كثير من البلدان التي كانت في العالم الثالث مثلنا لم يتطلب منها الأمر أكثر من عقدين من الزمن لتخرج من هذا العالم وتنتقل إلى عالم التطور والتحضر والازدهار، ونحن بعد مرور 56 سنة، أي أكثر من نصف قرن، لا زال ثمة من يبرر ممارسات التخلف بوجودنا في العالم الثالث. ما قرأته للعضو القيادي في حزب جبهة التحرير ورئيس المجلس الشعبي الوطني سابقا السيد عبد العزيز زياري محبط حقا! إنه يؤيد في حديثة لجريدة الخبر هذا اليوم تجاوز القانون والدستور في تنحية بوحجة ( رغم تأييده له سابقا) وتنصيب بوشارب، و يعتبر أن الشرعية تُكسب عن طريق الممارسة وليس باحترام القانون والدستور، ويبرر ذلك أننا لا زلنا في طور بناء دولة الحق والقانون .. بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال!
ألم يقرأ الدكتور زياري كيف كانت اسبانيا والبرتغال والفتنام وبولونيا وجنوب افريقيا وتركيا وماليزيا وإيران وإندونيسيا وكيف أصبحت في وقت أقل بكثير من الذي لا زلنا نبني فيه دولة الحق والقانون. والأدهى والأمر في حديثه هو استصغار المجتمع واعتباره قاصرا حين اختار الإسلاميين سنة 1991 واصفا إياه بعبارة قاسية :” .. بمعنى أن المجتمع أظهر رغبة في العودة إلى الوراء بدل الاندفاع إلى الأمام..”. والله العظيم إنه لأمر عجب أن لا يتهم زياري “السيستام”، الذي هو منه كما يقول، فلا يُقر بأن هذا السيستام فشل في إخراج البلد من العالم الثالث بالرغم من أنه هو المسيطر منذ 56 سنة على وسائل القوة والإكراه وعلى السياسة وعلى الاقتصاد وعلى التعليم وعلى الإعلام وعلى الثقافة، وحتى على المسجد والشارع وأغلب الأحزاب والجمعيات، بل حتى على عقول الكثير من الجزائريين. .. و بدل ذلك يتهم الشعب أنه يريد الرجوع إلى الوراء حين يختار غير “السيستام” رغم فساده وفشله.
دعنا السيد زياري نكون صرحاء، ماذا فعل السيستام لإخراج البلد من العالم الثالث حين أقصى الإسلاميين، أو على الأقل ماذا فعل لإخراج البلد من التبعية للمحروقات، أو على الأقل تحسين مستوى التعليم والخدمات الصحية، أو على الأقل ضمان التوازنات الاقتصادية الكلية، أو على الأقل تقليص هوامش الفساد ووقف ” التبهديل” في هذا الشأن أمام العالم. ماذا فعل في هذا وغيره حين أقصى الإسلاميين علانية وبالقوة والتزوير في الانتخابات التشريعية سنة 1991 والرئاسية سنة 1995 والتشريعية والمحلية سنة 1997 ولا يزال يقصي الإسلاميين وغير الإسلاميين بطرق يتفنن في ابتكارها إلى اليوم. ثم من أعطاك الحق، ومن أعطى الحق ل” السيستام” ليقيّم مستوى الشعب وليختار له حكامه. أليس من حق الشعب أن يجرب غيركم ولو مرة؟ وما أدراك؟ لعل هذه الأحزاب التي تسميها إسلامية أو غيرها تنجح في تطوير البلد أفضل من هذا “السيستام” المسيطر الذي لم ينجح أبدا. ألم تنجح قوى سياسية جديدة في العالم، إسلامية وغير إسلامية، في تطوير بلدانها؟ ألم يأت الوقت ليدرك رجال “السيستام” بأنه ربما يوجد في خارجه ، من إسلاميين وغير إسلاميين، كفاءات وطنية علمية وسياسية محترمة لها شهادات وخبرات أعلى وتعرف العالم وتجاربه ولغاته وثقافاته أفضل من أولئك المطبلين الذين يَطلُبون السلطة بالغش والتزوير والبلطجية والمال الفاسد والتزلف والشيتة والانتهازية؟
ثم كيف تُفَكّكُ الشفرة التي يتحدث عنها رئيس المجلس السابق حينما يتأسف على عدم تسويق الحالة الصحية لبوحجة كوسيلة لَبِقة لتنحيته تَحفظ “السيستام” من الوقوع في الفضيحة التي وقع فيها، وفي ذات الوقت يؤكد تأييده لعهدة خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. أليس سي زياري طبيب يعلم بأن الحالة الصحية للرئيس أصعب بكثير من حالة بوحجة، وأن المانع الطبي الحقيقي للحكم هو لدى رئيس الدولة الذي يملك صلاحيات لا حد لها، وعليه مسؤوليات جعلها كلها بيده ينأى بحملها رجال كثر، وليس لدى رئيس المجلس الشعبي الوطني الذي يقول زياري ذاته أن صلاحيته محدودة .. سوى المكانة البروتوكولية! ألم تؤثر فيك السيد زياري تلك الصورة الكئيبة المؤلمة لرئيس الجمهورية وهم يُخرجونه من مهجعه يوم أول نوفمبر وهو في تلك الحالة، أليس فينا شيء من الرأفة والرحمة والإنسانية، أليس فينا شيء من العقل والحكمة، ألا نخشى على معنويات المواطنين وثقتهم في بلدهم وفي أنفسهم حين تُفرض عليهم هذه الصور.
ثم بعد ذلك، دعني أقول لك بأن سرورك باعتلاء شاب سدة رئاسة المجلس الشعبي الوطني ليس في محله مطلقا ضمن الظروف التي وقع فيها الأمر. أليس من الأفضل أن يفرض بوشارب الشاب نفسه باحترام القانون والدستور وبالديموقراطية حتى يثق في نفسه أفضل ويصبح قدوة فعلية للشباب إذا اعتبرناه شابا؟ هل من حق السيستام أن يفرض شبابه كذلك علينا؟ هل من حقه أن يسيطر على المستقبل كما سيطر على الماضي؟ لماذا تريدون بث هذه الأمراض بين الشباب كذلك؟ أليس الأفضل أن تتركوا الساحة نظيفة للشباب ليتنافس بكل شفافية وباحترام القانون؟
وفي الأخير أقول للسيد زياري، ومن باب النقاش الفكري، ليس صحيحا ما ختمت به حوارك، ليس صحيحا أن في الديموقراطيات العريقة هناك نظام سياسي يختار للمواطنين رؤساءهم. يمكن أن نتفق بأن الديمقراطية في العالم تعيش أزمة كبيرة تتمثل في هيمنة النظام المالي العالمي على السياسة، غير أنه لا يزال للمواطنين كلمتهم، لا يزال الحكام يخافون من المواطنين، ولا يزال التداول على السلطة قائما ولو بين الأقوياء في بعض البلدان، ولا تزال السلطة موزعة بين المؤسسات والقوى المتدافعة، ولا يزال في العالم قوى حية من كل الملل والنحل تكافح ضد هيمنة النظام المالي العالمي الظالم . صحيح أن أرباب هذا النظام يحاولون خداع المواطنين دوما، وينجحون في خداعهم أحيانا، ولكن لا يزالون يخافون من أصوات الناس وردّات فعلهم في الانتخابات، ولا تزال قوى مجتمعية حرة تكافح من أجل كرامة الإنسان ، ولا تزال عندهم هوامش واسعة جدا للحرية في الإعلام وفي مؤسسات العدالة وفي التنافس الحر في مختلف المجالات. بل إن الصين ذاتها التي يحكمها الحزب الواحد لم تتطور حتى نظمت التدافع داخل الحزب ففُسح فيه المجال فعليا للمحاسبة والرقابة على الشأن العام والتداول بين القوى والأشخاص.
أما عندنا فإننا لم نعرف الديموقراطية يوما حتى نعرف أزمتها، “السيستام” عندنا متحكم في كل شيء، السلطة فيه بين أيدي عدد قليل جدا من الناس، وتارة في يد رجل واحد، يتقاسمون السلطة والثروة كيف ما شاؤوا، يمنحون من السلطة ما شاؤوا لمن شاؤوا ويمنحون الثروة لمن يشاؤوا ولا يستطيع أحد أن يحاسبهم. هذا هو الحال الذي جعل بلدنا يبقى في العالم الثالث، هذا ما جعله لم يتطور وأبقاه يسير دوما إلى الخلف. أما الإسلاميون فإنهم لم يحكموا يوما لتحكم سي زياري بأن حكمهم يسير بنا إلى الخلف أو إلى الوراء. فلندع الشعب يقول كلمته، لعلنا نفلح في الخروج من العالم الثالث، ولعلنا بعد ذلك نساهم في تصحيح الاختلالات في العالم بالتحالف مع القوى الرافضة للهيمنة المالية العالمية. أما الاستمرار في التبرير ل” السيستام” والمحافظة على بقائه فإن مآلنا جميعا ليس ما يحدث في الديموقراطيات العريقة كما يقول سي زياري ولكن ما حدث لبعض دول العالم الثالث التي قاوم حكامها الإصلاح والتغيير إلى أن وقع الانهيار ونزل السقف على الجميع، وعندئذ لا نصبح في العالم الثالث فقط، بل نغرق في أوحال عالم بدائي فضيع يسير أمره أسياد العالم لا قدر الله.