بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها السادة الأفاضل، أيتها السيدات الفضليات،
نجتمع في هذا اليوم المبارك، في هذا القاعة الجميلة ذات الرمزية السياسية لنحيي أربع مناسبات في نفس الوقت.
لنحيي مناسبة مرور ستين سنة على استقلال الجزائر، هذه الذكرى العظيمة التي أنهى الله فيها معاناة الجزائريين طيلة مائة وثلاثين سنة من الظلم والاضطهاد والإهانة والسلب والاغتصاب والتعذيب والقتل والإبادة الممنهجة التي اقترفها الاستدمار الفرنسي البغيض. هذا الاستدمار الصليبي الذي رغم خروجه من بلادنا لم يتوقف إلى اليوم عن الكيد والسعي لاستغلال خيراتنا واقتصادنا ومحاولات الإلحاق الثقافي والحضاري، وتحريك أذياله وأزلامه النافذين في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع. وهو في كل الأحوال لم يدفع ثمنَ جرائمه بعدُ، وسيدفعها ولو بعد حين، أو على الأقل تتوقف شروره نهائيا هنا، وذلك حينما تحسم القوى الوطنية الصادقة أمرها في جمع كلمتها للوفاء لعهد الشهداء وتجسيد بيان أول نوفمبر -ونحن في ذكرى الاستقلال -تجسيدا كاملا غيرَ منقوص في “إعادة بناء الدولة الجزائرية الديموقراطية الشعبية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية ” وتحقيق ” وحدة شمال إفريقيا ضمن إطارها الطبيعي العربي الإسلامي”.
إن مرور ستين سنة لَفترة طويلة لم تجد فيها بلادنا طريقَها بعدُ للنهضة الشاملة، إذ لا زالت عقولُنا مشغولة بالأزمات المتعددة المتعدية ، ولا زلنا نتحدث عن تدني مستوى المعيشة القاسية، ولا زلنا نناقش مسائل الغش في المدرسة والتزوير في الانتخابات والفساد في الاقتصاد ومؤشرات النمو المتدنية، ولا زالت صراعات الهوية والجهوية والمناطقية والأيديولوجية قائمة، ولا زالت ملاحقة المخالفين وتضييق فضاءات التعبير ومنع اعتماد الجمعيات والمنظمات باقية، ولا تزال سياسة التحكم والهيمنة دائمة، ولا تزال عقلية الخوف من الآخر ورفضُ المخالف جارية.
أين فضاءات التدافع الإيجابي النزيه والتنافس الحر البديع المجزية؟ أين المؤسسات المنتخبة ذات التمثيل والهيبة والمصداقية القوية الفاعلة؟ أين الإبداع والابتكار والجامعات ذات الرتب العالمية العالية؟ أين المؤسسات الاقتصادية المنتجة للسلع والبضائع ذات النوع والمقادير الكافية؟
أين نحن من بلدان كانت في بداية الثمانينات على مقدارنا، من المسلمين مثلنا ومن المعسكر الاشتراكي سابقا كما كنا؟ هي اليوم في مصاف الدول النهضة بعيدة عنا؟
لا شك أن أشياء مهمة أنجزت طيلة ستين سنة، مثلما ما يتعلق بتعميم التعليم والرعاية الصحية والسكن والدعم الاجتماعي، ولكن ذلك وغيرَه لم يكن ليتم لو لا الريعُ البترولي، وذلك الريع كان يمكن أن يكون أعظم فائدةً لو استُعمل لنهضة البلد بما يجعل الرخاء يكون أشمل وأدوم لو أنشأ ذلك الكنز الطبيعي ثروة مستدامة من خارجه بحسن إدارة الموارد المادية وحسن تقدير كنوزنا البشرية.
ولكن ذلك لم يحدث بعد ستين سنة من الحكم، في إطار نفس المنظومة الحاكمة للأسف الشديد!
نعم إن مدة ستين سنة طويلةٌ جدا! استأثر فيها بالحكم نظامٌ واحد، هو ذاتُه منذ ستين سنة، لم يتغير ولم يتبدل، بقي صامدا على نفس العقلية وذات الذهنية، بتصرفات وسياسات أبدية أحادية وتسلطية راسخة لم تتغير، رغم توالي الأجيال وتبدل الأحوال وتطاول الأزمنة، وحدوث ثورات تكنولوجية وتقلبات أيديولوجية، فبقينا منذ عهد الكانكي والكربيل وtsf إلى عهد الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي لم نتغير ولم نتبدل. لم تنفع مع النظام السياسي ثورتان سلميتان عظيمتان تاريخيتان هما ثورة 5 أكتوبر 1988 وثورة 22 فبراير 2019، ثار من خلالها الملايينُ من الجزائريين لتغييره ولكنه لم يتغير.
كل ما في الأمر أننا انتقلنا من عهد الحزب الواحد إلى التعددية الصورية التي يحكمها ذات الحزب في الشكل والمضمون، ويا ليت ذلك الحزب الواحد بقي واحدا وحدث في وسطه تنوع وتدافع وتنافس بين قوى سياسية مدنية معلومة غيرِ خفية تتداول بينها على القيادة بالشفافية والنزاهة بما يؤدي إلى الإقلاع والنهوض … كما هو حال الصين مثلا.
إن أسفنا ليس على مظهر السياسية في نظام الحكم عندنا ولكن على عمقها الذي لم يستطع تطويرَ البلد وأبقانا نعيش على الخوف من مآلات التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية، نتحمل الأحداث ولا نصنعها، نخاف منها ولا نستغلها.
لا ليت حكامنا نجحوا، بعد ستين سنة من الاستقلال، في جعل بلدنا مزدهرا متطورا ينعم أهله بالعيش الرغيد بلا تمييز، آمنا في غذائه ومائه ودوائه ومنسوجه، قويا بصناعاته المدنية والعسكرية وبالعلم وإبداع رجاله ونسائه وشبابه، يتمتع بجمال بلاده وجلال خدمات مؤسساته، من صحة وتعليم ونقل وبريد ومواصلات واتصالات وانترنيت.
يا ليتهم فعلوا ذلك فلا يكون التنافس بيننا عندئذ إلا في التطوير والتحسين نحو الأفضل، فيغيب عن السياسة الرديئون والطفيليون والانتهازيون والأنانيون والمصلحجيون والضعفاء والسذج وأصحاب الطموحات المحدودة، ولا يبقى في التنافس إلا أصحاب الشخصيات القوية، وأصحاب الكفاءة والنزاهة والإبداع والنجابة والصدق والوفاء. وقد لا يشعر، عندئذ، كثيرٌ من المناضلين الآخرين، الصادقين الوطنيين المضحين بأموالهم وصحتهم وأوقاتهم بالحاجة إلى العمل السياسي أصلا فيتجهون إلى فضاء النفع العام الأخرى في مختلف فضاءات المجتمع الفسيح.
ولكن.. حكامنا للأسف الشديد لم يفعلوا ذلك، فلا هم نجحوا إلى الآن، ولا هم تركوا غيرهم يأخذ حقه في خدمة البلد بالطرق الديموقراطية كما فعلوا مع الشيخ محفوظ نحناح الذي نحتفل اليوم بذكرى وفاته رحمه الله، وكما فعلوا مع شخصيات ثورية تاريخية قبله وشخصيات وطنية بعده، ولا سمحوا لغيرهم من الوطنيين المخلصين أن يعينوهم بصدق وأن يتشاركوا معهم في إطار الاحترام والتقدير المتبادل.
والمحصلة من كل هذا أن الأزمة في البلد أزمة نخب، نخبٍ مجتمعية بكل تأكيد ولكن أزمةُ نخبٍ حاكمة بشكل جوهري وأساسي بلا شك ولا ريب.
أيها السادة والسيدات،
أما المناسبة الثانية التي نحتفل بها في هذا المحفل المحترم فهي ذكرى المنتدى الوطني للحوار الذي التأم في هذه القاعة يوم 06 جويلية 2019. لقد كانت مبادرة عين بنيان هي إحدى المبادرات الكثيرة التي صاغتها الحركة وحدها أو شاركت فيها من أجل تحقيق التوافق الوطني ولم الشمل بين الجزائريين، من المبادرة التأسيسية الأولى “مبادرة التحالف الوطني الإسلامي” التي أطلقها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله سنة 1990 إلى مبادرة التوافق الوطني سنة 2018، إلى مبادرة المنتدى الوطني للحوار الجماعية في هذه القاعة، التي كانت الحلَّ الأمثلَ والأفضل والأنضجَ لتثمين فرصة الحراك الشعبي لولا قتلِها بذلك الاستقطابِ الأيديولوجي الذي ابتلي به الحراك، وذلك الصراع المحموم على ركوبه انفراديا من أجل الاستئثار بالسلطة أو البقاء فيها.
لقد مثلت مبادرة المنتدى الوطني للحوار خارطة طريق وافيةً للم الشمل بين الجزائريين، ولو لا أنانيةُ قوى سياسيةٍ وفكرية في المعارضة وقوى رسمية في الدولة لكان نجاحنا في الانتقال الديموقراطي كاملا، ولكان طريقنا للنهضة الشاملة بعد ستين سنة من الاستقلال سالكا.
كان يمكن أن يكون لم الشمل الذي يدعو له السيد رئيس الجمهورية اليوم قد تحقق بمبادرة منتدى الحوار الوطني على أسس سياسية يسندها ميزان القوة الضروري للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الضرورية من أجل التوافق والنهوض الحضاري كما حدث لدول كثيرة في العالم، ولَمَا كان اللجوء اليوم إلى لم الشمل في حالة استعجالية خوفا من التداعيات الاجتماعية لتغيير سياسات الدعم الاجتماعي المكبلة للتنمية الاقتصادية التي بات إعادة ُ النظر فيها مسألةً حيوية، بل قضيةً تتعلق بأمن الدولة والمجتمع بسبب تراجع المداخيل الأحفورية العظيمة التي كانت تستعمل لشراء السلم الاجتماعي ومن أجل إسكات أصوات الإصلاح والتغيير، في ظل تطورات دولية آخذة في التبدل ضمن أنساق جديدة تحمل معها تهديداتٍ وجوديةً للأمم الضعيفة والمشتتة.
لقد أبدينا ترحيبنا -في حركة مجتمع السلم- بمبادرة لم الشمل وأبدينا استعدادنا لدعمها حين تظهر جديتُها وشمولُ رؤيتِها بما يجعلها فرصة حقيقية للشراكة والتعاون وخدمة الصالح العام، متمسكين برؤيتنا التي لا يخالفها عاقل بأن حل المشاكل الاجتماعية نهائيا لا يكون إلا بتحقيق التنمية التي تجعل أغلبية المواطنين قادرين على تحقيق احتياجاتهم دون الحاجة للدعم الاجتماعي، وذلك من خلال عرق جبينِهم وعمل أيديهم الذي توفره لهم المؤسسات الاقتصادية المتنامية في العدد والكفاءة والفاعلية، التي تمثل الشرط الأساسي للثروة والازدهار والقوة والسيادة، وفق شروط وبيئة النجاح التي تمثلها الرباعية التي لم نتوقف عن شرحها المتعلقة بالحكم الصالح والاستقرار والوقت وتمويل مشاريع التنمية.
أيها السادة، أيتها السيدات،
أما المناسبة المركزية الثالثة لعقد هذا الاجتماع وتنظيم هذه الندوة، فهي مناسبة التاسعة عشر لوفاة الشيخ محفوظ نحناح رحمه، ضمن سلسلة ندوات كثيرة في مختلف الولايات والجالية، وضمن فعاليات فنية ورياضية سيكون الماراثون الذي ننوي إطلاقه وننتظر الترخيص له، والمسابقة الوطنية للشطرنج الجاري التحضير لها هي ختامها بحول الله تعالى، ونسعد أن نعلن مجددا عن الجائزة السنوية الدولية “الشيخ محفوظ نحناح” للبحوث والدراسات التي أطلقها مكتب الحركة في تركيا بالتنسيق مع مركز العلاقات الجزائرية التركية في ملتقاهم الدولي الثاني الأسبوع الماضي وبالتعاون مع عدد من المنظمات الإسلامية الدولية كتثمين للبعد العالمي لشخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى.
لقد حباني الله أن التقيت بالشيخ محفوظ نحناح سنة 1983 حينما دعوته للمحاضرة بمناسبة معرض الكتاب الإسلامي بجامعة سطيف بعد ما كنت أسمع عنه من بعيد منذ أن ألقي عليه القبض سنة 1976 وأنا في السنة الأولى ثانوي من خلال مشايخي أصحاب الفضل علي الشيخ أحمد بوساق والشيخ محمد مخلوفي، وحين صرت عضوا في جماعته توليت مهاما مركزية تحت قيادته وأنا في العشرينات من عمري في مجلس الشورى الوطني ومكتب جهة الوسط الشرقي في زمن السرية، ثم تفضل علي رحمه الله أن كنت معه ضمن الثمانية عشر شخصا الذين تأسس باسمهم الحزب قانونيا سنة 1990، على رأسهم عميدُهم الشيخ الفاضل لخضر بكار الذي سنكرمه بوسام الشيخ محفوظ نحناح السنوي ضمن برنامج تكريمي سنوي لرفقاء الشيخ الأحياء منهم والأموات.
ثم بقيت معه عليه رحمة الله في المكتب التنفيذي الوطني للحركة بعد التأسيس القانوني إلى غاية وفاته، وتحملت تحت قيادته مسؤوليات عديدة، فكانت عضويتي في حزبه هي عضويةٌ في مدرسة متكاملة الأركان، تأخذ فيها النظري من مواعظه وخطبه وتوجيهاته وملاحظاته الدقيقة – من الهندام الذي نظهر به وطريقة الكلام الذي نبين به إلى التصرفات في الالتزامات الدينية والوطنية- ونأخذ فيها التكوين الميداني مما نراه في سلوكه وعلاقاته ومواقفه وانفعالاته وصمته وسكوته وحواراته مع أنواع الناس المختلفة، من بسطائهم الذين كان يتعامل معهم بحب وتواضع حتى يشعرهم بأنه أدنى منهم، إلى القمم العالية من الشخصيات الذين كان يخالطهم ويناقشهم بثقة واقتدار حتى يسمو فوقهم حكمة ومهابة، وقد حباني الله تعالى أنني استفدت من النظري والتطبيقي معه إذ لازمته دون انقطاع حتى وفاته، وسافرت معه في داخل الوطن ومختلف أنحاء العالم، مرافقا له ومترجما لحواراته مع الأجانب، ومحاضرا ومحاورا بجنبه، فما نحن بعد كل ما استفدناه منه إلا ثمرة من ثمار رؤيته في صناعة النخب الشبابية التي تقوم عليها صناعة النهضة والتي نسير على دربها إلى اليوم، وما نحن إلا حسنة من حسناته رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته. ولو بقيت أذكر مناقبه في هذه الكلمة لما وسع المجال لكلام آخر، فحسبي هذه الكلمات وما كتبت عنه من مقالات ومواضيع وأوراق بحثية، منها الورقة الأخيرة التي قدمتها في الملتقى السنوي الثاني بمناسبة وفاته في إسطنبول الأسبوع الماضي تحت عنوان “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية في العمل الإسلامي” بمشاركة الدكتور عصام البشير والدكتور عصام عبد الشافي والدكتور عمر فاروق قرقماز.
وإننا لنحمد الله أن وفقنا سبحانه لنبقى على نهجه المعتدل المتوازن، الوسطي العادل، المسالم مع المسلمين، الشديد على الباطل وأهله وعلى الصهاينة المحتلين، الصادع بالحق ولو على النفس والأقربين، المشفق على الخلق القريبين والأبعدين. وعلى طريقه في الاجتهاد والإبداع والتجديد، نواصل خطه السياسي الذي رسم لتكون الحركة سيدة على قرارها لا يتصرف فيه أصحاب المصالح الخفية والطموحات الشخصية والعلاقات الدنية، لا يأمرها رجل أمن ولا صاحب نفوذ ولا ذو مال ولا أي مؤثر من المؤثرات اللامؤسسية، وإنما تحكمها مؤسساتها التي يبنيها ويحميها المناضلون البسطاء بالطرق الديمقراطية والإرادة الداخلية، ولا يهم بعد ذلك أن تكون الحركة في الحكومة أو خارجها، أن تشارك في انتخابات أو تقاطعها، أن تتخذ هذا الموقف أو ذاك. إذ ما هي إلا توجهات آنية تمليها التحولات وتسددها الشورى وتقررها المؤسسات.
كما نواصل خطه المجتمعي المؤسسي الاستراتيجي الذي دشنه في القطاع الاجتماعي والطلابي والشبابي إذ طورناه وأصلناه ووضعنا له القواعد والمناهج تحت عنوان “التخصص الوظيفي” فصار للحركة شبكات واسعة ممتدة لفعل الخير والتعاون على البر والتقوى تشمل الأعداد الهائلة من الموارد البشرية في مختلف أنحاء الوطن وفي الخارج، ولا يزال الخير متواصلا يضمنه الانتقال الجيلي وتنميه النوايا الطيبة والأفكارُ النيرة والتجارب الفذة التي تحوزها الأجيال التي تحملت مسؤولية قيادة الحركة على المستوى المحلي والمركزي في سنوات الأزمة سابقا ثم في سنوات الاستقرار والنماء في هذا العهد الأخير بفضل الله تعالى.
وأما المناسبة الرابعة فهي الذكرى واحد وثلاثون لتأسيس حركة المجتمع الإسلامي (حركة مجتمع السلم حاليا) وقد تحدثت عنها بإسهاب في الملتقى السنوي لذكرى وفاة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في ولاية بكسرة فأكتفي بذلك حفاظا على الوقت المخصص لهذه المداخلة.
أيها السادة أيتها السيدات،
إن الموضوع الذي تم اختياره لملتقى هذه السنة “النخب السياسية في الوطن العربي” له علاقة كاملة مع المناسبات الثلاث التي ذكرتها أعلاه، فمشكلة الإخفاق في تحقيق نهضة البلاد بعد ستين سنة منذ الاستقلال هي مشكلة “نخب حاكمة” وعدم التوفيق في اغتنام فرصة منتدى الحوار الوطني وأمثاله هي مشكلة “نخب المجتمع” و”النخب الحاكمة” في آن واحد، وذكرى وفاة الشيخ محفوظ وذكرى تأسيس الحركة هي ما نقترحه فيها من حلول لحل مشكلة النخبة سواء من خلال ما تقوم به النخب القيادية والمناضلة في حركة مجتمع السلم من البقاء والاستمرار والتطور في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية صعبة ومعقدة اختفت تحت وطأتها كثير من النخب الواعدة المؤهلة في مختلف التيارات في بلادنا، ومن خلال المناسبات النظرية التي نجتمع فيها مع باحثين وأساتذة من النخب الجزائرية الصامدة كأمثال ضيوفنا الأساتذة الحاضرين معنا اليوم في هذا الملتقى بارك الله فيهم وفي جهودهم، وأوجه لهم باسم جميع إخواني وأخواتي في الحركة أسمى أنواع التحايا وعبارات التقدير والاحترام.
أيها السادة والسيدات،
يمثل مفهوم النخبة أحد المفاهيم المهمة في الحياة السياسية والاجتماعية التي تحدد دراسة التطورات البنائية للفكر الإنساني وتساعد على فهم التحولات التاريخية للمجتمعات والدول والأمم، إذ أن دراسة تاريخ الأمم هي دراسة حياة الإنسان المتفاعل والفاعل في الأحداث، وقد بات موضوع النخب مجالا واسعا للنقاش من حيث حالُها ودورها وكيفية تشكلها وخصائصها ومسؤوليتها تجاه أوضاع البلدان والأمم، سواء المتطورة فيها أوالمتخلفة.
وفي التعريف اللغوي جمعُ كلمة نخبة نخب ومعناها المختار من كل شيء، وتُشتق من كلمة انتخب أي اختار، فهي بذلك ترمز إلى مفاهيم عديدة ملازمة لها كالتميز والارتفاع والاصطفاء والندرة والاستخلاص.
ولو أردنا أن نستخلص مما جاء في التعريفات القاموسية والاستعمالات السياسية والاجتماعية تعريفا شاملا لمعنى “النخبة” و”النخب” لقلنا أنها تعني “مجموعات من الناس تملك من التأثير والمقومات والقدرات المعنوية أو المادية أو كلاهما ما يميزها عن عموم الناس في مجالها”
وقد مر تعريف النخب بمراحل كثيرة منذ نشأة الاجتماع البشري، فكان أفلاطون في العهد الإغريقي يميز بين الطبقة الحاكمة التي تستحق القيادة لما تملكه من مؤهلات وخصوصيات، وعامة الناس الذين يتوجب عليهم الاتباع، وقد توجهت أمم كثيرة في التاريخ إلى التمييز بين الأقلية النافذة والأغلبية التابعة، حمل أكثرها إيحاءاتٍ تُعظم من شأن النخبة مثلما تبينه مرادفات هذه الكلمة مثل: الصفوة، السادة، علية القوم، الأعيان، الكهان، النبلاء، الفرسان، المستنيرون ..إلخ، وتُهوّن من قيمة الأكثرية التابعة، مثل قولهم في مختلف مرادفات كلمة الجمهور: العوام، الدهماء، الغوغاء، السوقة، الهمج، الجموع ..إلخ.
وهو التصنيف الذي أسقطه الإسلام بقوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” فمهما علت أهمية الأفراد وتميز عطاؤهم، أو مهما كانت بساطتهم وضعف حالهم، فإن التفاضل الأسمى بينهم إنما هو بتقواهم ومدى قربهم من الله سبحانه، ولئن كان كسب القوة في الخير محمودا فإن من يفقدها لا يعدم خيرا كما جاء عن المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) ولا جدوى في مراكمة أسباب القوة إلا ما يحقق به صاحبها من خير وما يكسبه من أجر وثواب، وذلك فضل يتفضل به الله على من يشاء وفق قوله تعالى: (( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) وقول رسول الله صلى عليه وسلم: ((كل ميسر لما خلق له)).
وكما أن للنخب أهميتها في الإسلام كما بينته السيرة النبوية في شأن فضل الصحابة المقربين فإن لآحاد جمهور الناس مكانتَهم كما هو التوجيه القرآني في سورة عبس، ولكثرتهم فضل امتن به الله تعالى على قوم من الأقوام فقال: ((واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم))، وتفضل الله على رسوله بأن ينصره بنصره وبالمؤمنين في قوله تعالى: ((هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)). وقد ظهر التكامل بين النخب والجمهور في غزوة حنين إذ لو لا أحدهما لهلك كلاهما. وليست النخبة، في التصور الإسلامي كما في تاريخ التحولات البشرية الكبرى، فئة عليّة تقتات على تضحيات العامة. إن النخب هي الأكثر والأطول تضحية، ولا يتحقق لها النصر من جمهور الناس إلا بعد سنوات طويلة من العطاء يصنع مصداقيتَها ويجعلها تستحق ثقة العامة، فقد استمرت تضحية رسول الله والنخب التي كانت معه ثلاث وعشرين سنة ثم جاء بعدها الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وضمن هذا الاتجاه بقي مفهوم النخبة مرتبطا بهذا التقسيم ونشأ في علم الاجتماع السياسي العديد من الاتجاهات أبرزها الإتجاه السيكولوجي للعالم الاقتصادي والاجتماعي المعروف فلفريدو باريتو)(Vilfredo Pareto 1848-1923) الذي يعتبر أن النخبة هي الأقلية المتميزة والمتفوقة في المجتمع في مختلف تشكيلاته الاجتماعية، وأن امتلاك النفوذ والقوة والسلطة يعود إلى خصائص وصفات سيكولوجية يتميز بها أصحابها، والاتجاه التنظيمي عند غينتاو موسكا (Mosca Gaetano 1858-1941) وروبرت ميتشل (Robert Michels 1876-1936) الذي يعتبر أن النخبة هي التي تملك القدرة على التنظيم في داخلها ومرونة التفاعل بين أفرادها بما يجعلها قادرة على امتلاك زمام الأمور والسيطرة على مختلف جوانب الحياة في المجتمع، والاتجاه الاجتماعي الاقتصادي عند رايت ميلز (Mills C. W – 1916-1962) الذي يرى أن النخبة في جوهرها هي حيازة القوة وميلا هو صاحبة عبارة “نخبة القوة” التي تتشكل بالتحالفات بين القوى الاقتصادية والعسكرية.
ثم تطور مفهوم النخبة وتشعب من خلال التطورات السياسية والمجتمعية ومساهمات علماء الاجتماع السياسي أمثال سان سيمون وكارل مانهايم وريمون آرون إلى أشكال متعددة من النخب لها تأثيرات مختلفة ويؤثر بعضها على بعض وفي توجيه الحياة الاجتماعية والسياسية. فيقال مثلا: النخبة السياسية، النخبة الاجتماعية، النخبة الدينية، النخبة الثقافية، النخبة الرياضية والفنية وغيرُ ذلك.
ومن التصنيفات المطابقة للحياة السياسية والاجتماعية الراهنة ما ذهب إليه توماس بوتومور (1929-1992 Thomas Bottomore) الذي ميز بين ثلاث درجات في التكوين البنيوي للنخبة تنتهي إلى قسمين أو نوعين: النوع الأول الذي يتمثل في الجماعات الوظيفية والمهنية التي لا تنافس على السلطة بشكل مباشر ولا تمارسها، وهي تحظى بمكانة عالية في المجتمع، والقسم الثاني الذي يتعلق بالمنافسة والممارسة السياسية وهي الطبقة السياسية، ومنها النخبة السياسية الحاكمة التي يمارس أصحابها السلطة ويحتكرون وسائل الإكراه.
ولأهمية الحكم على حياة الناس وصعود وسقوط الأمم بقي الاهتمام بالنخبة السياسية هو الغالب وهو الأظهر في الدراسات العلمية وفي الحياة العملية الاجتماعية والسياسية، أذ ما تاريخ الأمم إلا تاريخ قادتها السياسيين، وغالبا ما يأتي تاريخ الإنجازات الحضارية العلمية والاجتماعية بالدرجة الثانية في كتب التاريخ باعتبارها نتائج لطبيعة الحكم وآثاره. ومهما يكن من أمر أهمية النخبة الحاكمة في توفير البيئة المناسبة للبناء الحضاري أثناء الإقلاع فإن استمرار رقي الأمم لا يتم إلا بالنخب الاجتماعية المختلفة، وعلى نحو مشابه لما ذهب إليه سان سيمون نقول: لو غاب فجأة عن بلد متطور حكامه فإن الحدث يكون كبيرا ولكن أثرَه على ذلك البلد يكون محدودا والتعويض قد يكون سريعا، ولكن لو غاب فجأة رواده في مختلف العلوم والفنون قد لا يشعر الناس بذلك ولكن أثره السلبي على البلد يكون عميقا ولا يعوض إلا عبر سنوات طويلة… وهي الفاجعة التي تمر بها البلدان العربية ومنها الجزائر بهجرة أعداد مهولة من النخب العلمية المتميزة دون توقف ولا يشعر بها الناس.
أو على نحو ما ذهب إليه مارتن لوثر زعيم الإصلاح الديني في أوربا في القرن السادس عشر حين قال: “إنّ سعادة الأمم لا تتوقف على كثرة دخلها، و لا على قوة حصونها، أو جمال مبانيها العامة، و لكنها تتوقف على عدد المثقّفين من أبنائها و على رجال التربية والعلم والأخلاق فيها “فهنا تكون سعادتها و قوتها العظيمة و مقدراتها الحقّة”.
ومما نشرف به في تاريخ حضارتنا الإسلامية أن صناعة النهضة كان عبر تكامل مؤصل بين النخب الحاكمة ونخب المجتمع، إذ كان للحكام صلاحياتهم السلطانية وكان للعلماء وصناع العمران في مختلف المجالات دورهم ومكانتهم.
غير أن الضابط في ظهور النخب وتكاملها أن تكون البيئة مناسبة لبروز وأداء دورها وفق التعريف المتفق عليه في مختلف المذاهب والمدارس، أي أن تكون النخب نخبا حقيقية متميزة بخصائصها السيكولوجية والتنظيمية والقيادية، لا أن تكون نخبا ممكنة بفعل خارجي عن شخصيتها دون أهلية تميزها، سواء عن طريق الارتقاء الوراثي أو المذهبي أو القهري أو الانتهازي أو الزبوني أو حتى عن طريق التحولات الظرفية المواتية لأشخاص ليست لهم خصائص ذاتية تميزهم عن غيرهم إذ سيفقدون لا محالة المبادرة.
ولذلك من أعظم ما يضر البلدان صعوبة أو استحالة ظهور النخب الفاعلة فيها أو خروجها الجماعي منها بسبب ضعف وفساد منظومات الحكم وانغلاق الأفق، فتتاح الفرصة للنخب الرديئة كما يقول الكواكبي ” أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا”. غير أن هذه البيئة الصعبة هي التي تصنع النخب المجتمعية الكبيرة التاريخية، إذ على قلتها هي التي تصنعها الأحداث القاسية وهي التي تستطيع مواجهة التحدي وصناعة التغيير.
ومما يمكن استخلاصه في الأخير من هذا الموضوع المهم المتعلق بالنخب هذه القواعد التالية:
- دور النخب هو خدمة أوطانها والمساهمة في صيانه ازدهاره وأمنه ووحدته، وخدمة الإنسان والمساهمة في صيانة كرامته وحريته وحقوقه.
- لا يتصور تطور الأمم ونهضتها إلا بوجود نخب فاعلة ذات خصائص سيكولوجية تميزها عن غيرها في مجالها.
- النخب الأفضل من حيث الخصائص الشخصية والأحسن تنظيما والأمهر في صناعة التحالفات هي الأكثر تأثيرا.
- وفرة النخب ذات الكفاءة والفاعلية دليل على حياة أممها، وكثرة النخب الطفيلية المظلية دليل على تهالك أممها.
- كما أن للنخب أهميتها من حيث القيادة والتأثير، للجماهير أهميتها من حيث الحسم والنصرة والأمان.
- الطبقة السياسية هي النخبة المؤثرة في السياسات تأثيرا مباشرا ونافذا وآنيا والنخب المجتمعية ذات تأثير غير مباشر ولكن عميق ودائم.
- – النخب المجتمعية تصنع النهضة والنخب السياسية تقررها وتمضيها.
- النخب الحاكمة تمثل قيادة الأمم ومقامها عند الناس بقدر إنجازها، والنخب الاجتماعية تمثل قوى التأثير في الأمم ومقامها بين الناس بقدر مصداقيتها.
- تنهض الأمم بالتكامل بين النخب السياسية والنخب الاجتماعية، فإن حل التضاد الدائم بينها فذلك دليل أزمة بنيوية مهلكة.
- النخب الحاكمة هي صانعة التاريخ، تصنعه خرابا حين تكون فاسدة، وتصنعه حضارة حين تكون صالحة.
- في الطبقة السياسية نخب حاكمة تخط السياسات وتمضيها، ونخب معارضة ذات تأثير في السياسات بالنقد والتدافع، من حيث خصائص التنافس والتبني المتبادل والمتقابل للأفكار والمشاريع.
- قد تكون خسارة النخب المجتمعية العلمية والثقافية والمهنية المجهولة لعموم الناس أكثر فداحة من خسارة الحكام المشهورين بين الناس.
- نخب ذات قيمة عالية تقتلها بيئتها حين تعجز عن التأثير فيها.
- نخب ذات كفاءة يغيبها سوء أو غياب بالتنظيم، ونخب أقل كفاءة يحقق التنظيم رؤيتها وطموحها.
- إنما السياسة ميزان قوة، ولن ينفع النخبَ خصائصُها السيكولوجية ومهاراتها التنظيمية في مهمة الإصلاح والتغيير ما لم تتوصل لتغيير موازين القوة.