفلسطينية.
تميزت فترة الثمانينيات والتسعينيات في تركيا بصعود التيار القومي بأضلاعه الثلاثة: اليميني (المنبثق من مرجعية عدنان مندريس وترغت أوزال كحزب العدالة ثم حزب الطريق القويم بزعامة سليمان ديميريل وحزب الوطن الأم بزعامة مسعود يلماز ثم تانسو تشيلر) واليساري (الممثل بحزب اليسار الديمقراطي الذي أسسه بولند أجاويد بعد تركه حزب الشعب الجمهوري) والإسلامي (الممثل بحزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان)، وأصبح التنافس على السلطة سياسيا داخل هذا التيار القومي، تارة يتحالفون وتارة يتخاصمون، تحت رقابة المؤسسة العسكرية إلى أن أصبح التيار الإسلامي بزعامة أربكان مهيمنا على الشارع وتوصل إلى رئاسة الحكومة بالتحالف مع حزب الطريق القويم بزعامة تنسو تشيلر عام 1996، وأصبح خطابه ضد الهيمنة الدولية الغربية واضحا وميولاته في اتجاه العالم الإسلامي بارزة، بل دعا إلى تأسيس مجموعة الدول الإسلامية النامية الثمانية (مصر، نيجيريا، باكستان، إيران، اندنوسيا، ماليزيا، تركيا، بنغلديش) التي يصل التعداد الإجمالي لسكانها آنذاك مليار نسمة من أجل دعم التعاون الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية والتطور العلمي والتكنولوجي بينها وتعزيز المشاركة في صنع القرار الدولي. عندئذ تدخلت المؤسسة العسكرية حارسة العقيدة العلمانية مباشرة للانقلاب على الحكومة عام 1997، غير أنها في تلك الفترة أصبحت بدون غطاء سياسي بسبب ضعف الأحزاب العلمانية القومية اليمينية وعدم قدرتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية وانتشار الفساد في وسطها وبسبب تطبيع العلاقات بين الكثير من زعمائها مع قادة التيار الإسلامي.
لم يتمكن العسكر من تثبيت أي حكومة، وفي ظل هذه الظروف برز حزب العدالة والتنمية وسُمح له بالمرور من قبل المؤسسة العسكرية بعد ما أعاد فيه أردوغان ضبط المعادلة السياسية بجمع التيار القومي من جديد وطمأنة المؤسسة العسكرية بالتراجع عن الخطاب الإسلامي وخطاب الأمة والعودة إلى المرجعية الأتاتركية والتركيز على حل الأزمة الاقتصادية ومحاولة حل المشكلة الكردية على نحو ما ذكرناه أعلاه.
أثناء تلك التطورات كان العليون يراقبون الساحة التي تتفاعل لغير صالحهم بنمو الاتجاه المحافظ داخل التيار القومي وصعود التيار الإسلامي في المجتمع وتقنين تدريس المواد الدينية على النهج السني وعودة مدارس الأئمة والخطباء فأخذوا ينظمون أنفسهم ويعرضون على الأحزاب خدماتهم الانتخابية مقابل مكاسب لصالح معتقداتهم وثقافتهم وأماكن عبادتهم ومكانتهم السياسية، دون تحقيق نتائج تذكر مع الأحزاب القومية الصاعدة. ولما تأسس حزب العدالة والتنمية تجنبوه كلية. وفي المقابل حققوا نتائج كبيرة على مستوى قيادة حزب العمال الكردستاني، كما بيناه أعلاه، وعلى مستوى حزب الشعب الجمهوري الذي سيطروا على قيادته إذ أصبح رئيسه علويا منذ 2010 وتوصلوا إلى أغلبية 46 من 60 عضوا في المجلس الاستشاري الأعلى للحزب.
إن هذه التطورات على مستوى المكون العلوي هو الذي صنع التقارب بين حزب الشعب الجمهوري وحزب العمال الكردستاني وجعل أغلبية التيار القومي تتجمع حول حزب العدالة والتنمية وأدى إلى تعمق الاستقطاب السياسي وتعقيد التسوية مع الأكراد، وما محاولات توسيع التحالفين الكبيرين، تحالف الأمة وتحالف الجمهور، بإدخال عناصر غريبة عن المحور الأساسي في هذا الحلف وذاك إلا لتخفيف الاستقطاب والتوغل في مساحات الخصم كما بيناه أعلاه في هذا المقال.
لا شك أن أردوغان ورجال مخابراته وحكومته وحزبه يعلمون بخطورة استراتيجيات العلويين في الجبهة الكردية وعلى مستوى حزب الشعب الجمهوري وبدور الأجانب في هذه الاستراتيجيات (إيران والغرب وحتى روسيا)، لذلك يحاولون منذ السنوات مد الجسور مع المرجعيات العلوية إذ زار أردوغان عائلة علوية في اسطمبول عام 2021 وأطلق إشارات إيجابية في اتجاه العلويين، لعله يغير المعادلة الانتخابية ولو نسبيا في هذه المدينة حيث يتمركز فيها ثلث تعدادهم.
وفي أكتوبر\تشرين الأول 2022 أعلن عن مبادرة جديدة تجاه العلويين من خلال إنشاء هيئة مؤسسية “رئاسة الثقافة العلوية وبيوت الجمع” لمتابعة قضايا العلويين ووضع إطار قانوني لبيوت عبادتهم وتمويلها. ومع ذلك لم يحقق نتيجة تذكر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أماكن وجودهم وعلى رأسها اسطنبول التي بقيت ملونة باللون الأحمر.
لهذا السبب يدرك أردوغان بأن الحل في معالجة الاستقطاب الحاد بين الحلفين يكمن في التركيز على الأكراد بتحريرهم من هيمنة العلويين وإدخالهم في مشروعه الحضاري الذي سماه ” قرن تركيا” وقد صرح بذلك بوضوح أثناء وبعد الانتخابات الأخيرة قائلا: “سنبني قرن تركيا مع أشقائنا الأكراد” ووعد بأن حكومته ستواصل العمل حتى تصبح تركيا أكثر حرية وأمانا وازدهارا لجميع مواطنيها الخمسة وثمانين مليون، مذكرا الأكراد بالجهود الحثيثة التي بذلها حزب العدالة والتنمية لمنح الأكراد حقوقهم المستحقة رغم التحديات والمكائد، معترفا بالنقائص والأشياء التي أراد القيام ولم يتمكن، مع التهديد في نفس الوقت بعدم التسامح مع استهداف الشرطة والجيش والمواطنين في عموم البلاد.
لا شك أن الظروف الإيجابية التي صنعتها نتائج الانتخابات ستساعد على حل مشكل الاستقطاب الحاد المستدام الذي يستطيع تغيير المعادلة في أي وقت لاحق، فتحالف المعارضة تفكك وانتقلت الأزمة إلى حزب الشعب نفسه، علاوة على أن الأحزاب الثلاثة ذات الخلفية الإسلامية التي استفادت من ترشحها باسمه تركته واتجهت نحو تشكيل مجموعة برلمانية خاصة بها، كما أدركت زعيمة الحزب الجاد أنها خسرت رهان تمثيل القوميين باختيارها التحالف مع الأكراد الذين تتهمهم بالإرهاب، وفي المقابل ارتفعت معنويات حزب العدالة والتنمية وصعدت أسهم حزب هدى بارت الإسلامي الكردي في كردستان تركيا، وكذلك حزب الرفاه الجديد الذي سيسحب إليه جزء كبيرا من حزب السعادة والإسلاميين الآخرين، وسيظهر مدى تأثير هذه التطورات في نتائج الانتخابات المحلية التركية المرتقبة في مارس\آذار 2024. ولكن يجب الانتباه أن المسألة أعمق من هذا فالتيار العلماني المتشدد له مغذيات شعبية قومية عرقية ومذهبية وأيديولوجية ودولية في الجوار وعلى المستوى الدولي، فلا بد من تحديد الحلقة المفقودة في معالجة الاستقطاب في عمق المجتمع التركي، وذلك ما سنحاول التطرق إليه في المقال المقبل.
عنوان الحلقة المقبلة: التجربة التركية والحلقة المفقودة (4+1)