كل مقالات د. عبد الرزاق مقري

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع (2)

أولا – الرد على الشبهات:

1 – شبهة طلب الرخصة: هناك بعض الدول العربية تمنع مبدئيا أي عمل شعبي لصالح فلسطين، بل هناك من يمنع لبس الكوفية في الأماكن العمومية بشكل منهجي في بعض الدول، ووقع عندنا في الجزائر في بعض الأماكن العمومية، بل أصبح إدخال الأعلام الفلسطينية للملاعب ممنوعا، بل هناك في دول مشرقية من يمنع الدعاء لغزة، ومنع المسيرات يندرج ضمن هذه الحساسية الكبيرة تجاه تطورات الطوفان، أما عن طلب الرخصة، فقد قدمت بعض الأطراف طلبا للمسيرة الشعبية عهدنا ورُفض الطلب، ولا أريد ذكر هذه الأطراف لعدم الإحراج، وأنا شخصيا حين ألقي علي القبض بعد خروجي للشارع على اثر أول مجزرة مروعة في المستشفى المعمداني، لم يقدم إلي اللوم على عدم طلب الرخصة، بل ذكرت لي أسباب أمنية (سأتحدث عنها لاحقا) لرفض المسير في الشارع.

ولو رجعنا إلى الدستور فإن المادة 52 تؤكد “أن حرية التعبير مضمونة، وأن حرية الاجتماع وحرية التظاهر السلمي مضمونتان، وتمارسان بمجرد التصريح بهما”. ولا شك أن سبب تأخر صياغة القانون الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق وفق نفس المادة الدستورية أن الصيغة اللغوية للمادة لا تسمح لهم بمنع المسيرات بمجرد التصريح إلا بقانون يناقض الدستور. مع أنه لا حرج لديهم أن يدوسوا على الدستور حسب ما كان يقوله الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله: “يكتبون الدساتير بأيديهم ويدوسون عليها بأرجلهم” فلو راعى المسؤول الدستور، في نصه وروحه، لأمكننا تنظيم المسيرات دون أي عناء ودون أن تحدث أي مشكلة.

وفي كل الأحوال فإن نضالنا هذا من أجل تجسيد هذه المادة الدستورية نضال دستوري، سواء من أجل فلسطين أو من أجل مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا بد للنضال أن يحقق نتائج، ومن ذلك أن المسيرة الأخيرة التي أقيمت في الجزائر العاصمة والعديد من الولايات في 2023 بعد الطوفان تضامنا مع غزة التي سمحت بها ونظمتها السلطات عن طريق أحزابها كانت نتيجة الضغط الشديد الذي قام به النشطاء من قبل بخروجهم للشوارع دون رخصة، وبكل تأكيد سيؤدي الضغط الجديد أمام مآسي التجويع التي يعيشها أهلنا إلى تحرك السلطات، عن طريق بعض أدواتها الحزبية والمجتمعية، لتنظيم مسيرة. وإن تحقق ذلك فهو خير، لصالح أهلنا الغزيين ولشرف الجزائريين، حتى وإن نسب هؤلاء المسخّرين الفضل لأنفسهم، فإن الله المصدر يعرفه الله تعالى ثم الشعب الجزائري، المهم أن يستمر النضال السلمي بالاعتماد على المادة 52 من الدستور.

يتبع…

المَسِيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع (1)

تابعت العديد من التعليقات في الوسائط الاجتماعية عن المسيرات من أجل فلسطين فأحصيت عددا من الأفكار المضللة والشبهات المخادعة بشأنها، متشابهة في العديد من الدول العربية، مصدرها الذباب الإلكتروني للأنظمة العربية المستبدة والخلايا الإلكترونية الصهيونية الذكية، التي تبني مفاتيح خطاب لكل شكل من أشكال الدعم بأساليب معقدة ومتناقضة، ويعينهم في نشرها ويضيف عليها المتخاذلون والمخذّلون والسذج من المسلمين، من حيث دروا أم لم يدروا ، ومن ذلك قولهم: “المسيرات عمل غير قانوني ويجب طلب الرخصة، لا فائدة من المسيرات في دعم القضية الفلسطينية، الصراخ في الشوارع لا يحرر فلسطين، المسيرات تؤدي إلى الانفلات الأمني، المسيرات مزايدات سياسية من تجار القضية الفلسطينية، السلاح وحده هو الحل، جمع المال والإغاثة فقط المطلوب، لكل بلد ظروفه وأولوياته في دعم القضية، موقف الدولة جيد، بلدنا موقفه جيد من القضية فلماذا المسيرات، نترك التعبير في المسيرات لنحافظ على المتاح …” إن كل هذه الشبهات أفكار مضللة نرد عليها واحدة واحدة في المحور الأول، ثم نتطرق في المحور الثاني إلى الأسباب الحقيقية التي تجعل السلطات الرسمية تمنع المسيرات والخلفيات التي تدفع بالمتخاذلين والمخذّلين والسذج لضرب عزائم الأبطال الذين يواجهون المخاطر في الخروج للشوارع تعبيرا عن غضبهم مما يحدث من قهر وتجويع وإبادة لأشقائنا في غزة، وفي المحور الثالث نبين الفوائد الإستراتيجية العظيمة للمسيرات في الشوارع والوقفات أمام السفارات.

أولا – الرد على الشبهات:
يتبع ..

مروان بن قطاية: شاب بألف.

تعرّف الرأي العام بشكل أوسع على مروان بن قطاية بمناسبة دوره الريادي في قافلة الصمود، وكرئيس لمؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي. غير أن مروان لم تصنعه قافلة الصمود، ولم يكن منتَجا حصريا لمؤسسة جيل الترجيح ( واسمها الأصلي أكاديمية جيل الترجيح)، وإنما كانت القافلة تكريما له من الله تعالى على انخراطه الصادق الشجاع في القضية، نصرة لأهلنا في “غ” ضمن تطورات ” ط أ”، كما أن مؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي إنما كانت محطة أساسية في حياته ضمن مسار طويل في التربية والتأهيل والتكوين، وجد فيها ما يُمثّل أفكاره التي نشأ بها، وطموحاته في إصلاح الوطن التي شبّ عليها، وتطلعاته للعمل من أجل الاستنهاض الحضاري للأمة التي رغب فيها، وللتميز في الحياة في مختلف المجالات الذي كان صورة له.

ولد مروان بن قطاية في بلدية العطف ولاية غرداية في أسرة محافظة من والدَين صالحين كانت تربية الأولاد وتنشئتهم على الدين والأخلاق هي مبلغ علمهما، فحفظ القرآن صغيرا في القرية، وكانت بوابة دخوله العمل الدعوي هي تربية الوالدين وحفظ كتاب الله الكريم، ثم تواصل بناؤه التربوي ودخل العمل الميداني النضالي منذ صغره في الكشافة الإسلامية الجزائرية،  فكانت الكشافة هي مدرسته الجماعية الأولى للتكوين على الانضباط والجندية والروح الوطنية والمسؤولية الجماعة والفاعلية الميدانية، وتطور فيها حتى صار قائدا كشفيا محترما ومبجلا، وفي المرحلة الثانوية التحق بحركة مجتمع السلم  فاستفاد من أسرها التربوية معالم المنهج الدعوي والوعي الإسلامي وأشواق الالتزام بالعبادات والانضباط الأخلاقي والتطلع إلى العودة الحضارية للأمة، مع المحافظة الدائمة على التفوق الدراسي والحرص المستمر على رضا الوالدين والعطف على الأشقاء إذ كان هو بكر العائلة. وحين دخل الجامعة فُتحت له أبواب النضال في مختلف المجالات على مصراعيها، فكان من مؤسسي فرع الاتحاد العام الطلابي الحر في جامعة غرداية، ولتميزه لم يلبث طويلا ليكون رئيس الفرع طيلة حياته الجامعية، فصُقلت في الجامعة بواكير شخصيته القيادية المتكاملة، فكريا ودعويا وتربويا واجتماعيا وثقافيا.

ولأن مروان من الشباب الذين يمنعهم الطموح من الراحة والسكون، ولا يرضون بالرقي دون المعالي، توسعت اهتماماته خارج العائلة والمسجد والجامعة، فاهتم بالمجال الفني عبر تأسيسه فرقة الضياء الإنشادية التي برزت فيها موهبته الإنشادية وصوته الشجي الذي لازلنا نتمتع به إلى الآن، خصوصا حين يقرأ القرآن وهو يؤمنا في الصلاة،  وكان عبر تلك الجمعية سببا لاكتشاف مواهب شبابية فنية أخرى، كما اهتم بالرياضة في سن مبكرة وكانت هوايته الفنون القتالية، وبالتحديد رياضة “الكونغفو”، التي واصل مساره فيها إلى أن وصل بعد عشر سنوات إلى الحصول على الحزام الأسود.

وحين أوصله القدر إلى مؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي وجد فيها ضالته وما يعبر عن رؤيته، ووجدَته هي نعم القائد الجاهز الذي يجب صقل شخصيته وترقية مدركاته وتوسيع مداركه وعلاقاته، وفتح الفرص له بلا حدود، كما هو حال الرشد في التأهيل الذي يتمسك  بالطاقات والمواهب ويصبر عليها ولا يبذرها. وكان منهج الأكاديمية ذاك ما يناسب مساره ويُكمل دربه ويقوّم أخطاءه ويُفجّر طاقاته ويُستفاد من كفاءته، وذلك من خلال منهجها الذي يؤهل القادة وفق قواعد “الشمول والتوازن”، والتعميم والتركيز”، و”القيادة العامة والقيادة المتخصصة”و “شيء عن كل شيء وكل شيء عن شيء”، عبر الأفواج على المستوى الأفقي لتركيز التربية والتكوين والتأهيل، ومشاريع الفاعلية على المستوى العمودي في فرق العمل لاكتشاف المواهب وصقلها.

التحق مروان بن قطاية بالأكاديمية في دفعتها الأولى بغرداية، ومن هناك صار عضوا في قسم السلوك، ومن قسم السلوك أسس مع نظرائه المتميزين، خصوصا في مجال القرآن الكريم والتربية السلوكية، مشروع النهضة بالقرآن، مكلفا بقسم المشايخ بالإدارة الوطنية.   

لم يأت مروان بن قطاية إلى رئاسة الأكاديمية كمظلّيٍ مُقحَمٍ من الأعلى، بل تدرّج فيها من مرتبة إلى مرتبة، إذ بعد نجاح مشروع النهضة بالقرآن واستقلاله بنفسه، بحمد الله، في فضاء المجتمع الفسيح، أصبح مروان رئيس قسم الحملات في قسم الفاعلية، ثم رئيسا للقسم، في المكتب التنفيذي للأكاديمية ثم مديرا تنفيذيا، ثم صار بشكل منطقي رئيسا للمؤسسة حين احتاجت المؤسسة أن يكون أحد أبنائها من يقودها.

لقد تابعتُ مروان من بعيد وهو يمارس القيادة في منظمة مترامية الأطراف تتوزع أفواجها في كل أنحاء الوطن، فرأيت فيه كثيرا من الصفات القيادية النادرة التي تحتاجها المنظمات والأحزاب والبلدان والدول والأمم لكي تصنع نهضتها، سواء على مستوى الالتزام الشرعي والأخلاقي وابتعاده عن الشبهات وانضباطه في العبادات، أو من حيث الصفات الشخصية القيادية كالشجاعة ورباطة الجأش والصدق والوفاء والكرم والمروءة والمصداقية، وأخرى لا أجد لها سوى عبارة بالعامية هي “الرُّجْلة”، أو من حيث الصفات المهارية القيادية، كالرؤية والخطابة والبيان والقدرة على الإقناع والقدرة على ربط العلاقات العامة، أو على مستوى العلاقات الاجتماعية، سواء حسن رعايته لوالدته وأشقائه وشقيقاته بعد وفاة والده، وخيريته لأهله، أو حرصه على صلة أرحامه، وإكرام السابقين في غرداية ومن لهم فضل عليه في تنشئته، بذكره  الحسن الدائم لهم وإقراره بجميلهم، خصوصا الأستاذ عز الدين قادري رئيس مجلس الشورى الولائي الذي كان سبب التحاقه بالحركة، واهتمامه بمن هو مسؤول عليهم في الأكاديمية، ووفاؤه النموذجي  للكشافة والاتحاد ولأكاديمة جيل الترجيح ولكل من كان لهم فضل عليه في ما وصل إليه . 

لا شك أن مؤسسة جيل الترجيح كانت هي العتبة التي اعتلاها مروان للوصول إلى المسؤوليات العليا في حركة مجتمع السلم، كما هو حال أغلب الشباب الذين هم حول رئيس حركة حمس حاليا، القائمين بشؤونه في الديوان والإعلام والمقر وغير ذلك، ولكن وصوله إلى المسؤولية في المكتب الوطني لم يأت من علٍ، بل صعد صعودا متدرجا ابتداء من عضويته في المكتب البلدي للحركة في غرداية، إلى عضوية الأمانة الولائية للشباب والطلبة، إلى عضوية مجلس الشورى الوطني، إلى عضوية الأمانة الوطنية للشباب، إلى عضوية مجلس المؤسسات، إلى عضوية المجلس الاستشاري للشباب، إلى عضوية لجنة تحضير المؤتمر.

لا يمكن لقائد متميز، صاحب رؤية وخبرة وصادق اللهجة في الدفاع عن رأيه، أن لا يصل العالمية في مساره النضالي، فها هو مروان بن قطاية يتحول إلى رمز دولي يشترك في تأسيس “ملتقى شباب العالم الإسلامي” ويكون أحد قادته المقدّرين بين أعضائه من كل أنحاء العالم، ثم يتم اختياره في ظروف صعبة ليكون عضو المكتب التنفيذي الدولي بالاتحاد الإسلامي الدولي للمنظمات الطلابية والشبابية (الإيفسو)، ويشهد له أقرانه بقدرته على التشبيك وربط الشباب عالميا بروح الرسالة والوحدة والعمل.

وحين اعتقد العديدون بأنه تلقى ضربة كبيرة في مسيرته القيادية رفعه الله من حيث لا يحتسب بأقدس قضية في الأمة وهي القضية الفلسطينية، أعطاها بشجاعة وصدق في تعامله مع طوفان الأقصى فأعطته من الرفعة ما لم يكن في باله بقيادته قافلة الصمود. لقد كان مروان بن قطاية من الذين اجتهدوا من أجل النجاح في امتحان طوفان الأقصى، أحسبه كذلك والله حسيبه وحسيبنا، إذ حرص أن يكون في المكان الصحيح من التاريخ ضمن سننية الطوفان، فلم يتوان في بذل الجهد المسموح والممنوع لنصرة أهلنا في غزة، فأوذي في سبيل ذلك إيذاء شديدا وظن من عاقبه بأنه عاقبه بأشد العقاب، على “تعنته” وإصراره في القيام بالواجب وتميزه على الآخرين، فلم يُحبط ولم يكسر، ولما جاءت فرصة قافلة الصمود بادر إلى تشريف الجزائر وتكريمها بالحضور، ضمن ظروف صعبة وإعراض بئيس ومخاطر جمة، فنظّم وأطّر وعبّأ وأنفق، والتقى في العمل مع شيخ فاضل وقائد كريم، يحيى ساري، فكانت المشاركة الجزائرية تحت قيادتيهما، المنطلقة من مقر مؤسسة جيل الترجيح والعائدة إليها، تاريخية رائدة رغم قلة العدد بالنسبة لعدد الليبيين والتونسيين، وصار مروان هو نجم القافلة كلها، وسمعت من التونسيين والليبيين، ثم من الفلسطينيين، حديثا عن مروان جعلني أعتز بجزائريتي، وبحركتي، وبمؤسسة جيل الترجيح للتأهيل القيادي …

إنني أستطيع أن أقول بلا مجازفة بأن مروان بألف شاب، على نحو وصف عمر بن الخطاب لبعض صحابة رسول الله صلى عليه وسلم، وهو من الرواحل الذين لا تكاد تجد مثلهم في المائة على نحو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه في الحديث،  وإني لأرى لهذا الشاب، الذي وهو في الثلاثينيات من عمره كأنه في الأربعينيات، مستقبلا قياديا زاهرا بحول الله، بأي حال من الأحوال، إذ أمامه فسحة طويلة من الزمن أسأل الله أن يطيل عمره ويصلح عمله. سيكون له حقا شأن كبير، بإذن الله سبحانه ومشيئته، نسأله تعالى لنا وله حسن الخاتمة.

إن الشهادة التي أشهدها في مروان بن قطاية أشهدها لوجه الله، لأنه يستحق ذلك، وكل ما قلته فيه صادق، ولا أزكي على الله أحدا، وقد حرصت على الشهادة في هذا الوقت بالذات وقوفا معه في وقت الشدة، كما يقف الرجال مع الرجال، ولفضله الكبير على الأكاديمية ومكانته فيها، ولوفائه الرجولي، وخصوصا لموقفه المشرف تجاه القضية الفلسطينية. ولم أقف هذا الموقف لأن مروان أقرب الشباب إلي، فعلاقتي اليومية الشخصية بغيره من بعض الشباب أكثر، وهو لم يكن لطيفا معي في كل الأحوال قبل أن يعرفني عن قرب إذ أساء إلي  ( رغم موقعه المتقدم آنذاك في الأكاديمية ) مع عدد من الطلبة بمناسبة مؤتمر من مؤتمرات الاتحاد قبل أن ينتبهوا إلى حجم خطئهم وتسميم معلوماتهم،  كما أن موقفي من مروان ليس  موقفا طارئا في حياتي، فأنا لا أتمالك نفسي أبدا حين أشهد الظلم ولو في الطريق، حتى لا أبالي في رد الفعل على الظلم بالمآل أحيانا، وفي الحركة وقفت مع الشيخ محفوظ نحناح أمام الملايين في حصة ملتقى الاتجاهات بالتلفزيون الجزائري ومسحت الأرض بمن ظلمه عام 1999، وكان رحمه الله كريما شهما، في قمة الوفاء، إذ رد الإحسان بالإحسان وغمرني بجميل صنعه منذ تلك الحادثة ( دافع عني برجولة ومروءة في وجه الجنرالات والمسؤولين الذين أرادوا الإساءة إلي بسبب دفاعي عنه وقد شهدت ذلك بنفسي، وعرض عليّ الوزارة بعد الانتخابات، وحين رفضت قبِل من قدّمتُه له بدلي، وبقي يدافع عني حتى في وجه من يؤذونني بسبب نقدي له، ويذكرني بخير ويرفع مقامي حتى توفاه الله رحمه الله)، ووقفت مع الشيخ بوجرة علانية حين استهدف في شخصه أثناء الاضطرابات الداخلية وعندما أساء له بوتفليقة وآذاه أويحي، ووقفت مع الرئيس الحالي للحركة قبل أن يتمكّن في منصبه بعد المؤتمر، ودافعت عن مسؤولين في الحركة مركزيا ومحليا حين ظُلموا وزُبروا من القوائم الانتخابية.

أنا أؤمن بمروان بن قطاية، وهو فرصة كبيرة للحركة والوطن والأمة والقضية الفلسطينية وأدافع عنه دون أن أنتظر منه شيئا ولا يهمني هل سيكون وفيا كريما مثل الشيخ محفوظ نحناح أم أنه سينسى المعروف أو ينقلب عليه، فالله أعز وأكرم. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله

في ذكرى وفاة الشيخ محفوظ، الفصل الخامس من إصدار: “بين المصلحة الوطنية المصلحة الحزبية”

الفصل الخامس: التحليل والخلاصات

هذا الفصل لم يكن ضمن البحث الذي تم تقديمه في ملتقى الشيخ محفوظ رحمه الله في إسطنبول عام 2022  في ذكرى وفاته التاسعة عشرة، ولكنه أضيف قبل الطباعة والنشر في عام 2025  في الذكرى الثانية والعشرين لوفاته رحمه الله لمزيد من الفائدة، وهذه الإضافة هي اختصار للمعلومات التاريخية الواردة في البحث، التي لا تتغير، مع تحليل للمعطيات من زاوية نظر جديدة بعد نهاية عهدتي في هياكل الحركة، وهي أضافة معروضة للنقاش والإثراء.   

حاولت في هذا البحث أن أقترب من فهم علاقة المصلحة الوطنية بالمصلحة الحزبية، مستصحبا تجربة الشيخ محفوظ نحناح وحركة مجتمع السلم بهذا الصدد. 

ألزمني المطلب العلمي أن أضع أولا إطارا تعريفيا لمعنى الحزب والمصلحة الحزبية، ومعنى المصلحة الوطنية وسياقاتها الفكرية والفلسفية. 

فتطرقت إلى مفهوم الحزب في السياق القرآني، وكيف أنه يتناول عبارة الحزب في سياق سلبي كقوله تعالى في سورة المجادلة: (( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ـ 19)) وفي سياق إيجابي كقوله سبحانه في سورة المجادلة: (( أؤلئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون ـ 22))، ثم شرحت أن الحزب هو تنظيم بشري يتحزب فيه أفراده ليقوّي بعضهم بعضا وليتعاونوا على غاية ما، فيكون الحزب صالحا إذا كانت الغاية صالحة، ويكون فاسدا إذا كانت الغاية فاسدة. 

ولا نجد في تراثنا الإسلامي تأصيلا لمفهوم الحزب والتحزب أفضل مما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية (11/92)، فقد بين بكلام شاف كاف بأن الحزب وسيلة لفعل الخير ، ولكن لا يكون أبدا هو الشاهد على الحق أو القائم على الباطل لمجرد وجوده، فالحق يبقى حقا  وهو الشاهد على الحزب والباطل يبقى باطلا بمعزل عن الحزب، ولا تكون موالاة المتحزبين لبعضهم بعضا بالحق والباطل مراعاة للحزب، ولكن يحكم علاقاتهم مراعاة الحق والباطل،  فإن كان الحب والبغض في الحزب وليس في الحق أو الباطل فإن في ذلك انحراف بيّن عن الشريعة الإسلامية. 

ويحسن بنا مراجعة النص كما ورد في الفتاوى، يقول ابن تيمية: (أما لفظ (الزعيم) ؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وأنا بِهِ زَعيمٌ} ، فمن تكفل بأمر طائفة، فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك. وأما ((رأس الحزب))، فإنه رأس الطائفة التى تتحزب، أي: تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل ، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)

بعد ذلك عملنا على تعريف الحزب في المنظمات الدولية والقوانين الحكومية، وتبيين الأسس التي يقوم عليها الحزب، بما يميزه عن غيره من الأحزاب، من حيث الرؤية والبرامج والهياكل والحاضنة الاجتماعية، والوسائل التي يستعملها، والأدوار التي يقوم بها حين يكون في السلطة لخدمة المواطنين من خلال البرامج الحكومية، وأدواره حين يكون في المعارضة للتعبير عن أشواق ورغبات الشعب ومراقبة الشأن العام والضغط على السلطات للاستجابة لمطالبه. 

وبيّنا أوجه الاعتداء على الحزب، في وجوده وحقوقه المختلفة، وحقوق أعضائه،  وأساليب التضييق عليه بما يفقد مصالحه الحزبية فيؤثر ذلك عن المصلحة الوطنية. 

وفي تحديد مفهوم المصلحة الوطنية – ضمن الإطار التعريفي –  اتضح  أن هذا المصطلح لا معنى له في الدول الديمقراطية حين يتعلق بالنقاش السياسي الداخلي إذ لا يوجد فيها مجالٌ يُمنع بخصوصه النقاش السياسي، ولا سقفٌ لمعارضة السلطات الحاكمة، ولا حصانة من النقد لأي مؤسسة سيادية أو حاكم ولو كان رأس الدولة، سوى ما يتعلق أحيانا ببعض الإجراءات التي تُتخذ في ظروف أمنية استثنائية، أو في زمن الحروب،  ضمن ما يسمى ب”la raison d’état” التي تُترجم ب”المصلحة العليا للدولة” أو “مبررات الدولة” وهي إجراءات تتعلق أكثر بالسياسة الخارجية ونادرا ما تُتداول في الدول الديمقراطية في نقاش السياسات الداخلية. 

إنما تستعمل كلمة المصلحة الوطنية في النقاش الداخلي بشكل مبالغ فيه في البلاد غير الديمقراطية، وخصوصا الدول العربية، لتحصين النظام السياسي ورموزه وليس الدولة والبلد، في مواجهة نقد المعارضة، وإرباك هذه الأخيرة وتعقيدها. 

فهي عبارة استُعملت منذ نشأتها في عصر النهضة في أوربا في الإطار الخارجي في مواجهة الدول الأخرى، وتطورت من خلال كتابات العديد من الفلاسفة الغربيين الذين أسّسوا للمذهب الواقعي أمثال ميكيافيلي، وتوماس هوبس، وهانس مورغانتو وغيرهم. وقد اعتمد الملوك والأمراء الأوربيون هذا الاتجاه للتحلل من الأبعاد الدينية والأخلاقية في العلاقات الدولية، في الحروب بينهم وأثناء حركة الاستعمار وشن الحروب على الأمم الأخرى، كما استُعمل مفهوم ” المصلحة الوطنية” لتجاوز حدود المذاهب والاتجاهات الدينية المسيحية ابتداء من رئيس الوزراء الفرنسي أرمان دي ريشليو الكاثوليكي الذي تحالف مع بريطانيا البروتستانتية ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة الكاثوليكية في حروب الثلاثين سنة في القرن السادس عشر. ثم أصبح “المذهب الواقعي”  هو المذهب المهيمن والسائد في السياسة الخارجية الغربية، خصوصا في الولايات الأمريكية المتحدة، وخلت السياسة الدولية عن أي بعد أخلاقي بذلك في الزمن الراهن.

وفي الفصل الثاني المتعلق بالعلاقة بين المصلحة الشرعية والمصلحة الوطنية بيّن البحث أنه لا يجب ترك تحديد المصلحة الوطنية لأهواء الحكام ومصالحهم الشخصية، وإنما تُحدد المصلحة الوطنية بأمرين اثنين أولهما هدي الشريعة الإسلامية وما فيها من كنوز في دراسات “المصلحة الشرعية”، وثانيها بالتشاور والاتفاق الجماعي. 

أما “المصلحة الشرعية” فقد كتب فيها علماء الأمة، بشمول ودقة، أكثر بكثير مما كتبه الفلاسفة الغربيون في تحديد مفهوم “المصلحة العامة” منذ وقت مبكر في تاريخ التشريع الإسلامي إلى يومنا هذا. 

فقد اتفق علماء الأمة، كالغزالي وابن تيمية وابن قيم وغيرهم على أن ” مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكليفها، وتقليل المفاسد وتقليلها”  

وقسّموا المصلحة في الشريعة الإسلامية عدة أقسام للموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض، ومن ذلك تقسيم المصلحة من حيث اعتبار الشرع إلى مصلحة معتبرة شرعا ومصلحة ملغاة شرعا، ومصلحة مرسلة لا معتبرة ولا ملغاة، يُنظر إليها بمدى تحقيق مقصود الشارع، ومن حيث قوتها وأهميتها، وفق ما عرّفها الشاطبي،  إلى مصلحة ضرورية “لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، أو مصلحة حاجية “تحتاجها الأمة لانتظام أمورها على وجه أحسن للتوسعة ورفع الضيق، أو مصلحة تحسينية من قبيل التحسين والتزيين وهي ما كان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر في مرمى بقية الأمم، ومن حيث الشمول إلى مصلحة عامة تتعلق بجماعات في الأمة، كمصلحة فئة معينة أو أصحاب حرفة ما، أو مصلحة خاصة لشخص بعينه، كما يضيفه الطاهر بن عاشور في تعريفاته.

أما عن التشاور والاتفاق، فهو ما حددته الديمقراطية العصرية عبر مفهوم “العقد الاجتماعي” الذي يحدد الواجبات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم و”دولة القانون” التي يشرع فيها ممثلو الشعب، المنتخبون بحرية ونزاهة، ويعيش فيها الناس تحت سلطة القانون، حاكمهم ومحكومهم. 

وقد شدد الشيخ محفوظ نحناح على ذلك كثيرا حينما رأى التعسف الكبير الذي أبانت عليه السلطات الجزائرية في استعمال عبارة ” المصلحة الوطنية” فأطلق عبارة ” المصلحة الوطنية المتفق عليها”، مؤكدا بأن لا التزام بين الحاكم والمحكوم إلا بالمصلحة الوطنية المتفق عليها.

ثم انتهى البحث في هذا المحور إلى وضع معايير أساسية لتحديد “المصلحة الوطنية”  فذكر ، من جهة، ما يدخل فيها ولا يصح الاختلاف بشأنه، كالقضايا التي تتعلق بهوية البلد وثقافته، وبمصالحه الاقتصادية ذات النفع العام على البلاد والعباد، وما يتصل بأمن البلد وأمن السكان، وبالاستقرار الاجتماعي ووحدة البلد،  وما يضمن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية، وما يحمي الدولة و يحقق سلامة مؤسساتها، وما يمنع الفساد وكل أنواع الضرر والغش ومصادرة الإرادة الشعبية، وما يتعلق بصيانة السيادة الوطنية ومنع الخيانة والتبعية. وبيّن، من جهة أخرى، ما لا يدخل في المصلحة الوطنية، مما يُتحمل الاختلاف بشأنه، كالسياسات والقرارات والقوانين والبرامج الحكومية، وشخصية الحاكم وتصرفاته، في أي موقع كان، على المستوى المحلي أو المركزي، وما يتعلق بالتصرفات المهددة للمصالح الوطنية المذكورة أعلاه التي قد يتخذها الحكام، وما يتصل بالعلاقات العادية الداخلية والخارجية التي يقوم بها الأفراد والجماعات التي لا تهدد المصالح الوطنية المذكورة.  

في الفصل الثالث حرص البحث على التأكيد بأن المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية، وكما هي كل حقيقة قد يكون لها استثناء لا يقاس عليه. 

فما دام دور الحزب هو السعي للوصول إلى السلطة، وما دامت غاية السلطة هي تحقيق مصلحة البلاد والعباد، فإن الحزب هو من يجسد ذلك من خلال برنامجه وعمل أفراده الذين يختارهم الشعب لذلك، فالمصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية متداخلتان على هذا الأساس. 

وما يجعل عمل الحزب ينتهي إلى تحقيق المصلحة الوطنية هو ذلك التدافع الذي تؤطره الديمقراطية لكي يكون حضاريا ويضمن تداولا سلميا حقيقيا على السلطة، فإن غاب التدافع حلّ الاستبداد والفساد، حتى وإن وُجدت التعددية الحزبية كما هو حاصل في ديمقراطيات الواجهة. 

وبالرغم من أنه يصعب تصور وجود الديمقراطية في أنظمة الحزب الواحد فإن حزبا واحدا بداخله رقابةٌ على الشأن العام وتدافعٌ حقيقيٌّ حول الأفكار والبرامج والمصالح وتداولٌ فعليٌّ  أفضل من تعددية حزبية دون تدافع ودون رقابة على الشأن العام. ولهذا قد تفُضَّل أحاديةُ الحزب الواحد الصيني بواقع التدافع الحقيقي الحاصل فيه عن التعددية الحزبية الصورية في العالم العربي، التي تحكمها قوى فاعلة من خلف المشهد السياسي لا أحد يستطيع أن يسائلها.   

تؤدي الأحزاب أدوارا مفيدة جدا للأوطان من حيث استيعابها للخلافات وتوجيهها وجهة قانونية إيجابية، ومن حيث تمكينها للمواطنين من المشاركة في الشأن العام ونفع بلدهم بكفاءاتهم، ومن حيث تأهيل النخب وتدريبهم وتكوينهم بالمعارف والتجارب، وتفتيق قدراتهم بالفرص التي تتاح لهم، وصقل شخصيتهم بالقيام بالواجب وتحمل المسؤوليات، ومن حيث التوعية الشعبية ورفع مستوى الجماهير عبر الخطاب السياسي والتنافس على البرامج بين الموالاة والمعارضة، وشرح قرارات ومنجزات الحكومة أو كشف أخطائها وعيوبها وحالات الفساد. 

كما تؤدي الأحزاب أدوار الوساطة بين السكان والحكام، للاستفادة من الخدمات الحكومية ولحل الأزمات وتقريب وجهات النظر بما يحدد المشترك الوطني والتعارف والتفاهم، وأدوار الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية البرلمانية للدفاع عن البلد وبما يحقق مصالحه ويعرّف الغير به وبالفرص المتوفرة فيه في مجالات الاستثمار والتعاون الدولي وما يتصل بذلك. 

ومن أهم ما تقوم به الأحزاب دورها في رسم السياسات الحكومية وتوجيه القرارات الرسمية سواء ما تقوم به أحزاب الأغلبية بشكل مباشر، أو ما تقوم به أحزاب المعارضة بشكل غير مباشر عبر فرص التشريع البرلماني وأدوات الرقابة، ومن خلال وسائل الضغط الشعبي والإعلامي المختلفة، بما يجعل الأغلبية تحاول سحب البساط من منافسيها بتبني المطالب الممكنة. 

ويسجل التاريخ أن كثيرا من الأوطان نهضت بعزمات قيادات سياسية وحزبية نذرت نفسها لرقي بلدانها فكبرت بلدانها وكبرت هي معها. 

ومما يجدر التنبيه إليه أنه قد يحدث تعارضٌ بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية، فإن قدمت القيادات الحزبية في هذه الحالة المصلحة الوطنية تكون قد خدمت مصلحة حزبها، لما تمنحه إياه من مصداقية وسمعة طيبة سيستفيد منها لاحقا. 

غير أن هذا التعارض تعارض استثنائي، يحدث بشكل نادر في زمن الأزمات والحروب. فإذا طُلب في بلدٍ ما من الأحزاب أن تظل تقدم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، فالمشكلة في من يقود الوطن لا في من يقود الأحزاب، لأن استمرار أزمات الوطن دليل على فساد أو عدم أهلية من يقود الوطن، وتصبح المصلحة الوطنية في هذه الحالة منوطة بتغيير من يقود الوطن، وليس في إرهاق الأحزاب بالتخلي الدائم عن طموحاتها.    

وفي الفصل الرابع والأخير ، ركّز البحث على شخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، فذكر بنشأته وركائز بناء شخصيته، ومساهماته الدعوية، وسبقه في العمل السياسي، ومعارضة النظام السياسي الأحاديّ ونهجه الاشتراكي، معارضة صارمة أدت إلى سجنه، وعن مرحلة الثمانينات بعد خروجه من السجن وما تميز به في نهجه الدعوي ومنهجه السياسي المرن والمعتدل المتوائم مع الانفتاح السياسي في عهد الشاذلي بن جديد. 

ثم تم التطرق الى مرحلة التعددية وما صاحبها من استقطاب شديد، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، ومحاولاته، رحمه الله، رأب الصدع بالحوار عبر المبادرات العديدة التي أطلقها في اتجاه الأحزاب بكل توجهاتها والسلطة الحاكمة بكل تناقضاتها، من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وكيف أنه صار مقتنعا بضرورة العودة إلى مسار انتخابي جديد يفصل فيه الشعب في الأمر، خصوصا بعد فشل مبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، وفشل مبادرة الندوة الوطنية التي نظمها النظام السياسي، اللذين شارك فيهما مع ممثلين حزبه ثم انسحب منهما كلاهما لعدم توفر  إرادة اجتماع طرفي الأزمة. 

لقد دفع استحكام الأزمة الأمنية  الشيخ محفوظ إلى تغيير أولياته، بتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، وتأجيل طموحه الشخصي والحزبي إلى ما بعد الأزمة، فتبنى مقاربة المشاركة السياسية والدخول في مؤسسات الدولة، ابتداء من المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 1995 ومختلف الانتخابات  التشريعية والمحلية وفي  العديد من الحكومات، وذلك للمساهمة في وقف سيل الدماء وتحقيق الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، وبلور في هذا الإطار مقاربة التفريق بين النظام السياسي الذي يمكن معارضته عند الاقتضاء والدولة التي يجب صيانتها في كل الأحوال. 

وكان ثمة في هذا السلوك السياسي شيء من المصلحة الحزبية كذلك، من زاوية أنه كان يقصد رحمه الله  من المشاركة السياسية  المحافظة  على بقاء حزبه في الساحة، ولتجاوز مكائد  التيار العلماني الاستئصالي الذي استغل فرصة الأوضاع الأمنية للتحكم في دواليب الحكم، والمحافظة على مناضليه من التهديدات التي كانت تحيط بهم من جهات متعددة،   وصيانة الفرص المستقبلية لمشروع حزبه، وكذا تدرب مناضليه على تسيير الشأن العام ومحاولة التأثير من داخل مؤسسات الدولة. 

غير أن هذا النهج حورب من طرفي الصراع فقتل الإرهاب قرابة 400 فرد على رأسهم نائب الشيخ محفوظ ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله، واستُحكمت سياسات الإقصاء من قبل النظام السياسي عبر مسار التزوير المستدام، وإقصاء إطارات الحركة لأسباب سياسية، ومحاولة التضييق على وجود الحركة في المجتمع المدني ومختلف مكامن القوة في الدولة والمجتمع. 

لقد فاجأ الاحتفاء الشعبي الكبير الذي تمتع به الشيخ محفوظ رحمه الله في الانتخابات الرئاسية عام 1995 النظام السياسي الجزائري، فعمد إلى استعمال العنف في صناديق الاقتراع لتغيير النتيجة، ثم غيّر الدستور في العام الموالي لإخراجه رحمه الله من العمل السياسي وإضعاف فاعلية حزبه. 

لم تشفع  لدى النظام السياسي نفسية العفو التي تعامل بها رحمه الله، وصبره الطويل على التزوير المستدام في كل الاستحقاقات الانتخابية، وعدم اعتماده سبيل التهييج الجماهيري، وبحثه الدائم عن تطمين السلطات حتى تتقبله هو ومناضلي حركته وتسمح لهم بهوامش في المشاركة السياسية تتناسب مع حجمه الشعبي الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية عام 1995 بما يمكنه من المساهمة في تجسيد مطلب المصالحة الوطنية، ونهضة البلد. 

وفي الأخير أدرك عليه رحمة الله أن النظام السياسي القائم ليس شريكا يُعتدُّ به في العمل السياسي الوطني المشترك، ونظر إلى منعه من التشرح في الانتخابات الرئاسية عام 1999 أنه محاولة خبيثة لاغتياله سياسيا، ليس لمصلحة الوطن ومصلحة الدولة كما كان يتشدق به بعض المسؤولين في تبرير مسار التزوير، ولكن لمصلحة شخوص الحكام والمسؤولين، ولمصلحة تيارات علمانية منها من يشتغل لصالح الأجانب. ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فأنهت حياته السياسية رحمه الله إذ انتقم أصحاب القرار من إصراره على الترشح بما جعل إقصاءهم الظالم خادشا لشرعية انتخاب عبد العزيز بوتفليقة في عهدته الأولى خدشا لم يتقبله هذا الأخير أبدا، وقد تمثل الانتقام في طرائق عدة منها زحزحة الحركة من المرتبة  الثانية بعد التجمع الوطني الديمقراطي في برلمان 1997 إلى المرتبة  الرابعة بعد حركة الإصلاح الوطني في الانتخابات التشريعية عام 2002، كما كان تراجع الزخم الشعبي الذي ظهر في هذه الانتخابات مؤلماً له كثيرا، رغم رباطة جأشه التي رأيتها فيه شخصيا حين حدثته بعد النتائج عن تفوق حزب الشيخ عبد الله جاب الله فقال لي: (( أحمد الله أن الذي تجاوزنا حزب إسلامي)). 

لقد أثرت هذه الأحداث المؤلمة كثيرا في قناعاته فبدأ يُفكر في الابتعاد التدريجي عن نظام الحكم، ومن دلائل ذلك ما أشهد به أمام الله مما كان يقوله لنا في الجلسات المغفلة عن انحرافات السلطات الحاكمة الخطيرة بما كان لا يسمح حتى في التفكير فيه. ولئن تجاوز الشيخ محفوظ نحناح عن الذين أقصوه عام 1995 وسمح في حقه، فإنه لم يتجاوز عن الذين أقصوه عام 1999 ، وأظهر سخطه عما حدث له كما لم يفعل مع ما حدث له من قبل، وسمعته بنفسي يعبر عن ذلك لبعض المسؤولين الكبار في الدولة، بل إنه أخذ ينظّر لتغيير الخط السياسي من خلال تأليف كتاب تحت عنوان “الدولة وأنماط المعارضة” ومن غرائب ما حصل بعد وفاته اختفاء مسودة هذا الكتاب وتغييبه نهائيا.  

أضرّت كل تلك الأحداث بمعنويات الشيخ محفوظ وبصحته رحمه الله، فلم يصبح بتلك البشاشة والأريحية في التعامل المعروف بها، وصار يتغيب عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني، وفي سنة 2003 توفاه الله رحمه الله رحمة واسعة. 

بعد وفاته ابتليت حركته بالانشغال بنفسها ومعالجة حالة الانشقاقات والخلافات الكبرى التي وقعت فيها،  ومن دلائل صرف الاختلافات عن الحكمة والعقلانية السياسية  شدة الارتباط بالنظام البوتفليقي الذي باتت كل المؤشرات تدل على إفلاسه واستحالة إصلاحه من الداخل، وقد كان الخطأ الفادح الناتج عن ذلك النهج ( الذي لا علاقة له بنهج الشيخ محفوظ) فتح العهد الرئاسية لصالح بوتفليقة عام 2008. 

لم ينفع النهج الذي اتّبعته الحركة المصلحة الوطنية حيث رأينا جميعا المآل الذي وصلت إليه البلاد وكيف سيطرت عصابات خطيرة على القرار، لم يخلصنا من تغوّلها سوى الحراك الشعبي، كما لم ينفع ذلك النهج المصلحة الحزبية حيث عرفت الحركة انشقاقات خطيرة، وتراجعا في الانتشار وفي الرمزية وفي همة وحماس المناضلين،  وضاعت منها مؤسسة الشبيبة والمؤسسة الطلابية وعرفت مؤسستها الاجتماعية هزات وانشقاقات، وتراجعت في الانتخابات التشريعية عام  2012 رغم التكتل الإسلامي الذي أقامته مع حركة الإصلاح والوطني وحركة النهضة، حيث لم يحقق “تكتل الجزائر الخضراء” النتائج المرجوة على شاكلة نتائج التيار الإسلامي في العالم العربي في أجواء الانتفاضات الشعبية. 

لقد رسّخ هذا النهج – المخالف للتوجهات المؤسسة للحركة الإسلامية في الثمانيات-  توالي الأزمات الخارجية والداخلية منذ بداية التسعينيات، وشعور الجميع بأهمية الحماية داخل مؤسسات الدولة،  حتى صار  مكونا جينيا  يتحكم في فكر وتصرفات أغلب إطارات الحركة. وأحسن من عبر عن هذه الحالة عبد الحميد مهري رحمه الله بقوله: ” لما أصبح الجزائري  يشعر  بالطمأنينة عند رؤيته الدبابة في الشارع معنى ذلك أن الأزمة صارت عميقة جدا” وأستطيع أن أقول أن النظام السياسي نجح في تحويل الأزمة لصالحه، كنظام سياسي،  دون أن ينجح في خدمة البلد من حيث الحريات والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتطور العلمي والتكنولوجي، والحضاري بشكل عام.

ولكن استطاع الربيع العربي عام 2011 ، وانهيار منظومات الحكم المستبدة والفاسدة في عدد من الدول العربية، وكذلك التحركات الشعبية في جانفي من نفس السنة بالجزائر أن يهز  تلك القناعات التي ترسخت في الحركة فجعلت عموم المناضلين يشعرون بأنهم في المكان الخاطئ من التاريخ فسارعوا إلى مغادرة الحكومة بعدما تأكد لمجلس الشورى الوطني أن الإصلاحات التي وعد بها بوتفليقة أُفرِغت من محتواها، وفق ما بيّنه البيان الرسمي للحركة، والبيان الجماعي لتكتل الجزائر الخضراء، ووفق التقرير السلبي جدا عن محصلة التحالف الرئاسي، الذي قدمه رئيس الحركة للمؤسسات وحتى للرأي العام آنذاك. ويكفي النقر في محركات البحث الإلكترونية للحصول على هذه النتائج والتقارير. 

عندما وصلت الحركة إلى هذه الخلاصة، خرجت من الحكومة عام 2012، ثم جاء  مؤتمر 2013  فغيّر النهج السياسي واختار القيادة التي تناسب الخط الجديد، وثبّت الرؤية السياسية التي صدّقتها تقارير الفرصة الأخيرة قبيل الخروج من الحكومة، بتأثير من الأحداث الكبرى التي هزّت القناعات هزّا عنيفا،، مثل  الربيع العربي عام 2012 ثم الحراك الشعبي عام 2019. 

شرعت الحركة ابتداء من 2012 – عند قرار الخروج من الحكومة ثم ابتداء من المؤتمر الخامس الذي حمل شعار ” حركة تتجدد وطن ينهض”  – في إعادة النظر في فهم مدلولات العلاقة بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بالتأكيد بأنه لا يمكن للوطن أن ينهض دون أن تتجدد الحركة في رؤاها وخططها وبرامجها ومواقفها وسياساتها وخطابها، ولا يمكن أن تتجدد  الحركة دون صناعة البيئة التي  ينهض بها الوطن، من خلال الضغط على النظام السياسي، عبر  العمل الشعبي والخطاب الإعلامي والرقابة السياسية والبرلمانية، وغير ذلك. 

ومن تلك اللحظة وعلى أساس هذا الشعار شرعت الحركة في إحداث ثورة على مستوى الفكر  والاستراتيجيات  والمقاربات السياسية والدعوية والتنظيمية والتكوينية، عبر إعادة توزيع الوظائف  الفكرية والسياسية، والدعوية والتربويّة، والاجتماعية والمجتمعية، ثم عبر مقاربة المقاومة السياسية في الخط السياسي والتخصص الوظيفي في الخط الاستراتيجي، فحرّكت الساحة السياسية عبر تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي منذ 2015  وكانت هي الطرف الأساسي في تنظيم تجمع المعارضة التاريخي في مازفران، وكان من نتائج ذلك على مستوى المصلحة الحزبية أن الحركة حققت نموا في النتائج الانتخابية عام 2017 واسترجعت الولايات التي ضاع فيها تمثيل الحركة في انتخابات  2012، ولكن دون المأمول بسبب عدم اكتمال الصورة الجديدة للحركة في ذهن الناخبين والعزوف الانتخابي العام الذي تأثرت به نتائج كل الأحزاب من حيث عدد الأصوات، ولكن وقع النمو اللافت بالضِّعف في الانتخابات التشريعية عام 2021 بزيادة 34 مقعدا على انتخابات 2017، وهي النتيجة التي اقتربت بها الحركة لأول مرة من أعلى نتيجة عام 1997 (69 مقعدا) في زمن الشيخ محفوظ في الوقت الذي كانت فيه الحركة موحدة وكان الإقبال الشعبي على الانتخابات كبيرا. وقد فسَّرتُ هذا الاقتراب من النتيجة التي حققها الشيخ محفوظ كرسالة للمناضلين بأن هذا هو النهج الأصلي الذي بدأت به الحركة من منابعها الإسلامية الأولى، والذي حاول الشيخ محفوظ الرجوع إليه قبيل وفاته، كما شرحنا ذلك أعلاه، ولم تسعفه المنية للأسف الشديد لتحقيق ذلك إذ غادر قبل أن يشرح الخريطة وصار كل واحد من أتباعه يفسرها وفق قناعاته وموقعه وطموحاته. 

أما النتائج التي تحققت لفائدة المصلحة الوطنية فهي حالة الوعي التي تشكلت لدى الجزائريين عبر العمل السياسي المشترك والتي فجرت الحراك الشعبي الذي خلّص الجزائريين من المجموعات المافياوية (التي سماها الحراك “العصابة”) التي تسلطت على البلد أثناء العهد البوتفليقي. 

لم تكن النتائج الإيجابية التي حققتها الحركة بعد تغييرها خطابها وخطها السياسي بين 2013-2023   تتعلق بالانتخابات فقط، فقد تميزت بتحسن رمزيتها وارتفاع سمعتها ومعنويات مناضليها، كما تحقق لها استقرار غير مسبوق ونجحت في إنجاز الوحدة الاندماجية مع جبهة التغيير واستمر النقاش حول موضوع الوحدة مع الحركات الإسلامية الأخرى، ونمت هياكلها التنظيمية، واسترجعت مؤسستها الطلابية واستقر وضع مؤسستها الاجتماعية وأسست فضاءات مجتمعية أخرى بثلاث أضعاف غطت وظائف أساسية للحركة كانت متروكة أو ضعيفة، استطاعت أن تنتشر في كامل التراب الوطني وبعضها وصل الى العالمية، وعاد إلى صفوف الحركة أعداد كبيرة من القادة والمناضلين الذين تركوها، بسبب الوحدة أو للعمل في اختصاصات يميلون إليها صارت متوفرة في المؤسسات الجديدة، كما أن الحركة استرجعت مكانتها الدولية وصار  رجالها قادة في منظمات عالمية مرموقة في العديد من المجالات، وباتت في طليعة الداعمين للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي. 

ويبقى السؤال مطروحا، في الأخير، هل هذا التغيير والتطور الإيجابي الذي وقع في الحركة والذي ثمنه بما يفيد الإجماع مؤتمر 2023 هو تغيير عميق نفذ إلى المركّبات الجينية للحركة التي صنعتها الأزمات فجعلتها تنحو تلقائيا نحو دوائر السلطة؟ أم هو مجرد طفرة شديدة التأثير ولكنها عجزت عن النفاذ إلى المركبات الجينية المحصنة في أعماق نفوس وعقول إطارات الحركة، حتى أولئك الذين شاركوا في قيادة الحركة بين 3013-2023؟ وهل سيتلاشى أثر الطفرة بعد مغادرة رئيس الحركة الذي أحدثها وقادها؟ وهل ستعود الحركة عندئذ لأحضان النظام السياسي، وتندمج فيه من جديد، رغم استمرار حالات الفساد والفشل في تحقيق نهضة البلد، ورغم الأدلة الألف بأن التغيير من الداخل ليس ممكنا، خصوصا بعد فشل مفاوضات تشكيل الحكومة التي أبان فيها النظام السياسي بأنه لم يتغير شيء من  عقليته الإقصائية ونزوعه للهيمنة والتحكم وإضعاف المنافسين والشركاء؟ وخصوصا بعد النتائج الإيجابية، استراتيجيا وسياسيا، التي حققها النهج المعارض المتبصر لصالح المصلحة الحزبية للحركة والمصلحة الوطنية للجزائر؟

إن الأيام والنتائج ستبين، ولئن كان الربيع العربي قد أدى دوره في حدوث صحوة المناضلين في 2011 كما بيّناه أعلاه، كحقنة تطعيم أولى ضد الاستبداد، ولئن كان الحراك الشعبي عام 2019 قد أكد التطعيم كحقنة تذكير  فإن مبررات حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية على ذات المنوال لا تزال قائمة، والخشية أن تجد الحركة نفسها مرة أخرى في المكان الخاطئ من التاريخ، فلا تسلم الجرة في كل مرة! 

توينبي وقصة تفكيك الدولة الوطنية (1).

لا يوجد بلد عربي يتمتع بمساحة معتبرة غير مهدد بتفكيك الدولة الوطنية: الجزائر مهددة، المغرب مهدد، ليبيا مهددة، مصر مهددة، السودان مهدد ( مرة أخرى)، السعودية مهددة، العراق مهدد، سوريا مهددة، الأردن مهدد، أما الدول الصغيرة فهي مهددة بالابتلاع . إنها كلها مهددة، ونحن على أعتاب سايكس بيكو جديد، لا قدّر الله، والخرائط الجديدة لبعض الدول مرسومة، وبعضها معلن. وكل حكام هذه البلدان لا يُقصّرون في إخافة شعوبهم من هذه المخاطر، وكل حاكم يوهم شعبه بأن بلده هو البلد الوحيد المهدد، لما يملكه – بزعمه – من خصائص لا توجد عند غيره! وكل الأحزاب والمنظمات التي تريد التقرب من أصحاب القرار يتفنون في تكرار الخطاب الرسمي بخصوص موضوع التهديد. وكل من يريد أن يقول كلمة في نقد أو نصح الحكام في ما يحفظ البلدان حقا من التهديد، أو يعبر عن وجهة نظر أخرى يُرفع في وجهه – من السلطة والأحزاب والأقربين – هذا الشعار: “خطر تفكيك الدولة الوطنية”، وربما يُتّهم بأنه متواطئ مع القوى الأجنبية التي تهدد الدولة الوطنية.وإذا سألت: من الذي يهدد الدولة الوطنية؟فالسمفونية جاهزة: هي قوى خارجية متربصة بالوطن، ولا أحد يعطيك جوابا شافيا كافيا عن سؤال: من هي بالضبط هذه القوى الأجنبية؟ وتارة يتم التلميح إلى قوى هي الأقرب في الواقع لمن بيدهم الحكم، وتتمتع – وأزلامها – بامتيازات لا يعطيها لهم إلا الحاكم، ولا يوجد من يُلاحَق ويُضطهد في هذا الوطن المهدد أكثر ممن يخاصم تلك القوى الخارجية، فعليا، فكريا وسياسيا وبشكل علني. أما إذا سألت عن حال الجبهة الداخلية وعن التحصينات الوطنية: ما الذي، وكيف، ومن الذي، جعلها تضعف إلى الحد الذي جعل الخطر وشيكا؟يقال لك عليك أن تسكت وتلغي رأيك وآمالك وتصطف وراء الحاكم، فلا رواية في زمن التهديد سوى رواية الحاكم! إن وقوع الدول تحت التهديد مسألة قديمة قدم وجود الدول، لا توجد دولة ليست مهددة في التاريخ، ولم تتوقف الخرائط عن التحرك والتغير عبر الزمن، وفي كل زمن يوجد غالبٌ يُغيّر الخرائط لصالحه ومغلوبٌ تتغير على حسابه. فالسؤال الأهم كيف تكون غالبا وكيف تكون مغلوبا؟ إن التهديدات الخارجية حقيقية، وهي طبيعية، والتصدي الجماعي لها واجب،. ولكن: والله الذي لا إلا هو : إنه لا يوجد من خطر يهدد البلدان سوى خطر الاستبداد فيها.كنت دائما أقول في زمن العهد البوتفليقي بأنه لا خطر على البلاد غير النظام السياسي، وكان الكثير يعدُّون حديثي راديكالية، حتى جاء ” الحراك الشعبي المبارك” فأكد جميع من كان يتهمني مقولتي، ثم ظننا أن البلاد ستقوى بعد الحراك فتسقط على أسوارها كل التهديدات الخارجية فإذا بذات السمفونية تعود، وعلى الجميع أن يسكت فلا حديث غير حديث الحاكم وأعوانه وأزلامه. للأسف الشديد حين تُمارس السياسة بلا فكر ولا علم، ويتصدر المشاهد العقول البسيطة أو المحكومة بالأهواء المقودة بالانتهازية تغيب الحقائق وتتوارى المعايير الحقة التي ثبتها العلماء في الحكم على الأحداث والظواهر. إنه لا يوجد عالم من العلماء الكبار الذين درسوا تاريخ ومجتمعات الدول والأمم والحضارات منذ فجر التاريخ إلى الزمن الراهن لم يتوصل إلى النتيجة الحاسمة: إنما تتهاوى الدول والأمم والحضارات من الداخل. بإمكاني أن أستحضر قانون الأطوار الخمسة والأجيال الثلاثة للعلامة العظيم عبد الرحمن بن خلدون في رسمه مسارات قيام الدولة وأفولها، وحديثه عن “جيل الهدامين” في قصور الحكم الذي يُجهزون على الدولة. وبإمكاني أن أتحدث عن المراحل الثلاث ( مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة) للمفكر الفذ مالك بن نبي وكيف تسقط الحضارات حين يقود البلدان نخب القلة العاجزون الذين تقودهم غرائزهم، وباستطاعتي أن أذكر توصيف ويل ديورانت الموسوعي للدول والحضارات التي تغلبها قوى أخرى من الخارج وتبتلعها لما تتآكل من الداخل ، ولكن سأكتفي بتلخيص مفيد لفكرة المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير أرنولد توينبي، التي تتفرع عن عبارته المشهورة “لا تُقتل الحضارات بعدوان خارجي ولكنها تنتحر انتحارا”
يتبع ….

توينبي وقصة تفكيك الدولة الوطنية (2)

يفسر توينبي نشوء الحضارات من خلال نظريته المشهورة “التحدي والاستجابة”، حيث اعتبر أن الإنسان والأمم والشعوب تتجاوب مع التحديات الخارجية إما بالانكفاء على الذات والتسلح بالماضي وتقاليد السابقين فتضعف وتنضوي، أو تعترف بحقيقة التحدي وتواجهه للتغلب عليه بالإبداع إلى أن تصبح أقوى منه، فتنشأ الحضارات في أي شعب حين يقبل أفراده التحدي، وتسقط حين تتوقف الاستجابة التلقائية للتحديات المستجدة.

ويؤكد أن الاستجابة للتحدي تكون عبر فئة قليلة إبداعية من داخل المجتمع الذي يواجه التحدي يسميها “الأقلية الخلاّقة” (creative minority)، وهي طبقة قيادية ملهمة تتوصل إلى تقديم الإجابات المناسبة للمشاكل والأزمات التي تعترض بلدانهم ثم تتبعهم الأغلبية عن طريق القدرة على المحاكاة (Faculty of mimesis) التي تمثل السبيل الغالب في عملية الانقياد الاجتماعي، وهو ما يمكن أن نسمية “أثر القدوة في صناعة التيارات الاجتماعية”، و في ذات السياق يوضّح أن التأثير الذي تصنعه “الأقلية الخلّاقة” ليس تأثيرا ماديا، ولكن له طبيعة روحية وفكرية عميقة تصنع قوة داخلية خفية جبارة تدفع للإبداع والتفاعل النشط مع المحيط الخارجي.  

ويرى توينبي أن الحضارة تبقى تنمو وتتوسع ما دام ثمة تواتر في بروز “أقلية خلاقة” من قيادة روحية أو نخب ملهمة في كل مرحلة من مراحل الدورة الحضارية تستجيب للتحديات المتتالية، بغرض إعادة بناء الداخل وفق استجابات حضارية جديدة لا تعتمد على الإكراه والتكرار والتقليد، ولكن على المحاكاة المجتمعية الإيجابية التي تضمن توسع المشاركة في البناء الحضاري.

ويبدأ التراجع الحضاري، عنده، حينما تُفقَد النخب المبدعة، وتغيب الطبقات القيادية الملهمة القادرة على الاستجابة للتحولات والتحديات المستجدة ويطفو على المشهد القيادي أقلية مسيطرة، ضمن ما يسميه استبدال “الأقلية الخلاقة” (Creative Minority) التي كانت تتبعها الأغلبية بقناعة، ب ا”لأقلية المسيطرة” (Dominant Minority) ، التي تتشبث بالسلطة والانتفاع بالمزايا الحضارية السابقة دون إبداع وتعمل على فرض نفسها بالقوة بدل الإلهام، وفرض اتباع الناس لها دون استحقاق. فينتج عن ذلك انسحاب الأغلبية وتوقف ظاهرة “المحاكاة الحيوية” (Mimesis)، وبداية بروز فئة من المنشقين (Schismatics) تحاول البحث عن حلول للتحديات، ومنها تحدي مواجهة النخب الحاكمة المهيمنة، فإن كانت تلك الفئة المعارضة مبدعة ومُجددة تتوصل إلى الاستجابة للتحديات  وتؤول الأمور إليها وينبعث فجر  جديد من قلب تلك الحضارة، وإلا يتجه المجتمع نحو الصراعات، التي تعالجها “الأقلية المسيطرة” بالقوة والعسكرة والانضباط القسري، والشوفينية الجوفاء، والاعتماد على  الدين  كطقوس خالية من أي أثر روحي أصيل، وتحويل الطاقة الدينية إلى مؤسسة تابعة لا أثر لها في الفعل الحضاري، و مختلف المؤسسات إلى قشور مؤسسية فارغة غير منتجة.

يؤكد توينبي بأن الحضارات لا تُقتل (من الخارج) ولكنها تنتحر (من الداخل)، ويبدأ التراجع من المركز وليس الأطراف وذلك بتوقف الإبداع لدى النخب، وانطفاء أنوار القيم المؤسسة للحضارة، وانتشار الظلم والقمع، والصراعات والانشقاقات وتشكُّل مجموعات داخلية (Internal Proletariat ( تابعة، سلبية ومهمّشة، ومُقلدة، وغير مشاركة في الفعل الحضاري، ومجوعات خارجية (External Proletariat) على هامش الحضارة تتسم بالفقر والتخلف والحسد والحقد على القوى المهيمنة الظالمة. وفي مرحلة نهاية الدورة الحضارية تحاول الأقلية المتحكمة فرض نموذج سياسي مركزي (Universal State)، يستعمل فيه القانون والمؤسسات لضبط المجتمع، والشرعية القسرية بدل الإقناع والتأثير وشرعية الإبداع والإنجاز، والحفاظ على الاستقرار الشكلي بهيبة الدولة والهالة المؤسسية لمنع التمرد والانقسام، مستشهدا بأمثلة من الحضارات والدول القديمة في فترات انحطاطها، كالإمبراطورية الرومانية، وأسرة الهان الصينية، والخلافة العباسية في بغداد، والامبراطورية المغولية بعد تشكلها. ويؤكد بأنه حين تفشل الدولة المهيمنة عن بعث المعاني الأخلاقية والإبداعية وعن تقديم أي مشروع إنساني، تظهر ملاذات روحية للجماهير غير رسمية، تملأ الفراغ المعنوي الذي تتركه النخبة المتكلسة والدولة المسيطرة، يبحث الناس من خلالها عن معاني روحية قدرية يتشبثون بها أثناء مرحلة الانهيار وعجز الدولة عن تحقيق المعنى رغم قدرتها على التحكم والسيطرة، ويمكن لهذا الملجأ الروحي الجديد أو المتجدد أن يكون بديلا خلاقا للدولة المسيطرة  إذا اعتمد الإبداع والتجديد القيمي فتكون حاضنة الانبعاث الحضاري، أو يزيد الدولة القائمة تكلسا وجمودا ويساهم أكثر في الأفول ونهاية الروح الحضارية. ويضرب المثل في هذا الشأن بالديانة المسيحية بعد انهيار روما، وبروز الصوفية الإسلامية في أواخر العهد العباسي، والبوذية في حضارات شرق آسيا.   

إن التحديات التي تجذب الجزائر نحو الأسفل كثيرة ومتنوعة، مثلها مثل الدول العربية الأخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودولية، سجلتُها في كتاب لم يصدر بعد عنوانه ” ما بعد الحراك” سأنشر بعض فصوله في الأسابيع المقبلة بحول الله،  يقابل كتاب سابق صدر لي بعنوان “ما قبل الحراك: في التيه الحكومي وعن البدائل المنشودة”.

للأسف الشديد  لم تجد هذه التحديات الكبيرة قيادة خلاّقة (Creative Minority) تبدع في الاستجابة لها. ومع استدامة التحديات وعدم رفعها، منذ عقود من الزمن، صارت مشاكلنا معقدة ومهيكلة، تجاوز إمكان حلها الحدود الطبيعية للإبداع. وبسبب غياب القدوات السياسية، لم ينشأ في الجزائر تيار يميل لمحاكاة القادة محاكاة عاقلة مبنية على الثقة (Faculty of mimesis)، ونشأ في المقابل أقلية مسيطرة على الحكم ((Dominant Minority) متشبثة بالسلطة وامتيازات ومنافع الحكم، تستعمل القوانين واللوائح والمساطر والمؤسسات للسيطرة على الجمهور، ومع تعمق السيطرة نشأت مجموعات شعبية ونخب مجتمعية تدور في فلك الحكم  لجأت إلى دوائر الأمان والاستسلام والتقليد الأعمى لخطاب وتصرفات الحاكم والخضوع والرضا بالعيش في إطار الحد الأدني من ظروف الحياة، وما تتيحه السلطات من هوامش ضيقة في مجال الحريات والحركة الاقتصادية والفعل الاجتماعي ضمن حالة عجز كامل عن المشاركة في أي فعل حضاري (Internal Proletariat (، يقابلها فئات شعبية عريضة وطبقات واسعة من النخب انسحبت  من المشاركة  في قضايا الشأن العام وصناعة المستقبل، انكفأت على نفسها تعبر في الدوائر الضيقة المحلية عن سخطها من ظروفها المعيشية الصعبة وعن أحقادها على النخب الحاكمة ومن يساندها. وكنتيجة حتمية برزت مجموعات معارضة لنظام الحكم (Schismatics) متعددة المشارب والتوجهات، أغلبها يعمل خارج الإطار الرسمي. ولم تجد السلطات الحاكمة من حل لمواجهة هذه الأوضاع سوى فرض نمط الحكم المركزي المتشدد القائم على التحكم والسيطرة.

لا يدري إلى أين سينهي هذا الوضع، هل سيبرز من القوى المعارضة أقلية خلاقة جديدة، تحمل مشاريع إبداعية جادة، تصنع تيارا شعبيا متأثرا برؤية المرجعيات الجديدة فيبزغ فجرها ونقيم دولة قوية من الداخل تقهر كل التهديدات الخارجية، أم أن الأقلية المسيطرة ستواصل جرنا إلى الأسفل في غفلة تامة من الأغلبية التابعة النائمة، فيكون انتحارنا داخليا، ونفكك دولتنا الوطنية بأيدينا، ونسقط بإرادتنا جميعا بين يدي القوى الخارجية.