يعيش العالم تحولات كبيرة، تعود أسبابها لأحداث عميقة أذنت بأننا نتجه إلى ارتسام وجه جديد للتوازنات الدولية، قد تكون في صالح البشرية. من هذه التحولات الاحتجاجات الشعبية في أمريكا وبعض الدول الأوربية على رأسها فرنسا، قبل الوباء، بسبب الآثار الاجتماعية الوخيمة التي خلفتها الرأسمالية الغربية المتوحشة في ديارها، ثم وباء كورونا الذي كشف خطر التلاعب بمصائر البشر في المخابر البيولوجية،
وبيّن ضعف المنظومات الصحية الرأسمالية في أكثر الدول تقدما ومدى تشابك مصائر البشر، ثم جاءت حرب أوركرانيا، بمآسيها على الشعب الأوكراني وآثارها السلبية على اقتصاديات الدول ومعيشة الناس في مختلف أنحاء العالم.
لقد كان موقفنا واضحا في كل هذه الملفات حيث اعتبرنا أن سبب كل تلك الآفات إنما هو الهيمنة الغربية الأمريكية على العالم، ومحاولة إخضاع الكرة الأرضية كلها لصاحب القرار الأمريكي ومن خَلْفه من لوبيات وشركات عابرة للقارات. وأكّدنا في عدة مداخلات ومقالات وندوات بأن المتسبب الأصلي في أزمة أوكرانيا هو الغرب بزعامة أمريكا وشرحنا ذلك على أساس منطقي وعقلاني بالاستناد إلى المعطيات التاريخية والجيوسياسية، ولا داعي للعودة إلى ذلك فليس هو موضوعنا اليوم.
تابعت القيادة الروسية مواقفنا وآراءنا وجاء السفير الروسي يزورني في مكتبي يُظهر إعجابه بما ذهبنا إليه، وصرح لنا بأنه يمكن أن نساهم بطروحاتنا الفكرية في مؤتمرِ في روسيا أيام 19/20/21 ماي 2022. لقد جاءت هذه الدعوة مناسبة لتوجه روسيا نحو تعميق علاقاتها بالعالم الإسلامي، وإظهار الرئيس بوتين احترامه للدين الإسلامي الذي يصل تعداد معتنقيه في هذه البلاد أكثر من عشرين مليونا، وله وجود وتاريخ عريق منذ أكثر من ألف سنة. كما أن الموضوع والمكان اللذان يتعلقان بالمؤتمر الذي دعينا إليه مهمَين كثيرا جديرَين بالمشاركة والسفر من أجلهما، علاوة على أن قبول الدعوة هو دعم صريح منا للرؤية التي تدعو لها القوى الصاعدة في العالم الشرقي، ومنها روسيا، إلى صياغة عالم جديد متعدد الأقطاب، يجنبنا الهيمنة الغربية التي تريد عولمة ثقافتها وحضارتها، وفرضها على كل شعوب العالم وتسخير خيرات هؤلاء الشعوب من أجل مصالحها وإدامة تفوقها، والتي تدعم دعما مطلقا الظلمَ الواقع على أهلنا ومقدساتنا في فلسطين.
إن المكان الذي دعينا إليه هو جمهورية تتارستان ذات التاريخ العريق في الإسلام، وأما الموضوع فهو يقوم على ثلاثة محاور مهمة، إذ يتعلق المحور الأول باقتصاد الحلال وكيف أصبح هذا التوجه الديني لدى المسلمين صناعة مربحة في مختلف أنحاء العالم ليس في مسائل الغذاء فقط ولكن في العديد من المجالات الحياتية الأخرى وباتت تقوم عليه صناعات متنوعة ومؤسسات خدمية متعددة يهتم بها و يشتغل فيها ويقصدها المسلمون وغير المسلمين، وقد كانت لي فرصة للمشاركة في ندوة مهمة من ندوات هذا المحور حيث تحدثت من زاوية طبيّة عن الأسس الثلاثة للمحافظ على الصحة المتمثلة في ” الأكل الصحي، والرياضة وإدارة الضغوطات” وعلاقة ذلك بمفهوم الحلال. أما المحور الثاني فكان حضورنا في لقاء “مجموعة الرؤية الاستراتيجية، روسيا والعالم الإسلامي” بمشاركة واسعة في حدود مائة شخصية من أكثر من 60 بلدا إسلاميا إضافة إلى ممثلي الإدارة المركزية الروسية والجمهوريات الفدارلية ذات الأغلبية المسلمة في روسيا، وقد أسست هذه المجموعة من قبل الرئيس بوتين لدعم عضوية روسيا في منظمة التعاون الإسلامي كعضو مراقب سنة 2005، وتدرس المجموعة سبل تطوير التعاون بعيد المدى بين روسيا والعالم الإسلامي، وقد نُظم اجتماع هذه الهيئة السنة الماضية 2021 في جدّة ويتوقع أن تنظم السنة المقبلة 2023 في ماليزيا، بعدما كانت تعقد في روسيا فقط. وأما المحور الثالث فهو حضور الاحتفال السنوي بمناسبة مرور 1100 سنة على دخول سكان المنطقة الإسلام طواعية، وزيارة الآثار القديمة لوجود الإسلام في منطقة البلغار على نهر الفولغة. وقد أعود للحديث عن هذه المحاور الثلاثة في مقالات مستقلة بحول الله.
ومن أهم محطات هذا البرنامج الثلاثي ما تبعه من علاقات واتصالات وسياحة ومن ذلك:
- اللقاءات مع المضيفين حيث التقيت رئيس تتارستان رستم ميناخانوف الذي أظهر تواضعا كبيرا في تعامله وحنكة مميزة في خطاباته وتصريحاته المتعددة في المؤتمر، وأتيحت لي الفرصة لطرح فكرة بحث إمكانية عقد لقاء للمجموعة الاستراتيجية في الجزائر في السنوات المقبلة، وهي خطوة ديبلوماسية مهمة للجزائر هي أولى بها لو أراد المسؤولون ذلك باعتبار الصداقة القديمة بين البلدين. كما التقيت المفكر والرئيس السابق للتارستان السيد منتيمير شايمييف الذي ترأس جمهورية تتارستان لمدة 19 سنة، وهو سياسي مخضرم ومفكر معروف يقال عنه أنه هو من عرض على بوتين فكرة “المجموعة الاستراتيجية، روسيا والعالم الإسلامي”، وهو قائد مسلم له مكانة دولية كبيرة، و محترم بين المسلمين في بلاده وخارجها تقديرًا لخدماته الجليلة للإسلام والمسلمين المتمثلة في جهوده الكبيرة في إحياء الثقافة الإسلامية في جمهورية تتارستان، وتعريف مسلميها بمبادئ دينهم، ورمزًا للنهضة الاقتصادية والعمرانية في تتاريستان. كما التقيت بالعديد من السياسيين والمثقفين التتريين الآخرين، وكانت الفرصة سانحة لحديث فكري ممتع مع أحد الدبلوماسيين التتريين وهو المؤرخ المسلم السيد انفاربيك فاضليانوف صاحب كتاب “حوار الحضارات، روسيا والعالم الإسلامي” وقد عرض علي المساهة في دعم مشروع يقوم بالإشراف عليه “أطلس الحضارات الإسلامية” ضمن مشاريع مجموعة الرؤية الاستراتيجية بالتعاون مع معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية ومعهد شهاب الدين المرجاني للتاريخ التابع لأكاديمية العلوم في جمهورية تتارستان. كما التقيت على هامش المؤتمر بعدد من العلماء والمفتين التتريين. والتقيت على هامش المؤتمر في لقاء عابر مع ميخائيل بوغنادوف نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث روسيا للشرق الأوسط وأفريقيا فسألته عن مآل الحرب في أوكرانيا فأجاب بأنه محكوم على روسيا أن تكسب الحرب وأن مساندة الأصدقاء تساعد على ذلك.
- لم يكن اللقاء مع المسلمين التترين البسطاء ومن غير المسؤولين الكبار أقل أهمية، فقد اكتشفتا إخوانا لنا غاية في الطيبة والأدب عاملونا برفق ومحبة وكرم، منهم من من كان اللقاء معهم عابرا أثناء الزيارات المختلفة ومنهم من رافقونا طوال رحلتنا، كمارفقي الشخصي مارسيل مفتاحكوف الذي كُلف بمرافقتي طوال وجودي في تتارستان فكان في غاية الأدب واللطف والفاعلية، وسهّل لي كل أموري وكذلك الطالب الجامعي في الأدب العربي الشاب فينات غانييف، وكذلك سعدت بمعرفة النائب في البرلمان التتري كاميل سادرييف صاحب الخلق الرفيع والالتزام الديني الصارم الذي يقوم للصلاة بلا تأخر فور دخول الوقت، والذي أنقذني من البرد القارص الذي لم أكن أتوقعه في شهر ماي بمنحي معطفا من بيته أثناء مرافقتي في زيارة أرض بلغار حيث نزلت درجة الحرارة 6° مع نزول المطر بين الحين والحين، وبالرغم من صعوبة التواصل معه بسبب عدم معرفته سوى الروسية والتترية كان الحديث معه بالإشارة لطيفا ومفيدا، حينما لا يكون من يترجم بيننا إلى اللغة العربية أو الانجليزية.
- تمكنت كذلك أثناء الزيارة من لقاء العديد من أعضاء الوفود الإسلامية من داخل الجمهوريات الإسلامية التابعة للفدرالية الروسية، ومن وفود مختلف الدول العربية والإسلامية، منهم من كنت أعرفهم من قبل ومن كانت لهم علاقات قديمة مع الحركة والشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وكذا عدد من السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي العرب في روسيا، ولا شك أن هذا الحضور الواسع للبلاد الإسلامية يمثل سمة من سمات التحول في العلاقات الدولية إذ لم يؤثر تحالف بعض الدول العربية والإسلامية مع الولايات الأمريكية المتحدة من حضور المؤتمر الذي يعد دعما لروسيا والذي يأتي منسجما مع موقف مجمل الدول العربية والإسلامية في عدم دعم الدول الغربية والولايات الأمريكية المتحدة في قضية الحرب في أوركرانيا والتي اتضحت بالمواقف المعبر عنها مباشرة وفي المنظمات الدولية كما حدث مؤخرا في مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة.
- وفي النشاط الإعلامي سجلت مع بعض وسائل الإعلام المحلية، وكان لي لقاء مع قناة روسيا اليوم عن الأوضاع الدولية وتصريحات عن المؤتمر ومواضيعه .
- سعدت كذلك بالتعرف على سفير الجزائر في روسيا السيد إسماعيل بن عمارة الذي ظهر بمستوى عال من الأدب والتواضع، وهو دبلوماسي قديم مر على عدد من الدول المهمة، وقد قام بدعوتي مع الأستاذ بو عبد الله غلام الله لمأدبة عشاء، كما حضرنا اللقاء الذي عقده مع الجالية الجزائرية بمناسبة زيارته قازان لحضور المؤتمر ورأينا حسن تعامله الجيد مع الجزائريين المقيمين في قازان، خصوصا الطلبة. قدم سي إسماعيل نصائح قيمة لضيوفه الجزائريين الذي استجابوا لدعوته وكان أغلبهم طلبة وطالبات، وأظهر استعداده لدعمهم في قضاياهم القنصلية المختلفة وبحث معهم سبل التعاون بينهم وبين السفارة باعتباره عيّن حديثا في منصبه في روسيا، وقدم لهم في الأخير بعض الإكراميات، منها ما صنعته زوجته الكريمة بنفسها، وقد أتاح لي وللشيخ غلام الله، مشكورا، تقديم بعض الكلمات للجالية في آخر اللقاء.
- كان هذا اللقاء فرصة لحديثي مع الطلبة والشباب والتعرف عليهم، والاطلاع على مشاكلهم، وقد وجدتهم مهتمين بالأوضاع في بلدهم، وبعضهم متابعين لصفحتي على الفايس بوك، ومنهم أبناء لأصدقاء لي في الجزائر ولبعض مسؤولي الحركة في ولاياتهم.
- وختمنا الزيارة في يومها الأخير بجولة سياحية للمعالم العمرانية في مدينة قازان، وكانت الزيارة لطيفة صحبة الرجل الطيب الأستاذ بو عبد الله غلام الله، ومفيدة كثيرا حيث رأينا معالم رائعة جدا شرحتها لنا دليلتنا السياحية، ريزيدة، وهي تترية ذات ثقافة واسعة جدا باللغة العربية والعديد من اللغات الأخرى، ولا يمكن وصف ما رأيناه من جمال ونظام وما سمعناه من معلومات إلا بمقال خاص عن قازان وتتارستان سأعود إليه بحول الله.
وفي الأخير استطيع أن أقول بأن هذه الزيارة حركت في نفسي مشاعر كثيرة وأحدث في عقلي تحولات مهمة، وهي لا شك فرصة لتأكيد رؤيتنا في توجه الجزائر أكثر نحو الشرق التي ما فتئنا ندعو لها لصالح بلادنا وأمتنا ولصالح البشرية جمعاء، ولتطوير العلاقة مع روسيا بالنظر إلى توجهها الجديد نحو العالم الإسلامي، ولوجود إخوة لنا في الدين طيبين أحبونا ورحبوا بنا، كما رحب بنا كذلك غيرهم من المواطنين الروس، ولا بد أن أشكر سعادة سفير روسيا الذي أتاحنا هذه الفرصة الطيبة، وإننا نود فعلا أن نكون طرفا فاعلا في تطوير هذه الرؤية المستقبلية بين روسيا والعالم الإسلامي ومما يساعد على ذلك تقاربنا في الحركة مع الرؤية الرسمية للدولة الجزائرية في هذا الشأن المهم، ومع أغلب الجهات الحزبية الجزائرية وللعلم وجهت الدعوة لغيرنا كذلك من الجزائر واستجبنا للدعوة نحن ورئيس حركة البناء السيد عبد القادر بن قريبة ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى السيد بوعبد الله غلام الله وممثل وزارة الخارجية في ندوة الدبلوماسيين الشباب في مؤتمر كازان السيد حسام الدين، وكان وجودنا معا فرصة لتبادل أطراف الحديث بيننا عن أوضاع البلاد عموما.