في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج ج1

في الذكرى 33 لتأسيس حركة مجتمع السلم: الأطوار الخمسة وتطورات المنهج.

إذا اردنا ان ندرس تطورات المنهج الذي حكم حركة مجتمع السلم، بمناسبة ذكرى تأسيسها في 29 ماي 1991، فإننا سنضطر إلى تقسيم تاريخ الحركة إلى خمس مراحل، أو خمسة أطوار: ثلاثة قبل التأسيس الرسمي واثنان بعده. أما قبل التأسيس فإن الحركة قد تعرّف عليها الجزائريون في مرحلتها الأولى في سبعينات القرن الماضي كجماعة ذات معارضة راديكالية لنظام الحزب الواحد  والنهج الاشتراكي الرسمي، وقد وصل المنهج الحدّي لتلك المعارضة إلى استعمال العنف عبر الحادثة التي سميت ب”قطع أعمدة الهاتف”، وقد سبق تلك الأحداث خطاب شديد اللهجة عبر خطب نارية للشيخ محفوظ نحناح رحمه لا تزال  بعض تسجيلاتها متوفرة، وبيانات قوية  العبارات كالبيان المشهور تحت عنوان ” إلى أين يا بومدين؟”، انتهت هذه المرحلة بسجن الشيخ محفوظ رحمه الله والعديد من إخوانه وتشتيت جماعته.

أثناء سجنه نشطت جماعات أخرى في الجامعات، أهمها جماعة الجزأرة التي كان يرأسها د. بن شيكو ثم د. بوجلخة، وجماعة الشيخ عبد الله جاب الله التي عرفت في ذلك الوقت بأنها الجماعة التي تمثل الإخوان المسلمين فكرا وتنظيما.

بعد إطلاق سراح الشيخ محفوظ نحناح سنة 1981 دخلت جماعته في المرحلة الثانية من تاريخها، وهي المرحلة التي تبلور فيه منهج جديد عبر المراجعات التي قام بها الشيخ رحمه الله في السجن، وأساسها الابتعاد نهائياً عن المنهج العنفي لفظا وسلوكا والاعتماد على الخطاب الدعوي الهادي أكثر من الخطاب السياسي الصادم مع المحافظة على خطاب سياسي يعتمد شعار الحركة الإسلامية المركزي آنذاك “الإسلام هو الحل” ويستهدف نقد المناهج المستوردة وعلى رأسها العلمانية والاشتراكية، ولهذا السبب لم يكن الشيخ محفوظ في صدارة الاحتجاجات الكبرى كأحداث الجامعة المركزية عام 1982 وأحداث 5 أكتوبر 1988 رغم الوجود الفعلي للعديد من قادة وأفراد جماعته فيها، واستطاع الشيخ محفوظ أن يتجاوز كل تحديات عشرية الثمانينيات ليكون في أواخرها أهم زعيم سياسي وتكون جماعته أكبر جماعة في الجزائر وقد ساعده على ذلك عدة معطيات منها شخصيته الجذابة وسمته وقدراته الخطابية الفذة، النهج الجديد الذي انتهجه الشاذلي بن جديد القائم على الانفتاح السياسي وبدايات التراجع عن النهج الاشتراكي والذي كان يحتاج بشأنه إلى بروز  جهة معتدلة في التيار الإسلامي، وارتباط الشيخ محفوظ بالاخوان المسلمين الذين كان يمثل منهجهم ومشروعهم وتاريخهم وتضحياتهم نوعا من المرجعية التي تفرض نفسها على شباب الصحوة الإسلامية يرتبطون بها بشكل تلقائي أكثر من غيرها، وكتيار قبل الارتباط بالتنظيم،  مما جعل العديد من الشباب وإطارات الحركة الإسلامية الذين انتظموا في جماعة الشيخ عبد الله جاب الله يتركونه لصالح الشيخ محفوظ لمّا اختلف الرجلان وعُلم بأن الشيخ محفوظ هو من يمثل “الاخوان المسلمون”.

وكذلك التحق بالشيخ نحناح رحمه الله بسبب “الإخوان المسلمون” كثير من رموز وقادة الحركة الإسلامية، وعدد من التنظيمات المحلية ومن مجاميع إسلامية مختلفة خصوصا بعد فشل مساعي الوحدة بين فصائل التيار الإسلامي التي دعا اليها بعض الدعاة بين 1983-1987. وبقي الانتماء للإخوان المسلمين صمام أمان لوحدة جماعة الشيخ محفوظ – بالإضافة إلى شخصيته – إلى أن تراجعت أهمية تلك المرجعية لأسباب عديدة ليس المجال للتفصيل فيها، خصوصا بعد التحول إلى المرحلة الحزبية، فأخذت الاختلافات ثم الانشقاقات تظهر في جسم الجماعة.

مع تغيير الدستور والتوجه نحو التعددية الحزبية دخلت جماعة الشيخ محفوظ نحناح مرحلتها الثالثة، بتأسيس الحزب رسميا في 29 ماي 19991 الذي نتذكر مناسبته في هذا المقال، وكان الدخول عسيرا ليس عليه فقط، بل على الجماعات الإسلامية الثلاث المنظمة المتقاربة فكريا التي لم توفق في تحقيق الوحدة بينها (الشيخ محفوظ/ الجزأرة/ عبد الله جاب الله)، والتي تجاوزها تيار 5 أكتوبر ولم تسبق لتأسيس حزب إسلامي فأدّى ذلك إلى سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج على الساحة السياسية.

تسبب هذا التأخر من قبل هذه الجماعات المنظمة في الاستشراف وفي التعامل مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية التي تلت انهيار أسعار البترول ابتداء من 1986، وتعمّق الفساد في نظام الحزب الواحد، ثم البرسترويكا  فانهيار الاتحاد السوفياتي بين  1987 و 1990 وتراجع زمن الأحادية عالميا إلى ضياع المبادرة والريادة، وأصبحت السياسات والتوجهات والتصريحات هي من أجل الاستدراك واسترجاع المبادرة والمساهمة في المحافظة على نصاعة المشروع وتفويت الفرصة على العلمانيين لاستغلال الظروف وغطاء محاربة الإهاب للإجهاز على كل مرجعية إسلامية في الشأن العام، وكذا من أجل إخراج البلاد من الأزمة.

وقد كان نهج الشيخ محفوظ نحناح أكثر وضوحا من خلال سرعة وقوة المبادرات من أجل الحوار والمصالحة الوطنية، [وقد سجلتُ تلك المبادرات في برنامج مراجعات مع قناة الحوار اللندنية وفي كتابي مبادرات لحل الأزمات]، وخطاب التميز عن التشدد، ثم العمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر العودة للمسار الانتخابي وبداية تجسيد نهج المشاركة الحكومية، ومحاولة بلورة خطاب وطني لتطمين النظام السياسي وتحسين  العلاقة بالمؤسسة العسكرية ومجاهدي حرب التحرير، وكل من له تأثير في القرار السياسي.

أدى هذا النهج إلى نجاحات معتبرة على المستوى الاستراتيجي من حيث المساهمة في وقف سيل الدماء والمحافظة على الدولة وحماية المشروع والحركة الإسلامية وأمن المناضلين وعائلاتهم، وتوفير الفرصة لاستمرار الوجود والعمل، والانتقال للمستقبل بأقل التكاليف وفي أحسن ما يمكن من الظروف، غير أن الإخفاق على المستوى السياسي كان ملازما للمسيرة خلافا للأهداف التي رسمها الشيخ محفوظ وسَمِعتُها منه شخصيا وهو أن ينال دعم المؤسسة العسكرية، تأسياً بتجربة الشيخ حسن الترابي الذي كان نجمه صاعدا في ذلك الوقت، ويكون بديلا لجبهة التحرير التي خرجت للمعارضة مع الأستاذ الكبير عبد الحميد مهري رحمه الله والجبهة الإسلامية التي لم يكن ممكنا التفاهم بينها وبين العسكر، أو على الأقل تجسيد فكرة التحالف الوطني الإسلامي على المستوى الرسمي بعد ما تمت الدعوة إليه باسم جمعية الإرشاد والإصلاح قبل تأسيس الحزب عام 1990.

لقد كانت الخسارة في الانتخابات التشريعية في جانفي 1991 منطقية بسبب السبق الذي استفادت منه جبهة الإنقاذ، ولكن النجاح الكبير والشعبية الهائلة التي ظهرت لصالح الشيخ محفوظ وحزبه في الانتخابات الرئاسية عام 1995 أخافت العسكر وأصحاب القرار.

لم ينفع المنهج التطميني الذي انتهجه الشيخ محفوظ فأُعطيت له الرسالة من قبل النظام السياسي  بأن “بديلنا لست أنت بل نصنعه صناعةً بأيدينا”، فكان تغيير الدستور  عام 1996 لمنع الشيخ محفوظ من الترشح مرة أخرى للانتخابات الرئاسية مدى الحياة، وذلك بسبب قدرته على المنافسة وقيادة البلد، وتغيير  اسم الحزب بنزع كلمة “الإسلامي” ليتحول من “حركة المجتمع الإسلامي – حماس” إلى “حركة مجتمع السلم – حمس”، وإعاقة الحركة بما اعتقده نظام الحكم بأنه عناصر قوة لصالحها، ثم كان تأسيس حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” والتزوير له في الانتخابات التشريعية والمحلية عام 1997، وبعد ذلك منع النحناح رحمه الله وأسكنه فسيح جناته من الترشح عام 1999 وإهانته وضربه في تاريخه وسمعته، ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فتمت معاقبته عن إصراره على الترشح للانتخابات الرئاسية عام 1999  بما اضطرّهم إلى منعه من ذلك تعسفا مما زاد في ضرب مصداقية الانتخابات بالإضافة إلى ما أصابها من خدش في مصداقيتها بعد انسحاب المرشحين الستة، فوضعوا الحركة في تلك الانتخابات التشريعية في المرتبة الرابعة بعد حركة الإصلاح التي أسسها الشيخ عبد الله جاب الله بعد خروجه من حركة النهضة، مع أن ما سهل على النظام إخفاء مكره وقلة وفائه التراجع الشعبي الفعلي الذي أصاب الحركة بسبب تحولها السريع والمفاجئ من معارض لبوتفليقة إلى مساند له في الانتخابات الرئاسية عام 1999. ولا يعني ما نقوله هنا أن حركة الإصلاح تم تقديمها على الحركة بدعم من السلطة، فقد كان تقدمها منطقيا، ولكن المقصود أن الحركة عوقبت بالتزوير ضدها كما هي العادة،  وأنه لو كانت  جزء من السلطة لزورت لها كما تفعل مع أحزاب الموالاة التي تنقذ دوما بالتزوير.

لا يمكن الجدال بأن الكثير من المكاسب الاستراتيجية غطت عن الخسائر السياسية، ومن أهمها البقاء في ساحة المعركة ضد التوجهات العلمانية المعادية للمشروع الوطني الإسلامي، ولكن لا يمكن الجدال كذلك بأن التيار العلماني ألحق بخططنا خسائر كبيرة، ومن ذلك إضعاف التيار الوطني ذاته داخل الدولة، علما بأن المكتسبات الحضارية العربية الإسلامية تحققت في زمن الحزب الواحد بأيدي رجال التيار الوطني وليس في زمن التعددية الحزبية، ومن ذلك قانون الأسرة، والمنظومة التربوية الأصيلة، والتعريب. غير أن الرجال الذين حققوا تلك الإنجازات عبر صراع مرير مع ما كان يسمى “حزب فرانسا” في ذلك الوقت أبعِدوا عن النفوذ داخل الدولة، واستفرد رجال التيار العلماني الذين كانوا يواجهونهم بالقرار، خصوصا داخل المؤسسة العسكرية، ووجدت حركة مجتمع السلم نفسها قريبة من هؤلاء الرجال العلمانيين، رغم تصريح زعيمهم خالد نزار صراحة في مذكراته المنشورة بأن خططهم كانت تستهدف في ظل الأزمة ضرب التيار الإسلامي المتشدد منه والمعتدل.

كما أن الخطر على المنظومة التربوية صار ملموسا من خلال إنشاء لجنة بنزاغو، والتمكين في وزارة التربية والتعليم لتياره، ولو لا المقاومة التي أظهرها رجال التيار الوطني، كأمثال علي بن محمد وعبد القادر فوضيل وعبد الحميد مهري، وتحالفهم في المجتمع مع التيار الإسلامي لكانت الخسائر عظيمة في وقت مبكر. علاوة على التحرش المستمر بقانون الأسرة، والتراجعات الكبيرة في مسيرة التعريب، وفي الاهتمام بالقضية الفلسطينية.   

علم الشيخ محفوظ نحناح بأن النهج السياسي التشاركي مع نظام سياسي مستبد، غير وفي وغير نزيه لن ينفع الحركة فبدأ يبحث عن نهج جديد، وأصبحت أسمع منه – كما سمع غيري – في جلسات خاصة كلاما عن النظام السياسي كان يمنعنا أن نفكر فيه أصلا، وأخذ ينظّر لتوجه جديد في المنهج في كتاب بدأ في تأليفه تحت عنوان ” الدولة وأنماط المعارضة” ولكن فاجأته الوفاة واختفت مسودة الكتاب بشكل غريب.

توفي الشيخ وقد حقق إنجازات استراتيجية جعلت نهجه مدرسة كاملة الأركان، وستبقى تلك الإنجازات التي اشرت إليها – رغم الخسائر المذكورة –  شاهدة له ينالها أجرها وهو في قبره، ولكن كان الأمر يتطلب القيام بمراجعات في النهج السياسي تكمّل المنهج وتزينه ولكن لم يسعفه الأجل رحمه الله، ووجدت الحركة نفسها بعده في مرحلة  رابعة من تاريخها تعمق فيها نهج المشاركة الحكومية، بل تحول إلى منهج اندماجي تام في النظام السياسي رغم التململ  الذي بات واضحا في صفوف الحركة، بل كان يوشك أن يتفجر في وجه الشيخ محفوظ على نحو ما وقع له في لقاء وطني شهير ببومرداس.

لقد كنت من شركاء المسيرة ومن صانعي أبعادها الاستراتيجية ولكن أصبحت غير موافق على الشق السياسي في المنهج في وقت مبكر في زمن الشيخ محفوظ  منذ عام  1997 بعد أن باتت فكرة التحالف مع التيار الوطني وهْما وصار قادة المؤسسة العسكرية [الذين اعتُبر قادتهم في زمن الحراك الشعبي جزء من العصابة ] هم الخطر الأول على مشروعنا وفاعليتنا، وكنت أعبر عن رأيي المخالف بكل حرية، وقد ظهر ذلك للرأي العام لأول مرة عند رفضي التصويت على برنامج أويحيى الحكومي عام 1997 عند رفضه إدخال تعديلاتنا [وتعديلات جبهة التحرير حين كان قادة التيار الوطني الأصلاء هم من يقودها]، وذلك بالرغم  من أنني كنت رئيس الكتلة البرلمانية، كما سميتُ المشاركة الحكومية  “مشاركة عبثية” في أحد الحوارات في جريدة الخبر  في حياة الشيخ محفوظ رحمه الله، وقد قدمت له آنذاك، عام 1997، ورقة حذرت فيها من عواقب ذلك النهج واستشرفت الآفاق المستقبلية في أجل زمني أكدته الثورات العربية وقدمت رؤية بديلة هي التي طبقتُها لاحقا كما سأبينه أدناه.

تابع.. المرحلة الرابعة: “نحو طور جديد”