دراسة: التجربة التركية ودلالات الانتخابات: الحلقة المفقودة (2|4)

إن أمان أي مشروع طويل المدى إنما يتحقق نهائيا حينما يصبح التداول الديمقراطي السلمي على السلطة في الإطار الحضاري الواحد الذي تتنافس فيه الأحزاب تنافسا حقيقيا، تختلف بينها اختلافا حقيقيا على البرامج والرجال والأفكار والطموحات، ولكن تسير في اتجاه حضاري واحد … وهذا الذي حققته التجربة الديموقراطية الغربية، كل أحزابها تتنافس في إطارها الحضاري الغربي المادي، وهذا هو المفقود في التجربة الديمقراطية التركية. فأين هي الحلقة المفقودة؟

قبل تطرقنا للنظر في الحلقة المفقودة لنحاول الغوص في أعماق الأسباب الجوهرية التي جعلت (وتجعل) المنافسة الانتخابية حدية والاستقطاب شديدا لم تراع فيه المنجزات والحواصل الإيجابية لأردوغان وحزبه وحكومته ومنها:

1 ـ الأبعاد الأيديولوجي:

لا يخضع المزاج الانتخابي وتوجهات الرأي العام  لدى أعداد كبيرة من الأتراك إلى النتائج الاقتصادية وتحسن الأوضاع المعيشية ورفع مكانة تركيا بين الأمم فقط، بل ثمة محددات أخرى أقوى وأصلب وأعمق وعلى رأسها المحدد الأيديولوجي الراسخ في تركيا عبر صناعة علمانية استغرق بناؤها قرابة قرنين من الزمن كانت المرحلة الأتاتوركية فيها هي الحاسمة.

 لقد كانت نهاية خط التراجع الحضاري الإسلامي في أواخر القرن الثامن عشر في عهد الدولة العثمانية، سلّمت تركيا العثمانية في هذه الفترة أنها دولة من الدرجة الثانية، وصارت طوال القرن التاسع عشر تحت تهديد دائم من روسيا القيصرية وتآمر غير منقطع من الدول الأوربية الكبرى،  على رأسها بريطانيا وفرنسا اللتان ازداد نفوذهما أكثر، تحت ذريعة حماية المسيحيين تحت حكم العثمانيين وفي ظل الديون المتراكمة على الدولة، وبسبب تدخلاتهما لحماية الدولة العثمانية من السقوط السريع تحت الضربات الروسية وتهديدات علي باشا حاكم مصر، وذلك بغرض التفرد في تسيير سقوط هذه الإمبراطورية التي فقدت بين 1810-1878 جزيرة القرم لصالح روسيا، وبلغاريا ورومانيا وصربيا والجبل الأسود واليونان بالحصول على استقلالها، وأخذت النمسا البوسنة والهرسك، وبريطانيا جزيرة قبرص. وبعد الحرب العالمية الأولى تم احتلال أجزاء مهمة من تركيا ذاتها من قبل اليونانيين وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا إلى أن تم استرجاعها بعد حرب الاستقلال. وذلك علاوة على المشاكل الاقتصادية العميقة والتفكك الاجتماعي وصعود النعرات القومية والعرقية.

منذ نهاية القرن الثامن عشر، وضمن الظروف السيئة المتتالية، أعتقد السلاطين العثمانيون والنخب البيروقراطية المتعلمة في أوربا – على اختلاف توجهاتهم –  بأن الحل هو في تحديث الإمبراطورية المريضة وفق المقاييس الحضارية الغربية الصاعدة والتأسي بالمؤسسات العلمانية الأوربية والتخلي – أو التخفف تدريجيا – من مرجعية الشريعة الإسلامية. فبرزت نزْعات تحديثية متتالية منبهرة بالأوربيين ومستعينة بهم في إعادة تنظيم الجيش كما حدث في عهد سليم الثالث (1761-1808م) ومحمود الثاني (1785- 1839م)، ثم انتظمت تلك النزعات  في  عهد التنظيمات منذ عهد السلطان عبد المجيد الأول (1823-1861) صاحب المرسومين التحديثيين التاريخيين، المرسوم السلطاني خط الشريف جلهانة 1839 ومرسوم الخط الهمايوني 1856، إلى عهد السلطان عبد الحميد الثاني وإصداره المشروطية الأولى سنة 1876 (الفترة الدستورية الأولى).

في الوقت الذي كان فيه السلاطين يسعون للتحديث على النمط الغربي من أجل إنقاذ السلطنة والدولة العثمانية، مع المحافظة على الهوية الدينية العامة، كانت النخب العلمانية التركية المتعاونة معهم تسعى إلى الفصل التام بين الدولة والدين، ومن ضمن الأنماط العلمانية الأوربية التي اتبعها هؤلاء كان النمط الفرنسي المتشدد الذي اكتمل مع الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-  1940م) هو النمط الذي تجسد في تركيا لاحقا، وكان قانون 1905 الذي قطع الصلة نهائيا بين الكنيسة والدولة في فرنسا هو الذي ألهم التيار العلماني التركي للقضاء على أي صلة بالشريعة الإسلامية في الدولة،  فوقعت تحولات كبرى في المؤسسة العسكرية والإدارة والقضاء في فترة التنظيمات نحو النمط العلماني الأكثر راديكالية، الذي يسمى في فرنسا (laïcité)، والذي منه أخذت  الكلمة التركية للعلمانية (Laiklik). ولعل هذا الذي يفسر النمط الراديكالي للعلمانية التركية.

نظرا  للتراجع الكبير للقوة العسكرية في فترات ركود وضعف الدولة العثمانية وعدم قدرتها على مواجهة الجيوش الأوربية المتطورة  تركزت عمليات التحديث الأولى، على النمط العلماني الأوربي، في معاهد التكوين العسكري، مما يفسر عمق الفكر العلماني وقِدمه عند العساكر الأتراك. وبسبب الإرادة الجامحة للنخبة البيروقراطبة المتغربة – المدعومة من القوى الأوربية – في نشر التحديث في المجتمع تم الانتقال إلى علمنة التعليم المدني كذلك فتم تشجيع المدارس العلمانية حديثة النشأة على حساب التعليم التقليدي الشرعي الذي لم تعط له الفرصة ليطور نفسه فيكون في مستوى التطلعات العصرية.

لقد كان النموذج المتبع في علمنة التعليم هو النموذج العلماني الفرنسي الأكثر تطرفا، وكانت الخطوة الحاسمة المبكرة لتحديث التعليم على يد الفرنسيين ضمن قانون صدر في فبراير 1867 أصبحت بموجبه نظارة المعارف العثمانية تابعة في برنامجها التعليمي للنظام الفرنسي وكان مهندس الخطة وزير التعليم الفرنسي والمؤرخ والفيلسوف التربوي جان فيكتور دوروي بعد زيارته لتركيا في تلك السنة.

أصبح للغة الفرنسية مكانة كبيرة في المدارس التركية آنذاك،  ومن خلالها تسللت الأفكار “التنويرية” العلمانية التي تحملها، ودخلت اللغةَ التركية كثيرٌ من المصطلحات الفرنسية، ومنها استبدال كلمة ” مكتب” ذات الأصل العربي التي تعني المدرسة في اللغة التركية ( mekteb) بكلمة “أوكول” التي أصلها الكلمة الفرنسية (école).

من تدابير التحديث التي رسخت العلمانية القوانين (فرمان 1856) التي سمحت لجميع المتمدرسين في الإمبراطورية العثمانية أن يدرسوا جنبا إلى جنب في المدارس الحداثية وفي نفس الوقت سمحت للأقليات أن تكون لها مدارسها الخاصة. تشجعت الأسر المتأثرة بالحداثة على تعليم أبنائها في هذه المدارس أكثر من الأسر المحافظة التي بقي أطفالها يدرسون في الكتاتيب والمدارس التقليدية المتجهة للضعف والانهيار أكثر فأكثر.

وبالإضافة إلى استفادة الأقليات غير المسلمة من هذا التوجه التعليمي المختلط المنسجم مع ثقافتها أقامت مدارسها الخاصة التي كانت مسنودة بميزانيات كبيرة ورعاية أوربية. ومن المدارس الخاصة التي حققت نجاحات كبيرة في اختراق النخب التركية مدارس سالونيك ليهود الدونمة التي كانت في الأصل خاصة بأبناء طائفتها ولكن كان كثير من أساتذتها يدرسون أبناء النخب التركية، ومنهم المدرس “شمسي أفندي” الذي درس مصطفى كمال أثناء طفولته، والذي كان اسمه الأصلي “سيمون سفي” حيث أظهر يهود الدونة الإسلام وغيروا أسماءهم إلى أسماء تركية.

لقد تظافرت آثار المدارس العسكرية السابقة في توجهات العلمنة، مع المدارس المدنية الكثيرة على رأسها مدارس مكتب الملكية الشاهاني (1859) ومدرسة غلطة سراي (1868)، مع مدارس الأقليات غير المسلمة على رأسها مدارس يهود الدونمة لتشكيل النخبة التي تحكمت في الجيش والإدارة والقضاء والاقتصاد والتي نظّرت للعلمانية المؤسسية المطلقة لاحقا، كما أنشأت، على مر الأجيال، حاضنةً شعبية واسعة مؤمنة بالنهج العلماني، هي التي أصبحت تسند الأحزاب العلمانية شعبيا إلى الآن.

لم تكن هذه التوجهات العلمانية دون مقاومة من القوى الدينية المحافظة، فقد حاربوها بطرق شتى، بطرق متشددة بغير هدى كما وقع في التآمر على السلطان سليم الثالث وقتله من قبل الانكشاريين ورجال الدين، أو بكثرة النّحب دون أعمال مؤثرة فعليا كما كانت تعمل بعض الجماعات الدينية الصوفية المعزولة عن المجتمع، أو بطرق فاعلة  ترتكز على العلم كما فعل عدد من الوزراء والبيروقراطيين المتدينين على رأسهم العالم والمفكر أحمد جودت باشا الذين كانوا وراء مجلة الأحكام العدلية التي بدأ العمل بها سنة 1877 والتي عملت على تدوين وتقنين الشريعة الإسلامية وكان لها تأثير كبير في تركيا وفي العديد من الدول الإسلامية. وكان آخر المقاومين الجادين للعلمانية المبكرة المحارِبة للدين هو السلطان عبد الحميد الذي واصل عملية التحديث بإطلاق الدستور الأول سنة 1876 ومن خلال التعليم، غير أنه كان صارما في الرقابة على المدارس والمعاهد العلمانية وما تمثله نخبها من تبعية لقوى أجنبية ومن حيث حرصه على برامج الأخلاقيات الإسلامية وإلزام الأطفال بالواجبات الدينية وعلى رأسها الصلاة وكذلك الولاء للدولة والخليفة.

لم تكن المحاولات الصارمة للسلطان عبد الحميد، رغم طول حكمه، كافية لمواجهة الجبهة العلمانية الواسعة والعميقة المسنودة من الدول الغربية العازمة على تفكيك الدولة وإنهاء الخلافة فانتهى التآمر الطويل على السلطان عبد الحميد من خلال ثورة تركيا الفتاة عام 1908 التي أدت إلى عزله عام 1909.

 لقد تعددت المنظمات السرية والعلنية المتآمرة على الخلافة والمصرّة على علمنة الدولة، من المسلمين الأتراك والأقليات غير المسلمة كاليهود والأرمن ومختلف الطوائف المسيحية، غير أن التنظيم الأكثر إصرارا ضمن انقلابي تركيا الفتاة والذي اجتمعت عنده كل القوى العازمة على إسقاط السلطان عبد الحميد حتى تحقق لهم ذلك هو حزب الاتحاد والترقي الذي استأثر بالحكم وحده كحزب حاكم في ظل السلطنة التي صارت بعد عبد الحميد الثاني صورية. وبعد الخسارة في الحرب العالمية الأولى التي ورط فيها الدولة تفكك هذا الحزب ولكن أغلب قادته تسربوا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، ضمن الظروف التي سنذكر بها لاحقا، وخاضوا معه مسار تحويل تركيا إلى أكثر الدول تطرفا في تبني العلمانية.

 استطاع مصطفى كمال أن يقضي على كل قوة تتشكل أو يحتمل تشكلها في المجتمع وفي الدولة للرجوع بالدولة إلى المرجعية الإسلامية ولو في حدها الأدنى كهوية شكلية، بل تجاوز القضية الدينية الجامعة إلى فرض القومية التركية وإنكار كل القوميات الأخرى التي كانت متعايشة في الدولة العثمانية.

عندئذ تهيأت له الظروف للانتقال إلى أشد أنواع العلمانية التي اشتغل لتحقيقها أجيال من المثقفين والنشطاء السياسيين من قبله، فقام بالعديد من التغييرات  منها:  ألغى السلطنة (1 نوفمبر 1922)، وألغى الخلافة (3 مارس 1924)، ألغى التعليم الإسلامي (3 مارس 1924)، استبدل قوانين الأحوال الشخصية القائمة على الشريعة بقوانين مدنية أوربية (1926)، منع الأذان باللغة العربية (29 يناير 1932)، منع تعليم القرآن الكريم (1924)، حظر رحلات الحج إلى مكة (1925)، ألغى التعليم الإسلامي وغلق المدارس الدينية والتكايا والزوايا (3 مارس 1924)، غيّر أبجدية اللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني (1 نوفمبر 1928)، دستر علمانية الدولة التركية (1937)، أصدر قانون القبعة لمنع لباس الطربوش والعمامة وفرض القبعة الغربية (25 نوفمبر 1925)، أصدر قانون فرض الألقاب التركية (21 جوان 1934).

لا يعني تحكم هذا التوجه المتطرف أن مقاومته ورفضه داخل الدولة العلمانية والشعب المتمسك بدينه قد انتهى، فقد رُسم مسار آخر على هامش حزب الشعب الجمهوري وأحيانا يخرج منه يحاول رجاله تصحيح الأوضاع ضمن رؤى ليبيرالية محافظة، ومن هؤلاء عدنان مندريس الذي غادر حزب الشعب سنة 1945 وأسس مع آخرين الحزب الديمقراطي الذي نجح بالأغلبية الساحقة في الانتخابات التشريعية سنة 1950 بسبب الوجه المعتدل الذي قدمه في الحملة الانتخابية في ما يتعلق بالشأن الديني ووعوده بتوفير أجواء الحرية وتحسين شؤون المواطنين، وبقي في رئاسة الوزراء إلى أن تم الانقلاب عليه سنة 1960 في أول انقلاب عسكري في تركيا بسبب اتهامه من قبل ضباط المؤسسة العسكرية بأنه يؤجج العواطف الدينية ويتسبب في الرجوع إلى الشريعة والخلافة، ورغم تصريحه بتمسكه بالعلمانية نُفّذ فيه حكم  الإعدام شنقا. ويمكن عدّ رئيس الوزراء تورغوت أوزال الذي أسس حزب الوطن الأم وفاز به في الانتخابات التشريعية سنة    1983 من هذا الخط العلماني المعتدل والليبيرالي المحافظ، ورغم التزامه بالعلمانية كان متدينا ومسنودا من الطرق الصوفية و مؤمنا بالمبادئ الإسلامية وعرفت الحركات الإسلامية في فترة حكمه تسهيلات معتبرة بل استخدم بعضَ أفرادها في حكومته. وحين برز التيار الإسلامي السياسي في سنوات السبعينات والثمانيات تولى بجرأة أكثر في معاداة العلمانية المتطرفة والدفاع عن مكانة الإسلام والدفاع عن التدين والانتصار للقضية الفلسطينية والسعي للعودة الحضارية للمسلمين. غير أن حتى التيار الإسلامي، المتمثل في شخص نجم الدين أربكان والأحزاب التي أسسها، ثم تلميذه رجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية لم يسع إلى محاربة العلمانية والمساس بصورة مصطفى كمال.

 و لكن بالرغم من أن أربكان وأردغان تبنىّ كليهما العلمانية ولم يسع أي منهما  للتمكين للمرجعية الإسلامية في الدولة التركية لم يسلما من معاداة التيار العلماني المتشدد المتمركز في المؤسسة العسكرية والمتمثل في حزب الشعب الجمهوري الكمالي والأحزاب اليسارية عموما، فقد سُجن أربكان ومُنع من السياسة وتم الانقلاب على الحكومة التي كان يقودها في رابع انقلاب عسكري سنة 1997، كما وقعت محاولة انقلاب على الرئيس أردوغان وبقي يتعرض لمحاولة الإحاطة به من قبل تحالفات متعددة مسنودة من القوى الغربية إلى أن نجح مرة أخرى في هزيمتهم ضمن نموذج ديمقراطي تاريخي غير مسبوق في الحياة السياسية التركية سنة 2023.

إن هذا السرد التاريخي مهم لفهم الاستقطاب الشديد بين تيارين كبيرين تعود جذورهما إلى فترة ضعف الدولة العثمانية يتبنى كل منهما علمانية الدولة.

 تعود جذور الأول إلى التيارات التغريبية العلمانية المتشددة من الأتراك  والأقليات الدينية والمذهبية التي ساهمت في إلغاء السلطنة والخلافة، والتي اجتمعت في حزب الشعب بقيادة أتاتورك وتشكلت أجيال من النخب التركية على مذهبهم في المدارس والمؤسسات والبيئة الثقافية والاجتماعية العلمانية، ورغم ميل أغلب مكونات هذا التيار إلى اليسار فلا يمكن تصنيفه كذاك بسبب الميول الليبرالية لكثير من نخبه، لا سيما في الجيش، وخصوصا بعد الانضمام للحلف الأطلسي وتحويل تركيا الرسمية إلى قلعة من  قلاع الرأسمالية العالمية، ورغم هذا التنوع فإن الشيء الذي يجمع مكونات هذا التيار هو الدفاع عن علمانية متشددة لها حساسية مفرطة تجاه الإسلام، ويزداد هذا الاجتماع والتكتل كلما وقع تهديد على النموذج العلماني المتشدد، مثلما ما وقع مع عدنان مندريس وضد أربكان أو ما هو حاصل اليوم ضد أردوغان، بل إن ثلاثة من الانقلابات الأربعة  والمحاولة الخامسة كانت ضد التمدد الإسلامي، إذ انقلاب 1960 ضد عدنان مندريس كان بسبب اتهامه بتوفير البيئة للعودة للشريعة، وكانت الخلفية السياسية لانقلاب 1980 هو صعود التيار الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان والتيار القومي بزعامة أرسلان توركش الذي لم يكن يعادي الإسلام وكانت المسيرة الشعبية الضخمة التي نظمها أربكان لصالح فلسطين أيام قليلة قبل الانقلاب بمثابة  استفتاء على تمسك الشعب بالهوية الإسلامية، وكان هذا الانقلاب الأكثر دموية والذي لحقته إجراءات قاسية جدا ضد الحجاب والمظاهر الإسلامية، وكان هذا الانقلاب مسنودا من الولايات الأمريكية المتحدة مثله مثل انقلاب سنة 1971 الذي كان سببه ارتفاع المد اليساري، وكذلك كان انقلاب عام 1997 ضد رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان بسبب اتساع التعاطف الشعبي مع كل ما له علاقة بالانتماء الإسلامي. ثم كانت محاولة الانقلاب  الفاشلة على أردوغان عام  2016.

أما التيار الثاني فهو التيار الذي تعود جذوره إلى الحركات الإصلاحية التي كانت تريد استعمال الأدوات الغربية في التحديث والإصلاح السياسي دون التنكر للمرجعية الإسلامية، وكان بإمكان هؤلاء أن يصلوا إلى الملكية الدستورية لتبقى الخلافة جامعة للمسلمين وتمثل وحدتهم في كل أنحاء العالم ضمن نظام فيدرالي إسلامي أو أن تُسيِّر الدولَ المنزوية تحت الخلافة حكوماتٌ ذات سيادة، تتعاون بينها لمصالحها وبما يحقق مصالح الأمة الإسلامية ووحدتها، وهو النموذج الذي حاربته بريطانيا ضد الدولة العثمانية و ارتضته لنفسها فصار يتْبعُ مملكتَها دولٌ عظمى ذات سيادة إلى يومنا هذا ضمن نظام الكومنولث. وربما يتحمل السلاطين العثمانيون شيئا من المسؤولية إذ لم ينتبهوا إلى ضرورة التغيير في الوقت المناسب.

 لقد كان بإمكان السلطان القوي والعبقري عبد الحميد الثاني أن يساهم في هذا لو لم تحاصره المؤامرات من كل جانب، حتى بين وزرائه والصدر الأعظم، وقد كانت محاولة المشروطية الأولى (الدستور) سانحة مناسبة للمرحلة اضطر لتجميدها بسبب الحروب والمخاطر الخارجية العظمى والمؤامرات الداخلية العميقة، ويمكننا أن نقول أن هذا الرجل  العبقري العظيم جاء في زمن المراحل الأخيرة في طور الانهيار وفق النظرة الخلدونية (الأطوار الخمسة والأجيال الثلاثة)، ولم يصبح ممكنا لأحد أن يصلح الدولة التي يطلبها طالبون أقوياء وفق ما يبينه ابن خلدون كذلك.

 إن التطرف العلماني التركي المتحالف مع يهود الدونمة والدول الأوربية الناهضة كان أقوى من تلك الدولة الضعيفة المريضة المترنحة التي ضيّعت معالمها الإسلامية الأصيلة وذهبت أسس وحدتها وافتقدت في مرحلتي ركودها (1683 – 1827) وأفولها (1828- 1908) إلى شروط عودة نهضتها.

 في ظل هذه الظروف العصيبة لم يصبح النقاش بين المعارضين لحكم السلاطين بمختلف توجهاتهم حول مسألة العلمانية، لقد أصبحت العلمانية والتحديث على النمط الغربي محل إجماع لديهم، ولكن الاختلاف بات يتعلق بنوعية التوجهات العلمانية ومكانة الدين في المجتمع التركي ثم جاءت حرب الاستقلال لتحرير الأراضي التي خسرتها تركيا على إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى فتوحدت كل القوى الوطنية تحت قيادة أتاتورك الذي استطاع أن يقود الحركة التركية الوطنية المتمردة على ما بقي من سلطة الخلافة التي رضخت  لقرارات تقسيم الدولة التي فرضها الحلفاء المنتصرون وفقا لشروط هدنة مودروس سنة 1918 ومعاهدة سيفر عام 1920.

بعد أن نجحت المقاومة التركية أصبح مصطفى كمال أتاتورك زعيما تاريخيا لا نظير له في التاريخ المعاصر التركي، وبعد استعماله للخطاب الديني في الحرب، ظهر على حقيقته القومية العلمانية المتطرفة بعد الاستقلال وبات لا أحد يستطيع معارضته، ورغم دعوته للتعددية الحزبية بقي حزب واحد في الدولة هو حزب الشعب الجمهوري.

بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك بدأت تظهر أحزاب أخرى، كلها قومية وعلمانية وتمجد أتاتورك ولكنها ليست ضد الدين والعديد من قادتها متدينون،  أي أن الأمور رجعت إلى طبيعتها التي كانت عليها قبل حرب الاستقلال وسقوط الخلافة ببروز التيار الآخر المحافظ عميق الجذور في تركيا الذي كان يريد إصلاح الخلافة على النمط الغربي وليس تدميرها، وحين تحول الجميع إلى النظام الجمهوري على إثر حرب الاستقلال لم تكن العلمانية المتشددة المعادية للهوية الإسلامية قناعة جامعة لديهم. ومن هذا التيار الحزب الديمقراطي وزعيمه الشهيد عدنان مندريس، وحزب العدالة، وحزب الوطن الأم ورئيسه تورغوت أوزال، وحزب الطريق القويم، والحزب الديمقراطي التركي المشكل من الحزبين الأخيرين، وهي كلها أحزاب يمين وسط،  ثم حزب الحركة القومية اليميني المتحالف حاليا مع أردوغان، ويمكن اعتبار الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان من هذا التيار السياسي العريض، وكذلك حزب التنمية والعدالة وزعيمه أردوغان.

على هذا الأساس حينما يؤكد أردوغان وقادة حزب العدالة والديمقراطية مرات ومرات بأن حزبهم حزب علماني يجب على قادة التيار الإسلامي في العالم العربي أن يأخذوا هذه التصريحات على محمل الجد، بل إن حزب العدالة والتنمية هو حزب قومي تركي محافظ أكثر منه حزب إسلامي. ولا يلغي هذه الحقيقة أن أردوغان نفسه والعديد من القادة الذين معه من التيار الإسلامي حقيقة، فالحزب حينما تأسس لم يتأسس من الإسلاميين فقط بل من بين مؤسسيه سياسيون من الأحزاب القومية المحافظة من اليمين الوسط واليمين من أبرزهم وزيرة الداخلية الأسبق ميرال أكشنار التي استقالت من العدالة والتنمية في فترة التأسيس لتلتحق بحزب الحركة القومية، والذي أخرجت منه لاحقاً لتؤسس الحزب الجيد الذي تحالف  معكمال كليتشدار أوغلو ضمن تحالف الأمة (أو تحالف الشعب)، ومن بين أعضائه كذلك ابنا مؤسس حزب الحركة القومية ألب أرسلان توركش، مع وجود عدد قليل من أعضائه من التيار اليساري، وأما الأكراد فعددهم كبير، بعضهم من التيار الإسلامي، وبعضهم من التيار العلماني على نحو ما كانت عليه الأحزاب الليبيرالية الأقل تمسكا بالتتريك في زمن السلطنة التي كان يفضلها الناشطون العلمانيون الأكراد. وفي المحصلة ربما الكثير لا يعلم بأنه بالرغم من أن قيادة حزب العدالة والتنمية ذات جذور إسلامية فإن نسبة الأعضاء الإسلاميين في الحزب هي النسبة الأقل، وقد يفسر هذا الحقيقة المتناقضة التي لا يفهمها كثير من الإسلاميين العرب من أن حزبا إسلاميا يصرح قادته بأن حزبهم علماني حتى وإن كانوا كأشخاص من خلفية إسلامية. 

لا شك أن نجاح قائد إسلامي في تشكيل حزب سياسي يضم شخصيات من مختلف التيارات، خصوصا التيار الوطني المحافظ إنجاز كبير، وقد ساعد على هذا الإبداع النادر الخلفية التاريخية للحياة السياسية التركية بوجود تيار قومي متنوع عريق وعريض في تركيا قادر على التعاون بينه يسعى إلى التحديث في الدولة ولكن بالمحافظة على التراث العثماني. ويتمثل  هذا التيار اليوم في التوجه ذي الخلفية الإسلامية بزعامة أردوغان وهو الأميل إلى النزعة الإسلامية العثمانية  وفق مفهوم “العثمانية الجديدة”، وفي التوجه  المحافظ الأميل إلى البعد القومي الذي لا يعادي التراث العثماني،  وكلاهما يتبنى العلمانية المعتدلة في الدولة التي لا تتحسس من وجود التدين في الشأن العام، وكلاهما يشعر بأن العلمانية المتشددة المتغربة خطر على تركيا. غير أن التحالف بينهما سيبقى مهددا بسبب الطموحات السياسية وفي حالة غياب القادة الكبار أصحاب الفكر والرؤى المتسامية عن الأبعاد التنظيمية الضيقة والمصالح السياسية الشخصية الآنية.

و بالعودة إلى البدء ، وبناء على هشاشة التحالفات لو يبقى هذا الاستقطاب النصفي بين الطرفين قد يتحول في أي لحظة من اللحظات لصالح التيار العلماني التغريبي المتشدد فتحل الكارثة على تركيا، بالعودة بها إلى الفساد والفشل والاضطرابات السياسية والاجتماعية وفقدان السيادة  وفق ما وصلت إليه الدولة التركية قبل ظهور حزب العدالة والتنمية، بل سيُهدد الاستقرار الاجتماعي في البلد كله إذ لا يمكن لنصف الشعب  التركي على الأقل أن يقبل بالعودة إلى سنوات القهر العلماني. وقد يكون التحول من داخل حزب العدالة والتنمية ذاته بعد أردوغان، والنقاش الداخلي القائم بعد الانتخابات حول نسب الفائدة هو نقاش أيديولوجي قبل أن يكون نقاشا في المقاربات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فما هو الحل لتستمر نهضة تركيا في إطار هويتها الإسلامية ولتبقى قائدة ومشاركة في العبور إلى النهضة الحضارية للأمة؟ هذا الذي سنحاول الجواب عنه في نهاية أجزاء هذه الدراسة بحول الله تعالى.

.. يتبع