دولة نوفمبر التي نريد

نوفمبر ومسيرة صناعة الشخصية الجزائرية؟
إن عظمة الثورة التحريرية لا تكمن فقط في دحر الاستعمار وتحقيق هدف الاستقلال الوطني، إن ثورة نوفمبر بنت مشروعا حضاريا متكاملا، وهوية وطنية واضحة، صنعت شعبا بكامله، بفكر جديد، ونفسية جديدة ومشروع جديد. لم يكن الجزائريون أبدا بعد الثورة مثل ما كانوا عليه قبل الثورة التحريرية.

حينما وطئت أقدام الاستعمار أرض الجزائر كان أغلب الجزائريين غافلين عن شأن الحكم والسياسة والعلاقات الدولية، وكانت حماية الثغور هي شأن الحكام الأتراك الذين كانوا يدينون لهم بالولاء ضمن ولائهم للخلافة الإسلامية العثمانية، لم تكن لهم علاقة بالشأن العام، ولم يكن لهم دراية بما يحدث خارج مناطقهم وقبائلهم ولا ما يحاك ضد بلدهم في الساحة الدولية. غير أنهم حينما رأوا عساكر الفرنسيين على أرضهم بعد هزيمة الداي حسين انطلقوا في محاربة الغزاة فجعلوا بسط نفوذ المحتل على كل الأراضي الجزائرية يستمر سبعين سنة، عبر مقاومة كانت شاملة في أنحاء الجزائر ولكن كانت مشتتة وغير منضبطة خصوصا بعد انهزام الأمير عبد القادر في الغرب والوسط، والحاج أحمد باي في الشرق، مقاومة تعاملت معها الجيوش الاستعمارية بلا شرف ولا إنسانية حيث ابتكرت أسوء أنواع الجرائم في حق المدنيين الجزائريين لإضعاف المجاهدين في جبهات القتال. وعندما انتهت المقاومة الشعبية في بداية القرن الماضي عمدت فرنسا إلى إلغاء المقومات التي جعلت هذا الشعب البطل يقاوم في كل شبر من أراضيه ويقدم كل تلك التضحيات. فكانت الحرب شرسة على دينه ولغته وعناصر وحدته الاجتماعية، بل حتى على آدمية كل فرد منه وعلى وجود هذا الفرد ك”إنسان” في بلده، فتمت مصادرة أراضيه، وأُخذت الأوقاف وألغيت المقومات الاقتصادية، وعطل التعليم وألغيت المدارس وحوربت اللغة العربية وكل ما يتعلق بالمقومات الثقافية، حتى تحول أغلب الشعب الجزائري، مع مرور الزمن، إلى شعب مدمّر الكيان يسيطر عليه الفقر والجهل وتنهشه الأمراض والمجاعات والأوبئة، ثم اتجهوا إلى إفساد عقله وفكره بتشجيع الشعوذة من جهة والقدرية والفهم المنحرف للدين بتحويل الزوايا والطرق الصوفية السنية التي حاربته باسم الدين إلى طرق صوفية للشعوذة يقودها عملاء له يشجعون الناس على الاستسلام لفرنسا كقدر رباني لا يجوز الاعتراض عليه، ومن جهة أخرى بخلق نخبة قليلة متعلمة في مدارسه مندمجة كلية في ثقافته متنكرة للثقافة الجزائرية العربية الإسلامية، تستعملها كطابور خامس لتفريق الجزائريين ضمن استراتيجية “فرق تسد” الاستعمارية، ومع هذا كله حاولوا بشتى الوسائل تغيير دين كثير من الجزائريين وتحويلهم إلى النصرانية أو اللادينية.

لقد أدت هذه المخططات إلى صناعة شعب مدمر، عاجز، جاهل، خائف، خانع ومستسلم، ولم يكن ممكنا البتة لذلك الشعب أن يقاوم الاستعمار في تلك المرحلة، أو أن يسأل عن مصيره وعن حقه في أرضه وحماية هويته. ولو لا أن الله سخر لهذا الشعب المغلوب حينذاك نخبة وطنية غيرت سبل المقاومة، فاتجهت للعمل السلمي الثقافي والسياسي وفق ما كان متاحا لكنا اليوم كما هي كثير من الدول التي اندمجت كلية في ثقافة المستعمر إلى الأبد، خصوصا في الدول التي استعمرتها فرنسا في القارة الافريقية.

منذ أن هُزمت المقاومة الشعبية المسلحة وبدأ الاستعمار الفرنسي في مخططاته الاستدمارية المتنوعة والمتعددة بدأت تتشكل الحركة الوطنية السلمية، وأدى تطورها إلى بروز ثلاث منظمات كبرى هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كانت تركز على إعادة بناء الإنسان الجزائري من خلال نشر التعليم الحر والنشاط الثقافي العربي الإسلامي بشتى الوسائل المتاحة، وحزب الشعب وامتداده في حركة انتصار الحريات الديمقراطية الذي كان يطالب بالاستقلال والانفصال التام عن فرنسا واستعمل في ذلك كل الوسائل التوعوية السياسية المتاحة ومنها الانتخابات، والاندماجيون الذين كانوا يناضلون من أجل حقوق الجزائريين والاعتراف بخصوصيتهم الثقافية ضمن الجنسية الفرنسية وإنهاء قانون الأهالي العنصري وكان نضالهم سياسيا حقوقيا يعتمد كذلك على الانتخابات.

لقد كان هذا النضال الوطني السلمي، مختلفا في الأهداف والوسائل، ووقعت داخله حالات اختلاف جوهرية خصوصا ما يتعلق بالإدماج الذي كانت ترفضه جمعية العلماء وحزب الشعب حتى انتهى كلية في مطالب الحركة الوطنية في آخر عهدها عشية الثورة النوفمبرية. غير أن ذلك النضال كان رجاله متعايشين ومتعاونين بل ومتكاملين في كثير من الأحيان، وقد حقق نتائج كبيرة في إعادة صياغة الشخصية الجزائرية، وأخرج للوجود عددا معتبرا من المناضلين بقدر كبير من الوعي والكفاءة. غير أنه لم يصل أبدا إلى صناعة البعد الوطني الشامل في الشعب الجزائري بكامله حتى جاءت الثورة التحريرية النوفمبرية المباركة.

لقد أبلت الحركة الوطنية بلاء كبيرا قبل نوفمبر 1954، وقد مثلت مرحلة ضرورية في نضال الشعب الجزائري، وبنت أرضية وحاضنة مهمة لاندلاع الثورة التحريرية، ولكن تعنت الاستعمار الفرنسي أفسد كل حساباتها وأبطل صدقية منهجها السلمي وأدخلها في أواخر أطوارها في حالة بادية من التيه والخلاف وتراجع المصداقية. وقد مثل التزوير الانتخابي الصورة الواضحة لدجل الاحتلال والدليل القاطع على عدم فاعلية العمل السياسي السلمي، وكان ذلك التزوير هو السبب الرئيسي في عدم انخراط عموم الجزائريين في اللعبة السياسية، ثم جاءت مجازر الثامن من شهر ماي 1945 فأعطت الإشارة النهائية لضرورة تغيير سبل الكفاح وعدم إمكانية تحقيق الاستقلال بالطرق السلمية، مهما بذل الجزائريون من جهود في محاورة فرنسا، ومهما كان استعداد ” بعضهم” في الاندماج في ثقافتها ومهما كانت تضحياتهم في الدفاع عنها في حروب طاحنة، منها الحربين العالميتين.

أدت هذه الظروف، وظروف أخرى إلى اندلاع الثورة التحريرية النوفمبرية المباركة، على يد مجموعة قليلة تدربت على العمل المباشر في المنظمة الخاصة التابعة لحزب الشعب، وتعلم بعضها في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. واللافت في الأمر أن هؤلاء الأبطال لم يكونوا واثقين بأن الشعب الجزائري سيلتف حول ثورتهم، وحينما بدأوا عملهم الثوري كان أغلب الشعب الجزائري على الحياد، وكان بعضهم يشكك في قدرتهم على هزيمة فرنسا، وكان العديد من الجزائريين في المعسكر الفرنسي منذ البداية. غير أن الثبات والصبر ثم الزخم الذي أخذته العمليات الثورية والبطولات التي أظهرها هؤلاء الرجال، وحالة الهلع التي أصابت فرنسا العجوز المهزومة في حربها في فييتنام وفي الحرب العالمية الثانية، وردود فعلها الإجرامية هي الأمور التي حركت مكامن الشخصية الجزائرية التي عملت فرنسا على تدميرها طيلة قرابة قرن من الزمن، والتي عملت على إعادة بنائها الحركة الوطنية.

فلئن كانت المقاومة الشعبية قد رسمت تاريخا مشعا أكد الحق الجزائري في أرضه وأن هذه الأرض لم تؤخذ منه إلا عنوة عبر جرائم مهولة شاهدة في التاريخ، ولئن كانت الحركة الوطنية قد أعدت الجيل الذي صنع الثورة، فإن ثورة نوفمبر هي وحدها التي صقلت الشعب الجزائري عبر تاءات الوطن كلها، من تاء تلمسان، إلى تاء تبسة إلى تاء تيبازة إلى تاء تمنراست، هي وحدها التي رسّمت الحدود الجزائرية كما هي اليوم، هي وحدها التي صنعت الشخصية الجزائرية الثورية الحرة الصادقة التي لا زالت الشعوب تحبها وتقدرها لثورتها، ولا زالت هي قدوة من بقي من الشعوب مستعمرا، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني الذي لا يرفع مع علمه سوى العلم الجزائري، البارحة في غزة واليوم في انتفاضة الأقصى في القدس والضفة الغربية.

د. عبد الرزاق مقري