11 ديسمبر والقضية الفلسطينية (1/2)

كانت مظاهرات 11 ديسمبر حاسمة في طريق تحرر الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وكانت قد سبقتها  أحداث كبيرة على ثلاث مراحل: ما بين 1954 و 1955 ثم ما بين 1955 و 1958 ثم ما بين 1958 و 1960. أما المرحلة الأولى فكانت بين انطلاق الثورة في 01 نوفمبر 1954  وهجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955  التي سميت بيوم المجاهد. وقد اتسمت هذه المرحلة ببروز عبقرية مفجري الثورة الاثنين والعشرين المتمثلة في رؤية التحرير في بيان أول نوفمبر

وتحمّل مسؤولية الانطلاقة رغم الصعوبات والانشقاقات الكبيرة التي كانت تمر بها الحركة الوطنية، ورغم تغول سلطات الاحتلال على الجزائريين، وقد تبعتها خلال السنة تعقيدات تنظيمية وتعبوية وعسكرية كثيرة،  ركز فيها الاستعمار على ضرب معقل الجهاد بالأوراس ولم يكن ثمة تأييد كبير والتحام تام للشعب الجزائري بالكفاح المسلح.
ثم جاءت هجومات 20 أوت كتدبير عسكري عبقري من قبل قادة الثورة بضرب الاستعمار خلف المنطقة التي كان يركز عليها بالأوراس،  وكان هدفهم توسيع عملياتهم في يوم واحد في مدى أوسع بكثير ودفع الشعب الجزائري بواسطة ذلك إلى الانخراط الكامل في جبهة التحرير وكفاحها من أجل تحرير البلاد. فنجحت الخطة نجاحا عظيما أعطى للثورة زخما عظيما وتأييدا واسعا في الداخل والخارج استمر إلى غاية 1958 وألحق بالاستعمار خسائر لم يعد يطيقها.
في عام 1958 قرر جنرالات فرنسا والمستوطنون في الجزائر الضغط على باريس ( التي كان لهم فيها نفوذ كبير) للمجيئ بالجنرال ديغول إلى الحكم من جديد كونه، حسب هؤلاء، هو الوحيد القادر على القضاء على جيش التحرير وثورته المسلحة. استطاع ديغول بكفاءته العسكرية والسياسية أن يلحق ضررا كبير بالثوار في الجبال مدعوما بترسانة عسكرية جبارة من الحلف الأطلسي وبتضييق شديد على عبور السلاح للثوار من خلال تمتين خطي شال وموريس على الحدود مع تونس ومع المغرب، بالإضافة إلى محاولته شراء ذمم كثير من الجزائريين عبر مشروع تنموي اقتصادي واجتماعي وثقافي سُمي “مشروع قسنطينة”.
تعرض المدنيون من الشعب الجزائري في هذه المرحلة إلى حرب إبادة حقيقية في العديد من جهات الوطن حملت أسماء حربية ذات دلالات ( الشرَارة، ٩المنظار، الأحجار الكريمة، الماراثون، بروميثيوس، المحس ..) لا سيما في القرى، كما تم اعتماد التعذيب في المدن خصوصا في الجزائر العاصمة، وتشكيل المناطق المحرمة وإجبار سكان الأرياف على الإقامة في المحتشدات التي حُشر فيها أكثر من 2.5 مليون جزائري تعرضوا للويلات. كما تم تعميق وتوسيع طوابير الخونة والعملاء.
وفي  23 أكتبور  1958 عرض ديغول على المجاهدين ما سماه “سلم الشجعان” بأن يرموا السلاح ويستسلموا مقابل العفو عنهم، معتقدا بأنه قد هزمهم عسكريا بسبب الضربات الجبارة التي وجهها لهم والخسائر البشرية الكبيرة في صفوف إخوانهم المدنيين التي نتجت عن القصف العشوائي في المداشر والقرى.

لم يكن الجنرال ديغول يراقب التطورات العسكرية التي كان يعتقد بأنه يستطيع التحكم فيها رغم البطولات التي سطرها المجاهدون في الجبال والفدائيون في المدن، بقدر مراقبته لمدى ثبات الشعب الجزائري في مختلف أنحاء البلاد. وحينما تأكد لديه إصرار الجزائريين والتحامهم مع المجاهدين رغم الخسائر الكبيرة في خلال سنة واحدة أدرك بأن الحل العسكري لن ينهي المشكلة وأن فرنسا كلها تغرق في الأرض الجزائرية فبدأ يقترح الحلول سياسية التي تتوج الضربات العسكرية المدمرة التي  سلطها على المجاهدين و حواضنهم الاجتماعية من السكان العزل في القرى، ومن ذلك  المشروع الذي عرضه في 16 ديسمبر  عام 1959 الذي يقتضي حكم ذاتي جزائري متحد مع فرنسا أو تقسيم الشمال الجزائري إلى وطن للمستوطنين ووطن للجزائريين على أن يبقى الجنوب فرنسيا.

ساهمت المجازر ومنهجية التعذيب التي صنعتها الاستراتيجية العسكرية الهمجية  التي جاء بها الجنرال ديغول والتي انخرط فيها الجنرالات الفرنسيون في الجزائر في صناعة الإصرار الجزائري على القطيعة مع الاحتلال وإنهائه مهما كان الثمن ولم يركن إلى مشاريع الإغراء والإلحاق سوى فئات قليلة من الجزائريين.

وحينما أدرك ديغول ذلك رفع شعارا جديدا عنوانه “الجزائر الجزائرية” (L’Algérie Algérienne) في مقابل شعار المستوطنين “الجزائر الفرنسية” (L’Algérie Française) وفي مقابل شعار الشعب الجزائري “الجزائر المسلمة”  (L’Algérie Musulmane)، وكان هدفه خروج فرنسا عسكريا من الجزائر عبر مفاوضات مع جبهة التحرير تؤدي إلى جزائر  ملحقة بفرنسا، ولكن لكي يتحقق له ذلك ينبغي أن تكون هذه الجزائر مقطوعة عن هويتها التي صنعت ثباتها وتماسك نسيجها الثقافي والاجتماعي عبر 130 سنة والتي بها قويت على محاربة الاحتلال وهزيمته رغم الخسائر الفظيعة وهي الهوية الإسلامية الجامعة.   

وجد الجنرال ديغول نفسه يواجه جبهتين في نفس الوقت، جبهة المعمرين المتطرفين وجنرالاتهم، الذين حاولوا الانقلاب عليه، واحتشدوا يهتفون ضده حين زارهم في عين تموشنت في 09 ديسمبر 1960حيث رفعوا شعارهم الجزائر الفرنسية. وكان يعتقد بأن سلاحه ضد هؤلاء هو خضوع الجزائريين لخطته “العصا والجزرة” وأن أصحاب الأرض الأصليين سيقبلون بجزائر مجزّأة أو ملحقة ثقافيا غير أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960 أفسدت أحلامه وأحلام المعمرين في نفس الوقت، إذ اتضح له بأن القضية الجزائرية ليست قضية مجاهدين مسلحين في الجبال ولا مناضلين فدائيين في المدن وإنما هي قضية شعب بأكمله يصر على الاستقلال وأن تكون الجزائر مسلمة، فلا جزائرية دون انتماء وهوية ولا فرنسية بأي حال من الأحوال.

[غير أن خطة ديغول بقيت تعمل بعد الاستقلال، ولا زلنا نكافح ضدها إلى اليوم،  ولكن تلك قصة أخرى ليس مجال الحديث عنها في هذا المقال].

كيف نسقط هذه الأحداث ودور 11 ديسمبر في الاستقلال الجزائري على القضية الفلسطينية؟

يتبع …