عن مخطط عمل الحكومة (14)

في السينما الجزائرية وعن الثقافة (2)

إن السيناريو في الصناعة السينمائية هو الذي يحمل القيمة المعنوية للفيلم ويجعل أثره عميقا وبقاءه في الزمن طويلا، وهو الذي ينصر الحق إن كان حقّيقا، ويدلس على الناس ويحرف الحقيقة أو يطمسها مهما كان أمرها عظيما في الواقعة التاريخية إن كان ذا خلفية فاسدة أو ظالمة.

 ومن أبرز الأمثلة في شأن السينما في هذا الأمر هو الرواية المشهورة في سينما “الكاوبوي” الأمريكية التي جعلت الهنود الحمر،  السكان الأصليين وضحايا الإبادة الجماعية، هم رمز التوحش والعدوانية، والرجل الأبيض المحتل المجرم هو البطل المتحضر الذي تعلق به الناس ويحاكيه الأطفال في ألعابهم.

ومن أنواع التحريف الناجحة في العلاقات الدولية  تحريف حقيقة هزيمة هتلر، إذ كل مطّلع على تاريخ الحرب العالمية الثانية يعلم أن من هزم هتلر وأسقط عاصمته برلين هو الاتحاد السوفياتي، ولكن رواية الأفلام الأمريكية صورت للناس أن أبطال الحرب هم الأمريكان وأنهم هم الذين خلصوا أوربا والبشرية من الوحش النازي، وانطلى التحريف على الناس إلى الآن.

كما أن الذي يشوه صورة العرب والمسلمين في العالم اليوم هي مضامين سيناريو أفلام هوليود وشبيهاتها، وتارة تجد ممثلا مشهورا يتقمص أدوارا عدائية لشعوب وأمم لأن السيناريو فرضه عليه المنتج، وهو لا يجد في ذلك حرجا لأسباب مادية لا غير.

 ومن أبرز الأمثلة عن ذلك سيناريو الرواية الي# هو#ية التي فرضت نفسها على  الإنتاج وشبكات التوزيع السينمائي في وقت مبكر في العالم بأسره  ولا يزالون،  فلا يقدر أحد من المخرجين والممثلين التعرض لهم  تحت سيف “اللاسامية”، وصاروا ينتهكون الحق الف#لس#طيني، و يحمون دولتهم ويغطون على جرائمها العظيمة بالتحكم في الصورة، بل يحاصرون حتى المنتجات الصغيرة المناضلة المستقلة.

حين أدرك الصينيون بأنهم سيكونون الهدف الجديد بعد العرب والمسلمين في ظل الصراع المحتدم بينهم وبين الولايات الأمريكية المتحدة (وفق دراسة واستشراف  صامويل هنتتن في كتابه “صدام الحضارات” في بداية التسعينيات)  صنعوا أفلامهم وكتبوا السيناريو الذي يخدمهم، وفرضوا بمنطق الربح على فواعل أساسية في هوليود ذاتها التكيف مع روايتهم.

ونفس الشيء بالنسبة لحكام تركيا الجدد الذين لم يجدوا لمواجهة تشويه تاريخهم العثماني القديم والتخويف من نهوضهم الجديد حلا أفضل من الصناعة السينمائية البديلة.   أما العرب فلأن كثيرا من نخبهم النافذة مستلبة حضاريا أوتابعة ثقافيا فهي لا تفعل شيئا لتمجيد تاريخها الطويل وبعضها يعين على التشويه والتحريف.

إنه إذا كانت مشكلة السينما التي تُنتج في داخل البلاد هي غياب السيناريو رغم رسالية بعضها،  فإن الأفلام التي باتت تنتج باسم الجزائر في الخارج تقوم على روايات ومضامين لا علاقة لها بالجزائريين في الغالب، وبعضها معادي لثقافة البلد.

 ومن هنا يأتي الحديث عن التسويق، لنؤكد بأن المخرجين الجزائريين الذين لا يهمهم أن يسمع عموم الشعب بأفلامهم، وفق ما ذكرناه أعلاه، يحرصون على قبول أفلامهم في المهرجانات السينمائية الدولية بغرض دخول الأسواق السينيماتوغرافية، ولكي يسهل عليهم الخضوع للمعايير التي لا يقبلها الجمهور الجزائري، المشترطة أو المحببة في المهرجانات الدولية، يفضلون تجنب السوق الداخلية لعدم الاصطدام بالرفض الشعبي أو الرسمي  لمحتوى أفلاهم.

إن هذه السينما ليست سينما وطنية حتى وإن حظيت بالمساهمة الرسمية في التمويل أو حملت العلم الوطني في المهرجانات.

 إن الأفلام التي تَكتُب سجلات  التاريخ ويكتبها التاريخ في سجالته هي الأفلام التي تخلد في أذهان الجمهور بمختلف توجهاته وانتماءاته، الأفلام التي تعالج القضايا لتساهم في حلها، الأفلام التي تجمع العائلة ولا تفرقها، وتوحد المجتمع ولا تمزقه، الأفلام التي يفخر بها أهل الدار وتدخل في ميراثهم الثقافي الأبدي، قد تنقد هذه الأفلام السياسات والاختيارات وتسلط الضوء على الإخفاقات والانحرافات، ولكن لا تهُد المشترك الثقافي والهوياتي والأخلاقي والوطني أبدا، ومن هذه الأفلام الناجحة داخليا والتي لا يتهيب المنتج والمخرج والممثل من عرضها على أهل البلد تصعد أفلام في الدرجات العليا في المهرجانات، كالأفلام الوطنية التي نالت التقدير الدولي  في سنوات المجد السينمائي الجزائري.

لا شك أن توزيع الأفلام خارج الوطن تحدي كبير، خصوصا في المرحلة الراهنة، حيث باتت لوبيات شيطانية تتحكم في معايير المشاركة في المهرجانات، ومن ذلك ما نشرته جريدة لوس أنجلس تايمز في سبتمبر 2020 والعديد من الوسائط الإعلامية المتخصصة في أخبار السينما أن أكاديمية الأوسكار ستشترط ابتداء من 2024  للترشح لأفضل فيلم أن يكون على الأقل  أحد الأبطال امرأة أو مثلي أو ينتمي لعرقية محددة أو من ذوي الإعاقة، وأن لا يقل هذا التنوع الجندري والعرقي وفي الميولات الجنسية عن 30% بين باقي الممثلين، وتشمل الاشتراطات كل العاملين في الفيلم بمختلف اختصاصاتهم وفي السيناريو. واعتبر كثير من النقاد في العالم بأن الفئة الأساسية المقصودة  هم المثليون لأن التنوع الآخر كان موجودا في الصناعة السينمائية وأن  الذي كان يحتج عنه أصحاب المهنة هو التحيز للبيض في الجوائز وليس دمج المثليين في كل مفاصل الصناعة السينمائية.  وقد احتج كثير من أصحاب المهنة السينمائية على هذا التعسف، ومنهم الممثلة “كريستي ألي” التي قالت أن هذا القرار المهين تقييد لحرية المبدع وإجحاف بحقه، إنه مثل إجبار بيكاسو على رسم أشخاص مححدين في كل لوحة من لوحاته وإلا لن تعرض ولن تباع” وتوقع الكثيرون أن هذه الاشتراطات ستضر بقيمة ومكانة السينما.

إن مشكلة السيناريو في السينما بدأت مع بداية صناعة الأفلام، فبعد التحكم في التقنية في أوربا وأمريكا صار  سيناريو السينما ممجدا للاستعمار ومدافعا عن العنصرية والظلم بكل أنواعه، وأداة للبروبغدا الأيديولوجية والسياسية الغربية، ثم تحكمت اللوبيات المختلفة في هذه الصناعة إلى أن وصلت إلى هذا الحد المهين الذي ذكرناه، ورغم التنازلات التي أدخلتها أكاديمية الأوسكار بدعم ضمان التنوع بقيت الأغلبية الساحقة من المصوتين لمنح الجوائز من البيض.

غير أن مقاومة هيمنة الأوسكار والمهرجانات السينمائية الأخرى موجودة ومستمرة من قِبل مشاهير من عالم السينما مما يؤكد بأن السينما بدون هذه المهرجانات  ممكن، وأن رفض المسخ الأخلاقي الذي تفرضه هذه المؤسسات آت في يوم من الأيام حينما تنمو القوى السينمائية الجديدة التي تدعمها دول رسالية، تماما كما هي المقاومة المتصاعدة ضد هيمنة الدولار في الاقتصاد العالمي. بل إن عدم الاكتراث بهذه المهرجانات نشأ مبكرا من داخل الصناعة السينمائية الأمريكية إذ العديد من الممثلين  الكبار أهانوا أكاديمية الأوسكار ورفضوا الحضور أو حتى  تسلم جوائزهم دفاعا عن قناعاتهم  مثل الممثل جورج سكوت (George C. SCOTT) الذي قال بأن هذا المهرجان” ما هو إلا موكب ملعون من اللحوم لا أشارك فيه” وكذلك الممثلة كثارين هاببورن (Katharine Hepburn) التي لم تحضر لتستلم أي من أوسكاراتها، وبعضهم دعا إلى وقف هذه المسابقة واحتفالاتها مثل  المخرج  وليم فريدكين (William Friedkin)،  واعتبرت كثير من المؤسسات الإعلامية المتخصصة بأن هذه المهرجانات هي مطية للصناعة السينمائية الكبرى القادرة على الترويج لأفلامها عند المصوتين وتُحرم منها السينما الحقيقية، وبعضهم شكك في قيمة الحكم على الأفلام مثل الممثل مات ديمون  (Matt Damon) الذي قدّر بأن أغلب أحكام أكاديمية الأوسكار خاطئة، وأن الحكم على الفيلم يجب أن يكون بعد عشر سنوات لتقدير قيمته الحقيقية. وهناك مخرجون وممثلون كبار مشهورون لم يأخذوا الأوسكار في حياتهم.

ومن دلالات إرادة تحكم اللوبيات في الصناعة السينمائية رفض إدخال جائزة ” الفلم الأكثر شعبية” التي أُعلن عنها سنة 2018 ثم تم التراجع عنها تحت ضغط اللوبيات، وذلك حتى لا يكون الحكم على الفيلم على أساس قبوله الجيد عند الناس. وما يقال عن أكاديمية الأوسكار يقال عن أغلب الجوائز العالمية المشهورة.

من أجل كل هذا يُعتبر سعي بعض المنتجين والمخرجين الجزائريين إلى الحصول على الجوائز دون الاكتراث بحكم الجمهور الجزائري خطأ جسيما، لو انتشر سيقتل السينما الجزائرية. إن نجاح التسويق هو نجاحه في شباك التذاكر والاحتفاء به عند الناس وبقاؤه في الذاكرة، وهذا النجاح مرتبط قبل الإخراج والتمثيل بالسيناريو، فإن ظهرت أفلام جزائرية تجمع بين الفكرة والمتعة وجمال الصورة وبراعة الإخراج ومهارة الممثل سيُحتفي بها في الجزائر وستنتقل إلى الدوائر الأقرب إلينا ثقافيا في المغرب العربي والعالم العربي والإسلامي، ولا شك أنه ستتشكل تحالفات سينمائية  دولية جديدة رافضة لهيمنة أكاديميات ومؤسسات الجوائز والتوزيع القائمة  وستنشأ كذلك أسواق سينيماتوغرافية جادة جديدة. بل مع تعدد مدن التصوير ومؤسسات التسويق الجديدة بدأ بعض المنتجين والمخرجين والممثلين يغادرون هوليود، وبدأت أفلام جادة تفرض نفسها في المنصات الرقمية  لبث الأفلام دون الالتزام بالاشتراطات المهينة، لا لشيء إلا لأنها نجحت في الوصول إلى شرائح شعبية واسعة في العالم. ومن ذلك فيلم “قيامة أرطغرل” الذي وجد مكانه في منصة نيتفليكس رغم مقاييس أفلامها اللاخلاقية، وذلك بسبب وصوله إلى مشاهدات بالملايير من جنسيات مختلفة في مختلف القارات، وكثير من الأفلام التركية الأخرى فرضت نفسها في التوزيع العالمي رغم  تميزها بالصرامة الأخلاقية، وفي هذا الشأن صرح رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان بأن المسلسلات التركية تُبث في بلاده بهدف تقديم نماذج قدوة حسنة للشعب وتثقيفه.

إن السينما الجزائرية  لا يمكن أن تعجز إلى الوصول إلى هذا المستوى لو توفرت ” رؤية دولة ومجتمع ووطن”. يمكن للجزائر أن تنتج أفلاما تاريخية ممتعة ومثقِّفة تُستلهم من الأحداث التاريخية البطولية التي عرفتها الجزائر، والتي لا حد لكثرتها وتنوعها، منذ زمن مقاومة البربر للاستعمار الروماني إلى الفتوحات الإسلامية إلى فترات حاسمة في التاريخ الإسلامي في المغرب العربي، إلى زمن بطولات الأخوين عروج ومقاومة العدوان الاسباني والبرتغالي والإيطالي والفرنسي إلى أمجاد هيمنة الجزائر على البحر الأبيض المتوسط ، إلى قصص المقاومة الشعبية التي لا تنتهي، إلى قصص أبطال وأفلام  الحركة الوطنية، إلى السجل التاريخي للثورة النوفمبرية الذي لا ينضب. 

وعلاوة على الأبعاد التاريخية يوجد في الثقافة الجزائرية، وفي تراجم الرجال، وفي أخلاق الناس العادية من شهامة وبطولات ونجدة وكرم وقصص مؤثرة، وفي الحياة السياسية والاقتصادية، وحتى في عالم الجريمة ما يلهم الكتّاب ويحفز المنتجين والمخرجين بما يجعل التصوير لا يتوقف بما يساهم في التوظيف وتفديم القيم المضافة للاقتصاد الوطني دون الحاجة إلى صناعة سينمائية معادية للشعب ولقيمه يمجها الناس ويهملونها أو يضطر أصحابها إلى التخفي خارج الوطن كمن يرتكب جريمة.

إن النجاح الحقيقي للسينما هو النجاح الثقافي المتمثل في السيناريو ووجود المنتجين الملتزمين بخصوصياتهم الثقافية، وبعد ذلك كل شيء يلحق.

وحين نتحدث عن البعد الثقافي في الصناعة السينمائية فإننا لا نقصد الجانب الأخلاقي والذوق العام للمجتمع فقط، بل ثمة خطر آخر لا يقل فداحة من الإسفاف الخلقي، بل قد يتجاوزه لأنه  يحمله في طياته ويضيف إليه عناصر أخرى للتفكيك الاجتماعي،  وهو ما يتعلق بالتشكيك في عناصر الهوية الجزائرية التي صارت تشتغل عليها طوابير العمالة والخيانة بشكل مكشوف وباستعمال وسائل الدولة أحيانا ومؤسسات في المجتمع.

وسيكون هذا هو موضوع المقال المقبل بحول الله.

… يتبع

د. عبد الرزاق مقري