ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة إلى الدولة (1).

ذكرى الهجرة: لا نهضة دون عبور الفكرة إلى الدولة.

في الهجرة النبوية عبر وعظات لا تنقطع، في مختلف المجالات، في العقيدة والإيمان، والأخلاق والدعوة والتربية، والإدارة والتخطيط، والأبعاد الإنسانية والاجتماعية، وفي الشؤون السياسية والقضايا العسكرية والعلاقات الخارجية وغير ذلك، وكما في كل عام أركز على ملمح من ملامح هذا الحدث التاريخي العظيم في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أتناول هذا العام مسألة إقامة الدولة كجزء مهم في رسالة الإسلام، التي جاء النبي محمد بن عبد الله يبلغ مجملها عن ربه ويشيد تفاصيلها بسنته وهديه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

لقد كان بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم للدولة، على أساس الفكرة والرسالة التي جاء بها، جزء أصيلا في مشروعه الحضاري الإسلامي الإنساني العظيم، حاول عليه الصلاة والسلام وضع حجر أساسها  في قريش، ثم في الطائف، فالعديد من القبائل، إلى استقر به المطاف في يثرب عبر الهجرة النبوية العظيمة.

قضى عليه الصلاة والسلام السنوات الثلاث الأولى من البعثة يُعدُّ الصفوة من القادة الذين اعتمد عليهم في تبليغ دعوته وبعث أمته وبناء دولته، ثم أمره الله تعالى أن يصدع بما يؤمر، فخرج للعلن يوافي الناس في موسم الحج  “يتبع الحجاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه سأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة” الواقدي.

رغم الصد العظيم الذي لقيه وهو وأصحابه من قريش قدِر  بعون الله على مواصلة دعوته، مستأنسا بحماية عمه أبو طالب ومن ورائه قبيلته بنو هاشم، ومعتمدا على ما كان يجده من سكينة وسند من زوجته خديجة رضي الله عنها.

عندما كثر أتباعه عرض عليه كبّار قريش الملك على أن يترك رسالته فأبى، إذ هو مأمور بتبليغ ما أنزل إليه والتمكين لأمر الله لا لنفسه ولإعلاء كلمة الله، لا ليبحث عن المجد لأهله وعشيرته، ووعده الله تعالى إن فعل ذلك أن ينصره وأن يجعل الكافرين إلى تباب وضلال، فقال له سبحانه في سورة المائدة : (( يا  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67))) .

عكس المصطفى عليه الصلاة والسلام ما عُرِض عليه من المشركين فوعدهم بأنهم إن هم حملوا الفكرة سادوا بها العرب والعجم، فأعرضوا عنه وتمسكوا بشركهم ونظامهم الاجتماعي والاقتصادي الظالم.

فلما كانت السنة العاشرة توفي عمه وزوجته، فسمي ذلك العام عام الحزن، ولقي منذئذ  من قريش تصعيدا شديدا في القسوة والإيذاء.

حين أدرك النبي الأكرم بأن مكة لم تصبح أرضا صالحة لحمل الدعوة، ولا لبناء الدولة،  بدأ يفكر بما لم تكن مكة تسمح به أبدا، وهو البحث عمن ينصره لدى القبائل القوية خارج مكة، وتغيّر خطابه في مخاطبة هؤلاء، فبعدما كان يكتفي بالقول لهم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) أصبح يدعوهم إلى حمايته و نصره في مواجهة إنكار مكة وصدها وتهديداتها، وكان في ذلك يتخير القبائل القوية، ذات العدد والشوكة والمنعة، التي تقدر على تحمل أعباء الدعوة والنصرة وبناء الدولة.

كانت وجهته الأولى الطائف، ذهب إليها قليلا بعد وفاة عمه وزوجته في العام العاشر من بعثته، مع مولاه زيد بن حارثة، وقد اختارها صلى الله عليه وسلم لأهمية موقعها الاستراتيجي  إذ كانت مركزا تجاريا معتبرا وفي طريق الخط التجاري الذي تمر عليه قوافل قريش، وقريبة من مكة، ولكثافة وطبيعة سكانها حيث كانت من أهم قبائل  جزيرة العرب، تسكنها قبيلة ثقيف ذات الكثافة السكانية العالية، وذات الهيبة والمكنة بين العرب والندية بين الناس لقريش في مكة.

غير أن أهلها صدوه وضربوه وأدموا رفيقه زيد وخرج منها يحمل في نفسه همّين، هم الصد والعدوان، وهمّ العودة إلى مكة بعد أن حاول الاستعانة بقوة من خارجها، ولو لا أن أجاره المطعم بن عدي، أحد كبارها، لما استطاع دخولها أو لربما قتل فيها.

رفض رسول الله أن يبقى قابعا في مكة يعيش تحت سقف حُكْمها، وجهل قادتها، رغم ما أصابه في الطائف، فرسالته للعرب كلهم وللناس كافة مصداقا لقوله تعالى في سورة سبأ: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) الآية 28 ، فراح يواصل اتصاله بالقبائل، يدعو بدعوته العامة للقبائل عامة، ويخص أقواها وأقدرها على حمله بدعوتها إلى نصرته.

لم يكن يعاني من أهله في مكة بسبب الإيذاء والصد فقط بل كانوا كذلك  عبئا كبيرا عليه في دعوة القبائل الذين يُقبل زعماؤها على مكة لأغراض التجارة وعند وفودهم وجهة مكة في موسم الحج، لقد كان أبو جهل وعمه أبو طالب يتداولون على تبخيسه ونشر الشائعات الكاذبة عليه وهو يتحدث مع الناس من غير القرشيين.

جاء في كتب السيرة أنه  كان عليه الصلاة والسلام كلما قال للناس: “يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة”  يقول عمه أبو لهب من ورائه : “لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب” ، فيرد عليه المدعوون بأقبح الرد ويؤذونه قائلين : “قومك بك أعلم”.

ورغم كثرة القبائل التي اتصل بها  لم يستجب له أي منها، ومنها القبائل التي ذكرها المقريزي وغيره، غسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع.

حتَّم عدوان الطائف وملاحقة أهله له أثناء مقابلة الناس، واشتداد إيذائهم له بعد وفاة عمه أن يعود، ابتداء من السنة الحادية عشرة،  إلى السريّة من جديد، فصار يذهب إلى القبائل إلى أماكنهم ليلا، ويأخذ معه أبي بكر الصديق، أعرف الناس بالأنساب ومضارب القبائل وخصائصها وإمكاناتها، حتى يكون مقصده “غرر الناس، ووجوه القبائل”، وأشدهم بأسا وأكثرهم عددا وأصبرهم على الحرب وجلدا عند الكريهة.

رغم الإعراض العام الذي لقيه من عموم القبائل تأثرا بأراجيف قريش وبخذلان أهله، كانت السنة الحادية عشرة من بعثته حاسمة إذ استجابت له ثلاث قبائل، اثنان منها لم تفلح المفاوضات معهم والثالثة أنعم الله عليها فحظيت برسول الله ودعوته.

أما القبيلة فالأولى فهي قبيلة بني عامر بن صعصعة، من أقوى القبائل العربية، على شاكلة قريش وخزاعة، لم تخضع لسلطان ملك من الملوك ولم يأخذ منها حاكم أتاوى، وكانت مُخاصِمة لأهل الطائف فلعلها ترد الفعل بحمل رسول الله نكاية فيهم.

كادت المحاولة مع بني عامر أن تنجح، إذ ظن أحد كبارهم، بَيحرَة بن فراس أنه ” سيأكل العرب بمحمد عليه الصلاة والسلام” فقال له: “أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثمَّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمرُ لله يضعه حيث يشاء، فقال له: أَفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونَك، فإذا أظهرك الله: كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه” فتركهم صاحب الرسالة المصطفى المجتبى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وأما القبيلة الثانية فهي قبيلة بني شيبان، الساكنة في شرق شمال الجزيرة على تخوم الفرس. دل أبو بكر الصديق على شأنهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، من أحسنهم أخلاقا وأعقلهم قادة وأكثرهم عددا وأشدهم بأسا، وكان المجلس معهم من أطيب المجالس، والحديث معهم من أحكم ما يقوله السادة والأعيان، فطلبوا من رسول الله أن يشرح لهم إلى ما يدعو الناس، فأبلغهم الرسالة وقرأ عليهم ما  تيسر من  القرآن فاستحسنوا حديثه، وأظهروا قبولهم اتباعه دون أن يشترطوا عليهم شرطا كما فعل بنو عامر.

 تعهدوا له بنصرته على قومه، ولكنهم طلبوا إعفاءهم لو تعلق الأمر بالفرس. تحدث كبارهم وكان آخرهم المثنى بن حارثة الشيباني ( بطل فتوحات بلاد فارس لاحقا) فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفق ما جاء في سيرة ابن هشام: “إنَّما نزلنا بين صريين، أحدهما: اليمامة، والآخر: السَّمامة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذان الصَّريان؟ قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأمَّا ما كان من أنهار كسرى، فذنبٌ صاحبه غير مغفورٍ، وعذره غير مقبولٍ، وإنَّا إنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى، ألا نحدث حدثاً، ولا نُؤوي مُحدثاً، وإنِّي أرى هذا الأمر الَّذي تدعونا إليه يا أخا قريش! مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نُؤويك وننصرك ممَّا يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم في الردِّ إذ أفصحتم بالصِّدق، وإنَّ دين الله – عزَّ وجلَّ – لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتَّى يورِّثكم الله تعالى أرضهم، وديارهم، ويفرشكم نساءهم …”

رغم العرض المغري تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وواصل طريقه يبحث على من سيتشرّف بإيوائه وتوفير الظروف له لبناء دولته.

كانت هذه الجهة المشرَّفة التي قبلته هي يثرب المباركة، وكانت البداية مباشرة بعد فراغه من الحديث مع زعماء بني شيبان، حيث التقى بستة شبان ، كان يمكن أن لا يأبه بهم لصغر سنهم وخلوهم من مقام الزعامة في أهلهم، تعرف عليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فأحدث شيئا في قلوبهم تواءم مع أحداث عظيمة كانت تجري في يثرب لا شأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها.

كانت يثرب تتشكل من ثلاث قوى أساسية: قبيلة الخزرج وكانت الأكثر عددا، وقبيلة الأوس وكانت أقل عددا ولكنها تسكن الأراضي الأكثر خصوبة، وكان بين القبيلتين شنآن وغارات لا تتوقف منذ مائة سنة، وكانوا إذّاك يستعدون لحرب طاحنة أشد فتكا مما سبقها، والقوة الثالثة هم اليهود المحصنون في قلاعهم، المستكفون بحقولهم، المستقوون بأموالهم، المتعالون بتوراتهم المحرفة، وادعائهم قرب ظهور نبي فيهم …

.. يتبع ..