أرشيف التصنيف: سياسة

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (7)

أولا – الرد على الشبهات

6 – شبهة: المطلوب جمع المال فقط

يتذرع  بعض النشطاء في القضية الفلسطينية بأهمية بذل المال لها لتسفيه المناشط الأخرى والإقلال من شأنها، وهو تصرف خاطئ ومضر ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية، والمبالغة في هذا الحديث والإصرار عليه يدخل ضمن  سلوكيات التثبيط والخذلان، بقصد أو بغير قصد،  وسنعود لاحقا لشرح مختلف الأسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك.

لا شك أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم الطاعات والقربات، فالزكاة ركن من أركان الدين، و”الصدقة تمحو الخطايا والسئيات كما يطفئ الماء النار” كما جاء في الحديث الصحيح، وهي بركة في الصحة والرزق وتدفع عن صاحبها أنواعا كثيرة من البلاء في الدنيا وفق ما جاء في العديد من النصوص، والحضارة الإسلامية إنما بنيت أساسا بأموال أوقاف المحسنين  في كل المجالات، ومن أعظم أنواع الصدقات “ج” في سبيل الله بالمال، فهو قرين “ج” بالنفس في القرآن الكريم بل مقدم عليه في أغلب الآيات،  ومن ذلك قوله تعالى في سورة التوبة الآية 41:  (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). وفي الآية 20: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). وقد فسر العلماء سبب ذلك في الكثير من التفاسير ومن ذلك ما بينه الألوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة، فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).

ولا فرق في “ج” بالمال بين من غزا ومن جهز غازيا ومن دعم أهله، وقد بيّن رسول الله ذلك في هذا الحديث الصحيح العظيم:  (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا). وعلى هذا كان قادة الثورة التحريرية يعّون الإنفاق على الحاضنة الاجتماعية المساندة لهم التي تلحق بها  الأضرار الكبيرة في الأرياف أهم من الإنفاق على من هم في الجبال (وكلاهما كان مطلوبا)، وعليه نؤكد بلا مواربة بأن الإنفاق على أهل غزة من أقدس الأعمال الصالحة في هذه المرحلة.

غير أن الشريعة الإسلامية لا تخضع لفهومنا الخاطئة مهما كانت نوايانا جيدة، كما لا تحكمها مرامينا السطحية أو أهواؤنا أو إكراهاتنا الشخصية وحبنا للعمل السهل الذي لا مخاطر فيه، فلا تُحدد الأولويات إلا بفهم مقاصدها، ولا ينتفع بها إلا من يفهم مرونتها.

إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء الم”قا&وم’ة  هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت “م” أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين  والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية أما  السفارات الصهيونية والأمريكية والمصرية في العالم، وبتحريك الرأي العام بالعمل الإعلامي والسياسي وتعظيم أعداد المحتجين في الشوارع بالحد الذي تشغل فيه غزة العالم والناس جميعا أكثر من أي قضية أخرى.

لقد بين الإمام الكبير يوسف القرضاوي بأن فقه الأولويات مرتبط ب “فقه مقاصد الشريعة” فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدَف الشرع إلى تحقيقها. فلا يصح في العقل ولا في الشرع ولا في أي عرف أن يكون للتحسيني الأولوية على الحاجي، ولا للحاجي على الضروري. بل للضروريات بكلياتها الأولوية المطلقة على الحاجيات والتحسينيات”

إن نجدة  الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم  واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)

فالمواد الإغاثية من مختلف جهات العالم مكدسة في معبر رفح، ولكن أكثرها ممنوع من الدخول إلى غزة بسبب الحصار، وما يدخل منها لا يسمن ولا يغني من جوع، فالأولى اذن هو العمل على كسر الحصار. وحينما نقول الأولى لا يعني هذا التوقف عن جمع المال والمساعدات، بل وجوبها يظل قائما في كل وقت، وإنما ما يجب بذل المال والوقت والجهد  فيه أكثر هو  كسر الحصار وتوعية الناس بالمآسي التي يتسبب فيها، وتوجيه الجماهير للاحتجاج في الشوارع لرفع معنويات المظلومين والضغط على  الظالمين من الأمريكان وعملائهم وعبيدهم من بلادنا العربية والإسلامية. 

في ذكرى وفاة الشيخ محفوظ، الفصل الخامس من إصدار: “بين المصلحة الوطنية المصلحة الحزبية”

الفصل الخامس: التحليل والخلاصات

هذا الفصل لم يكن ضمن البحث الذي تم تقديمه في ملتقى الشيخ محفوظ رحمه الله في إسطنبول عام 2022  في ذكرى وفاته التاسعة عشرة، ولكنه أضيف قبل الطباعة والنشر في عام 2025  في الذكرى الثانية والعشرين لوفاته رحمه الله لمزيد من الفائدة، وهذه الإضافة هي اختصار للمعلومات التاريخية الواردة في البحث، التي لا تتغير، مع تحليل للمعطيات من زاوية نظر جديدة بعد نهاية عهدتي في هياكل الحركة، وهي أضافة معروضة للنقاش والإثراء.   

حاولت في هذا البحث أن أقترب من فهم علاقة المصلحة الوطنية بالمصلحة الحزبية، مستصحبا تجربة الشيخ محفوظ نحناح وحركة مجتمع السلم بهذا الصدد. 

ألزمني المطلب العلمي أن أضع أولا إطارا تعريفيا لمعنى الحزب والمصلحة الحزبية، ومعنى المصلحة الوطنية وسياقاتها الفكرية والفلسفية. 

فتطرقت إلى مفهوم الحزب في السياق القرآني، وكيف أنه يتناول عبارة الحزب في سياق سلبي كقوله تعالى في سورة المجادلة: (( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ـ 19)) وفي سياق إيجابي كقوله سبحانه في سورة المجادلة: (( أؤلئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون ـ 22))، ثم شرحت أن الحزب هو تنظيم بشري يتحزب فيه أفراده ليقوّي بعضهم بعضا وليتعاونوا على غاية ما، فيكون الحزب صالحا إذا كانت الغاية صالحة، ويكون فاسدا إذا كانت الغاية فاسدة. 

ولا نجد في تراثنا الإسلامي تأصيلا لمفهوم الحزب والتحزب أفضل مما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية (11/92)، فقد بين بكلام شاف كاف بأن الحزب وسيلة لفعل الخير ، ولكن لا يكون أبدا هو الشاهد على الحق أو القائم على الباطل لمجرد وجوده، فالحق يبقى حقا  وهو الشاهد على الحزب والباطل يبقى باطلا بمعزل عن الحزب، ولا تكون موالاة المتحزبين لبعضهم بعضا بالحق والباطل مراعاة للحزب، ولكن يحكم علاقاتهم مراعاة الحق والباطل،  فإن كان الحب والبغض في الحزب وليس في الحق أو الباطل فإن في ذلك انحراف بيّن عن الشريعة الإسلامية. 

ويحسن بنا مراجعة النص كما ورد في الفتاوى، يقول ابن تيمية: (أما لفظ (الزعيم) ؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وأنا بِهِ زَعيمٌ} ، فمن تكفل بأمر طائفة، فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك. وأما ((رأس الحزب))، فإنه رأس الطائفة التى تتحزب، أي: تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل ، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)

بعد ذلك عملنا على تعريف الحزب في المنظمات الدولية والقوانين الحكومية، وتبيين الأسس التي يقوم عليها الحزب، بما يميزه عن غيره من الأحزاب، من حيث الرؤية والبرامج والهياكل والحاضنة الاجتماعية، والوسائل التي يستعملها، والأدوار التي يقوم بها حين يكون في السلطة لخدمة المواطنين من خلال البرامج الحكومية، وأدواره حين يكون في المعارضة للتعبير عن أشواق ورغبات الشعب ومراقبة الشأن العام والضغط على السلطات للاستجابة لمطالبه. 

وبيّنا أوجه الاعتداء على الحزب، في وجوده وحقوقه المختلفة، وحقوق أعضائه،  وأساليب التضييق عليه بما يفقد مصالحه الحزبية فيؤثر ذلك عن المصلحة الوطنية. 

وفي تحديد مفهوم المصلحة الوطنية – ضمن الإطار التعريفي –  اتضح  أن هذا المصطلح لا معنى له في الدول الديمقراطية حين يتعلق بالنقاش السياسي الداخلي إذ لا يوجد فيها مجالٌ يُمنع بخصوصه النقاش السياسي، ولا سقفٌ لمعارضة السلطات الحاكمة، ولا حصانة من النقد لأي مؤسسة سيادية أو حاكم ولو كان رأس الدولة، سوى ما يتعلق أحيانا ببعض الإجراءات التي تُتخذ في ظروف أمنية استثنائية، أو في زمن الحروب،  ضمن ما يسمى ب”la raison d’état” التي تُترجم ب”المصلحة العليا للدولة” أو “مبررات الدولة” وهي إجراءات تتعلق أكثر بالسياسة الخارجية ونادرا ما تُتداول في الدول الديمقراطية في نقاش السياسات الداخلية. 

إنما تستعمل كلمة المصلحة الوطنية في النقاش الداخلي بشكل مبالغ فيه في البلاد غير الديمقراطية، وخصوصا الدول العربية، لتحصين النظام السياسي ورموزه وليس الدولة والبلد، في مواجهة نقد المعارضة، وإرباك هذه الأخيرة وتعقيدها. 

فهي عبارة استُعملت منذ نشأتها في عصر النهضة في أوربا في الإطار الخارجي في مواجهة الدول الأخرى، وتطورت من خلال كتابات العديد من الفلاسفة الغربيين الذين أسّسوا للمذهب الواقعي أمثال ميكيافيلي، وتوماس هوبس، وهانس مورغانتو وغيرهم. وقد اعتمد الملوك والأمراء الأوربيون هذا الاتجاه للتحلل من الأبعاد الدينية والأخلاقية في العلاقات الدولية، في الحروب بينهم وأثناء حركة الاستعمار وشن الحروب على الأمم الأخرى، كما استُعمل مفهوم ” المصلحة الوطنية” لتجاوز حدود المذاهب والاتجاهات الدينية المسيحية ابتداء من رئيس الوزراء الفرنسي أرمان دي ريشليو الكاثوليكي الذي تحالف مع بريطانيا البروتستانتية ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة الكاثوليكية في حروب الثلاثين سنة في القرن السادس عشر. ثم أصبح “المذهب الواقعي”  هو المذهب المهيمن والسائد في السياسة الخارجية الغربية، خصوصا في الولايات الأمريكية المتحدة، وخلت السياسة الدولية عن أي بعد أخلاقي بذلك في الزمن الراهن.

وفي الفصل الثاني المتعلق بالعلاقة بين المصلحة الشرعية والمصلحة الوطنية بيّن البحث أنه لا يجب ترك تحديد المصلحة الوطنية لأهواء الحكام ومصالحهم الشخصية، وإنما تُحدد المصلحة الوطنية بأمرين اثنين أولهما هدي الشريعة الإسلامية وما فيها من كنوز في دراسات “المصلحة الشرعية”، وثانيها بالتشاور والاتفاق الجماعي. 

أما “المصلحة الشرعية” فقد كتب فيها علماء الأمة، بشمول ودقة، أكثر بكثير مما كتبه الفلاسفة الغربيون في تحديد مفهوم “المصلحة العامة” منذ وقت مبكر في تاريخ التشريع الإسلامي إلى يومنا هذا. 

فقد اتفق علماء الأمة، كالغزالي وابن تيمية وابن قيم وغيرهم على أن ” مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكليفها، وتقليل المفاسد وتقليلها”  

وقسّموا المصلحة في الشريعة الإسلامية عدة أقسام للموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض، ومن ذلك تقسيم المصلحة من حيث اعتبار الشرع إلى مصلحة معتبرة شرعا ومصلحة ملغاة شرعا، ومصلحة مرسلة لا معتبرة ولا ملغاة، يُنظر إليها بمدى تحقيق مقصود الشارع، ومن حيث قوتها وأهميتها، وفق ما عرّفها الشاطبي،  إلى مصلحة ضرورية “لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، أو مصلحة حاجية “تحتاجها الأمة لانتظام أمورها على وجه أحسن للتوسعة ورفع الضيق، أو مصلحة تحسينية من قبيل التحسين والتزيين وهي ما كان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر في مرمى بقية الأمم، ومن حيث الشمول إلى مصلحة عامة تتعلق بجماعات في الأمة، كمصلحة فئة معينة أو أصحاب حرفة ما، أو مصلحة خاصة لشخص بعينه، كما يضيفه الطاهر بن عاشور في تعريفاته.

أما عن التشاور والاتفاق، فهو ما حددته الديمقراطية العصرية عبر مفهوم “العقد الاجتماعي” الذي يحدد الواجبات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم و”دولة القانون” التي يشرع فيها ممثلو الشعب، المنتخبون بحرية ونزاهة، ويعيش فيها الناس تحت سلطة القانون، حاكمهم ومحكومهم. 

وقد شدد الشيخ محفوظ نحناح على ذلك كثيرا حينما رأى التعسف الكبير الذي أبانت عليه السلطات الجزائرية في استعمال عبارة ” المصلحة الوطنية” فأطلق عبارة ” المصلحة الوطنية المتفق عليها”، مؤكدا بأن لا التزام بين الحاكم والمحكوم إلا بالمصلحة الوطنية المتفق عليها.

ثم انتهى البحث في هذا المحور إلى وضع معايير أساسية لتحديد “المصلحة الوطنية”  فذكر ، من جهة، ما يدخل فيها ولا يصح الاختلاف بشأنه، كالقضايا التي تتعلق بهوية البلد وثقافته، وبمصالحه الاقتصادية ذات النفع العام على البلاد والعباد، وما يتصل بأمن البلد وأمن السكان، وبالاستقرار الاجتماعي ووحدة البلد،  وما يضمن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية، وما يحمي الدولة و يحقق سلامة مؤسساتها، وما يمنع الفساد وكل أنواع الضرر والغش ومصادرة الإرادة الشعبية، وما يتعلق بصيانة السيادة الوطنية ومنع الخيانة والتبعية. وبيّن، من جهة أخرى، ما لا يدخل في المصلحة الوطنية، مما يُتحمل الاختلاف بشأنه، كالسياسات والقرارات والقوانين والبرامج الحكومية، وشخصية الحاكم وتصرفاته، في أي موقع كان، على المستوى المحلي أو المركزي، وما يتعلق بالتصرفات المهددة للمصالح الوطنية المذكورة أعلاه التي قد يتخذها الحكام، وما يتصل بالعلاقات العادية الداخلية والخارجية التي يقوم بها الأفراد والجماعات التي لا تهدد المصالح الوطنية المذكورة.  

في الفصل الثالث حرص البحث على التأكيد بأن المصلحة الحزبية جزء من المصلحة الوطنية، وكما هي كل حقيقة قد يكون لها استثناء لا يقاس عليه. 

فما دام دور الحزب هو السعي للوصول إلى السلطة، وما دامت غاية السلطة هي تحقيق مصلحة البلاد والعباد، فإن الحزب هو من يجسد ذلك من خلال برنامجه وعمل أفراده الذين يختارهم الشعب لذلك، فالمصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية متداخلتان على هذا الأساس. 

وما يجعل عمل الحزب ينتهي إلى تحقيق المصلحة الوطنية هو ذلك التدافع الذي تؤطره الديمقراطية لكي يكون حضاريا ويضمن تداولا سلميا حقيقيا على السلطة، فإن غاب التدافع حلّ الاستبداد والفساد، حتى وإن وُجدت التعددية الحزبية كما هو حاصل في ديمقراطيات الواجهة. 

وبالرغم من أنه يصعب تصور وجود الديمقراطية في أنظمة الحزب الواحد فإن حزبا واحدا بداخله رقابةٌ على الشأن العام وتدافعٌ حقيقيٌّ حول الأفكار والبرامج والمصالح وتداولٌ فعليٌّ  أفضل من تعددية حزبية دون تدافع ودون رقابة على الشأن العام. ولهذا قد تفُضَّل أحاديةُ الحزب الواحد الصيني بواقع التدافع الحقيقي الحاصل فيه عن التعددية الحزبية الصورية في العالم العربي، التي تحكمها قوى فاعلة من خلف المشهد السياسي لا أحد يستطيع أن يسائلها.   

تؤدي الأحزاب أدوارا مفيدة جدا للأوطان من حيث استيعابها للخلافات وتوجيهها وجهة قانونية إيجابية، ومن حيث تمكينها للمواطنين من المشاركة في الشأن العام ونفع بلدهم بكفاءاتهم، ومن حيث تأهيل النخب وتدريبهم وتكوينهم بالمعارف والتجارب، وتفتيق قدراتهم بالفرص التي تتاح لهم، وصقل شخصيتهم بالقيام بالواجب وتحمل المسؤوليات، ومن حيث التوعية الشعبية ورفع مستوى الجماهير عبر الخطاب السياسي والتنافس على البرامج بين الموالاة والمعارضة، وشرح قرارات ومنجزات الحكومة أو كشف أخطائها وعيوبها وحالات الفساد. 

كما تؤدي الأحزاب أدوار الوساطة بين السكان والحكام، للاستفادة من الخدمات الحكومية ولحل الأزمات وتقريب وجهات النظر بما يحدد المشترك الوطني والتعارف والتفاهم، وأدوار الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية البرلمانية للدفاع عن البلد وبما يحقق مصالحه ويعرّف الغير به وبالفرص المتوفرة فيه في مجالات الاستثمار والتعاون الدولي وما يتصل بذلك. 

ومن أهم ما تقوم به الأحزاب دورها في رسم السياسات الحكومية وتوجيه القرارات الرسمية سواء ما تقوم به أحزاب الأغلبية بشكل مباشر، أو ما تقوم به أحزاب المعارضة بشكل غير مباشر عبر فرص التشريع البرلماني وأدوات الرقابة، ومن خلال وسائل الضغط الشعبي والإعلامي المختلفة، بما يجعل الأغلبية تحاول سحب البساط من منافسيها بتبني المطالب الممكنة. 

ويسجل التاريخ أن كثيرا من الأوطان نهضت بعزمات قيادات سياسية وحزبية نذرت نفسها لرقي بلدانها فكبرت بلدانها وكبرت هي معها. 

ومما يجدر التنبيه إليه أنه قد يحدث تعارضٌ بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية، فإن قدمت القيادات الحزبية في هذه الحالة المصلحة الوطنية تكون قد خدمت مصلحة حزبها، لما تمنحه إياه من مصداقية وسمعة طيبة سيستفيد منها لاحقا. 

غير أن هذا التعارض تعارض استثنائي، يحدث بشكل نادر في زمن الأزمات والحروب. فإذا طُلب في بلدٍ ما من الأحزاب أن تظل تقدم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، فالمشكلة في من يقود الوطن لا في من يقود الأحزاب، لأن استمرار أزمات الوطن دليل على فساد أو عدم أهلية من يقود الوطن، وتصبح المصلحة الوطنية في هذه الحالة منوطة بتغيير من يقود الوطن، وليس في إرهاق الأحزاب بالتخلي الدائم عن طموحاتها.    

وفي الفصل الرابع والأخير ، ركّز البحث على شخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، فذكر بنشأته وركائز بناء شخصيته، ومساهماته الدعوية، وسبقه في العمل السياسي، ومعارضة النظام السياسي الأحاديّ ونهجه الاشتراكي، معارضة صارمة أدت إلى سجنه، وعن مرحلة الثمانينات بعد خروجه من السجن وما تميز به في نهجه الدعوي ومنهجه السياسي المرن والمعتدل المتوائم مع الانفتاح السياسي في عهد الشاذلي بن جديد. 

ثم تم التطرق الى مرحلة التعددية وما صاحبها من استقطاب شديد، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، ومحاولاته، رحمه الله، رأب الصدع بالحوار عبر المبادرات العديدة التي أطلقها في اتجاه الأحزاب بكل توجهاتها والسلطة الحاكمة بكل تناقضاتها، من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وكيف أنه صار مقتنعا بضرورة العودة إلى مسار انتخابي جديد يفصل فيه الشعب في الأمر، خصوصا بعد فشل مبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، وفشل مبادرة الندوة الوطنية التي نظمها النظام السياسي، اللذين شارك فيهما مع ممثلين حزبه ثم انسحب منهما كلاهما لعدم توفر  إرادة اجتماع طرفي الأزمة. 

لقد دفع استحكام الأزمة الأمنية  الشيخ محفوظ إلى تغيير أولياته، بتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، وتأجيل طموحه الشخصي والحزبي إلى ما بعد الأزمة، فتبنى مقاربة المشاركة السياسية والدخول في مؤسسات الدولة، ابتداء من المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 1995 ومختلف الانتخابات  التشريعية والمحلية وفي  العديد من الحكومات، وذلك للمساهمة في وقف سيل الدماء وتحقيق الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، وبلور في هذا الإطار مقاربة التفريق بين النظام السياسي الذي يمكن معارضته عند الاقتضاء والدولة التي يجب صيانتها في كل الأحوال. 

وكان ثمة في هذا السلوك السياسي شيء من المصلحة الحزبية كذلك، من زاوية أنه كان يقصد رحمه الله  من المشاركة السياسية  المحافظة  على بقاء حزبه في الساحة، ولتجاوز مكائد  التيار العلماني الاستئصالي الذي استغل فرصة الأوضاع الأمنية للتحكم في دواليب الحكم، والمحافظة على مناضليه من التهديدات التي كانت تحيط بهم من جهات متعددة،   وصيانة الفرص المستقبلية لمشروع حزبه، وكذا تدرب مناضليه على تسيير الشأن العام ومحاولة التأثير من داخل مؤسسات الدولة. 

غير أن هذا النهج حورب من طرفي الصراع فقتل الإرهاب قرابة 400 فرد على رأسهم نائب الشيخ محفوظ ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله، واستُحكمت سياسات الإقصاء من قبل النظام السياسي عبر مسار التزوير المستدام، وإقصاء إطارات الحركة لأسباب سياسية، ومحاولة التضييق على وجود الحركة في المجتمع المدني ومختلف مكامن القوة في الدولة والمجتمع. 

لقد فاجأ الاحتفاء الشعبي الكبير الذي تمتع به الشيخ محفوظ رحمه الله في الانتخابات الرئاسية عام 1995 النظام السياسي الجزائري، فعمد إلى استعمال العنف في صناديق الاقتراع لتغيير النتيجة، ثم غيّر الدستور في العام الموالي لإخراجه رحمه الله من العمل السياسي وإضعاف فاعلية حزبه. 

لم تشفع  لدى النظام السياسي نفسية العفو التي تعامل بها رحمه الله، وصبره الطويل على التزوير المستدام في كل الاستحقاقات الانتخابية، وعدم اعتماده سبيل التهييج الجماهيري، وبحثه الدائم عن تطمين السلطات حتى تتقبله هو ومناضلي حركته وتسمح لهم بهوامش في المشاركة السياسية تتناسب مع حجمه الشعبي الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية عام 1995 بما يمكنه من المساهمة في تجسيد مطلب المصالحة الوطنية، ونهضة البلد. 

وفي الأخير أدرك عليه رحمة الله أن النظام السياسي القائم ليس شريكا يُعتدُّ به في العمل السياسي الوطني المشترك، ونظر إلى منعه من التشرح في الانتخابات الرئاسية عام 1999 أنه محاولة خبيثة لاغتياله سياسيا، ليس لمصلحة الوطن ومصلحة الدولة كما كان يتشدق به بعض المسؤولين في تبرير مسار التزوير، ولكن لمصلحة شخوص الحكام والمسؤولين، ولمصلحة تيارات علمانية منها من يشتغل لصالح الأجانب. ثم جاءت الانتخابات التشريعية عام 2002 فأنهت حياته السياسية رحمه الله إذ انتقم أصحاب القرار من إصراره على الترشح بما جعل إقصاءهم الظالم خادشا لشرعية انتخاب عبد العزيز بوتفليقة في عهدته الأولى خدشا لم يتقبله هذا الأخير أبدا، وقد تمثل الانتقام في طرائق عدة منها زحزحة الحركة من المرتبة  الثانية بعد التجمع الوطني الديمقراطي في برلمان 1997 إلى المرتبة  الرابعة بعد حركة الإصلاح الوطني في الانتخابات التشريعية عام 2002، كما كان تراجع الزخم الشعبي الذي ظهر في هذه الانتخابات مؤلماً له كثيرا، رغم رباطة جأشه التي رأيتها فيه شخصيا حين حدثته بعد النتائج عن تفوق حزب الشيخ عبد الله جاب الله فقال لي: (( أحمد الله أن الذي تجاوزنا حزب إسلامي)). 

لقد أثرت هذه الأحداث المؤلمة كثيرا في قناعاته فبدأ يُفكر في الابتعاد التدريجي عن نظام الحكم، ومن دلائل ذلك ما أشهد به أمام الله مما كان يقوله لنا في الجلسات المغفلة عن انحرافات السلطات الحاكمة الخطيرة بما كان لا يسمح حتى في التفكير فيه. ولئن تجاوز الشيخ محفوظ نحناح عن الذين أقصوه عام 1995 وسمح في حقه، فإنه لم يتجاوز عن الذين أقصوه عام 1999 ، وأظهر سخطه عما حدث له كما لم يفعل مع ما حدث له من قبل، وسمعته بنفسي يعبر عن ذلك لبعض المسؤولين الكبار في الدولة، بل إنه أخذ ينظّر لتغيير الخط السياسي من خلال تأليف كتاب تحت عنوان “الدولة وأنماط المعارضة” ومن غرائب ما حصل بعد وفاته اختفاء مسودة هذا الكتاب وتغييبه نهائيا.  

أضرّت كل تلك الأحداث بمعنويات الشيخ محفوظ وبصحته رحمه الله، فلم يصبح بتلك البشاشة والأريحية في التعامل المعروف بها، وصار يتغيب عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني، وفي سنة 2003 توفاه الله رحمه الله رحمة واسعة. 

بعد وفاته ابتليت حركته بالانشغال بنفسها ومعالجة حالة الانشقاقات والخلافات الكبرى التي وقعت فيها،  ومن دلائل صرف الاختلافات عن الحكمة والعقلانية السياسية  شدة الارتباط بالنظام البوتفليقي الذي باتت كل المؤشرات تدل على إفلاسه واستحالة إصلاحه من الداخل، وقد كان الخطأ الفادح الناتج عن ذلك النهج ( الذي لا علاقة له بنهج الشيخ محفوظ) فتح العهد الرئاسية لصالح بوتفليقة عام 2008. 

لم ينفع النهج الذي اتّبعته الحركة المصلحة الوطنية حيث رأينا جميعا المآل الذي وصلت إليه البلاد وكيف سيطرت عصابات خطيرة على القرار، لم يخلصنا من تغوّلها سوى الحراك الشعبي، كما لم ينفع ذلك النهج المصلحة الحزبية حيث عرفت الحركة انشقاقات خطيرة، وتراجعا في الانتشار وفي الرمزية وفي همة وحماس المناضلين،  وضاعت منها مؤسسة الشبيبة والمؤسسة الطلابية وعرفت مؤسستها الاجتماعية هزات وانشقاقات، وتراجعت في الانتخابات التشريعية عام  2012 رغم التكتل الإسلامي الذي أقامته مع حركة الإصلاح والوطني وحركة النهضة، حيث لم يحقق “تكتل الجزائر الخضراء” النتائج المرجوة على شاكلة نتائج التيار الإسلامي في العالم العربي في أجواء الانتفاضات الشعبية. 

لقد رسّخ هذا النهج – المخالف للتوجهات المؤسسة للحركة الإسلامية في الثمانيات-  توالي الأزمات الخارجية والداخلية منذ بداية التسعينيات، وشعور الجميع بأهمية الحماية داخل مؤسسات الدولة،  حتى صار  مكونا جينيا  يتحكم في فكر وتصرفات أغلب إطارات الحركة. وأحسن من عبر عن هذه الحالة عبد الحميد مهري رحمه الله بقوله: ” لما أصبح الجزائري  يشعر  بالطمأنينة عند رؤيته الدبابة في الشارع معنى ذلك أن الأزمة صارت عميقة جدا” وأستطيع أن أقول أن النظام السياسي نجح في تحويل الأزمة لصالحه، كنظام سياسي،  دون أن ينجح في خدمة البلد من حيث الحريات والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتطور العلمي والتكنولوجي، والحضاري بشكل عام.

ولكن استطاع الربيع العربي عام 2011 ، وانهيار منظومات الحكم المستبدة والفاسدة في عدد من الدول العربية، وكذلك التحركات الشعبية في جانفي من نفس السنة بالجزائر أن يهز  تلك القناعات التي ترسخت في الحركة فجعلت عموم المناضلين يشعرون بأنهم في المكان الخاطئ من التاريخ فسارعوا إلى مغادرة الحكومة بعدما تأكد لمجلس الشورى الوطني أن الإصلاحات التي وعد بها بوتفليقة أُفرِغت من محتواها، وفق ما بيّنه البيان الرسمي للحركة، والبيان الجماعي لتكتل الجزائر الخضراء، ووفق التقرير السلبي جدا عن محصلة التحالف الرئاسي، الذي قدمه رئيس الحركة للمؤسسات وحتى للرأي العام آنذاك. ويكفي النقر في محركات البحث الإلكترونية للحصول على هذه النتائج والتقارير. 

عندما وصلت الحركة إلى هذه الخلاصة، خرجت من الحكومة عام 2012، ثم جاء  مؤتمر 2013  فغيّر النهج السياسي واختار القيادة التي تناسب الخط الجديد، وثبّت الرؤية السياسية التي صدّقتها تقارير الفرصة الأخيرة قبيل الخروج من الحكومة، بتأثير من الأحداث الكبرى التي هزّت القناعات هزّا عنيفا،، مثل  الربيع العربي عام 2012 ثم الحراك الشعبي عام 2019. 

شرعت الحركة ابتداء من 2012 – عند قرار الخروج من الحكومة ثم ابتداء من المؤتمر الخامس الذي حمل شعار ” حركة تتجدد وطن ينهض”  – في إعادة النظر في فهم مدلولات العلاقة بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بالتأكيد بأنه لا يمكن للوطن أن ينهض دون أن تتجدد الحركة في رؤاها وخططها وبرامجها ومواقفها وسياساتها وخطابها، ولا يمكن أن تتجدد  الحركة دون صناعة البيئة التي  ينهض بها الوطن، من خلال الضغط على النظام السياسي، عبر  العمل الشعبي والخطاب الإعلامي والرقابة السياسية والبرلمانية، وغير ذلك. 

ومن تلك اللحظة وعلى أساس هذا الشعار شرعت الحركة في إحداث ثورة على مستوى الفكر  والاستراتيجيات  والمقاربات السياسية والدعوية والتنظيمية والتكوينية، عبر إعادة توزيع الوظائف  الفكرية والسياسية، والدعوية والتربويّة، والاجتماعية والمجتمعية، ثم عبر مقاربة المقاومة السياسية في الخط السياسي والتخصص الوظيفي في الخط الاستراتيجي، فحرّكت الساحة السياسية عبر تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي منذ 2015  وكانت هي الطرف الأساسي في تنظيم تجمع المعارضة التاريخي في مازفران، وكان من نتائج ذلك على مستوى المصلحة الحزبية أن الحركة حققت نموا في النتائج الانتخابية عام 2017 واسترجعت الولايات التي ضاع فيها تمثيل الحركة في انتخابات  2012، ولكن دون المأمول بسبب عدم اكتمال الصورة الجديدة للحركة في ذهن الناخبين والعزوف الانتخابي العام الذي تأثرت به نتائج كل الأحزاب من حيث عدد الأصوات، ولكن وقع النمو اللافت بالضِّعف في الانتخابات التشريعية عام 2021 بزيادة 34 مقعدا على انتخابات 2017، وهي النتيجة التي اقتربت بها الحركة لأول مرة من أعلى نتيجة عام 1997 (69 مقعدا) في زمن الشيخ محفوظ في الوقت الذي كانت فيه الحركة موحدة وكان الإقبال الشعبي على الانتخابات كبيرا. وقد فسَّرتُ هذا الاقتراب من النتيجة التي حققها الشيخ محفوظ كرسالة للمناضلين بأن هذا هو النهج الأصلي الذي بدأت به الحركة من منابعها الإسلامية الأولى، والذي حاول الشيخ محفوظ الرجوع إليه قبيل وفاته، كما شرحنا ذلك أعلاه، ولم تسعفه المنية للأسف الشديد لتحقيق ذلك إذ غادر قبل أن يشرح الخريطة وصار كل واحد من أتباعه يفسرها وفق قناعاته وموقعه وطموحاته. 

أما النتائج التي تحققت لفائدة المصلحة الوطنية فهي حالة الوعي التي تشكلت لدى الجزائريين عبر العمل السياسي المشترك والتي فجرت الحراك الشعبي الذي خلّص الجزائريين من المجموعات المافياوية (التي سماها الحراك “العصابة”) التي تسلطت على البلد أثناء العهد البوتفليقي. 

لم تكن النتائج الإيجابية التي حققتها الحركة بعد تغييرها خطابها وخطها السياسي بين 2013-2023   تتعلق بالانتخابات فقط، فقد تميزت بتحسن رمزيتها وارتفاع سمعتها ومعنويات مناضليها، كما تحقق لها استقرار غير مسبوق ونجحت في إنجاز الوحدة الاندماجية مع جبهة التغيير واستمر النقاش حول موضوع الوحدة مع الحركات الإسلامية الأخرى، ونمت هياكلها التنظيمية، واسترجعت مؤسستها الطلابية واستقر وضع مؤسستها الاجتماعية وأسست فضاءات مجتمعية أخرى بثلاث أضعاف غطت وظائف أساسية للحركة كانت متروكة أو ضعيفة، استطاعت أن تنتشر في كامل التراب الوطني وبعضها وصل الى العالمية، وعاد إلى صفوف الحركة أعداد كبيرة من القادة والمناضلين الذين تركوها، بسبب الوحدة أو للعمل في اختصاصات يميلون إليها صارت متوفرة في المؤسسات الجديدة، كما أن الحركة استرجعت مكانتها الدولية وصار  رجالها قادة في منظمات عالمية مرموقة في العديد من المجالات، وباتت في طليعة الداعمين للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي. 

ويبقى السؤال مطروحا، في الأخير، هل هذا التغيير والتطور الإيجابي الذي وقع في الحركة والذي ثمنه بما يفيد الإجماع مؤتمر 2023 هو تغيير عميق نفذ إلى المركّبات الجينية للحركة التي صنعتها الأزمات فجعلتها تنحو تلقائيا نحو دوائر السلطة؟ أم هو مجرد طفرة شديدة التأثير ولكنها عجزت عن النفاذ إلى المركبات الجينية المحصنة في أعماق نفوس وعقول إطارات الحركة، حتى أولئك الذين شاركوا في قيادة الحركة بين 3013-2023؟ وهل سيتلاشى أثر الطفرة بعد مغادرة رئيس الحركة الذي أحدثها وقادها؟ وهل ستعود الحركة عندئذ لأحضان النظام السياسي، وتندمج فيه من جديد، رغم استمرار حالات الفساد والفشل في تحقيق نهضة البلد، ورغم الأدلة الألف بأن التغيير من الداخل ليس ممكنا، خصوصا بعد فشل مفاوضات تشكيل الحكومة التي أبان فيها النظام السياسي بأنه لم يتغير شيء من  عقليته الإقصائية ونزوعه للهيمنة والتحكم وإضعاف المنافسين والشركاء؟ وخصوصا بعد النتائج الإيجابية، استراتيجيا وسياسيا، التي حققها النهج المعارض المتبصر لصالح المصلحة الحزبية للحركة والمصلحة الوطنية للجزائر؟

إن الأيام والنتائج ستبين، ولئن كان الربيع العربي قد أدى دوره في حدوث صحوة المناضلين في 2011 كما بيّناه أعلاه، كحقنة تطعيم أولى ضد الاستبداد، ولئن كان الحراك الشعبي عام 2019 قد أكد التطعيم كحقنة تذكير  فإن مبررات حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية على ذات المنوال لا تزال قائمة، والخشية أن تجد الحركة نفسها مرة أخرى في المكان الخاطئ من التاريخ، فلا تسلم الجرة في كل مرة! 

ضبط البوصلة بشأن الحرب القائمة بين إيران والصهاينة.

أكتب مرة أخرى في شأن الحرب القائمة بين إيران والصهاينة وأساهم مع غيري في ضبط البوصلة ومعالجة حالة الهيجان الذي تفتق لدى العديد من الأفاضل ضد إيران، بالتشفي والحملات الإعلامية، بما يجعلهم – دون شعور منهم – ضمن البروباغندا الصهيونية في إدارة عدوانها ضد إيران.

ومما يمكن أن أُذَكِّر به مجددًا ما يلي:

أولًا – الرأي في الحرب القائمة بين الصهاينة وإيران كان مبنيًا عند عدد من العلماء والمفكرين والقادة على قناعات سابقة في مسألة الطائفية، القائمة على الدراسات الشرعية والحضارية والفهم الصحيح للأحداث التاريخية في الأمة والتحولات الجارية في العالم. ومع وقوع الحرب وتطور آثارها أصبح هذا الرأي معبرًا عنه أكثر ومجاهرًا به من المجاميع العلمية والفكرية والسياسية المقدَّرة في الأمة، كالأزهر، والموقف الرسمي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والإخوان المسلمون وكل الحركات الإسلامية والإصلاحية، بل حتى الدول السنية قاطبة (سواء كانت صادقة في هذا أم لا). فالأمة في المجمل منحازة لإيران في شرق العالم الإسلامي وغربه، ولم يخالف هذا الاتجاه سوى إخواننا السوريين واليمنيين وبعض العراقيين وبعض النخب من الاتجاهات الإسلامية والعلمانية.

ثانيًا – المواقف المعادية لإيران في زمن الحرب محكومة عند كثير من أصحابها بظروف العدوان الذي وقع على أهلنا في هذه الدول الثلاث، وذلك أمر مفهوم ومقدَّر، ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حاكمًا على الأمة كلها، ولا يجب أن تؤثر فينا اعتراضات واحتجاجات إخواننا وأخواتنا (وأكثرهم من سوريا) مهما كان حبنا لهم وتضامننا معهم، ومهما كان قربهم منا والنفع المتبادل بيننا وبينهم، فالحق أعز منهم ومنا ومن أهلنا وأبنائنا.

ثالثًا – إن المواقف المعادية لإيران في الحرب القائمة متأثرة بهذه الحالات الخاصة فلا ينظر أصحابها إلى المخاطر العدائية التي تهدد الأمة كلها بنفس الدرجة، فهي تركز بالمجمل على الخطر “الإيراني الشيعي” أكثر من تركيزها على الخطر الغربي الصهيوني الاستعماري الذي لا يحتل ثلاث دول فقط، على حد قولهم، بل يسيطر على دول العالم الغربي كله وباتت تأخذ من حكامها الجزية جهارًا نهارًا، وخلفية الحملات ضد إيران هي مرافعة منحازة لإقناع المتابعين بعدم مساندة إيران في هذه الحرب دون النظر إلى مآلات وتبعات انهزامها على الأمة.

رابعًا – الذين يُخرجون الشيعة من الإسلام تكفيريون، يخالفون رأي جمهور العلماء وما ذهب إليه عموم علماء السلف والخلف، وهم مع ذلك يؤججون مشاعر الطائفية عند عموم الشيعة ويظلمون شعبًا بكامله في إيران مع ما فيه من تنوع، ويسجلون على أنفسهم موقفًا مشينًا لن ينساه التاريخ. فيتهمون الإيرانيين بأنهم مجوس، وهذا انحراف عن جادة الشرع، وتارة فرس، ولا عيب في أن يكون المسلم فارسيًا، فالفرس أول الشركاء مع العرب في انبعاث الحضارة الإسلامية العظيمة، والذين شيعوا إيران ليسوا فارسيين، بل حكام الدولة الصفوية الأتراك، وعلماء الشيعة العرب.

خامسًا – حتى وإن اختلفنا في التصنيف والحكم على المشروعين الإيراني والصهيوني، فإن الأمر اليوم يتعلق بحرب قائمة، والواجب النظر إلى مآلاتها نظرة شرعية مقاصدية واعية. إنه لا يختلف عاقلان بأن هزيمة إيران تعني التحكم الكلي في المنطقة وتمكين الصهاينة والأمريكان والغرب من رقابنا ونهاية القضية الفلسطينية، وتسلط الاستبداد والعمالة والتطبيع، بل معنى ذلك تحكم المشروع الغربي الصهيوني في العالم بأسره لقرن مقبل، فأي عقل هذا الذي لا ينظر إلى المآل، ويفرض علينا أن لا ننظر إلى المسألة إلا من زاوية ما وقع سابقًا في سوريا واليمن والعراق.

سادسًا – إن موقف الانحياز إلى إيران في هذه الحرب موقف شرعي قبل أن يكون سياسيًا، ونحن بكل تأكيد لا نفرق بين السياسة والشرع، وإلا كنا علمانيين متصارعين على السلطة لا غير.

وثمة قواعد أصولية كثيرة توجب الوقوف مع إيران رغم وجوب معارضتها والوقوف ضدها في القضايا الأخرى المشار إليها، ومنها قاعدة “انفكاك الجهة” التي تعني أن الفعل الواحد قد يكون له جهتان مختلفتان، بحيث يمكن أن يكون مأمورًا به من جهة، ومنهيًا عنه من جهة أخرى، دون أن يكون هناك تلازم بين الجهتين بحيث يستحيل اجتماعهما.

كما أن القرآن الكريم وجه المؤمنين لابتهاج بانتصار الروم على الفرس، وفسر كثير من المفسرين بأن ذلك نصر من الله للروم، بالرغم من أن العداء الأبدي بين المسلمين وغيرهم، هو العداء مع الروم، فقد بدأ ببعث الجيوش لمحاربتهم قبل غيرهم منذ بعث أسامة وغزوة مؤتة وتبوك، إلى يوم الملحمة الكبرى في آخر الزمان، وما بينهما من أحداث كبرى في التاريخ. كما أن الانتصار على البويهيين لم يكن إلا بنهوض دولة سنية قوية وليس بالحروب الكلامية الطائفية كالتي يؤججها بعضنا اليوم، وقبل ذلك تعاون العلماء مع البويهيين في محاربة الروم على نحو ما جاء في البداية والنهاية لابن كثير وغيره. وأما سقوط الدولة الفاطمية فقد كانت بدايته نجدة نور الدين زنكي للوزير العبيدي الفاطمي شاور ضد الصليبيين وخصومه المتحالفين مع الفرنجة، وقبل أن يحكم صلاح الدين مصر صار هو الوزير لدى الخليفة الفاطمي العبيدي، ولم ينهِ الدولة الفاطمية إلا بعد عملية إصلاحية عظيمة مسنودة بالشوكة السلطانية، وليس بالعجز والكسل ومهادنة الاستبداد العلماني في بلادنا العربية والحروب الكلامية بين الشيعة والسنة.


وبناءً على كل هذا فإن الأولوية في العمل هي إقامة الدولة المسلمة الراشدية (أو على الأقل أن تكون مثل الدول السلجوقية أو الزنكية أو الأيوبية أو العثمانية، التي يذكر أمجادها المعادون لإيران، وهي لا شك مجيدة على ما فيها من ابتعاد عن حكم الراشدين)، وليس المعارك الطائفية داخل مجتمعاتنا بما لا يزيدنا إلا ضعفًا ومهانة. إن هذا الحماس ضد إيران والشيعة المبثوث في مواقف الطائفيين أو المكلومين من ظلمهم، يجب أن يتوجه أولًا لإقامة الدولة المسلمة المستقيمة على شرع الله، وإنهاء تلك الدول السنية العلمانية العميلة التي تخذل فلسطين وتتآمر عليها وتحاصر غزة، والتي يقبع تحت سلطتها ويأتمر بأمرها بعض الإسلاميين الذين يهجمون على إيران في هذه الحرب.

سابعًا – إن الذين يتكلمون عن المآسي التي حدثت في سوريا واليمن والعراق لا يفرقون بينها ولا يغوصون في أسبابها ولا يحملون المسؤولية إلا للجهات المسنودة من إيران، فاحتلال العراق كان بتحالف استعماري أغلب دوله من السنة، فمصر والدول الخليجية السنية هي كذلك التي سلمت العراق مع الأمريكان إلى الإيرانيين، والخذلان والتآمر الذي تعرض له العراقيون من الدول السنية سبب رئيسي لضعفهم، ولهذا السبب انخرط السنة في العراق في العملية السياسية التي يتحكم فيها الشيعة، وبعض القوى السنية اليوم هي حليفة للقوى الشيعية وهم مع إيران في الحرب القائمة. وأما اليمن فإن المؤامرة الكبرى التي وقعت ضد اليمنيين (شوافع وزيديين) هي من السعودية والإمارات، وخطأ بعض الذين يحملون على إيران في حربها ضد الصهاينة أنهم عجزوا عن معالجة المشكلة اليمنية في بداياتها بالحوار الوطني الداخلي، وكان الأمر ممكنًا على ما ذكره لنا من نثق بهم من الفلسطينيين، فهم الذين لعب بهم السعوديون وحاربهم الإماراتيون، وفككوا قوتهم ومزقوا شملهم وضربوا وحدتهم، وقد صاروا اليوم سجناء تحت سلطة السعودية لا يستطيعون مخالفتها في شيء، فهم ضحايا خياراتهم الخاطئة.

وما الحوثيون إلا منتج من منتجات سياسة علي عبد الله صالح والسعوديين المكرة، لم يكن لهم شأن من قبل البتة، فالأرضية التي سمحت بدخول الإيرانيين في اليمن صنعها السعوديون والإماراتيون وغفلة أحبائنا. أما القضية السورية، الجرح الدامي والمظلمة التاريخية العظيمة، فإن للدول السنية مسؤولية كبيرة في خذلان وتفتت المقاومة السنية، غير أنه ما يلفت الانتباه في القضية السورية هو سكوت الذين يريدوننا أن لا نُسند إيران في حربها ضد الصهاينة على أحمد الشرع في حواره وتكتيكاته ومهادنته للروس، وتغاضيهم عن التعاون السوري الروسي القائم والتفاهمات التي وقعت معهم بخصوص وجودهم وبقاء قاعدتهم العسكرية، وكذلك تفاهمات الحكومة السورية الجديدة مع ترامب والتنازلات التي قُدمت من أجل رفع العقوبات. أليست روسيا هي صاحبة البراميل المتفجرة والقتل الجماعي للسوريين؟ أليست أيديهم ملطخة بدماء أطفال غزة؟ فإن قيل إن تلك سياسة شرعية، فلماذا لا تنطبق على الإيرانيين؟

ثامنًا – لا أريد أن أتوغل كثيرًا في ذكر الشواهد الكثيرة من التاريخ الدالة على أن المآسي التي وقعت في سوريا والعراق واليمن هي شأن سياسي أُستُعمل فيه الدين، ولو كنا صادقين لكان اعتراضنا على الأنظمة التي تنتمي إلى العالم السني لا يقل صرامة عن اعتراضنا على إيران، فالذي يعمل على مسخ الدين ونشر الفساد والإلحاد والمجون، ويسلم البلد للاستعمار الأمريكي الغربي، ويعطي الجزية للأمريكان، ويحاصر غزة ويتحالف مع الصهاينة ضد فلسطين، هي الدول السنية وخاصة العربية، تلك الأنظمة التي يسعى كثير منا للتقرب منها ومهادنتها وتجنب معاداتها والسعي إلى نصحها بالتي هي أحسن، بالرغم من أن التجارب المتكررة دلت بأنه لا مجال لتحقيق ذلك، واسأل في ذلك به خبيرًا، وبعضها أبان عن مروق عن الدين بواح ومجون لا حد له وعمالة غير مسبوقة في التاريخ.

تاسعاً – وبالإضافة إلى كل ذلك يجب أن ننتبه بأن المشروع الإيراني التوسعي انتهى بالضعف الشديد الذي أصاب الجناح الذي يمثله، منذ بضع سنوات، ونحن الآن في مفترق الطرق: إما أن ندخل على الشأن الإيراني بالدعم والنجدة كما فعل نور الدين زنكي وشيركوه وصلاح الدين مع الفاطميين لنجعلها في دائرة الأمة، وتركيا تستطيع أن تفعل ذلك لو أرادت ولو استجابت لنصائحنا، على شاكلة ما عليه في هذا الشأن باكستان، نوعًا ما، أو نسلمها للمشروع الغربي الصهيوني إن انهزمت، أو نجعلها إذا خرجت من الحرب سالمة ترتمي في أحضان المشروع الروسي والصيني وهي تحمل أحقادًا عظيمة ضد من خذلها من المسلمين.

وفي الخاتمة أقول لأصحاب المواقف المتشددة ضد إيران، بأن رأيي هو وجهة نظر بكل تأكيد، ولكني موقن به أن دعم إيران في الحرب القائمة هو العمل الصالح الذي نتقرب به إلى الله، ولا يمنعنا من ذلك إلا التعصب الطائفي، الذي قد يكون خفيًا لا ينتبه إليه صاحبه، أو التأثر العاطفي حين لا تلجمه نظرات العقول ومقاصد الشرع العظيم، أو عدم إدراك المآلات والتداعيات، أو المصالح والولاءات التي نسجتها الظروف من حولنا.

لا شك أن معرفة الحق واتباعه ليس بالأمر الهين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأى الغيب رأي العين، كان يدعو في أشرف الأوقات في افتتاح قيام الليل بهذا الدعاء: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).

فكيف بنا نحن الذين اُمْتُحِنَّا بالغيب؟!

فالله سبحانه، نسأله أن تمنّ علينا بمعرفة الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن تكرمنا بمعرفة الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
آمين,

تطور الفكر السياسي للشيخ محفوظ نحناح من التأسيس إلى الوفاة: وماذا بعد؟

ملاحظة: لم تسمح لي الظروف المختلفة ان أكتب مقالا جديدا بمناسبة ذكرى وفاة محفوظ نحناح هذه السنة فذهبت إلى نشر هذا المقال القديم الذي هو  جزء من بحث قدمته في ملتقى الشيخ محفوظ نحناح  في إسطنبول نظمه مكتب الحركة في تركيا يوم 25 جوان 2022  تحت عنوان: “ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وسيصدر البحث في كتيب في الأيام المقبلة بحول الله.

ولد الشيخ محفوظ في 27 جانفي سنة 1942 وتوفي في 19 جوان 2003. نشأ في بيئة الحركة الوطنية وتحت تأثير الحركة الإصلاحية الباديسية، ووافقه اندلاع الثورة التحريرية وهو شاب في مقتبل العمر فشارك في الجهد النضالي في مدينة البليدة ونواحيها رفقة أقرانه وأصحابه على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. وبعد الاستقلال انخرط في العمل الدعوي والسياسي لاستكمال عهد الشهداء والمجاهدين ومواصلة مسيرة الإصلاح الاجتماعي فأسس جماعته الإسلامية – جماعة الموحدين – وأظهر معارضته الصارمة للتوجه العلماني الاشتراكي الذي سار عليه الرئيس هواري بومدين، ومن مواقفه الشهيرة رسالته ذائعة الصيت ” إلى أين يا بومدين؟” ضد التوجه الأحادي والأيديولوجية اليسارية. ألقي القبض على الشيخ محفوظ وبعض رفاقه سنة 1975 وقضى في السجن خمس سنوات. وفي فترة الثمانينات ركز جهده على العمل الدعوي وتوسيع دعوته إلى مختلف أنحاء الوطن، وانتهج في الشأن السياسي خطابا وطنيا  ونهجا معتدلا في معارضة نظام الشادلي بن جديد الذي انتهج نهجا أكثر انفتاحا من سابقه، فصارت جماعة الشيخ محفوظ الأكثر قوة وانتشارا في مختلف أنحاء الجزائر.
بعد التحول إلى التعددية السياسية سنة 1989 التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر 1988  حاول الشيخ محفوظ نحناح أن يجسد مقاربته التجديدية لخلق تيار سياسي جديد ” إسلامي وطني” مبني على التقارب بين التيارين الإسلامي والوطني اللذين يجتمعان على أرضية بيان نوفمبر ، والذي جسدته مبادرة “التحالف الوطني الإسلامي”،  والتعاون على نهضة الوطن بين  النظام السياسي المتحكم على المستوى الرسمي والمعارضة الإسلامية القوية في الساحة الشعبية،  رغم الاختلافات السياسية بينهما، عبر تأسيس نظام سياسي ديموقراطي جديد.

غير أن الاستقطاب السياسي الشديد الذي فرض نفسه في أجواء الانتخابات المحلية والتشريعية بين 1990 – بداية 1991، ومخاطر الحرب الأهلية التي تلت ذلك، خصوصا بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أدى بالشيخ محفوظ نحناح إلى تغيير أولوياته، وتسخير جماعته وحزبه الناشئ إلى البحث عن سبل توقيف سيل الدماء والمحافظة على التماسك الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية، ولو على حساب المصلحة الحزبية وركوب المخاطر وما يهدد مصيره ووجوده، فكان موقفه واضحا ضد إلغاء الانتخابات من جهة وضد  استعمال العنف في العمل السياسي مهما كانت الأسباب من جهة أخرى، واستعمل مكانته وقربه من كل التيارات وعلاقاته مع القوى الرسمية وقوى المعارضة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال الحوار ، فأطلق بالاستعانة برجاله ورفقائه عدة مشاريع في هذا الصدد منها: مبادرة المصالحة الوطنية، مبادرة السبعة، مجموعة السبعة + 1، مبادرة السلام الوطني، مبادرة الصلح الوطني. وبعد فشل كل مبادرات التوافق التي أطلقها الشيخ محفوظ أو أطلقتها الجهات المتصارعة، كمبادرة العقد الوطني التي أطلقتها المعارضة، أو مبادرة الندوة الوطنية التي أطلقتها السلطة اختار رحمه الله الرجوع إلى الشعب والدخول في مسار انتخابي الجديد سنة 1995 والذي قاطعته المعارضة في البداية ثم التحق به جلها ابتداء من سنة 1997.
لقد كانت ضريبة إدانة الإرهاب والعنف الذي انتهجته الجماعات المسلحة من جهة وسياسات الهيمنة وأساليب العنف المختلفة التي انتهجتها السلطة من جهة أخرى كبيرة حيث قتل في صفوف الحركة في حدود 400 من أعضائها على رأسهم الشيخ محمد بوسليماني، وتعرض الشيخ محفوظ نحناح نفسه لمحاولةالاغتيال، كما بات رحمه الله المستهدف الأول للتيارات العلمانية المحسوبة على المعارضة وامتداداتها القوية داخل النظام السياسي.
بعد أن قاد الشيخ محفوظ حزبه نحو المشاركة في المسار الانتخابي تغيرت أولوياته، إذ أصبح يرى بأن مشاركته في مؤسسات الدولة هو الأنسب لمصلحة الوطن وللمشروع النهضوي الإسلامي الذي يحمله، فأطلق مقاربة فكرية جديدة تدعو إلى التفريق بين الدولة والسلطة، فيكون الحزب خادما للدولة بالضرورة وفي كل الأحوال، ولكن قد يكون مشاركا في السلطة أو معارضا لها حسب مقتضيات كل مرحلة وما يكون أنفع للبلد والدولة، وفي ذات الاتجاه قام الشيخ محفوظ ببلورة العديد من المفاهيم واهتم بكثير من القضايا الفكرية التي لا تزال الحركة تسير عليها وتطوِّرها مثل الوسطية والاعتدال،  مفهوم الشورى والديموقراطية، المشاركة السياسية، قضايا التنمية والتطور، التعايش، الاحترام المتبادل،  المجتمع المدني، الحريات وحقوق الإنسان، حوار الحضارات، توسيع قاعدة الحكم، التداول السلمي على السلطة، حقوق الأقليات ..
لقد مثل بقاء الدولة بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح عنوان بقاء البلد وضامن وحدته وسلامة أهله، وهو ما يُبقي فرصة الاستدراك والإصلاح والنهضة قائمة، وكان يعتقد رحمه الله أن بسقوط الدولة تضيع الوحدة الوطنية وتحل الفتنة والاقتتال والضعف والهوان والسقوط التام في مخططات القوى الأجنبية المعادية للأمة الإسلامية، وعلى هذا الأساس لم يكن يرى الشيخ محفوظ نحناح من حرج في أن يضحي بمصلحة حزبه، وبمكانته وفرصه السياسية خدمة للدولة الجزائرية والمصلحة الوطنية.
غير أن رجال النظام السياسي الذين سكنوا الدولة لم يكونوا في مستوى هذا الأفق العالي للشيخ محفوظ  فتعاملوا معه رحمه الله ومع حزبه وفق مصلحة النظام السياسي وليس مصلحة الدولة، ووفق مصالحهم الشخصية وليس وفق المصلحة الوطنية. فزوروا عليه الانتخابات الرئاسية سنة 1995  التي أظهرت شعبيته العارمة التي كان عليها قبل التعددية الحزبية عبر المهرجانات الضخمة ونتائج الصناديق الانتخابية التي تم قلبها ومصادرتها بالقوة فحرموه وحرموا البلد من قيادته للجزائر نحو نهضتها ، ثم زوروا الانتخابات التشريعية سنة 1997 فحرموه وحرموا البلد من قيادة الحكومة لاستدراك جرم تزوير الانتخابات الرئاسية، ثم زوروا الانتخابات المحلية تزويرا شاملا، وفي سنة  1999 منعوه أصلا من الترشح للانتخابات الرئاسية.
كان بإمكان الشيخ محفوظ نحناح أن يقود قطاعات شعبية واسعة للثورة الشعبية ضد النظام السياسي الذي لم يراع تضحياته وتضحيات حزبه، وحرَمه من حقه، الذي أخذه بإرادة الشعب،  في تسيير البلاد وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق النهضة الوطنية وفق ما رسمه في كتابه: ” الجزائر المنشودة” وعبر خطاباته ومصطلحاته السياسية التي أثرى بها القاموس السياسي الجزائري. لم يتجه رحمه الوجهة المتشددة للدفاع عن حقوقه الضائعة حفاظا على البلد، وحقنا لدماء الجزائريين،  ورحمة بالجزائريين المثقلين بأوزار الفتنة التي طال مداها، وإيثارا للمصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والحزبية.
رغم استئثاره بالحكم وسيطرته على مقاليده كلها، لم يستطع النظام السياسي خدمة البلد، ولم يستفد من تضحيات الرجال الوطنيين الذي بذلوا أنفسهم من أجل إيقاف الفتنة، سواء الشيخ محفوظ ورجال الحركة أو غيرهم، من داخل الدولة وخارجها، فبقيت الجزائر تنتج أزماتها، أزمة بعد أزمة جراء سياسات التزوير الانتخابي والفساد والهيمنة،  و أحيانا كثيرة خدمة للمصالح الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية.
لقد أيقن الشيخ محفوظ نحناح رحمه بعد إقصائه المشين من المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بأنه لا يوجد شريك له في الطرف الرسمي، وأن النظام السياسي متجه بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فبدأ يفكر في تغيير سياسته في التعامل مع النظام السياسي، فأخذ يُحدّث المقربين منه بخطاب غير معهود عنه في رأيه وموقفه من النظام السياسي، وبدأ ينظّر لمرحلة جديدة عبر كتاب جديد لم يكتمل ولم يصدر عنوانه ” الدولة وأنماط المعارضة”، لعله كان يبحث من خلاله سبلا جديدة للتعامل مع نظام سياسي استغل الفتنة واستعملها لإعادة إنتاج نفسه، سبلا  لا تؤدي إلى الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة وما ينجر عن ذلك من زيادة التوتر في بلد مأزوم ومشتت، ولكن في نفس الوقت بما لا يجعل المسؤولين  يتصرفون في البلد كما يشاؤون دون أن يكون ثمة من يعارضهم ويمنعهم من الإضرار بالدولة وبالبلد. لم يتمكن الشيخ محفوظ نحناح من استكمال بناء منهجه الجديد وتوفي رحمه الله حزين القلب معلول الجسد ولكنهترك وراءه حركة كبيرة باتت محل تقدير واحترام جسدت الخطالقويم في التعامل مع ” ثنائية المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية” وفق ما نسير به الحركة اليوم بعده، استطاعت بعد مرحلة اضطراب، عادة ما تَحقّ بالمنظمات بعد وفاة المؤسس، أن تجيب عن سؤال: وماذا بعد؟ إذ انتقلت إلى المعارضة السياسية وفق نفس النهج القائم على التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية، بما كان يأمله الشيخ محفوظ ويحدث به ولم يطل به العمر ليجسده

لقد استطاعت الطبقات القيادية التي خلّفها الشيخ محفوظ نحناح، التي سارت على نهج المقاومة السياسية، أن تثمن التضحيات التي قدمها رحمه الله، وأن تحول ما ضاع من مصالح حزبية في سبيل المصلحة الوطنية إلى مكتسبات حزبية ووطنية معتبرة ومن ذلك:

• ارتفاع سمعة الحركة ورمزيتها ومصداقيتها لدى الجماهير وفي نفوس النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، في المجتمع والدولة، لِما أبانت عليه من جدية ونزاهة وما قدمته من برامج واقتراحات ومبادرات، وبسبب شجاعتها في مواجهة الفساد والرداءة والاعتداء على الحريات، والتزامها أثناء ذلك بالاعتدال والحرص على الاجتماع والتوافق الوطني.

• استقرار الحركة وانتهاء عهد الصراعات الداخلية التي لم تتوقف منذ التأسيس الرسمي، سمحت بالانشغال بالعمل وتوجيه الطاقة لانتشار الهيكلي حيث حقق في ذلك نموا بالضعف، والانفتاح على الطاقات الجديدة حيث أقبل على الحركة موارد بشرية متنوعة خصوصا الأجيال الجديدة من الشباب بأعداد هائلة، وترشح في قوائمنا كفايات وشخصيات مؤهلة وذات سمت أخلاقي  تمثل في حدود 70% من منتخبينا، وامتدت علاقاتنا الخارجية وتمثيلنا وتأثيرها في المنظمات الدولية إلى آفاق لم ندركها منذ التأسيس.

• ما طورته الحركة من أفكار وبرامج خصوصا على مستوى النهج السياسي الذي يرتكز على دراسة السنن الاجتماعية ومقاربة ” المكان المناسب” بتجنب الصدام من جهة ورفض الاحتواء والذوبان من جهة أخرى ومحاولة الاستشراف، والتعامل، بقدر الإمكان،  مع المدخلات السننية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية.  والتنظير والتجسيد الميداني لمقاربة التمييز بين السياسي والدعوي بما يؤهل لبناء حزب سياسي عصري همه نهضة الوطن وتحقيق التنمية من خلال الانتخابات والمدافعة السياسية السلمية دون التفريط في مختلف الوظائف الاستراتيجية الأخرى.

• ابتكار أنماط تسيير جديدة ضمن مقاربة ” التخصص الوظيفي” بتوجيه المناضلين إلى العمل الجمعوي والعمل في مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الشباب والنساء ومختلف الشرائح والاحتياجات المجتمعية، وإحياء وترقية الوظائف الاستراتيجية الحضارية دون إثقال كاهل الحزب بإدارة تلك الوظائف وقد حققت الحركة في هذا المضمار نتائج كبيرة بحمد الله تعالى.

• وبالنسبة للنتائج الرقمية على الصعيد الشعبي فإن الحركة قاربت النتائج الانتخابية التشريعية الأعلى التي حققتها سنة 1997 من حيث عدد المقاعد والرتبة في البرلمان، مع التفوق على نتائج  تلك السنة من حيث الرتبة الحزبية اذ احتلت الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات في 26 ولاية وتأتي بعدها جبهة التحرير التي احتلت المرتبة الأولى في 12 ولاية فقط ثم تأتي بعد جبهة التحرير باقي الأحزاب تباعا، مع فروق جوهرية في الظروف المحيطة ببين الانتخابات في تلك المرحلة وفي الانتخابات الأخيرة حيث كانت الحركة موحدة في انتخابات 1997 ولا ينافسها في محيطها الأقرب غيرها كما هو حاصل اليوم . أما بالنسبة للانتخابات المحلية فقد عادت الحركة إلى النتيجة الأعلى التي حققتها سنة 2007  من حيث عدد البلديات التي تسيرها في حدود مائة بلدية مع التميز في الانتخابات الأخيرة  بتسيير بلديات حضرية كبيرة كبلدية وهران وبلدية عناية وغيرهما . مع فرق جوهري بين المرحلتين حيث لم يكن يشترط للترشح سنة 2007 جمع توقيعات المواطنين في البلديات للتمكن من الترشح كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.

• وكل هذا مع استمرار حالة التزوير الانتخابي التي لولاها لكانت الحركة هي من يسير الحكومة اليوم، وقد قمت بنفسي بشرح البراهين الساطعة عن التزوير لمسؤولين كبار لم يستطيعوا رد تلك الحجج.

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (1)

حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير ، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.

لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ  أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر  سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.

إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.

لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى  لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.

وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير  بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد  استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.

لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغف فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.

إنه علاوة  على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك،  ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.

لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: ” احذر من إذا قال فعل” والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.

لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك  بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام   هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا الى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هو تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا” هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة” فقال: “لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها”، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام”، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.

لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب ” لغة الخشب”، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.

لقد تطلّب تجاوز خطاب “لغة الخشب” نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة “موت السياسة” وشيوع “لغة الخشب” وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف،  الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.

إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة.

شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم  يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))

.. يتبع

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (2)

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (٢)

حظي المقال السابق “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” الذي نشر في موقع عربي 21 الأسبوع الماضي باهتمام المتابعين، ووردت بخصوصه تعليقات كثيرة تردد فيها السؤال عن الحل، وعدّ بعضها بأن ما ورد في المقال هو بمثابة “مراجعة فكرية أو تراجع عن خط سياسي سابق لحركة مجتمع السلم كنت أحد المسؤولين عنه، بل قدت الحركة به”.

رأيت من المفيد أن أكتب جزء ثانيا للمقال أتفاعل فيه مع هذه الأسئلة والاهتمامات والانتقادات المشروعة، لا سيما أنها صيغت بأساليب محترمة وذات مضمون فكري.

وقبل التطرق الى الموضوع الأهم المتعلق بتصورات الحل، أود أن أؤكّد بأن تناولي لمثل هذه المواضيع لا يتعلق ببلد معيّن أو حركة من الحركات الإسلامية بذاتها، بل هي دراسات وأفكار ومراجعات تتعلق بتجربة الحركة  الإسلامية بمجملها، وأنا أحاضر في هذا المقاربات في العديد من الدول، في الندوات الحضورية والافتراضية. لا شك أن مسيرتي في حركة مجتمع السلم تمثل قاعدة ارتكاز في التجربة، ولكن لا تتعلق بها وحدها، فهي تشملها وتتجاوزها من حيث اطلاعي العميق، النظري والعملي، على كل التجارب في مختلف الدول.

أما ما ذكر أن  هذه الأفكار  هي بمثابة مراجعات عن توجهات سابقة، فإن ذلك أمرا مطلوبا لا مِثلب فيه، فالعقول الراشدة هي العقول القادرة على التطور والمراجعة بحسب ما تتطلبه تطورات البيئات والتحديات والمتطلبات، لا سيما وأننا في أجل مائة سنة على تأسيس الحركة الإسلامية ولا شيء يبقى من أفكار مائة سنة ماضية سوى الثوابت العقائدية والأخلاقية والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة العابرة للأزمنة والأمكنة، والقليل مما بينت التجربة وتوافق المسلمون على استمرار صلاحه. واهتمامي بالتطور الفكري في مناهج الحركات الإسلامية لم يبدأ بمقال ” الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” بل كتبت في ذلك كتبا مشهورة منها كتاب “الحركات الإسلامية: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر في 2015 وقمت فيه بتقييم تجربة حركة مجتمع السلم منذ التأسيس الى تاريخ نشر الكتاب، وكتاب “البيت الحمسي” الأول في 2013، والثاني في 2018، ثم الكتاب المهم الذي نضجت فيه المراجعات والذي صدر في 2023  قبل خروجي من هياكل الحركة بأكثر  من سنة ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” والذي لا أتوقف عن تقديم مضامينه خارج بلادي. علاوة على المشاركات الإعلامية الكثيرة في هذا الشأن منها مشاركي في سبع عشرة حلقة من برنامج قناة الحوار “مراجعات” في 2016

وأود أن أسجل هنا بأن ثمة حدثين مهمين دفعا بي إلى مراجعات عميقة، أولهما في 1997 بعد صدمة تأسيس النظام السياسي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتزوير له تزويرا شاملا في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث ثبت لي أن الرؤية السياسية للشيخ  محفوظ نحناح رحمه لم تصبح قائمة، حيث كان رحمه الله يعتقد – كما سمعته بنفسي منه ودأب عليه العمل –  بأن المؤسسة العسكرية ستقدّر نهجه الوطني وسمته المعتدل وشعبيته القوية التي أكدتها الانتخابات الرئاسية عام 1995 وتقبل أن يكون بديلا على أساس ديمقراطي لجبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ فيكون هو محور بناء تحالف وطني يقود البلد  لمصلحة الجميع. ولكن عكس ذلك كله حدث وكانت رسالة النظام السياسي له واضحة بأنك “لست أنت البديل!” و”بديلنا نصنعه بأيدينا ولو بالقوة وبالتزوير”، و”إن أردت أن تكون على الهامش فمرحبا بك”. لم أخف قناعتي عن الشيخ محفوظ نحناح إذ أفصحت  له  عن رأيي بأنه لا بد من تغيير النهج السياسي والابتعاد عن السلطات الحاكمة والتحول إلى معارضة وطنية واضحة، والاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني، وكتبت له في ذلك عام 1997  مذكرة نشرتها في عدة مناسبات منها كتاب ” مبادرات لحل الأزمات”، وبقيتُ على هذا الرأي إلى اليوم، بل كلما مر الزمن تأكدت التوجهات التسلطية غير الديمقراطية للحكم،  وطورت مقاربات تلك المذكرة – التي هي منبع أفكاري السياسية والاستراتيجية – عبر العديد من المساهمات منها الكتب التي ذكرتها أعلاه.

أما الحدث الثاني فهو فشل المفاوضات بيني وبين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على اثر النتائج الجيدة التي حققناها في الانتخابات التشريعية عام 2021، حيث بذلنا مجهودا كبيرا لتحقيق تلك النتيجة، رغم التزوير والعزوف الانتخابي،  حتى نكون مؤهلين للانتقال من مرحلة المشاركة السياسية التي نكون بها في واجهة الحكم إلى مرحلة الشراكة الفعلية في الحكم وفق نتائج الانتخابات.

  كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في أفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.

لقد أكد لي هذا الحدث بأن العمل السياسي التقليدي في الجزائر  ميؤوس منه وأن العمل الحزبي لن يؤدي وحده إلى التغيير أبدا،  وأن سيرورة الانتخابات المعهودة ستبقى شكلية لا تساهم إلا في تثبيت ديمقراطية الواجهة.

لقد مثل فشل المحاولة  صدمة كبيرة لي أكّدت بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه غير  مناسب لتجنيد الجماهير وصقل إرادة المناضلين من أجل التغيير، وقد صارحت المسؤولين الذين كانوا حولي في قيادة الحركة، و الذين بوّأتهم  بنفسي مواقع المسؤولية العليا فيها،  عدة مرات بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه ليس سقفي وإنما هو سقفٌ توافقي تحريت فيه احترام نفسياتهم و ميولاتهم السياسية، وكذلك أهمية الانسجام ببننا.

لم يكن باستطاعتي المضي أكثر في تنفيذ الأفكار التي دونتها  في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، رغم النتائج الإيجابية التي حققها هذا التوجه في إطاره عام، ولم يكن ضمن خياري إحداث تحول ثوري داخل الحركة لتجسيد فكرة مسارات التغيير الثلاثية الواردة في الكتاب، بسبب بقاء سنتين فقط على نهاية عهدتي، وبسبب الملل الذي شعرت به لطول بقائي في هذه المسارات التقليدية دون نتيجة حاسمة،  فقررت أن أغادر الهياكل طامعا في أن الأجيال التي من بعدي سيكون لديها الوقت لتفهم يوما ما حالة الاحتباس التي فيها العمل السياسي في الجزائر فتتحمس أكثر لكتابة التاريخ بواسطة العمل الحزبي وصناعة ما لم استطع صناعته بنفسي،  وقد تركت لهم المقاربات التجديدية مكتوبة مؤصلة،  واعتقدت أنه سيسعني – من جهتي – الفضاء الفسيح في المجتمع وعلى المستوى الدولي لأواصل النضال الحر دون أي قيد تنظيمي، وأن عملي سيصب في المحصلة لصالح الحركة، وأننا سنصنع معا في الأخير، بشكل تكاملي، نموذجا جديدا ومنهجا متجددا تستفيد منه الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

 لا يجهل أحد  أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة  لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ، ولكن مساهمتي في نشر الأفكار لا تتوقف ولا يحدها الزمان والمكان بحمد لله، راجيا من الله القبول، وأن تثمر في يوم من الأيام في أي مكان كان.

لم يصبح يهمني أن أعارض مناهج التغيير التي تسير عليها التيارات الإسلامية غير الإخوانية، فقد بينت الأحداث بأن المناهج  ليست من الثوابت، وإنما المآلات هي الحاكمة فثمة من كان يسمَّى إرهابيا صار رئيسا لدولة تتنافس الدول للاتصال به وتتباهى الشخصيات السياسية والفكرية، الرجالية والنسائية، المحلية والدولية،  التي كانت تعارضه لأخذ الصور معه،  بل إن بعض الدول التي كان يقاتلها صارت تعقد معه الاتفاقيات.

 غير أنني من جهتي لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية و السقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.

بالرغم من أنني لم أكن راضيا عن السقوف السياسية التي كنت عليها وأنا على رأس حركة مجتمع السلم، وأعترف بذلك دون حرج، ولكن أقدّر بأنني استطعت أن أطبق المعالم الكبرى للمنهج الجديد الذي لم أغادر القيادة حتى صغته في مجمله في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، ولو أتيحت له الفرص ليواصل التجسيد لكان ربما جديرا بأن يصنع نهضة الحركة والبلد ويساهم في نهضة الأمة.

 ولذلك جوابي على من يقولون و”ما الحل؟” في تعليقهم عن الجزء الأول من مقال “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” هو أن يعودوا إلى كتابي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور”، خصوصا الفصل الثاني منه.

 يتضمن الفصل الأول – تحدي العبور –  مضامين فكرية كثيرة عن التحديات الجديدة التي تواجهها الحركات الإسلامية وتمنعها من العبور بالفكرة الإسلامية الى الدولة لتنتقل من مرحلة الصحوة إلى مرحلة النهضة، والتي يجب التجديد فيها. ويتضمن الفصل الثالث – مواضيع العبور – المواضيع ومفاتيح الملفات الكبرى التي تحكم بها الحركات الإسلامية إن وصلت للدولة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وفي العلاقات الدولية. 

أما الفصل الثاني – مسار العبور – فهو الجواب عن سؤال “ما الحل؟” وقد بينت فيه بأن العبور بالفكرة من المجتمع حيث صنعت الصحوة، إلى الدولة لكي تتحقق النهضة ثم الإقلاع الحضاري، يتم عبر ثلاثة مسارات أساسية.

أولها المسار التنظيمي والإداري وما يلزم ذلك من تطوير وتجديد في المنظومات التنظيمية والإدارية والموارد البشرية، لا سيما القيادية منها، على مستوى الفكر والعلوم والمعارف، وعلى مستوى التربية والأخلاق والسلوك، وعلى مستوى الكفاءة والمهارات، وعلى مستوى الإنجاز والفاعلية.

 وثانيها المسار الاستراتيجي وما يتعلق بصناعة القوة الناعمة في إطار قانوني يقوم على المبادرة والنضال  في المجتمع على المستوى الدعوي والاجتماعي والفني والإعلامي والمالي والنقابي والشبابي والنسوي، وغير ذلك، بواسطة شبكات المجتمع المدني الواسعة،  وعبر ما سميته بنظرية ” قطع الحبل السري” للتفريق بين اللجان والأمانات المحلية والمركزية للأحزاب التي تشبه الأعضاء الملتصقة بالجسم من جهة، والمؤسسات المجتمعية التي تشبه الأولاد والذرية من جهة أخرى، والتي يكون نجاحها باستقلالها العضوي عن الجسم مع الاجتماع في الرؤية والرسالة، ولا ضمان في نجاح الأمر سوى وحدة الفكرة وأخلاق الصدق والوفاء والمروءة والمقاصد المشتركة والقدوة والأهلية القيادية الجاذبة وذات التأثير.  وذلك ما يمثل مقاربة “التخصص الوظيفي” لصالح الفكرة الإسلامية في المجتمع بغض النظر عن الأحزاب التي تحملها، بما يضمن مستقبلا توفر رأي عام عميق يجسد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ضمن المشروع الحضاري الإسلامي الواحد، على نحو مازعي عليه الأحزاب في الغرب التي تتداول ضمن المشروع الحضاري الغربي، المسيحي اليهودي، الواحد.

إنه لو قلّدت مختلف قوى الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي  فكرة الخط  الاستراتيجي والتخصص الوظيفي فذلك ما يصنع قوة المجتمع وحماية أصالته، ولا يمكن لأي سلطة ظالمة أن توقف مدها إذ أنها لن تستطيع أن تبرر ضربها لعدم ارتباطها عضويا بالأحزاب، إلا أن تقرر تلك السلطات غلق المجتمع كله، وقتل المبادرة في المجتمع كلية، بما يجعل الأمر ينقلب عليها عاجلا أم آجلا. 

أما مسار العبور الثالث فهو المسار السياسي، ويمكن إيجاز التفاصيل الكثيرة التي وردت في هذا الفصل من الكتاب  بالقول أن شرط الوجوب لهذا المسار وجود قيادة عازمة على التغيير ولا أشواق لديها في عملها أعلى من تحقيق التغيير إرضاء لله تعالى وخدمة لأوطانها وأمتها، ذات كفاءة وصدق ومصداقية، تثق في الله ثم في نفسها و في المؤمنين، تؤمن بأن التأييد الحقيقي هو الذي يكون من الله ومن الشعب مصداقا لقوله تعالى (( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين))،  لا تشعر بأي عقدة تجاه النظام السياسي، لا تخافه ولا تطمع فيه، ولا تحرص على إرضائه أو تحقيق الاعتراف منه بوجودها، تعمل الصواب فحسب، تعتمد المنهج السلمي وتعلن عن حب الوطن لأنها تؤمن بذلك، لا تنافق في الأمر ولا تزايد  إلى حد السماجة ولغة الخشب، خطابها قوي مبني على العلم وكشف الفساد والرداءة بلا تشخيص ولا سباب ولا انتقام، تؤثر العافية كما جاء في الحديث الصحيح،  ولكنها تستعد لتقديم كل التضخيات، ولو بالنفس،  كما جاء في حديث صحيح  آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”، يتمحور عملها السياسي كله حول النضال من أجل تغيير موازين القوة لصالح المجتمع ولصالح فكرتها وأهدافها، وتتجنب أي سلوك سياسي يعين الاستبداد ويزيد في عمره.

أما العبور العملي للفكرة فهو عبر ثلاثة معابر، منفردة أو متوازية: أوله المعبر الديمقراطي الانتخابي بشرط نضال الأحزاب بلا هوادة لجعل الديمقراطية حقيقية والحريات مصونة والانتخابات غير مزورة، وتُقدّم في طريق ذلك أنفس التضحيات، لا تقبل التزوير وتندد به مهما كان مصدره والمستفيد منه والمتضرر به، وتؤهل تلك الأحزاب نفسها لتكون بديلا حقيقيا عبر ما يسمى في الدول الديمقراطية ب ” حكومة الظل” أو ما نسميه نحن ” اللجان القطاعية المتخصصة” ببرامج ناضجة وموارد بشرية جاهزة للحكم. وبغير  هذا النوع من النضال تصبح المشاركة في الانتخابات خدمة مجانية للاستبداد ومساهمة فاعلة في استمراره. وقد بينت التجارب البشرية  بأن النضال الجاد والتضحيات الجسام من أجل الانتقال الديمقراطي يمكن أن تجسد الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول على السلطة. 

والمعبر السياسي الثاني هو التحالفات مع قوى أخرى تريد التغيير، سواء قوى من داخل النظام السياسي أو من خارجه، وهذا المعبر لا يمكن أن ينفتح دون توفر الحركات الإسلامية على القوة والنفوذ بما يجعل القوى الأخرى تطمع في التحالف معها، وذلك عبر تجذرها في المجتمع وتسلحها بأسباب القوة المتنوعة والمتعددة، وعلى رأس تلك الأنواع قوة الفكر وجاذبيتها وصلاحيتها وأهليتها للحكم، وتعاطف أصحاب النفوذ في الدولة والمجتمع مع الفكرة ورجالها. وهذا نهج حقق نجاحات كثيرة، في العصر الحالي، وهو النهج الذي رسّخه المصطفى عليه الصلاة والسلام وسار عليه إلى أن أقام دولته في المدينة.

والمعبر السياسي الثالث، وهو الثورات السلمية الشعبية، التي تَحقق التغيير بواسطتها في العديد من الدول، ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب حقيقية، تتماثل مع المعايير الطبيعية العالمية للأحزاب إلا إذا آمنت إيمانا كاملا بالتغيير السلمي عن طريق الشارع، وهو حق ديمقراطي ثابت دون حاجة للترخيص تؤكده القوانين والدساتير، ولكن تتهرب  منه بعض الحركات الإسلامية إرضاء للحكام وخوفا من المواجهة. وحينما تتهرب الحركات الإسلامية من النضال بقيادة الشارع فهي تفتح المجال لسيناريوهات خطيرة، ذلك أن ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية  تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.

إن عدم تدرب الحركات الإسلامية على قيادة حركة الشارع، وعدم فهم لغة الشارع والحديث بها، سيتيح الفرصة لأربعة سيناريوهات إذا خرج الناس يطالبون بحقوقهم من تلقاء أنفسهم ودون قيادة واعية وذات خبرة، إما احتواء النظام السياسي القائم للمشهد وتسخيره للاستمرار في السيطرة ضد إرادة الشعوب ومصالحهم، أو استغلال التحول الشعبي من طرف قوى سياسية وأيديولوجية معارضة للنظام السياسي القائم وأسوء منه، أو استعمال قوى أجنبية أ استعمارية لحركة الشارع للتدخل والتآمر على البلد، أو حدوث فوضى عارمة لا قيادة تضبطها أو فتنة عمياء والعياذ بالله.

إن أفكار التغيير هذه التي أصلناها في كتاب تحدي العبور والاستنهاض الحضاري ليست نظريات وتخيّلات بعيدة عن الواقع، فقد جرّبناها ووضعناها على محك التجربة في حركة مجتمع السلم بين 2013 – 2023، وحققت نتائج جيدة على مسارات العبور الثلاثة، إذ حققنا إنجازات معتبرة في بناء المؤسسات وفق نظرية ” قطع الحبل السري” ومقاربة ” التخصص الوظيفي”، وتوصلنا إلى نتيجة انتخابية جيدة على المسار الانتخابي و ناضلنا من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي وساهمنا في في تجسيد مفهوم لغة الشارع التي أسقطت العهدة الخامسة، وأخرجنا موارد بشرية فاعلة ومتعلمة و ذات أخلاق ومهارات  هي اليوم منتشرة في مختلف الهياكل والمؤسسات محليا ومركزيا وفي الخارج.

غير أن ما بذلناه بما يكفي لبناء النموذج وتصديره، لم يكن كافيا لتحقيق التغيير المنشود،  وبقي يتطلب استمرارا وتطويرا وتصعيدا أكثر على مستوى المسارات الثلاثة والمعابر الثلاث. ولئن أخطأَت حساباتي في مواصلة تجسيد المنهج على مستوى الحركة بعد خروجي من هياكلها، فإني على يقين بأن الله سيسخر له من يحقق الطموحات عبر تيار عام في الأمة أرى تشكله قد بدأ يلوح في الأفق، كان طوفان الأقصى المسرّع إليه.