بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية في العمل الإسلامي
ملتقى الشيخ محفوظ نحناح السنوي
إسطنبول 25 جوان 2022
مقدمة:
أشكر القائمين على هذا الملتقى السنوي الثاني في إسطنبول بمناسبة ذكرى وفاة الشيخ المؤسس محفوظ نحناح رحمه الله، ويندرج هذا الملتقى ضمن سلسلة الفعاليات الكثيرة التي يقوم بها المناضلون والمحبون في مختلف أنحاء الوطن وفي الجالية احتفاء بهذه الذكرى وفاء لهذه الشخصية الإسلامية الوطنية والعالمية الكبيرة.
كما أشكر القائمين على اختيار الموضوع وتكليفي بالعنوان المشار إليه: “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية في العمل الإسلامي” حيث أن هذا الموضوع هو فعلا مرتبطٌ بشخصية الشيخ محفوظ من حيث التضحيات الكبيرة التي قدمها على حساب طموحاته الشخصية ومصلحة حزبه لصالح المصلحة الوطنية، وما توصل إليه من مفاهيم أساسية في معالجة هذه القضية، وما أطلقه من مصطلحات تتعلق بذات الموضوع، وما الذي استفدناه بعده من تجربته على هذا المضمار.
لقد مكنتني كتابة هذا الموضوع من البحث في علاقة المصلحة الحزبية بالمصلحة الوطنية وأبعاد ذلك على ضوء تجربتي الشخصية وما عاينته بنفسي في حياة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وقد قسمت الموضوع إلى عدة محاور هي كالتالي:
- أولا: الإطار التعريفي الذي شرحت فيه معنى المصلحة الحزبية ومعنى المصلحة الوطنية.
- ثانيا: المصلحة الوطنية والمصلحة الشرعية لتأطير المفهوم على أساس شرعي.
- ثالثا: المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية للتأكيد على التكامل بينهما وعلى أن التعارض حالة استثنائية.
- رابعا: النموذج العملي في حياة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله لإظهار حجم التضحيات والمآلات الإيجابية لذلك.
أولا: الإطار التعريفي:
قبل الحديث عن ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية يحسن بنا أن نتوقف عند بعض التعريفات المهمة التي يحتويها العنوان من أجل فهم أفضل للموضوع.
1 ـ معنى الحزب والمصلحة الحزبية:
كلمة حزب جمعها أحزاب، ومعناه في المعجم الوسيط “قوم تشَاكلت أهواؤهم وأعمالهم”، وله في معجم اللغة العربية المعاصرة كلمات مرادفة: قوم، طائفة، جماعة.
وبهذا يأتي معنى كلمة “حزب” في القرآن الكريم، في قوله تعالى: ((كل حزب بما لديه فرحون))[1] وقوله: ((فاختلف الأحزاب من بينهم))[2]
والتحزب في اللغة والشرع هو التجمع، سواء كان تجمعا على حق أم تجمعا على باطل، فقال تعالى في حق المشركين الذين اجتمعوا على الباطل لمحاربة الإسلام والمسلمين: ((ولما رأى المشركون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله))[3]، أو قوله: ((أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون))[4] ، أو قوله تعالى. بخصوص المؤمنين الذين اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة الحق من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:((أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون))[5].
ويقال حزّب الأمرَ “جمَعهم وقوّاهم وشدّ منهم”، ويقال “حازبه ليقوي من مكانته”، ويُقال “حَزبَه أمر” أي اشتد عليه.
وتُطلق كلمة حزب كذلك على نصف الجزء من القرآن، أو الورد من الأذكار.
وفي القاموس السياسي المعاصر يطلق اسم الحزب السياسي وفقًا لموسوعة “بريتانيكا” على: “جماعة منظمة من الأفراد تهدف لاكتساب وممارسة السلطة السياسية”[6]، وجاء في قانون الأحزاب الجزائري أن “الحزب السياسي هو تجمع مواطنين يتقاسمون نفس الأفكار ويجتمعون لغرض وضع مشروع سياسي مشترك حيز التنفيذ للوصول بوسائل ديمقراطية وسلمية إلى ممارسة السلطات والمسؤوليات في قيادة الشؤون العمومية[7]“.
ويتشكل الحزب من قيادة مركزية ومحلية وهياكل تنظيمية، ويتوفر على حاضنة اجتماعية، ويتميز عن غيره من الأحزاب ببرنامجه وخطابه ومواقفه ويتمثل نجاحه بما يحصله من نتائج في مختلف الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية. وفي الدول الديموقراطية يكتفي الحزب بما يبذله من جهد لنيل ثقة الناخبين للوصول للحكم حتى يتمكن من إصلاح شؤون بلاده في مختلف المجالات وفق رؤيته وبرنامجه عبر مختلف الوزارات والمؤسسات الحكومية المركزية والمحلية. وللوصول إلى ذلك يقوم الحزب بعمل دائم لتكوين إطاراته ومناضليه، وبجهد متواصل لتوعية الرأي العام من خلال وسائل الإعلام وعبر التجمعات والندوات واللقاءات الجوارية مع المواطنين في مقراته وفي الفضاءات العامة، ويعمل على توسيع علاقاته وإبرام التحالفات لأغراض سياسية أو أيديولوجية.
وتتمثل مصلحة الحزب في تمكينه من أداء دوره المتعارف عليه، وأي اعتداء على وجوده، أو على أفراده، سواء في عملهم الحزبي أو في حياتهم الشخصية أو أعمالهم التطوعية الأخرى، أو على حرية نشاط الحزب أو مقراته أو ممتلكاته، أو أي ضغط عليه بطرق مباشرة أو غير مباشرة، أو تحريفٍ لنتائجه الانتخابية بالتزوير أو بالانقلابات هو اعتداء على مصلحته الحزبية.
وفي الأصل يختلف مفهوم الحزب عن الجمعيات المدنية الدفعية أو الخدمية، وعن النقابات وعن مجموعات الضغط، ولكن ثمة أحزاب لها صفة قانونية حزبية ولكن لها وجود كبير من خلال حيوية أعضائها في التوعية الجماهيرية وخدمة المواطنين في مختلف المجالات عبر شبكات المجتمع المدني فتنال، بطريقة غير مباشرة، مزيدا من النفوذ والتأثير. كما أن ثمة أحزاب لها امتدادات مؤثرة في النقابات ومجموعات الضغط تؤثر بها على الرأي العام وداخل مؤسسات الدولة.
2 ـ معنى المصلحة الوطنية:
يتم تداول كلمة “المصلحة الوطنية” كثيرا في الحياة الحزبية في العالم العربي، ويعبر عنها بعبارة “المصلحة القومية” كذلك. وهي كلمة تتسم بالغموض في الدول غير الديموقراطية، وتُتداول كثيرا في المزايدات السياسية بين السلطة المتحكمة والقوى التي تعارضها. غير أننا لا نجد في المعنى القاموسي تداولا كثيرا لهذه العبارة في الحياة الحزبية في الدول الديموقراطية. فهي كلمة مرتبطة أكثر بالمفاهيم الشائعة في العلاقات الدولية، إذ تُنسب كلمةُ “المصلحة الوطنية” إلى المفاهيم الأساسية في النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، التي تَعتَبر أن جوهر السياسة الخارجية للدول هو ما يضمن المصالح الاقتصادية والأمنية والثقافية والجغرافية في التعامل مع المحيط الخارجي وفق الثقافة والمعتقدات التي تقوم عليها الدولة ذات السيادة، وما يضمن التفوق والتأثير في المجتمع الدولي. وهناك حد فاصل بين المجال الخارجي والمجال الداخلي في استعمالات كلمة المصلحة، فالحكومة التي تعمل في مجالها الداخلي توصف بأنها تعمل لمصلحة العامة (أو مصلحة المواطنين)، في الوقت الذي توصف فيه الحكومة التي تتعامل مع مجالها الخارجي بأنها تعمل في إطار المصلحة الوطنية (أو المصلحة القومية).
وقد برز مفهوم المصلحة الوطنية في أوروبا في عصر النهضة بإيطاليا بخصوص دوافع وسياسات الفعل الخارجي للدولة حيث كانت قبل ذلك تصاغ على أساس ديني وأخلاقي، فكانت الدول تبحث على تبريرات أخلاقية لشن الحروب، وعلى المستوى الفلسفي يعتبر نيكولو ميكيافيلي (Machiavelli Nocollo) هو أول من كتب في الواقعية السياسية بعيدا عن الاعتبارات الدينية والأخلاقية في شأن الحكم وفي العلاقات بين الدول، كما يُعدّ توماس هوبز (Thomas Hobbes) من أهم منظري المصلحة الوطنية على أساس وضعي غير مربتط بالدين والأخلاق، وعلى المستوى العملي يعتبر رئيس الوزراء الفرنسي الكاردينال ريشليو (Armand de Richelieu) هو من طبق هذا المبدأ على حساب المرجعية الدينية في حرب الثلاثين سنة حين ساند انجلترا البروتستنتية على الرغم من انتمائه الكاثوليكي لمنع ازدياد قوة الامبراطورية الرومانية المقدسة، إلى أن أصبح المذهب الواقعي نهجا مؤصلا علميا على يد هانز مورقانتو (Morgenthau Hans) عبر كتابه “السياسة بين الأمم . وحينما يمتد مفهوم المصلحة الوطنية إلى الشؤون الداخلية في الدول الغربية فإنه يُقصد به مبدأ التصرف السياسي الذي يَعتبر أن مصلحةَ وحماية الدولة تمر فوق كل اعتبار، لا سيما الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، فهو مبدأ يبرر التصرف غير القانوي وغير الدستوري، وهو نقيض مبدأ دولة القانون[8]. وكثيرا ما تُستعمل عبارة ” سبب (مبررات) الدولة” ( La raison d’état) للتعبير عن مفهوم المصلحة الوطنية ويمكن الرجوع إلى كتاب فريديريك ماينك (Friedrich Meinecke) ، ففيه إحاطة أكثر بتطورات المفهوم عبر التاريخ[9].
وتقوم نظرية الواقعية السياسية على بحث الدولة لمصالحها الوطنية وضمان تفوقها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وهي النظرية المهيمنة في الساحة الدولية في زمن الحملات الاستعمارية الأوربية والهيمنة الأمريكية العالمية الحالية.
ولئن كان مفهوم المصلحة الوطنية في العلاقات الدولية واضحا ومفهوما، واستعمالاتُه السياسية غير الأخلاقية أمرا متعارف عليه في الدول الغربية، فإن استعماله في البلاد العربية في الشؤون السياسية الداخلية بقي مبهما وفضفاضا وغامضا، وقد أصبحت الأنظمة المستبدة تستعمله كثيرا للضغط على القوى المعارضة باتهامها بأنها تهدد المصلحة الوطنية كلما رفعت تلك القوى المعارضة سقف معارضتها للسياسات الرسمية الخاطئة، ولم تجعل تلك الأنظمة لنفسها سقفا في المطالبة بالتنازلات من القوى الوطنية المعارضة لكي “تمنحها” صفة “الوطنية”، بالرغم من أن تصرفات أولئك الحكام، التي يُطلب التنازل لها، هي في حد ذاتها مهددة للمصلحة الوطنية في كثير من الأحيان.
يمثل نضال الشيخ محفوظ نحناح نموذجا كاملا في دراسة هذه الإشكالية، حيث وقف منذ بداية التسعينيات ضد العنف، وضحى بكثير من رجاله إذ اغتالتهم أيادي الإجرام، على رأسهم رفيقَه ونائبه الشيخ محمد بوسليماني، ومد يده لكل القوى السياسية الوطنية والعلمانية المعتدلة والأكثر تطرفا من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، وتعرض لانشقاقات كبيرة في صفوف حزبه ولخسائر كبيرة في شعبيته وشعبية حزبه بسبب سياسات التهدئة وتوجهات المشاركة السياسية التي انتهجها. وزُورت عليه الانتخابات ومُنع من الترشح ومع ذلك بقي ثابتا على منهج التقارب مع النظام السياسي بغرض تخفيف الأزمات والمحافظة على الدولة وصيانه الوحدة الوطنية وإبقاء فرصة الانتقال الديموقراطي قائمة. لم يعبأ بالأضرار التي لحقته ولحقت مصلحة حزبه لكي لا يلحق الضرر بالبلد وأهله، ومع ذلك بقي يتعرض لكل أنواع الصد والدسائس خوفا من أن يتقدم نحو المشاركة الفعلية في قيادة الدولة بالطرق الديموقراطية، إلى أن أصبح يقال ” إن الباعث على التزوير الانتخابي ضد الشيخ محفوظ وحزبه هو من أجل المصلحة الوطنية”[10].
عندئذ أصبح الشيخ محفوظ نحناح لا يقبل الحديث المطلق عن المصلحة الوطنية، دون أن يكون المفهوم واضحا ومحددا فأطلق عبارته المشهورة ” المصلحة الوطنية المتفق عليها” حتى لا تستغل عبارة “المصلحة الوطنية” كغطاء للتفريط في “المصلحة الحزبية” خدمة للمصالح الشخصية للحكام وليس من أجل مصلحة الوطن.
ثانيا -المصلحة الوطنية والمصلحة الشرعية.
إن السبيل الأوثق لتحديد العلاقة بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية هو اعتماد كل الأطراف في الساحة السياسية مفهوم المصلحة الشرعية وضوابطها وسبل تحديدها في الشريعة الإسلامية.
إن من مقاصد الشريعة “تحقيق المصلحة للمكلف، فمَبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها[11]، والمصلحة في اللغة ضد المفسدة، وفي الاصطلاح هي وفق أبي حامد الغزالي على النحو التالي: “ومقصود الشرع من الخَلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة[12]، وزاد ابن تيمية على ذلك فقال: “أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه”[13]. وتُقسم المصلحة في الشريعة عدة أقسام يستعملها العلماء في الموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض، ومن ذلك تقسيمها من حيث اعتبار الشرع إلى “مصلحة معتبرة شرعا” و”مصلحة ملغاة شرعا” و”مصلحة مرسلة” لا معتبرة ولا ملغاة ينظر إليها بمدى تحقيق مقصود الشارع، ومن حيث قوتها وأهميتها إلى “مصلحة ضرورية” “لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا[14]” كما عرفها الشاطبي أو “مصلحة حاجية” “تحتاجها الأمة لانتظام أمورها على وجه أحسن للتوسعة ورفع الضيق[15]” أو “مصلحة تحسينية” من قبيل التحسين والتزيين وهي ” ما كان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر في مرمى بقية الأمم”[16] كما يعرفها الطاهر بن عاشور، ومن حيث الشّمول إلى “مصلحة عامة” تتعلق بجماعات في الأمة، كمصلحة فئة معينة أو أصحاب حرفة ما، أو “مصلحة خاصة” لشخص بعينة. ولكل نوع من المصالح أمثلة من حياة الناس تزخر بها كتب أصول الفقه مما ليس المجال للتوسع فيه هنا، ويمكن الرجوع إليها في مصادرها.
ويعود اعتبارُ المصلحة في الشريعة الإسلامية إلى رحمة الإسلام، وفق قوله تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))[17]، ومقصدِ رفع الحرج على الناس وفق قوله تعالى: ((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم))[18] وما وضعه العلماء من قواعد شرعية تحقق ذلك كقاعدة ” لا ضرر ولا ضرار”، وهو ما قام به الصحابة فعليا في تسيير شؤون الناس بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي حتى يستمر هدي الإسلام، إذ “لابد أن تُبنى الوقائعُ على تحقيق المصلحة للناس فيما يَتوافق مع مقاصد الشريعة، وأهدافها الكلية، كي يتحقق خلودُ الشريعة، وصلاحيتُها الدائمة لكل زمان ومكان”. [19]
ومجال المصلحة الشرعية واسع جدا، غير أن له ضوابط محددة تؤطره حتى تُتجنب الأهواءٌ والتعسف في التعامل معه، ومن ذلك أن تكون المصلحة موافقة لمقصود الشارع، وأن تكون مصلحة حقيقية لا مصلحة وهمية تُتخيل فيها المنفعة ولكنها تَشمل مضرة خفية، وأن تخدم مصلحة ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وأن يتم النظر إليها من حيث قوتها، ومن حيث شمولها، فلا تقدمُ المصلحة الحاجية على المصلحة الضرورية، ولا تقدم المصلحة التحسينية على المصلحة الحاجية، ولا تقدم المصلحة الخاصة بأفراد على المصلحة المتعلقة بجماعات، ولا تقدم المصلحة المتعلقة بجماعات على المصلحة العامة لكل أمة[20]. ومن أهم الضوابط أن لا يتخصص في تحديد المصلحة أصحابُ المصالح المقصودة في أي مجال من المجالات، وأن تحدد المصلحة بالتشاور بين أولي الرأي ومن انتدبتهم الأمة لذلك، ومن أهل العلم والخبرة ممن قصدتهم الآية الكريمة ((واسألوا أهل الذكر إم كنتم لا تعلمون))[21] الذين يعرفون موافقة المصلحة لمقصد الشارع ويميّزون بين المصلحة الحقيقية والمصلحة الوهمية، ويميزون بين الأهم والمهم، والعاجل من الآجل، ويعرفون تقدير مآلات الأمور.
وقياسا على هذه المفاهيم المتعلقة بالمصلحة الشرعية يمكننا أن نحدد إطارا عاما للمصلحة الوطنية، تكون حاضرة في الفكر والممارسة السياسية، يمكن الاتفاق عليها كما كان يريد الشيخ محفوظ نحناح رحمه، ومن ذلك:
- ما يتعلق بهوية البلد وثقافته.
- ما يتعلق بمصالحه الاقتصادية ذات النفع العام على البلاد والعباد.
- ما يتعلق بأمن البلد وأمن السكان.
- ما يتعلق بالاستقرار الاجتماعي ووحدة البلد.
- ما يتعلق بكرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية.
- ما يتعلق بالحفاظ على الدولة وسلامة مؤسساتها.
- ما يتعلق بمنع الفساد وكل أنواع الضرر والغش ومصادرة الإرادة الشعبية.
- ما يتعلق بصيانة السيادة الوطنية ومنع الخيانة والتبعية.
ولا يدخل في المصلحة الوطنية:
- السياسات والقرارات والقوانين والبرامج الحكومية.
- شخصية الحاكم وتصرفاته.
- ما يتعلق بالتصرفات المهددة للمصالح الوطنية المذكورة أعلاه التي قد يتخذها الحكام.
- ما يتعلق بالعلاقات العادية الداخلية والخارجية التي يقوم بها الأفراد والجماعات التي لا تهدد المصالح الوطنية المذكورة أعلاه.
فهذه كلها مجال اجتهاد تتسع للاختلاف في الساحة السياسية والاجتماعية في إطار العدل في الحكم والأدب في القول.
ثالثا -المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية والتعارض حالة استثنائية.
نخلص في سياق ما تم التطرق إليه أعلاه أن المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية، ذلك أن الحزب له أدوار أساسية تصب في الإطار العام للمصلحة الوطنية المذكورة أعلاه، ومن ذلك:
- أن الحزب في أصل وجوده وأساسيات أهدافه يطمح للسلطة، وما دامت أهداف أيِّ سلطة هي خدمةُ المصالح الوطنية المذكورة أعلاه وخدمةُ أية مصلحة وطنية أخرى تتعلق بنفع الوطن والمواطن فإن الحزب وسيلة أساسية في اتجاه خدمة المصلحة الوطنية، إذ المطلوب منه أن يجسدها بنفسه حينما ينتقل إلى الحكم ويتولى إدارة السلطة التنفيذية.
- أن الأحزاب السياسية من أهم التنظيمات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تؤثر بشكل مباشر على المجتمع والدولة واستقرارهما وتطورهما، وقد صارت جزء أساسيا من أركان النظم الديموقراطية، إذ لا تُعدّ الدول التي يوجد فيها حزبان فاعلان، على الأقل، دولا ديموقراطية بالمفهوم السياسي الشائع، وحتى في الدول الفاعلة أحادية الحزب فإن داخل الحزب الواحد مجموعات سياسية وأيديولوجية وثقافية تتدافع بينها كما تتدافع الأحزاب في الإطار التعددي. وفي كل الأحوال هذه الحالة التعددية داخل الحزب الواحد التي تضمن التدافع هي في كل الأحوال أفضل من التعددية الصورية التي تُستعمل فيها الأحزاب كواجهة تزين بها الأنظمة المستبدة وجهها، إذ المقصود في الشأن العام التدافع الحقيقي الذي يمنع الفساد والطغيان.
- تؤدي الأحزاب أدوارا أساسية في تحقيق الاستقرار من حيث أنها تستوعب الخلاف القائم في المجتمع وتوجهه وجهة قانونية سلمية وسلسلة. وكلما كان احترام الأحزاب قائما في الدولة كان التنافس على الحكم مؤطرا من خلال التداول الحقيقي على السلطة بين الأحزاب والأشخاص والأفكار.
- تساهم الأحزاب مساهمة فاعلة في تمكين المواطنين من المشاركة في الشأن العام، من حيث الاستماع لهم ونقل اهتماماتهم للبرلمان والسلطة التنفيذية، ومن خلال شرح السياسات الحكومية وتبسيط فهمها والاستفادة منها، ومن حيث فتح المجال لهم للممارسة السياسية والنضال المنظم من أجل أفكارهم بواسطة الحزب ومن خلال الترشح باسمه للمجالس المحلية والنيابية وإدارة الشأن العام[22].
ـ تساهم الأحزاب كثيرا في تكوين الإطارات، لا سيما الشباب والنساء، من خلال ما توفره لمناضليها ومحبيها من معارف سياسية واقتصادية وثقافية ودولية، وتدريب على مختلف المهارات الذهنية والإدارية والقيادية عبر البرامج المخصصة لذلك، وعبر الممارسة الميدانية، ويعدّ ذلك مساهمة مهمة في تطوير الموارد البشرية للبلاد. - تؤثر الأحزاب الفاعلة كثيرا في التثقيف[23] وتوعية الرأي العام ورفع مستوى المواطنة وتشجيع الناس على المشاركة في الانتخابات من خلال خطابها السياسي الوطني، سواء المُسانِدة للحكومة، لشرح القرارات والسياسات الرسمية، أو المعارضة التي تبين الإخفاقات وجوانب القصور الحكومي وتبين للناس حقوقهم وسبل التوصل إليها.
- تعتبر الأحزاب السياسية إحدى قنوات الاتصال السياسي الأساسية المنظمة في المجتمع، بشكل مباشر في البيئة الداخلية للحزب، أو بين أعضاء مختلف الأحزاب، أو بين أعضاء الحزب وأفراد المجتمع الآخرين، أو كوسيط بين مختلف أفراد المجتمع، وبين أفراد المجتمع والسلطات محليا ومركزيا، بما يساعد على التعارف والتفاهم والتعايش والتعاون وتحديد المشترك الوطني.
- تقوم الأحزاب بأدوار ديبلوماسية مهمة، ضمن ما يعرف بالديبلوماسية الشعبية من خلال اتصال قادة الأحزاب بمختلف القوى السياسية والحزبية والمنظمات غير الحكومية الأجنبية، وضمن ما يعرف بالديبلوماسية البرلمانية من خلال العلاقات التي يقيمها نواب الحزب مع مختلف النواب الأجانب، وكل ذلك يساهم في نقل التجارب الخارجية الناجحة ويساعد في تحسين صورة البلد والدفاع عن مصالحه في المحيط الخارجي.
- ومهما يكن موقع الحزب، في المعارضة أو في الحكومة، فهو يساهم مساهمة أساسية في وضع السياسات الحكومية، وذلك عبر حالة التنافس الضرورية لبقاء الحزب وتعزيز وجوده[24]، بين المعارضة والسلطة على إرضاء المواطنين. ويكون التنافس في رسم السياسات من خلال التشريع البرلماني لنواب الأغلبية والقرارات والإجراءات الحكومية التي يقوم بها الحزب الحاكم، أو من خلال الضغط الذي تقوم به الأحزاب المعارضة في الشارع بواسطة التجمعات والمحاضرات والندوات، أو بواسطة وسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية، أو عبر الرقابة البرلمانية بما يجعل الحكومة تنزع إلى سحب البساط من تحت أرجل المعارضة بتبني مطالبها الشعبية، وقد يؤدي ذلك إلى قلب ألوان الخريطة السياسية مثلما هو جار في العديد من الدول حيث تتحول الأحزاب بين اليمين إلى اليسار وبين أيديولوجية وأخرى بسبب الضغوطات الشعبية التي يؤثر فيها خطاب الأحزاب المتنافسة، فيكون رسم السياسات والتوجهات الحكومية شأن حزبي مشترك.
- كما تساهم الأحزاب في مراقبة الأحزاب الحاكمة في مدى التزامها بالوعود التي قدمتها للناخبين ودفعها إلى تصحيح الأخطاء الحكومية أثناء التنفيذ وإجراء التعديلات اللازمة[25].
– ومن أهم أدوار الأحزاب في صيانه المصلحة العامة المساهمة في الحد من الفساد وكشف الفاسدين من خلال الرقابة على الشأن العام بواسطة الخطاب السياسي والنشاط الإعلامي وعبر الرقابة البرلمانية، ومن أهم نتائج ذلك تشكيل ضمير جمعي رافض للفساد.
وفي المجمل تمثل الأحزاب الجادة التي يقودها قادةٌ صالحون وطنيون أصحاب رؤى وهِممٍ فرصةً عظيمة لنهضة الأمم والأوطان، وقد سجل التاريخ أن المصلحة الوطنية العظمى المتمثلة في الخروج من التخلف وتحقيق التنمية الوطنية وتجسيد الازدهار والرقي والتطور قامت بها أحزاب تناغمت مصالحها مع مصالح أوطانها، فكبُرت أوطانها وكبرت هي معها، وكبر زعماؤها فيها، فلا يوجد في الأصل وفي الحالة العادية أيّ تعارض بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية.
إن تعارض المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية حالة طارئة قد تحدث في زمن الأزمات. فإن كان التعارض حالة دائمة، فهو إما أن يكون تعارضا وهميا تفرضه قوى تسعى لتعطيل الدولة أو تعطيل الأحزاب، أو أن البلد في أزمة عميقة ومستدامة.
ولكن قد تجد الأحزاب الوطنية نفسها في ظروف تدفعها لتأجيل طموحها للوصول إلى السلطة، أو صبرها على مظالم تقع عليها ومن ذلك:
- حالات الفتنة والاقتتال التي تجعل الأحزاب الوطنية تعطي الأولوية لحقن الدماء وجمع الشمل والبحث عن مساحات الالتقاء، فلا تحرص على فرض رأيها أو الاستئثار بالحكم ولو كانت قادرة عليه.
- حالات الحروب والتهديدات الخارجية، في ظل حكومة وطنية تحرص على السيادة الوطنية وتصدق في الدفاع عن الوطن فيجعل الحزب نفسه تحت التصرف، ويكون مناضلوه مجندين للدفاع عن البلد والتضحية بمكتسباتهم ومكانتهم وطموحاتهم.
- أثناء مرحلة الانتقال الديموقراطي، أي في الفترة التي يكون فيها بلد ما في مرحلة انتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية، سواء كان الانتقال عبر فعل سياسي ثوري، أو بقرار من السلطات العليا أو من خلال التوافق بين السلطة وقوى المعارضة، بسبب تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ودولية. ففي هذه الحالة لا يكون في مصلحة البلد والديموقراطية ولا في مصلحة أي حزب أن تستأثر جهة حزبية بالسلطة وحدها، ولو كان صعودها عبر الإرادة الشعبية. وذلك بسبب أن تطلعات الشعوب في المراحل الانتقالية كبيرة وظروف الحكم صعبة، فيلزم على كل الأحزاب أن تتنازل عن مصالحها الحزبية وطموحات قادتها الشخصية من أجل التوافق الوطني الذي يمثل المصلحة الوطنية.
رابعا – النموذج العملي في حياة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.
ولد الشيخ محفوظ في 27 جانفي سنة 1942 وتوفي في 19 جوان 2003. نشأ في بيئة الحركة الوطنية وتحت تأثير الحركة الإصلاحية الباديسية، ووافقه اندلاع الثورة التحريرية وهو شاب في مقتبل العمر فشارك في الجهد النضالي في مدينة البليدة ونواحيها رفقة أقرانه وأصحابه على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. وبعد الاستقلال انخرط في العمل الدعوي والسياسي لاستكمال عهد الشهداء والمجاهدين ومواصلة مسيرة الإصلاح الاجتماعي فأسس جماعته الإسلامية – جماعة الموحدين – وأظهر معارضته الصارمة للتوجه العلماني الاشتراكي الذي سار عليه الرئيس هواري بومدين، ومن مواقفه الشهيرة رسالته ذائعة الصيت ” إلى أين يا بومدين؟” ضد التوجه الأحادي والأيديولوجية اليسارية المفروضة. ألقي القبض على الشيخ محفوظ وبعض رفاقه سنة 1975 وقضى في السجن خمس سنوات. وبعد إطلاق سراحه في فترة الثمانينات ركز جهده على العمل الدعوي وتوسيع رسالته إلى مختلف أنحاء الوطن، وانتهج في الشأن السياسي خطابا وطنيا ونهجا معتدلا في معارضة نظام الشادلي بن جديد الذي انتهج نهجا أكثر انفتاحا من سابقه، فصارت جماعة الشيخ محفوظ رحمه الله الأكثر قوة وانتشارا في مختلف أنحاء الجزائر.
بعد التحول إلى التعددية السياسية سنة 1989 التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر 1988 حاول الشيخ محفوظ نحناح أن يجسد مقاربته التجديدية لخلق تيار سياسي جديد ” إسلامي وطني” مبني على التقارب بين التيارين الإسلامي والوطني اللذين يجتمعان على أرضية بيان نوفمبر، والذي جسدته مبادرة ” التحالف الوطني الإسلامي” التي أطلقها سنة 1989، والتعاون على نهضة الوطن بين النظام السياسي المتحكم على المستوى الرسمي والمعارضة الإسلامية القوية في الساحة الشعبية، رغم الاختلافات السياسية بينهما، من أجل المساهمة في تأسيس نظام سياسي ديموقراطي جديد. غير أن الاستقطاب السياسي الشديد الذي فرض نفسه في أجواء الانتخابات المحلية والتشريعية بين 1990 – بداية 1991، ومخاطر الحرب الأهلية التي تلت ذلك، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أدى بالشيخ محفوظ نحناح إلى تغيير أولوياته، وتسخير جماعته وحزبه الناشئ إلى البحث عن سبل توقيف سيل الدماء والمحافظة على التماسك الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية، ولو على حساب المصلحة الحزبية وركوب المخاطر وما يهدد مصيره ووجوده، فكان موقفه واضحا ضد إلغاء الانتخابات من جهة وضد استعمال العنف في العمل السياسي مهما كانت الأسباب من جهة أخرى، واستعمل مكانته وقربه من كل التيارات وعلاقاتِه مع القوى الرسمية وقوى المعارضة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال الحوار فأطلق، بالاستعانة برجاله ورفقائه، عدة مشاريع في هذا الصدد منها: مبادرة المصالحة الوطنية، مبادرة السبعة، مجموعة السبعة +1، مبادرة السلام الوطني، مبادرة الصلح الوطني. وبعد فشل كل مبادرات التوافق التي أطلقها الشيخ محفوظ أو أطلقتها الجهات المتصارعة، كمبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، أو مبادرة الندوة الوطنية التي أطلقتها السلطة اختار رحمه الله الدخول في المسار الانتخابي الجديد سنة 1995 والذي قاطعته المعارضة في البداية ثم التحق جلها به ابتداء من سنة 1997.
لقد كانت ضريبة إدانة الإرهاب والعنف باسم الدين الذي انتهجته الجماعات المسلحة من جهة وسياسات الهيمنة وأساليب العنف المختلفة التي انتهجتها السلطة من جهة أخرى كبيرة، حيث قتل في صفوف الحركة في حدود 400 من أعضائها على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني، وتعرض الشيخ محفوظ نحناح نفسه لعدة محاولات اغتيال، كما بات رحمه الله المستهدف الأول للتيارات العلمانية المحسوبة على المعارضة وامتداداتها القوية داخل النظام السياسي.
بعد أن قاد الشيخ محفوظ حزبه نحو المشاركة في المسار الانتخابي تغيرت أولوياته، إذ أصبح يرى بأن مشاركته في مؤسسات الدولة هو الأنسب لمصلحة الوطن وللمشروع النهضوي الإسلامي الذي يحمله، فأطلق مقاربة فكرية جديدة تدعو إلى التمييز بين الدولة والسلطة بأن يكون الحزب خادما للدولة بالضرورة وفي كل الأحوال، ولكن قد يكون مشاركا في السلطة أو معارضا لها حسب مقتضيات كل مرحلة وما يكون أنفع للبلد والدولة. وفي ذات الاتجاه قام الشيخ محفوظ ببلورة العديد من المفاهيم واهتم بكثير من القضايا الفكرية التي لا تزال الحركة تسير عليها وتطورها، مثل مفهوم الوسطية والاعتدال، مفهوم الشورى والديموقراطية، المشاركة السياسية، قضايا التنمية والتطور، التعايش، الاحترام المتبادل، المجتمع المدني، الحريات وحقوق الإنسان، .حوار الحضارات، توسيع قاعدة الحكم، التداول السلمي على السلطة، حقوق الأقليات ..
لقد مثل بقاء الدولة بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح عنوان بقاء البلد كله، وضمانة وحدته وسلامة أهله، وهو ما يُبقي فرصة الاستدراك والإصلاح والنهضة قائمة مهما الصعوبات الآنية. حيث أنه إذا ما سقطت الدولة ضاعت الوحدة الوطنية وقامت الفتنة والاقتتال وحل الضعف والهوان وتأكد السقوط التام في مخططات القوى الأجنبية المعادية للأمة الإسلامية، وعلى هذا الأساس لم يكن الشيخ محفوظ نحناح يرى من حرج في أن يضحي بمصلحة حزبه، وبمكانته وفرصه السياسية خدمة للدولة الجزائرية والمصلحة الوطنية.
غير أن رجال النظام السياسي الذين سكنوا الدولة لم يكونوا في مستوى هذا الأفق العالي للشيخ محفوظ فتعاملوا معه، رحمه الله، ومع حزبه وفق مصلحة النظام السياسي وليس مصلحة الدولة، ووفق مصالحهم الشخصية وليس وفق المصلحة الوطنية. فزوروا عليه الانتخابات الرئاسية سنة 1995 التي أظهرت شعبيتَه العارمة التي كان عليها قبل التعددية الحزبية والتي تجلت عبر المهرجانات الضخمة ونتائج الصناديق الانتخابية التي تم قلبُها ومصادرتها بالقوة فحرموه وحرموا البلد من قيادته للجزائر نحو نهضتها، ثم زوروا الانتخابات التشريعية سنة 1997 فحرموه وحرموا البلد من قيادة الحكومة لاستدراك جرم تزوير الانتخابات الرئاسية، ثم زوروا الانتخابات المحلية تزويرا شاملا، وفي سنة 1999 منعوه أصلا من الترشح للانتخابات الرئاسية.
كان بإمكان الشيخ محفوظ نحناح أن يقود قطاعات شعبية واسعة للثورة الشعبية ضد النظام السياسي الذي لم يراع تضحياته وتضحيات حزبه، وحرَمه من حقه، الذي أخذه بإرادة الشعب، في تسيير البلاد وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق النهضة الوطنية وفق ما رسمه في كتابه: ” الجزائر المنشودة” وعبر خطاباته ومصطلحاته السياسية التي أثرى بها القاموس السياسي الجزائري. لم يتجه رحمه الله الوجهة المتشددة للدفاع عن حقوقه الضائعة حفاظا على البلد، وحقنا لدماء الجزائريين، ورحمة بالجزائريين المثقلين بأوزار الفتنة التي طال مداها، وإيثارا للمصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية.
رغم استئثاره بالحكم وسيطرته على مقاليده كلها، لم يستطع النظام السياسي خدمة البلد، ولم يستفد من تضحيات الرجال الوطنيين الذي بذلوا أنفسهم من أجل إيقاف الفتنة، سواء الشيخ محفوظ ورجال الحركة أو غيرهم، من داخل الدولة وخارجها، فبقيت الجزائر تنتج أزماتِها، أزمة بعد أزمة، جراء سياسات التزوير الانتخابي والفساد والهيمنة، و أحيانا كثيرة – بالنسبة لبعض النافذة- خدمة للمصالح الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية.
لقد أيقن الشيخ محفوظ نحناح رحمه بعد إقصائه المشين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بأنه لا يوجد شريك له في الطرف الرسمي، وأن النظام السياسي متجه بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فبدأ يفكر في تغيير سياسته في التعامل مع النظام السياسي بالتدرج حتى لا يربك الوضع، فأخذ يُحدث المقربين منه بخطاب غير معهود عنه بخصوص موقفه من النظام السياسي، وبدأ ينظّر لمرحلة جديدة عبر كتاب جديد لم يكتمل ولم يصدر عنوانه ” الدولة وأنماط المعارضة”. لقد أصبح الشيخ محفوظ يبحث في تلك الفترة عن سبل جديدة للتعامل مع ذلك النظام السياسي الذي استغل الفتنة واستعملها لإعادة إنتاج نفسه رغم تكرار فشله، بما لا تؤدي إلى الصدام المباشر معه، وما ينجر عن ذلك من زيادة التوتر في بلد مأزوم ومشتت، ولكن في نفس الوقت بما لا يجعل المسؤولين يتصرفون في البلد كما يشاؤون دون أن يكون ثمة من يعارضهم ويمنعهم من الإضرار بالدولة وبالبلد.
لم يتمكن الشيخ محفوظ نحناح من استكمال بناء منهجه الجديد وتوفي رحمه الله حزين القلب معلول الجسد، ولكنه ترك وراءه حركة كبيرة باتت محل تقدير واحترام جسدت الخط القويم في التعامل مع ” ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية”، استطاعت بعد مرحلة اضطراب – عادة ما تَحِقُّ بالمنظمات بعد وفاة المؤسسين – أن تنتقل إلى المعارضة السياسية وفق نفس النهج القائم على التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية.
لقد استطاعت الطبقات القيادية التي خلفها الشيخ محفوظ نحناح أن تثمن التضحيات التي قدمها رحمه الله، وأن تحول ما ضاع من مصالح حزبية في سبيل المصلحة الوطنية إلى مكتسبات حزبية ووطنية معتبرة ومن ذلك:
- ارتفاع سمعة الحركة ورمزيتها ومصداقيتها لدى الجماهير وفي نفوس النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، في المجتمع والدولة، لِما أبانت عليه من جدية ونزاهة وما قدمته من برامج واقتراحات ومبادرات، وبسبب شجاعتها في مواجهة الفساد والرداءة والاعتداء على الحريات، والتزامها أثناء ذلك بالاعتدال والحرص على الاجتماع والتوافق الوطني.
- استقرار الحركة وانتهاء عهد الصراعات بحمد الله سمحت بالانشغال بالعمل وتوجيه الطاقة لانتشار الحزب حيث حققت في ذلك نموا بنسبة 100%، والانفتاح على الطاقات الجديدة حيث أقبل على الحركة موارد بشرية جديدة متنوعة بأعداد هائلة، خصوصا من فئات الشباب، وترشّحَ في قوائمنا كفايات وشخصيات مؤهلة وذات سمت أخلاقي تمثل في حدود 70% من منتخبينا الحاليين، وامتدت علاقاتنا الخارجية إلى آفاق لم ندركها منذ التأسيس.
- ما طورته الحركة من أفكار وبرامج خصوصا على مستوى النهج السياسي الذي يرتكز على دراسة السنن الاجتماعية ومقاربة “المكان المناسب” بتجنب الصدام من جهة ورفض الاحتواء والذوبان من جهة أخرى، ومحاولة الاستشراف والتعامل بقدر الإمكان مع المدخلات السننية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية. والتنظير والتجسيد الميداني لمقاربة التمييز بين السياسي والدعوي بما يؤهل لبناء حزب سياسي عصري همه نهضة الوطن وتحقيق التنمية من خلال الانتخابات والمدافعة السياسية السلمية دون التفريط في مختلف الوظائف الاستراتيجية الأخرى.
- ابتكار أنماط تسيير جديدة ضمن مقاربة “التخصص الوظيفي” بتوجيه المناضلين إلى العمل الجمعوي والعمل في مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الشباب والنساء ومختلف الشرائح والاحتياجات المجتمعية، وإحياء وترقية الوظائف الاستراتيجية الحضارية دون إثقال كاهل الحزب بإدارة تلك الوظائف، وقد حققت الحركة في هذا المضمار نتائج كبيرة بحمد الله تعالى.
- وبالنسبة للنتائج الرقمية فإن الحركة قاربت النتائج الانتخابية التشريعية الأعلى التي حققتها سنة 1997 من حيث عدد المقاعد والرتبة في البرلمان، مع التفوق على نتائج تلك السنة من حيث الرتبة في عدد الأصوات إذ احتلت الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة المرتبة الأولى في 26 ولاية وتأتي بعدها جبهة التحرير التي احتلت المرتبة الأولى في 12 ولاية فقط ثم تأتي بعد جبهة التحرير باقي الأحزاب تباعا، مع فروق جوهرية في الظروف المحيطة بالانتخابات في تلك المرحلة وفي الانتخابات الأخيرة حيث كانت الحركة موحدة في ذلك الوقت ولا ينافسها في محيطها الأقرب غيرها كما هو حاصل اليوم. أما بالنسبة للانتخابات المحلية فقد عادت الحركة إلى النتيجة الأعلى التي حققتها سنة 2007 من حيث عدد البلديات التي تسيرها في حدود مائة بلدية مع التميز في الانتخابات الأخيرة بتسيير بلديات حضرية كبيرة كبلدية وهران وبلدية عنابة وغيرهما. مع فرق جوهري بين المرحلتين حيث لم يكن يشترط للترشح سنة 2007 جمع توقيعات المواطنين في البلديات للتمكن من الترشح كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.
- وكل هذا مع استمرار حالة التزوير الانتخابي التي لولاها لكانت الحركة هي من يسير الحكومة اليوم، وقد قمت بنفسي بشرح البراهين الساطعة عن التزوير لمسؤولين كبار لم يستطيعوا رد تلك الحجج.
د. عبد الرزاق مقري
رئيس حركة مجتمع السلم
المراجع
[1] ـ سورة الروم 32
[2] سورة الزخرف 65
[3] سورة الأحزاب 22
[4] سورة المجادلة 19
[5] سورة المجادلة 22
[6] Encyclopædia Britannica. (n.d.). Political party. Britannica Academic. Retrieved May 9, 2022, from https://0810750bp-1103-y-https-academic-eb-com.mplbci.ekb.eg/levels/collegiate/article/political-party/108572
[7] ـ انظر موقع وزارة الداخلية الجزائرية
[8] انظر قاموس La toupie https://www.toupie.org/Dictionnaire/Raison_etat.htm
[10] قالها الناطق الرسمي للتجمع الوطني الديموقراطي سابقا، وأمين عام سابق لجبهة التحرير الوطني، وغيرهما
[9] L’idée de la raison d’État dans l’histoire des temps modernes, ed. Droz, 1973.
[11] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 10/ 512
[12] المستصفى للغزالي ص 174
[13] الفتاوي 11 / 342-343
[14] الموافقات، الشاطبي، 2\17ـ18
[15] انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، نشرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، سنة 2004
[16] ابن عاشور
[17] الأنبياء الآية 107
[18] المائدة الآية 6
[19] أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر، 1986، 2/ 43 وهبة الزحيلي،-
[20] -محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، 1973، ص260-266
[21] النحل الآية 43
[22] عبد الحليم كامل، الأحزاب السياسية في العالم المعاصر، دار الفكر العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ص (99-100)
[23] Goldman, Ralph M. Political Parties: Principal Arena of Policymaking conflict, Encyclopedia of Life Support Systems (EOLSS), Vol.1, P.7.
[24] اسعيد بوشعير، القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة، ط7، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2005، ص 127-128.
[25] زاير الهام، دور الأحزاب السياسية في التأثير على صنع السياسة العامة في الجزائر، مجلة البحوث القانونية والسياسية، جامعة بوبكر بلقايد، تلمسان، ص310