في الثقافة وفي السينما 3: ماسينيسا وسانت أوغسطين
إن لم تكن ثمة حصانة ثقافية قد نجد أنفسنا مثلا نتفرج على فيلم جزائري يمجد معركة زاما الرومانية التي تحالف فيها ماسينيسا مع الرومان ضد الشقيق القرطاجني حنبعل، ويحكي سيناريو الفيلم بأن هذه المعركة جزائرية ومن أمجاد الجزائر! وقد يصبح يوغرطا وصيفاقس وتاكفاريناس خونة في فيلم آخر، وهم أبطال المقاومة ضد الاستعمار الروماني، وماسينيسا الموالي للاستعمار وباني دولته تحت الرعاية الاستعمارية من الأسلاف الأبطال للجزائريين.
إن خوفنا هذا مبرر بسبب أحداث وقعت في الجزائر فعلا، لم نختلقها نحن من أجل المشاكسة. ذلك أنني حينما زرت عين تموشنت ذات مرت وجدت بعض أهلها يحتفون بتمثال ماسينيسا في مدينتهم، فأفهمتهم أن إقامة تمثال لماسينيسا في عين تموشنت بالذات سبة لأهلها ولكل الجزائريين، وأن الذين فعلوا هذا الجرم أصحاب مشروع ويعلمون ما يفعلون. فغضبوا من الخداع الذي وقعوا فيه، فعلمت كم هو مهم واجب التوعية والكفاح الثقافي في بلادنا.
كيف يقام تمثال ماسينيسا في عين تموشنت عاصمة صيفاقس ملك الدولة النوميدية الغربية ماسيسيليا؟ وكان اسمها آنذاك “سيغا”، كيف يحدث هذا والذي قتل صيفاقس خدمة للرومان، ومن أجل الزعامة، هو ماسينيسا.
والخوف مبرر كذلك لأنني قرأت في مجلة رسمية يدّعي كاتب مقالٍ فيها أن “معركة “زاما” معركة كبرى خاضها الجيش الجزائري” !!! وأن أصول الجيش الشعبي الوطني هو جيش ماسينيسا، دون أي احترام للحقيقة ولعقول الجزائريين الذين يعقلون. إن معركة زاما معركة رومانية ضد القائد القرطجني البطل (التونسي) حنبعل الذي دوخ الامبراطورية الرومانية وكاد يفنيها، فلا هي جزائرية، ولا ينبغي لها أن تكون جزائرية بعد قرون من الزمن لأن بعض الممكنين المندسين أرادوا لها أن تكون جزائرية. لقد كان في ذلك الوقت ثلاثة دول في شمال افريقيا هي الدولة القرطاجية الفينيقية المتجذرة في المنطقة قرونا طويلة، التي اختلطت دماء أهلها مع جيرانهم البربر حتى صاروا شعبا واحدا ومن ذلك السلالة البونيقية، والدولة النوميدية الشرقية ماسيليا التي منها ماسينيسا، والدولة النوميدية الغربية ماسيسيليا دولة صيفاقس. كانت هذه الدول الثلاث تتنافس بينها على السيطرة على المنطقة ولكن كانت أمة واحدة عدوها المشترك هي الدولة الرومانية، وكانت التحالفات بينها تتنوع في كل ظرف ضد روما، فعملت روما على استعمالهم ضد بعضهم البعض لكي تقضي عليهم جميعا كما هو مكر القوى الاستعمارية في الزمن الحديث.
وجدت روما في ماسينيسا الشخص المناسب لخطتها الماكرة فحالفته ووجهته ضد صيفاقس، ثم استعملته في معركتها الفاصلة “زاما” للقضاء على حنبعل. وحين مكنت روما لماسينيسا ليقيم دولته النوميدية الموحدة وضعته تحت وصايتها وحرمته من تحقيق حلمه الذي من أجله حالف الرومان ضد حنبعل فلم تسمح له بالتوسع إلى قرطاجنة وتحكمت في مدى قوته، وحولت البربر النوميديين إلى مقاتلين ملحقين بجيشها ضمن ما سمته “الجيش المساعد” لقتال الشعوب الأخرى خدمة لروما، وبعد وفاته قُسمت مملكته على أبنائه وأحفاده بإشراف روماني، وبقيت روما تُضعف الجميع حتى انتقلت من الوصاية إلى الاستعمار المباشر لكل أقاليم افريقيا الشمالية. ويكون ماسينيسا بذلك، بتقييم المؤرخين المحققين، هو من جلب الاستعمار الروماني إلى الجزائر وكل بلاد المغرب. ولو لا ثورة قادةٍ أبطالٍ آخرين لما مُسح العار الذي صنعه ماسينيسا وورَّثه لمن بعده.
من هؤلاء الأبطال حفيده يوغرطة القائد الفذ الذي ثار ضد التبعية البربرية للرومان وهزم هؤلاء في معارك عدة ولم يتمكن منه العدو إلا بإغراء خائن من بني قومه غدر به وسلمه للغزاة ومات في السجن جوعا.
ومن أولئك الأبطال كذلك تاكفاريناس الذي تمرد على الجيش الروماني حين رأى تمدد الاستيطان ونهب الأراضي وإذلال السكان، وبقي يقاتل روما – متأسيا بميراث يوغرطة – ويهزمها حتى قُتل في أرض المعركة في نواحي سور الغزلان.
لو تكون سياسة دعم الحكومة للسينما على توجه ثقافي صحيح، فتمجد أفلامٌ جزائريةٌ مآثرَ يوغرطة وتاكفاريناس، وأفلامٌ جزائرية – تونسية ترفع مقام حنبعل، نكون لا شك على وفاق. أما إن استمر المسخ بالإشادة بماسينيسا الذي تُنصب له التماثيل في كل مكان في الجزائر، وتعتبر معركة الخيانة “زاما” جزء من التاريخ الجزائري فلعمري إن هذا لمنكر لا يُسكت عنه، ليس من أجل رفض تحريف التاريخ فحسب ولكن لأن في ذلك روحا استعمارية تريد أن تجعلنا تُبّعا لأوربا وخدما عندها حتى في تاريخنا القديم. إن هذه الروح ذات القابلية للاستعمار كما يقول مالك بن نبي أصبحت محسوسة ملحوظة، روح تُنفخ في شمال المتوسط وتسري في نفوس البعض في جنوبه، ممن يحيون بها وهم على وفاق معها.
كما أننا نخشى أن نجد أنفسنا نتفرج على فيلم يمجد القديس سانت أوغستين، بحجة أنه جزائري من طاغست (سوق أهراس حاليا) له شهرة تاريخية عالمية.
وهذه الخشية مبررة كذلك لأن الجزائر الرسمية أقامت في 01 أفريل 2001 مؤتمرا دوليا لهذا القديس برعاية الرئيس السابق بوتفليقة غفر الله له، وكان يراد لهذا المؤتمر أن يكون دوريا، ولكن لم يعرف له رقم ثاني بحمد الله بعد الضجة الكبرى التي أثارها علماء ومفكرو الوطن الأصلاء. كما أن وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوب صرح سنة 2015 بأن الجزائر ستنتج مع تونس فيلما عن سانت أوغسطين يجهز سنة 2016 ثم شاء الله أنه لم يُسمع له أثر.
إن القديس أوغستين شخصية مسيحية يحتفي بها المسيحيون فما شأننا نحن بذلك، وإن جادل دعاة “التنوير” و”التسامح” بأن هذا الرجل الديني جزائري الأصل ولا حرج أن يكون مسيحيا فتكون مشكلتهم أنهم اختاروا الشخص الخطأ. القديس أوغستين لم يكن متسامحا! فلا أحد من المثقفين الحقيقيين في هذا الشأن يجهل أنه هو مبتدع فكرة “الحرب المقدسة”، ومن أراد التأكد يمكنه أن يطلع على كتاب هنري برجلي (Henri Burgelin) : ” المسيحيون والحرب”. إن سانت أوغستين هو من قال في كتابه المشهور “مدينة الله” : ” إذا رفض الوثنيون فهم جمال وحقائق المسيحية بعد عرضها عليهم يجب محاربتهم”. علما بأن هذا الفكر هو الذي جعل الباباوات المسيحيين يطلقون الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي.
ومن جهة أخرى سانت أوغستين هو الذي قال في الكتاب ” مدينة الله” في ص 426 أن: “العالم محكوم عليه بالخطيئة الابتدائية ولا ينفع إلا الزهد في الدنيا، وقبول المصير المحتوم والخضوع للمؤسسات الاجتماعية القائمة ولو تعلق الأمر بقبول العبودية دون أن يسأل المؤمن المسيحي هل هذه الوضعية جيدة أم لا”. وهذه الأفكار هي التي أسست للقرون الوسطى الأوربية المظلمة وأنشأت تحالف الملوك والأمراء مع رجال الكنيسة ضد الشعوب الأوربية المسكينة التي لم تتحرر في الأخير إلا بالثورة على الملوك وعلى الكنيسة الكاثوليكية وعلى أفكار القديس أوغسطين. فكيف يدعو “المستنيرون” الذين يلصقون هذه التهم في الإسلام، بجهل وغباء منهم، ويدعون إلى الاحتفاء بصاحب هذه الأفكار التي يزعمون أنهم يحاربونها.
وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان بلد لا يصح له أن يحتفي بالقديس أوغسطين ويصنع له الأفلام فهو الجزائر. ذلك أن هذه الشخصية كانت الوجه الديني للاستعمار الروماني، يصلي في كنائسهم ويخطب باللغة اللاتينية، وكان الذراع العقائدي التثليثي للرومان، في محاربة البربر “الدوناتيين” المسيحيين الذين كانوا يقولون بالطبيعة الواحدة للمسيح وينكرون ألوهيته عليه السلام ويصلون باللغة الفينيقية الكنعانية في كنائسهم الشعبية.
لقد كان الدوناتيون أتباع مذهب دونا النڤريني Donatus Negrinus ، نسبة إلى نڤرين مدينة في جنوب تبسة، من البربر الرافضين للاستعمار الروماني الذي قاوم الاحتلال حتى ألقي عليه القبض وقتل في السجن في اسبانيا (حاليا) سنة 355 م، سماه عبد الرحمن شيبان رحمه الله عبد الحميد بن باديس في العهد المسيحي، وتحدث بإسهاب المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان عن صفاته القيادية واستقامته وتعلق البربر التواقين للاستقبال به وعن محاربته للرومان.
استطاع الدوناتيون أن يتغلبوا علميا في مناظراتهم ضد أوغستين وحججه وتحريفات الإنجيل فأعلن عليهم حربا شعواء وصنفهم “هراقطة” ومما قاله، مما هو مدون في كتبه إلى الآن: “ينبغي أن تتدخل السلطة العامة وتزرع الرعب لإعادة الهراقطة للأصالة المسيحية، باسم كلمة المسيح اجبروهم بالقوة على الدخول”، واعتبرتهم الإمبراطورية الرومانية خارجين عن القانون، إذ قاموا بالعديد من الثورات ضد المحتل وضد عقيدة التثليث. ورغم الاضطهاد الشديد استطاعوا أن يثبتوا مددا طويلة، وكانوا القاعدة الدينية لكل القادة البربر الذين ثاروا ضد الرومان لأكثر من قرن من الزمن، ومنهم ثورة “الدوارين”، الذين كانوا يدورون على مزارع المستوطنين الرومان ويأخذون ما فيها من قمح ومواد غذائية ويوزعونها على السكان الفقراء من البربر المضطهدين. ويمكن الرجوع إلى موسوعة يونيفرساليس للمزيد من المعلومات عن الدوناتيين وصراعهم مع القديس يوغسطين والرومان.
حينما دخل الوندال، الذين كانوا على المذهب الأريوسي المناهض كذلك للتثليث الكاثوليكي، وجدوا شعبا مضطهدا فكان الترحيب بهم من قبل الدوناتيين تلقائيا. حالف البربر الوندال ضد الرومان فلم يمر أكثر من عقدين حتى سيطر المحتلون الجدد كل الساحل الافريقي من طنجة إلى قرطاجنة.
بقي الوندال قرابة قرن في الجزائر واستوطن أعداد هائلة منهم البلاد إلى أن ضعفوا بسبب تحولهم إلى الممارسات الاستعمارية التي تسببت في العديد من الثورات ضدهم فاستطاع الروم البيزنطيون إعادة احتلال افريقيا ( المغرب العربي اليوم) وانقسم البربر في مقاومة دخول البيزنطيين، فساند بربر من ليبيا وتونس البيزنطيين وساند بربر من الجزائر الوندال. بعد أن تمكن البيزنطيون من احتلال البلاد من جديد رجعوا إلى السياسة الرومانية السابقة وحاولوا نشر الديانة الكاثوليكية ( التي اضطهدت في زمن الوندال) فلم يحققوا شيئا وبقيت الكاثوليكية في المدن المحصنة والقصور المنيفة وبقي أغلب الشعب في الأرياف وعموم البلد على التوحيد، إلى أن جاءت الفتوحات الإسلامية فكان هذا البعد “التوحيدي” في عقيدة الدوناتيين من أسباب ترحيب البربر بالإسلام.
قضى المسلمون بسهولة على الوجود البيزنطي في معركة “سبيطلة” (في الوسط الغربي لتونس) ضد الملك جرجير (جرجيريوس أو غريغوار) الحاكم البيزنطي الذي كان على خلاف مع القسطنطينية عاصمة البيزنطيين وأعلن الاستقلال بإفريقيا ودعّمه في ذلك بعض البربر .
اعتمد الفاتحون في التوغل في المنطقة على فتح القلوب قبل فتح البلدان ولم يتمكن الإسلام من الثبات في المنطقة إلا بدخول البربر أنفسهم الإسلام وقيادة بلدانهم بأنفسهم ومواصلة الفتوحات بقيادتهم رغم الصعوبات التي واجهها العرب الفاتحون بسبب الوقت الذي تطلبه استقرار الإيمان في قلوب أهل البلد والاطمئنان إلى العقيدة الجديدة بأنها ليست استعمارية كما كان الحال مع الروم والوندال والبيزنطيين. وخلافا لحالة الرفض لديانة التثليث المسيحي تقبل المغاربة الإسلام، وقد ساعد على ذلك ثلاث عناصر أساسية: الترحيب بعقيدة التوحيد الإسلامية التي انسجم معها الدوناتيون البربر الموحدون، ومن بقي من الأيروسيين الوندال المخالفين للتثليث الكاثوليكي، تقارب اللغات البربرية والبونيفية واللغة العربية ووحدة الأصل، تقارب الحياة القبلية والنظام الاجتماعي بين العرب والبربر. فاختفت الدوناتية والأيروسية طواعية ورحلت الكاثوليكية مع الاستعمار البيزنطي ويبين ذلك المؤرخ الديني البريطاني فريند W.H.C.Frend في كتابه “الكنيسة الدواناتية” (The Donatist Church , Oxford , 1952 W.H.C.Frend) فيقول: “إن الدوناتية كانت المقدمة لإلغاء الإسلام للمسيحية وللثقافة الرومانية”.
في الحلقة المقبلة نتحدث عن التحريفات الثقافية لبعض المستلبين ضد الفتح الإسلامي والصحابي الجليل عقبة بن نافع.
يتبع ….