حينما نتحدث عن الانتخابات التركية نحن نتحدث في جزء كبير منها عن انتخابات على الهوية، القومية والعرقية والمذهبية، علاوة عن الأبعاد الأيديولوجية التي تطرقنا إليها في المقال السابق، إذ جزء كبير من تحولات الموقف الانتخابي في الوقت الحالي محسوم مسبقا قبل بدء الانتخابات، لصالح هذا وذاك، ولا تبقى إلا نسب محدودة من الناخبين تتحرك ويتغير رأي أصحابها وفق النتائج الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وما يتعلق بمشاريع النهضة التركية الشاهدة.
لقد اتضح جليا بأن الأبعاد القومية والعرقية والدينية كانت حاسمة في نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، وقد كانت موزعة بالفعل بين أيديولجتين تقليديتين غالبتين، الأيديلوجية العلمانية المتشددة المعادية للمرجعية الدينية، ويغلب عليها الطابع اليساري، والأيديوليجية العلمانية الليبيرالية المتصالحة مع الهوية الإسلامية، وفق ما بيناه في المقال السابق.
وكما هو حال البعد الأيديولوجي تشكّل البعد القومي في تركيا عبر مسار زمني طويل منذ القرن التاسع عشر. لقد كانت الإمبراطورية العثمانية فائقة الاتساع تتربع على مساحات واسعة في ثلاث قارات وتقود شعوبا عديدة من مختلف الديانات والمذاهب والأعراق والقوميات. كان يقطن في الجناح الغربي للإمبراطورية العثمانية شعوب مسيحية فتح بلادها السلاطين الفاتحون العظماء إلى غاية القرن السادس عشر خصوصا، غير أن هذه الفتوحات لم تؤد إلى إسلام شعوب البلدان المفتوحة كما كان الحال بعد الفتوحات الإسلامية العربية، إذ كانت الظاهرة العسكرية والإدارية للدولة العثمانية أكثر حضورا من الهداية الدينية والتأثير الحضاري، لأسباب سنبينها في مقال آخر تحت عنوان “نهضة السنة” بعد هذه السلسلة المتعلقة بدراسة نتائج الانتخابات بحول الله تعالى.
لقد كان صعود النزعات القومية في بلدان البلقان، وحيثما يوجد نصارى، ممزوجا بالروح المسيحية ومدعوما بروسيا ابتداء ثم الدول الأوربية، فكان انسلاخها عن الإمبراطورية العثمانية في وقت مبكر سهلا، غير أن الشعوب المسيحية التي كانت تعيش في الأناضول وبجواره، خصوصا الأرمن واليونانيين، كانت محل إزعاج شديد للعثمانيين فوقعت مواجهات دموية حُسبت على سياسات التتريك التي انتهجها العلمانيون في الدولة العثمانية المترنحة في فترة هيمنة تيار تركية الفتاة وحكم حزب الاتحاد والترقي، لا تزال تستعملها الدول الغربية (رائدة الإبادات الجماعية في التاريخ) بتعسف لابتزاز الحكومة التركية في زمن أردوغان، ومهما يكن من أمر هذه الصراعات الدينية التي لم يصبح لها أثر كبير في التطورات الانتخابية التركية الداخلية الحالية، بما يجعلنا لا نهتم بها كثيرا في موضوعنا هذا، فقد ساهمت في صعود القومية التركية آنذاك.
أما الجناح الشرقي والجنوبي فقد كان يقطنه مسلمون تحكمهم الدولة الصفوية الشيعية شرق الأناضول والدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز والحفصيون والزيانيون وبنو مرين في المغرب. كان العثمانيون مندفعين نحو الفتوحات في أروبا ولم يكونوا يهتمون بالبلاد الإسلامية، فلم يجلبهم إليها في زمن بايزيد الأول (1361-1403) سوى مواجهة تهديدات تيمور لنك “المغولي”، ثم في زمن سليم الأول (1470-1520) لمواجهة التهديدات الصفوية الشيعية، وكانت هزيمة الصفويين فرصة للقضاء على الدولة المملوكية المترنحة وإلحاق مصر والجزيرة العربية بالدولة العثمانية، وبعدها تم بسط النفوذ في المغرب العربي لحماية الأهالي من التهديدات الاسبانية والبرتغالية وإلحاقها لاحقا بالباب العالي. بعد دخول سليم الأول مصر (1515) وتنازل آخر الخلفاء العباسيين الصوريين تحت حكم المماليك أفتى علماء الأمة بانتقال الخلافة من العرب إلى الأتراك، فأصبح السلطان العثماني سليم الأول أول السلاطين العثمانيين المتعاقبين على الخلافة إلى أن سقطت (1924)، وظلت علاقات الشعوب المسلمة مع الخلافة الإسلامية التي آلت إلى لأتراك علاقة تقدير وتمجيد يعدونها خلافة شرعية تستوجب الولاء.
بعد هذا التوسع الكبير في بلاد المسلمين صارت شعوب مسلمة متنوعة تعيش في ظل الدولة العثمانية أكثرها ارتباطا الشعوب التركية والعربية والكردية، فتطورت العلاقات بينها من الرابطة الأخوية الإسلامية في البدايات إلى التضاد القومي والعرقي في الآخر إلى أن أصبحت حاليا جزء أساسيا في المحددات الانتخابية التركية وفي السياسات الخارجية، ومن القضايا الخفية بالنسبة للرأي العام العربي التي صعدت للعلن في النقاش السياسي التركي الأخير قضية العلويين. فما هي تلك التطورات التاريخية وماذا تمثل بالنسبة للمستقبل؟ كيف تشكل البعد القومي التركي ولماذا أخذ عند بعض السياسيين منحى متطرفا يلامس العنصرية تجاه العرب والأكراد؟ وكيف تطورت القومية العربية في مواجهة القومية التركية ولماذا العداء المستحكم، العلني والخفي، في بعض الدول العربية تجاه أردوغان وحكومته؟ ما هي قصة العلويين وما هو ثقلهم الانتخابي وكيف يؤثرون؟
نحاول أن نجيب عن هذه الأسئلة تباعا في ما يلي من سلسلة دلالات نتائج الانتخابات التركية والحلقة المفقودة على النحو التالي:
كانت الدولة العثمانية تكتفي في زمن قوتها من الشعوب التي تحت ولايتها بالولاء العام ودفع الضرائب والمشاركة في الحروب بالنسبة للمسلمين (أهل الملة) والجزية لغير المسلمين (أهل الذمة)، ويقوم كل شعب بالعيش وفق تقاليده وأعرافه ومذاهبه وديانته. وفي فترات الركود والأفول تأثرت النخب المتغربة بصعود فكرة “الدولة الأمة” في أوربا وأثروا على السلاطين من أجل بناء هوية عثمانية موحدة فأصدر السلطان عبد المجيد الأول مرسوم الإصلاح العام عام 1856 وبعده أصدر عبد العزيز الأول قانون الجنسية العثمانية 1869، من أجل أن يكون سكان الدولة متساوين في التجنيد والضرائب والتعليم، ومن جهة أخرى حاول السلاطين من خلال هذه القوانين منع أو تخفيف تدخل الدول الكبرى، خصوصا روسيا وفرنسا وبريطانيا، بحجة حماية المسيحيين تحت الحكم العثماني. ولكن هذا التوجه لم يلق قبولا عند عموم المسلمين ولا عند الأقليات الدينية المسيحية واليهودية المتمتعة بنفوذها داخل الدولة والتي لا تريد التخلي عن امتيازاتها القانونية ومؤسساتها الخاصة التي اكتسبتها ضمن قوانين ومراسيم “التنظيمات” المشار إليها في المقال السابق، ثم فَقدت فكرةُ الوحدة العثمانية العابرة للأديان والمذاهب (على نمط المواطنة في الدساتير الغربية) أغلب مؤيديها بعد خسارة الدولة العثمانية أراضيها التي يقطنها المسيحيون على إثر هزائمها في حرب البلقان الأولى 1912-1913.
أما على مستوى القوى المعارضة التي كان لها دور كبير في بروز جذور البعد القومي في تركيا، فقد اجتمعت كلها في حركة تركيا الفتاة المتآمرة على الخلافة، التي كانت تتشكل على العموم من ثلاث تيارات كبرى: تيار الأقليات الدينية المسيحية واليهودية وكان أقواها وأشدها عدواة وقوة تنظيمية المسيحيون الأرمن ويهود الدونمة، وتيار الاتحاد والترقي الذي بدأ متنوعا ثم اتجه إلى فكرة الدولة القومية التركية المركزية التي لا تؤمن بخصوصية الشعوب وكان من أبرز رواد هذا التيار أحمد رضا بك، وتيار العثمانية اللامركزية التي كان من أبرز زعمائها الأمير صباح الدين (ابن أخت عبد الحميد الثاني) الذي كان يرى بأن مشكلة الأقليات والقوميات يحل بالمواطنة العثمانية في إطار الليبيرالية اللامركزية. كانت هذه التيارات الثلاثة تجتمع في أمرين اثنين وهو إبعاد الدين عن الحياة وفق نمط العلمانية الراديكالية الفرنسية، ومعاداة السلطان عبد الحميد الثاني. ولكن اختلافهم الكبير كان حول الانتماءات القومية الذي ظهر في أول مؤتمر لهم في باريس سنة 1902 حيث أصر الأرمن على إجراء المناقشات بالفرنسية وأصر أحمد رضا أن يكون ذلك بالتركية وحاول صباح الدين التوسط بينهم فلم ينجح، وفشل المؤتمر كله لأسباب النزعات القومية. ولكن الإصرار على الثورة على السلطان عبد الحميد ومن خلال الوساطات الأوربية استطاعوا أن يجتمعوا مرة أخرى في باريس عام 1907 وفي العام الموالي وقعت ثورة تركيا الفتاة في يوليو 1908 التي أجبرت السلطان عبد الحميد على العودة للعمل بالدستور (المشروطية الثانية)، وفي السنة الموالية في 27 أبريل 1909 تمت الإطاحة به.
قبل هذه الأحداث كان السلطان عبد الحميد قد أوقف العمل بالدستور (المشروطية الأولى عام 1876) بعد الخسارة في الحرب ضد روسيا (1877ـ1878) التي فرضها عليه البرلمان (المجلس العمومي العثماني) حديث النشأة الذي سيطر عليه العلمانيون والأقليات، في السنوات الأولى لمجيء عبد الحميد للحكم في فترة كانت الدولة تعيش حالة عدم استقرار شديدة لم تكن أثناءها مؤهلة للحرب. أراد السلطان عبد الحميد أن يتحكم في زمام الأمور حتى يستطيع إعادة بناء الدولة ومواجهة التهديدات الخارجية المتتالية، وقد استطاع بالفعل بعد عشر سنوات أن يحقق نصرا عظيما على اليونانيين كاد على إثره أن يدخل العاصمة أثينا لو لا الوساطة الروسية والتدخلات البريطانية. اهتزت مشاعر المسلمين في كل أنحاء العالم الإسلامي طربا بذلك النصر الذي قال فيه شوقي : “بسيفك يعلو الحقُّ والحقُّ أبلجُ …ويُنصرُ دينُ الله أيّانَ تَضرِب”.
اعتبر عبد الحميد أن الإصلاحات الدستورية تخدم أقلية نافذة، من العلمانيين المعادين للدين والمسيحيين واليهود، لا يمثلون عموم السكان المسلمين في الدولة العثمانية مترامية الأطراف، فأطلق مشروع “الجامعة الإسلامية” لتوحيد الأمة الإسلامية، ومواجهة مخططات التيارات التغريبية النافذة في الدولة، والربط بين الشعوب الإسلامية، خصوصا التركية والعربية والكردية، فأراد تعميم تعليم اللغة العربية وجعلها لغة رسمية في الدولة مُظهرا ندمه على استماعه سابقا لمن نصحه من موظفي الدولة عن الإعراض عن ذلك خوفا من ذوبان العنصر التركي في اللغة العربية، كما عزم على المساهمة في معالجة فقر التعليم في البلاد العربية بسبب ترك السلاطين من قبله أبناء العشائر العربية المحليين لشأنهم دون رعاية تعليمية فأسس “مدارس العشائر العربية” في اسطمبول واستقدم لها الطلبة من مختلف البلاد العربية بتكفل كامل من الدولة، وأطلق مشروع السكة الحديدية بين اسطمبول والحجاز لتكون هي شريان حياة الأخوة التركية الكردية العربية، وقرب إليه بعض النخب العربية في ديوانه وجعل لنفسه حَرصا خاصا من العرب، كما اهتم بتعليم الفتيات وتكريم العلماء والمتصوفة وإرسال وفود المصلحين وأهل العلم لمختلف أنحاء العالم الإسلامي للتعليم والوعظ وتفقد أحوال الناس.
كما قام في إطار فكرة الجامعة الإسلامية بالتقرب من الأكراد والاتصال بزعمائهم وشيوخ عشائرهم لمنع مخططات البريطانيين الهادفة إلى تحريضهم ضد الدولة والعمل على توحيد صفوفهم من أجل الانفصال، وعمل على حمايتهم من أطماع الأرمن المتجاورين معهم والمسنودين من بريطانيا وفتح لشبابهم ورجالهم أبواب الأقسام الأمنية الحميدية لحماية مناطقهم وحماية الدولة حتى صاروا قوة ضاربة في جهازه.
ولكن بعد بداية العمل بالمشروطية الثانية على إثر الثورة وإسقاط السلطان عبد الحميد تم تشكيل البرلمان التركي من جديد فسيطرت عليه مرة أخرى القوى العلمانية المشكلة لتيار تركيا الفتاة المعادية للخلافة، خصوصا حزب الاتحاد والترقي، ولكن سمحت فرصة التعددية الحزبية بتأسيس حزب الحرية والائتلاف (المعروف أيضا باسم الاتحاد الليبيرالي) عام 1911 من شخصيات وقوى سياسية معادية لتوجهات المركزية القومية التركية المتصاعدة في حزب الاتحاد والترقي، وقد صار هذا الحزب الليبيرالي هو الإطار الذي لجأت إليه الشخصيات التركية التي بقيت مؤمنة بالهوية العثمانية اللامركزية التي تؤمن بالتعددية القومية في الدولة ضمن الإطار العلماني، وقد بينا في المقال السابق كيف أن هذا التوجه تحول إلى خط سياسي عريض أنتج عدة أحزاب وشخصيات تركية قومية ومحافظة وإسلامية يمكن عدّ حزب العدالة والتنمية آخرها، كما لجأ إلى هذا الحزب الليبيرالي المعارض لحزب الاتحاد والترقي العديد من الشخصيات العلمانية غير التركية منها شخصيات كردية مشهورة، ومن هؤلاء عبد الله جودت الذي كان من المتأثرين الكبار بالفلسفة المادية الأوربية المعادية للدين والمنظرين الأبرز للعلمانية المتشددة في تركيا، كان من مؤسسي الاتحاد والترقي الأساسيين ولكن انقلب عليه بسبب توجهاته القومية التركية المتصاعدة، وبات هاذان الحزبان هما الحزبين المتنافسين في إطار السلطنة العثمانية التي أضحت شكلية وذات سلطة صورية.
ربما كان على السلطان عبد الحميد خلال حكمه الطويل أن يجد طريقة ليتجه إلى إصلاحات سياسية يعيد بها العمل البرلماني ليكون ممثلا للأغلبية المسلمة المرتبطة بالخلافة ورسالتها ودورها العالمي، فلا تسيطر على “المجلس العمومي العثماني” الأقليات العلمانية المتغربة التي جرّته لحرب خاسرة وزعزعت استقرار الدولة، ربما كان ذلك سيحدث لو التف حوله علماء مجددون. وقد أشار الشيح رشيد رضا إلى الأمر حين تحدث عن آراء شيخه محمد عبده لإصلاح الخلافة في مقالاته عنه التي نشرت في مؤلف تحت عنوان “تاريخ الأستاذ الإمام” قائلا: “ولو أن الدولة العثمانية عقلت تلك النصائح واتبعتها لصلحت البلاد، وارتقى العباد، وثبت سلطانها فيها، وانتقل نفوذها الديني والسياسي إلى غيرها. ولكن رجال الدين فيها كغيرها لم يكونوا يعقلون معنى لإصلاح مدني يُستمد من القرآن ومن السنة”. ولكن قد يكون تسارع الانهيار أقوى من الإرادة الطيبة المشهودة للخليفة عبد الحميد، وأكبر من عبقريته الفريدة التي لم تمكنه إلا من تأجيل السقوط.
أدت التطورات السياسية والانتخابية المتتالية إلى هيمنة حزب الاتحاد والترقي على العمل السياسي التركي وبعد الانقلاب الذي قام به ضد حكومة الائتلاف في يناير 1913 فَرض نظام الحزب الواحد وورّط قادتُه (الباشوات الثلاث) الدولةَ العثمانية في الحرب العالمية الأولى، بشكل غير منطقي وغير مفهوم، إذ كان بإمكان تركيا أن تستفيد من الحرب لو لم تدخلها وتعيد بناء نفسها على إثرها، ولكن للأسف الشديد أدت خسارتها في الحرب عام 1918 إلى انهيارها وتفككها وتشكيل دول جديدة على أنقاضها، عبر اتفاقيات عديدة سرية كانت معدة قبل نهاية الحرب منها اتفاقية سايكس بيكو (1916) ووعد بلفور (1917)، تضمنتها رسميا هدنة مودروس المذلة في يوم 30 أكتوبر 1918، بل تم تقسيم الدولة في الأناضول ذاته بين فرنسا وإيطاليا وبريطانيا واليونان والوعد بإقامة دولة للأرمن ودولة كردية من الأراضي التركية، ولكي يُقضم من الدولة التركية كل الأراضي التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، وفق معاهدة سيفر في 10 أغسطس\أوت 1920 التي صادقت عليها الحكومة العثمانية الرسمية.
لقد أدت مصادقة الحكومة العثمانية المنهارة على هدنة مودروس ثم معاهدة سيفر إلى تشكيل جبهة رفض قوية قادها قائد عسكري له مكانة في الجيش التركي، هو الجنرال مصطفى كمال الذي سُمي لاحقا أتاتورك، التحقت بها كل القوى الرافضة لمعاهدة سيفر ومنها فلول حزب الاتحاد والترقي المسؤولة عن الهزيمة في الحرب. شكلت هذه الجبهة التي حملت اسم الحركة الوطنية التركية برلمانا “الجمعية الوطنية الكبرى” و”حكومة مؤقتة” في أنقرة وخاضت حرب الاستقلال ( 1919ـ1923) ضد الحلفاء واليونانيين ضمن ما سمي بحرب الاستقلال.
توصلت الحكومة المؤقتة إلى إبرام معاهدة قارص (13 أكتوبر 1921) للصداقة مع الاتحاد السوفياتي الذي كان في طور التشكل على إثر الثورة البولشيفية في أكتوبر 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى والذي خرج من الحرب ضد ألمانيا وصار معاديا للامبريالية الغربية وقدم مساعدات بالسلاح والمال للثوار الأتراك، ولعل هذا مما يفسر الميولات اليسارية في الفكر السياسي التركي ضد القوى الأوربية التي غدرت بالنخب العلمانية التركية بانحيازها في الأخير للطوائف المسيحية واليهودية والقوميات غير التركية، وكادت أن تُنهي الوجود التركي من خارطة العالم وفق معاهدة سيفر، بعد أن استعملتهم في تفكيك الدولة العثمانية.
استطاعت الحركة الوطنية التركية أن تفرض على الحلفاء إسقاط معاهدة سيفر وإبرام معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923 التي أفضت إلى الاعتراف الدولي بالجمهورية التركية في الأنضول وتراقيا الشرقية يوم 29 أكتوبر 1923 كوريث لدولة الخلافة التي تم إلغاؤها في 3 مارس 1924 ، مع الاعتراف ، ضمن المعاهدة، بانفصال الدول غير الناطقة بالتركية.
بعد خروجه منتصرا من حرب الاستقلال استطاع مصطفى كمال أن يفرض نفسه كزعيم أوحد على الشعب التركي فتخلص من خصومه الذين ساهموا معه في إسقاط الخلافة ومنهم شخصيات مهمة من زملائه سابقا في قيادة الاتحاد والترقي، ثم تحولت الحركة الوطنية التركية إلى “حزب الشعب الجمهوري” الذي بُني على أساس العلمانية المتشددة ومعاداة الديانة الإسلامية واللغة العربية وتتريك الدولة بإجراءات متطرفة بغرض محو ثقافة الشعوب الأخرى التي بقيت تابعة لجمهورية تركيا والعمل على صهرها في القومية التركية.
لم تكن سياسة التتريك إلا مظهرا من مظاهر الحركة القومية الطورانية ( نسبة إلى منطقة تعدّ مهد الشعوب التركية تسمى طوران) التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر في فترات ضعف الدولة العثمانية، حينما اعتقد بعض السلاطين بتأثير من النخب التركية المتغربة المتأثرة بصعود القوميات في أوربا ومفهوم “الدولة الأمة” بأن تماسك الدولة العثمانية المترنحة يكون بفرض اللغة والثقافة التركية في الولايات (كانت تسمى إيالات إلى غاية القرن التاسع عشر)، وكذا بالاستئثار بالمناصب العليا في الدولة مركزيا ومحليا. ولكن حينما استحكمت النزعة الطورانية في حزب الاتحاد والترقي الذي سيطر على الحكم بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني صارت سياسات التتريك تتصاعد باطراد، وفي المقابل باتت القوميات غير التركية التابعة للدولة العثمانية تتشكل تباعا، وتقيم المنظمات السرية والنوادي والمؤسسات العلانية، بتخطيط ودعم روسي في دول البلقان وبريطاني وفرنسي في البلاد العربية.
لم يكن النشطاء العرب في تلك المرحلة يرغبون في إسقاط الدولة العثمانية، وإنما كانوا يخافون أن يؤدي ضعفها إلى احتلال بلدانهم من قبل الأوربيين مثلما حل بالجزائر وتونس وليبيا ومصر، وحينما اجتمعوا في المؤتمر العربي الأول في باريس في 13-23 حزيران 1913 كان مطلبهم الأساسي هو اللامركزية والإصلاحات والحكم الذاتي في البلاد العربية والمشاركة في الحكم المركزي وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة التركية، غير أن التشدد القومي المتبادل أنشا نخبة عربية أكثر تطرفا أصبحت تستعين بفرنسا وبريطانيا ضد العثمانيين. أما في الحجاز فكانت النزعة استقلالية ثورية باتفاقات سرية بين الشريف حسين في الحجاز وهنري ماكماهون المعتمد البريطاني في مصر أدت إلى الثورة العربية الكبرى (1916-1918) ضد الدولة العثمانية تحت إشراف الكولونيل البريطاني توماس ادوارد لورانس المعروف بلورنس العرب.
لم تحصل هذه الحركات الثقافية والسياسية على شيء فاحتلت فرنسا سوريا ولبنان، وغدرت بريطانيا بالشريف باتفاقيتي سايكس بيكو ووعد بلفور اللتين رفض الاعتراف بهما حين علم بشأنهما، ولما أصر على موقفه تخلت عنه بريطانيا ودعمت حليفها الآخر في نجد عبد العزيز بن سعود فزحف على الحجاز وأنهى حكم الشريف حسين.
لقد فعل صعود القوميات العربية والتركية فعلته في هذه الظروف فتعمقت الأحقاد، وصار الشتم والاستهزاء بالعرب حديث الصالونات والطرقات في تركيا، كما نراه اليوم عند الأحزاب التركية القومية المتطرفة. حاول بعض الأخيار من العلماء والوجهاء إصلاح الوضع بين الأشقاء في الدين فلم ينجبر الكسر، ومن هذه المحاولات محاولة الشيخ محمد رشيد رضا الذي ذهب إلى الاستانة (اسطمبول) لهذا الغرض فلم يرجع بنتيجة. ولتعقد الأوضاع وتقلبات الأحداث كان لرشيد رضا، ككثير من العلماء والوجهاء في العالم الإسلامي، مواقف تبدو متناقضة إن لم توضع في سياقها الكرونولوجي، فكان رحمه الله من أكبر مناصري السلطان عبد الحميد الثاني وعدّه السلطان القوي الذي سيعيد للخلافة وهجها وقوتها، ولكنه أحسن الظن في البداية بحزب الاتحاد والترقي، وكان يرى أن الدولة العثمانية هي الإطار السياسي العالمي الجامع لكافة المسلمين، وفي نفس الوقت كان يدعو إلى العروبة ويظهر دور العرب العظيم في الإسلام عبر التاريخ ويؤمن أن لا مكانة للإسلام بغيرهم وأنهم الأقدر على التجديد الإسلامي، كما ساهم في بعث ما سمي بالنهضة العربية، وكان مساندا للمنظمات والأحزاب العربية التي دعت إلى الإصلاح والعثمانية اللامركزية، واعتقد في وقت ما بأن الدول الأوربية قد تساعد العرب على اكتساب حقوقهم. وقد وقع كثير من العلماء والمرجعيات الإسلامية في اضطرابات أكبر مما أصاب الشيخ رشيد رضا في الحكم على الأحداث، خصوصا تجاه مصطفى كمال أتاتورك، بسبب استعماله البعد الإسلامي في حربه ضد اليونانيين والأوربيين، وخصوصا حينما ألغى السلطنة في 1 نوفمبر 1922 ونصب عبد المجيد الثاني كخليفة للمسلمين فاعتقد وجهاء الإسلام في كل مكان بأن مصطفى كمال أنقذ الخلافة من السلطنة، وأنه ستكون لهم خلافة جامعة على نحو ما كانت عليه بريطانيا العظمى في ملَكِيَتها الدستورية العالمية التي تدخل تحتها عشرات الدول ذات السيادة في مختلف القارات، فجاءته التهاني من أقصى الشرق من علماء الهند والصين إلى أقصى الغرب من الجزائر والمغرب وكم كتب الخطباء والشعراء (منهم أحمد شوقي) في أمجاد البطل ومن ذلك قوله: ” الله أكبر كم في الفتح من عجب .. يا خالد الترك جدد خالد العرب”، ولكن ما هي إلا ستة أشهر حتى ظهر مصطفى كمال وعصبته على حقيقتهم بإلغاء الخلافة والشروع في مشاريع إقصاء الدين من الحياة والتعليم والتضييق على المتدينين في ممارسة شعائرهم ولباسهم على نحو ما ذكرناه سابقا، وصارت الطورانية والتتريك مشروع دولة داخل الجمهورية الناشئة، إذ نصت المادة 66 من الدستور التركي الكمالي أن تعريف التركي: “هو حامل الجنسية التركية مع رفض الأقليات الإثنية الأخرى. فتم منع استخدام اللغات غير التركية في الإعلام والتدريس كما فرض على جميع سكان تركيا تبني أسماء تركية وحُولت أسماء الكثير من المدن إلى أسماء تركية، كذلك منعت المطبوعات والأنشطة الثقافية بغير اللغة التركية، كما أبطل كتابة اللغة التركية بالأحرف العربية” وذلك وفق ما نصت عليه مختلف القواميس الشارحة لمنعى التتريك. بل تم تتريك الأذان وكانت ثمة محاولة لمنع قراءة القرآن باللغة العربية تلاوة أو في الصلاة.
لم تكن سياسة التتريك التي تبنتها الجمهورة التركية في زمن أتتاترك قرارا متسرعا أدت إليه ظروف الصراعات السياسية بل كانت منهجا مُتبعا داخل الدولة العثمانية من قبل، نظّر له مفكرون يهود ونصارى ثم أتراك منبهرون بالحضارة الغربية ومتأثرون بصعود القوميات الأوربية في أواخر القرن التاسع عشر ، ولأغراض أخرى ذكرناها سابقا، ثم وجد هؤلاء في مصطفى كمال الشخص المناسب لترسيم هذا التوجه في الدولة وترسيخه في المجتمع للفصل نهائيا بين تركيا وعمقها الإسلامي، وخصوصا العربي، إذ يعلمون أن قوة الأمة الإسلامية عبر التاريخ هو من خلال المحور السني العربي التركي. ومن المنظرين الأوائل في هذا الشأن الكاتب اليهودي “موئيز كوهين” الذي غير اسمه فأصبح “تكين ألب” كما هو شأن يهود الدونمة في تركيا حينما اتجهوا إلى إظهار الإسلام من أجل التغلغل في المجتمع التركي، وقد كتب الأستاذ محمد عمارة رحمه الله عن هذا الكاتب مقالا نُشر في موقع إسلام أونلاين قال فيه: “لقد أصبح كتابه “طوران” الكتاب المقدس لهذه النزعة القومية. وله أيضا كتاب “ماذا يمكن أن يكسب الأتراك من هذه الحرب العالمية الأولى”، وفيه دعا الأتراك إلى هجر الرابطة الإسلامية والجامعة الإسلامية، والاتجاه نحو العنصر التركي، وحضارة تركية تكون منفصلة عن الدين الإسلامي وعن الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية، ومقطوعة الصلة بالأمة الإسلامية. وله كذلك كتاب “سياسة التتريك” الصادر في إسطنبول عام 1928 م، وكتاب “الكمالية” الصادر عام 1936 م، وفيه يقول: “إن الأمة التركية قد انسلخت من شرقيتها لتأخذ طريقها إلى الغرب”.
نجح هذا التآمر فتأسس التباعد بين الترك والعرب وتعمق، بالرغم من أن جل الكيانات السياسية التي نشأت على إثر تفكك الخلافة كانت علمانية، عربها وعجمها، وكل الذين حكموا تلك الدولة درسوا على أستاذ واحد، وهو الأستاذ الأوربي العلماني الحاقد على الإسلام والمسلمين، فيكون هؤلاء الأوربيون، خصوصا البريطانيون والفرنسيون، هم الناجح الأكبر في هذه الملحمة المأساوية الكبيرة الطويلة، إذ حطموا الخلافة بأيادي تركية وعربية وكردية علمانية، وأسسوا للقومية المتعصبة النتنة عند العرب والأتراك والأكراد، ورسخوا العداوة بين الأشقاء في الدين بأيادي عربية وتركية وكردية درست في مدرسة أوربية علمانية واحدة، وأقاموا الكيان الإسرائيلي بتهاون وتواطئ هؤلاء التلاميذ، وشكلوا حكومات تسير كلها على مناهجها المستوردة التي لم تزد بها إلا تخلفا وهوانا. وبعد أن أكلمت بريطانيا وفرنسا المهمة سلمتها، بعد تراجعها الذي رسّمته الحرب العالمية الثانية، إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتعهدها. وضعت أمريكا جل الدول العربية الناشئة تحت مظلتها، واستطاعت أن تبعد تركيا عن فلك الاتحاد السوفياتي الذي ساعدها في حرب الاستقلال، وعن العرب كذلك.
استقطبت أمريكا النخب القومية العلمانية التركية المتمركزة في الجيش، بعد الحرب العالمية الثانية التي التزمت فيها تركيا الحياد، بعد أن أصبح الاتحاد السوفياتي قوة عظمى على حدود تركيا، وقد ساعد الولايات الأمريكية المتحدة على ذلك أنه لم يكن لها دور كبير في التآمر على الأتراك في زمن القوى القديمة البريطانية والفرنسية، كما أن قادة تركيا قد تكون تشكلت لديهم قناعة بأن قربهم من القوة الأمريكية الصاعدة هو ما يجعلهم جزء من الغرب العلماني في مستوى الندية مع الدول الأوربية، وقد مثل التحاق تركيا بالحلف الأطلسي عام 1952 ثلاث سنوات بعد تشكيله عام 1949 لمواجهة السوفيات ومعسكره الشرقي، خطوة حاسمة في هذا الاتجاه. غير أن الولايات الأمريكية المتحدة كانت تريد تركيا قومية علمانية مفصولة عن العالم الإسلامي، ومعادية للعالم العربي، وصديقة للدولة الإسرائيلية المزروعة في قلب هذا العالم العربي. فكان اعتراف تركيا بإسرائيل في نفس السنة التي تشكّل فيها الحلف الأطلسي سنة 1949 – سنة بعد إنشاء الكيان عام 1948 – من المعايير الأساسية لقبولها في المعسكر الغربي، بالإضافة إلى المعايير الحضارية التغريبية الأخرى.
وَجدت تركيا الجديدة في عصر رجب طيب أردوغان نفسها ضمن هذا التاريخ المتجدد، الموسوم بالعداوة، أو على الأقل حالة التوجس مع الدول العربية، والتي تعبر عنها المواقف السياسية والتحالفات الدولية والتآمرات الخفية وكذا المنتجات الثقافية والسينمائية ومجهودات صناعة المحتوى والذباب الالكتروني في الوسائط الاجتماعية. ومما عقد علاقة الحكومات العربية مع الدولة التركية في عهد أردوغان أمران آخران هما: من جهة تدخل القوى الأجنبية مجددا للتحريش بين الأتراك والعرب، ومن جهة أخرى أن الدول العربية تخاف من أن يحفز النموذج الأردوغاني الحركات الإسلامية ويبعثها من جديد بعدما قدرت على قهرها في ظنها. وهي مع ذلك تخلط بين مسارين تاريخين مختلفين ومنهجين مختلفين للحركة الإسلامية في تركيا والحركة الإسلامية في العالم العربي فتتعامل معهما كأنهما شيء واحد، وبتعسف متعمد وساذج وأحمق ثمة من الأنظمة العربية من يعتبرهما ينتميان لتنظيم واحد هو تنظيم الإخوان المسلمين. والحقيقة أن الحركة الإسلامية في العالم العربي نشأت نقيضا للحركة القومية العلمانية العربية، بشقيها اليساري واليميني، بعد ظهور فشل الأنظمة العربية كلها في تحقيق التنمية وضمان الحريات وبعد الهزيمة المدوية لجيوشها أمام جيش الكيان الصهيويني، ثم التطبيع معه دولة دولة ضمن تحول انعزالي نحو مفهوم شوفيني لوطنية فاقدة السيادة. في حين أن الحركة الإسلامية التركية نشأت في مهد الحركة القومية التركية، في شقها الليبيرالي اللامركزي، المعارض لحزب الترقي والتحدي، والمسلِّم بالنهج العلماني للدولة والمرجعية الوطنية الأتتاركية ولكن بالتميّز الثقافي والديني عنها. ذلك هو مفهوم “العثمانية الجديدة” الذي يحمل أصحابه شعار “القرن التركي” الذي لا مكان فيه للعرب، بسبب ضعفهم وتشتتهم وانعدام سيادتهم على بلدانهم، وفق ما سمعته من مسؤولين كبار من حزب العدالة والتنمية.
لا يتحمل أردوغان وحزبه المسؤولية وحدهم لهذا الافتراق المتجدد بين العرب وتركيا، ولكن للحكام والنخب العلمانية العربية، القومية اليسارية واليمينية مسؤولية كبيرة كذلك، تماما كما كان الأمر في البدء، فنحن جميعا نشهد بأن أردوغان حاول في بداية عهده التوجه نحو العمق العربي وقال كلمته لحكام العرب “هذه يدي أمدها إليكم”، ولم يسع للتعامل إلا مع الأنظمة الحاكمة ولم يكن في يوم من الأيام في أجندته أن يتعامل مع الأحزاب الإسلامية المعارضة، ولم يفعل ذلك أبدا خلافا لرغبات وأحلام بعض الإسلاميين، ولكن لا أحد من تلك الأنظمة العربية قبل أن يكون لبلده علاقة استراتيجية مع تركيا، سوى من وقع منهم تحت حماية الجيش التركي في مواجهة تهديدات الأشقاء العرب كقطر وليبيا. ومهما كانت نظرة أردوغان للعرب، هل هم شركاء في مشروع حضاري أم أتباع، فإن أولويته في الداخل صارت قومية، وخلفيته الدينية صوفية وليست إصلاحية على نهج الحركات الإسلامية العربية، وعمقه الاستراتيجي في الخارج نحو الشعوب والدول التركمانية الست في آسيا الوسطى التي يعبر عنها شعاره: “أمة واحدة، ست دول”
مع رسوخ الجمهورية التركية بعد سقوط الخلافة العثمانية لم تصبح القومية التركية عيبا بالنظر للشعوب الأخرى بما فيها الشعوب العربية، وقد تجسد مفهوم “الدولة الأمة” في كل أنحاء العالم (مع أنه في تراجع كبير في المرحلة الراهنة)، وما على العرب في بلدانهم إلا أن يصلوا إلى مستوى النهوض الذي وصلت إليه تركيا، ليكونوا في مستوى الندية، ثم ليكن مصلحون وساسة ووجهاء في الطرفين يعملون على تحقيق التحالف الاسترتيجي الرسمي السني العربي ـ التركي المفيد للطرفين والمفيد للجميع، ولعلهم هذه المرة يفلحون في ما لم يقدر الشيخ محمد رشيد رضا على تحقيقه من قبل.
في انتظار ذلك لا تضر القومية التركية المتصاعدة على مستوى الحكومات كثيرا ما دام الحكم عاقلا وحكيما في زمن الرجل الصالح أردوغان، وإنما المشكلة على الصعيد الداخلي. وفي الداخل لا توجد مشكلة مع الأتراك ذوي الأصول العربية، المتواجدين خصوصا في جنوب شرق الأناضول والذين يصل تعدداهم في حدود عشرة بالمائة من سكان تركيا لأن هؤلاء اندمجوا كلية في المجتمع التركي ونجح معهم التتريك، ومنهم أمينة أردوغان، وكثير منهم لا يعرفون اللغة العربية. وإنما يُؤثر تصاعد القوميات على الوجود العربي في تركيا بخصوص قضية اللاجئين العرب، وخصوصا السوريين، حيث أصبحت هذه القضية ملفا انتخابيا ضاغطا أدى إلى بروز حركات قومية متطرفة، يُكنّ أصحابها حقدا شديدا للعرب، منها أحزاب انضوت تحت تحالف الأجداد التي رشحت سنان أوغان الذي نافس أردوغان في الجولة الأولى للرئاسيات ثم رجع لمساندته في الجولة الثانية،
لقد تسبب ملف اللاجئين في تحولات سياسية كبيرة في أوربا ومن آثارها صعود الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة التي صعد بعضها إلى الحكم، خصوصا أثناء الأزمات الاقتصادية، حيث اعتمد هؤلاء خطابا سياسيا شعبويا حمّلوا فيه تنامي البطالة وغلاء المعيشة والسكن توافد اللاجئين، وهوّلوا من الآثار الثقافية والحضارية من ازدياد أعدادهم. وهو ذات الخطاب الذي تعتمده الأحزاب القومية المتطرفة في تركيا متوقعةً بأنه سيكون لها به شأن سياسي معتبر مستقبلا، وهو أمر يتطلب التأمل والحذر بخصوص مصير الجاليات العربية المقيمة في تركيا، التي تشير بعض التقديرات أن عدد أفرادها في حدود خمسة ملايين، من سوريا خصوصا ثم من العراق، ومن مختلف الدول العربية، أغلبهم نزحوا إلى تركيا بسبب اضطراب الأوضاع الأمنية، وكذلك الذين هاجروا إلى تركيا بسبب الدراسة والعمل والاستثمار. ولا شك أن هذا العدد سيبقى يؤثر في التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في تركيا.
غير أن التأثير الأكبر في التحولات الانتخابية والسياسية الداخلية في تركيا، المتعلقة بالأبعاد القومية، هو ما يتصل بالموضوع الكردي، ثم هناك المسألة المذهبية المتعلقة بالعلويين وهذا ما سنتطرق إليه في المقال المقبل بحول الله.