اطلعت على حملة الكترونية جميلة مفيدة قام بها أفراد جيل الترجيح للتأهيل القيادي من مختلف الدفعات، أعجبني فيها أمرين اثنين: الوفاء والإنجاز.
أما الوفاء فهو من أؤلئك الشباب الذي لم يتنكروا لمؤسستهم التي صنعوها بأيديهم وما استفادوه منها في حياتهم الشخصية وفي عملهم لصالح حركتهم ووطنهم وأمتهم فأقروا لها بالفضل وفقا لقوله تعالى في سورة البقرة: وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) “.
إن من أعظم صفات المروءة والرجولة ومكارم الأخلاق الوفاء إذ الكريم هو من يملكه الكرم السابق واللئيم من يتنكر لمن أحسن إليه على قول المتنبي: ((إذا أنت أكرمت الكريم ملكته..وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا))، وعلى قول الإمام الشافعي: ((الحر من راعى وِدَاد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة)). وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون الوفاء في كل شيء، حتى للجماد حينما قرر أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه مرة في الأسبوع كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ((كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشيا )) لأنه كان أول مسجد بعد النبوة شارك بنفسه في بنائه.
لا شك أن الوفاء لأكاديمية جيل الترجيج هو من الوفاء للحركة التي أسست تلك المؤسسة، وكما أنه: ” لا يشكر الله من لا يشكر الناس” كما ورد في الحديث الصحيح، فإنه لا يشكر الله من لم يشكر حركة مجتمع السلم ممن استفاد منها بأي شكل من الأشكال، ولا يشكر الحركة من لم يشكر مؤسساتها، وليست أكاديمية جيل الترجيح هي وحدها الجديرة بذكر جميلها لدى من هم أو كانوا فيها، وقد تحدث بعضهم عن انتفاعه من مؤسسات أخرى مرّ عليها، والوفاء قيمة لا تتجزأ، وإنما الشكر على قدر البر، ولعل ما سهّل الإفصاح عن هذا الشكر الذي أبداه الشباب أن أكاديمية جيل الترجيح لا يتحرج مؤسسوها وأفرادها من الانتساب علانية لأصلها رغم أنها لكل الجزائريين. وما حركة مجتمع السلم إلا أم ولود تؤسس المؤسسات وتهبها للمجتمع، تعددت وتنوعت ذراريها حتى صار لها من الأولاد والأحفاد الكثير، بعضهم يعتز بالانتماء علانية، وبعضهم سرا، وبعضهم يتنكر ظاهرا، وبعضهم تنكر فعلا، بل بعضهم تحوّل، وهم في كل الأحوال جميعا أبناؤها.
إن جمال هذا الوفاء أنه فاجأني في الوسائط الاجتماعية فلم يكن لي به علم سابق، وقد حقق لي ما كنت تمنيته وصرحت به للشباب الطليعي في بادئ أمر الأكاديمية أن يأتي يوم أسمع بما تنجزونه من خيرٍ كالناس ولا علاقة لي البتة بترتيبه. إن احتفائي بهذا الوفاء هو احتفاء بقيمة عليا نادرة بين الناس، تعهد إبليس أن يحاربها في عباد الله وينزعها من نفوسهم من اللحظة الأولى التي طرده الله فيها من رحمته ولعلنه، فقال الله تعالى على لسانه في سورة الأعراف: (( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) ))، وقد أذن الله أن يكون له ذلك فكان الجحود وقلة الوفاء صفة لازمة لأغلب الناس وفق قوله عز وجل في سورة سبأ (( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ -13)) . لهذا جدير بنا أن نشكر الأوفياء الشاكرين ولو كانوا قليلا حتى يبارك الله فيهم فيكونوا أكثر تأثيرا وتوفيقا.
– وأما الأمر الثاني الذي أعجبني في حملة “غيرني جيل الترجيح” فهو الإنجاز، ذلك الكم من التقارير النوعية التي تحدث عنها الشباب للإفصاح عما مكنتهم مؤسسة جيل الترجيح من إنجازه، في حياتهم الشخصية وفي نضالهم في مختلف فضاءات الشأن العام.
لقد كنت أقول دائما للمسؤولين في الأكاديمية إن ما ينقصكم هو عدم اهتمامكم بإظهار إنجازاتكم وإبداعاتكم في مختلف المجالات، وأنكم إن أظهرتم بعض ما تنجزونه وفق قوله تعالى (( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) )) فإنكم ستدفعون غيركم إلى تقليدكم، إما تأثرا بكم إذ صرتم لهم قدوة ومدرسة، أو ينافسونكم غيرة أو خوفا من تنامي حضورهم وتأثيرهم، فتكونون في الحالتين سببا في نشر الخير في البلاد. وإنني لأطمئنكم بأن حملة (( غيرني جيل الترجيح)) ستفعل فعلتها على النحوين المذكورين.
لقد أُسست أكاديمية جيل الترجيح وفق تحليل علمي لوضعية الحركات الإصلاحية في العالم العربي أظهر أن سبب قلة الفاعلية هو عدم أهلية القادة ونقص المؤسسات التي يعول عليها في صناعة النهضة واستئناف الحضارة. فكانت الرؤية هو تأهيل عدد كبير من الشباب وبناء وتطوير عدد معتبر من المؤسسات الفاعلة. ثم انطلقت الأكاديمية في مسارها ضمن عدد من النظريات التأهيلية الخاصة بها أهمها نظرية 4/6 التي حددت أسس بناء الشخصية المؤهلة للتأثير في الشان العام وهي الفكر والمعارف/ السلوك والأخلاق/ الكفاءة والمهارة/ الفاعلية والإنجاز، عبر مراحل معلومة تركز المرحلة الأولى على الأسس الثلاثة الأولى وتدرب على الأساس الرابع، وتركز المرحلة الثانية على الأساس الرابع بمرافقة الأسس الثلاثة الأولى. وضمن هذه المنهجية يأخذ المنتسب لأكاديمية جيل الترجيح تكوينا مكثفا في المرحلة الأولى عبر فضاءات ستة ( الدورات التربوية، الدورات التدريبية، الفضاءات الالكترونية، المخيمات والملتقيات، الرحلات والزيارات، المشاريع الميدانية)، فإذا خرج العضو من الأكاديمية عند نهاية هذه المرحلة الأولى يكون قد أخذ قسطا وافرا من التأهيل يؤثر في حياته بشكل مكمل للأسرة التربوية التي ستظل هي الوحدة الأساسية في هيكلية الحركة بالنسبة للذين يقبلون الانتساب إليها عضويا وهيكليا، فإن أراد المنتسب الانتقال إلى المرحلة الثانية في مسار الأكاديمية ونجح في ذلك فإن شرط استمراره فيها أن يكون له عمل في الحركة أو في مؤسسة من مؤسساتها أو في مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع المدني خارج الحركة، سواء التي يؤسسها أو ينتسب إليها، وكل ذلك وفق إرادته واختياره وما تتاح له من فرص. لا تتحمل الأكاديمية مسؤولية توجيهه حيث يريد أن يزاول عمله التطوعي، ولكن تشترط عليه أن يكون متميزا في حياته الشخصية، وفي المؤسسة التي يختارها وأن يسمو فيها عن الأنداد وبين أقرانه بعلمه وفكره، وسلوكه وأخلاقه، وكفاءته ومهارته، وما ينجزه فعلا في الميدان، وتوفر له الأكاديمية في ذلك المرافقة في المحاور الأربعة من خلال برامج مخففة يعتمد فيها على استعداده ومجهوداته الشخصية. وبالرغم من وضوح هذه الرؤية ومنهجها والإنجازات التي تحققت فإن ثمة قصورا في جوانب عدة يجب استدراكها، ولو استدركت وتوفرت الإرادة والكفاءة والإمكانيات اللازمة لرسّخت الاكاديمية رسالتها: ” المساهمة في إعداد جيل قياديي ذي كفاءة واقتدار يقود المجتمع الجزائري للنهضة الحضارية الشاملة ويساهم في نهضة الأمة”.” ولحققت رؤيتها: في تأهيل آلاف من الشباب الربانيين والواعين المثقفين والماهرين والفاعلين الذين يؤسسون ويقودون عشرات المؤسسات”
إن الذين تحدثوا في كيف غيرتهم أكاديمية جيل الترجيح شباب أكثرهم لا أعرفهم من الدفعات الجديدة، وهو أمر تقر به بالعين ” إذ نسمع بالقطر ينزل في أرض لا نعرف كيف تسير فيها السائمة فنفرح”، وعديد منهم أعرفهم ممن انتقلوا للمرحلة الثانية، يذكرونني بأيام عزيزة على قلبي يوم كنت أشرف على المشروع، ممن قرت أعيننا بتوفيقهم في حسن إدارة شؤونهم الخاصة، وفاعليتهم في نشاطهم الطوعي، إما في تأطير الأكاديمية ذاتها إذ لم تصبح هذه المؤسسة في حاجة لمؤطرين من خارجها كما فترة التأسيس، أو في هياكل الحركة إذ كثير منهم صار مسؤولا في هياكلنا المحلية، أو مساهما في المؤسسات الوظيفية القديمة، أو مؤسسا أو قائدا في المؤسسات الوظيفية الجديدة، أو مؤسسا لجمعيات ومنظمات طوعية خاصة بهم. فلا تكاد تجد وظيفة أو تخصصا إلا وهم رواد فيه، من التنظيم، إلى السياسة، إلى المجالس المنتخبة المحلية، إلى العمل الخيري أو العمل الفلسطيني، أو التربية والدعوة والقرآن الكريم، أو الكفاح المدني النسوي، أوالنشاط الشبابي، أو الاهتمامات النقابية والحقوقية والعمالية، أو غير ذلك مما هو معلوم وغير معلوم.
لو أبدع شباب الأكاديمية في التسويق لإنجازاتهم في مختلف المجالات كما فعلوا في حملة ((غيرني جيل الترجيح)) لصنعوا تيارا للإيجابية كبيرا تنتفع به الجزائر إذ سيسير فيه بأشكال متنوعة جمع غير قليل من الشباب المتطلع إلى تجارب ناجحة تنزع من قلبه النزوع إلى السلبية والعجز والكسل والانطواء وعدم الإيمان بالذات وبالأمة والوطن، ولكان ذلك كافيا كذلك لمعالجة ظاهرة الحسد والمقاومة والمناوءة التي هي ظواهر طبيعية في البشر لا يغلبها إلا الإنجاز والارتفاع عن الندية بالعمل الذي يسمو أثره عاليا حتى يستحق الإشادة من الله ومن البشر كما قال تعالى في سورة التوبة: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105))).