كل مقالات د. عبد الرزاق مقري

فوضى التجارة وأزمة الاستيراد

لم تصبح الأخطاء والأزمات  التي يعرفها عالم التجارة في بلادنا، حالات عابرة متحملة، بل صارت حالات مزمنة دائمة، الخطأ يتلوه الخطأ، والأزمة تتلوها الأزمة، أزمة السيارات، أزمة الحافلات، أزمة قطع غيار السيارات، أزمة زيت المحركات، أزمة العجلات،  أزمة الموانئ، أزمة الرحلات الجوية ، أزمة المواد الطبية، أزمة مواد البناء، أزمة مواد الجراحة العامة وجراحة الأسنان، أزمة المواد الأولية للقطاع الصناعي والفلاحي،  أزمة الحليب، أزمة البطاطا، أزمة البقوليات،  أزمة المواد الطبية ….. وأزمة مستدامة وفوضى عارمة في الاستيراد.

وفي كثير من الأحيان تَصنع هذه الأزمات التي تنشئها السلطات أزمات في المجتمع ثم يحاول المسؤولون إلصاق الأسباب بالمواطنين الذين ضغطت عليهم تلك الأزمات وجعلت بعضهم يقع في المخالفات، وما كان عليهم أن يكونوا على تلك المخالفات لو كان البلد تحكمه الكفاءة والرشد والحكمة. 

فلو تحدثت مثلا عن أزمة الاستيراد أقول  في هذا المقال ما قلته  لمسؤول في الدولة حين كنت رئيسا لحركة حمس. بيّنت له بالحجج العلمية  بأن المنع الموسع للاستيراد لا تقول به أي قاعدة في علم الاقتصاد ولا تنتهجه أي دولة في تجارب الناس.

إن منع الاستيراد لا تنتهجه الدول إلا لوقت محدد في فروع قليلة من فروع الإنتاج من أجل ترقية صناعة منتج من المنتجات أو حماية محصول محدد من محاصيل القطاع الفلاحي، بل إن التوجه الأفضل من هذا المنع المحدود في الحكومات الأكثر رشدا، أنه لا يتم منع الاستيراد ولكن تقوم الدولة بحماية خطتها الإنتاجية بالحوافز التي تمنحها للإنتاج الوطني وبالرسوم التي تفرضها على المواد المستوردة المنافسة للمنتج الوطني المحدد.

إنه لا يعقل البتة أن يُمنع الاستيراد بشكل موسع لمواد صناعية وفلاحية وتكنولوجية وحتى خدمية  لا ينتجها البلد. إن الحاكم الذي يفعل هذا يحرص على استمرار حكمه وليس على استمرار الدولة، يحرص على نفسه ولا يحرص على البلد. إنه يفعل ذلك للمحافظة على الميزان التجاري بمعزل عن أي رؤية أو خطة اقتصادية، ليحافظ على السيولة النقدية وليس على الاقتصاد الحقيقي، ليحافظ على احتياطي الصرف حتى لا يقع في التوقف عن الدفع في فترة حكمه.. دون اكتراث حقيقي بالرؤى والخطط والعمليات الاقتصادية الجادة التي تضمن توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات على أساس تصدير الإنتاج الوطني من الصناعة والفلاحة والخدمات،  وليس بالاعتماد بنسبة عالية جدا على تصدير المحروقات، التي توفر سيولة نقدية بالعملة الصعبة تتأثر تأثرا كبيرا بتقلبات السوق الطاقوية. 

ولا يمكن أن تنطلي على متوسط الثقافة في المجال الاقتصادي أن المقصود من التوسع في منع الاستيراد  هو حماية البلد من المديونية. لا شك أن البلد المدين ضعيف، ولكن سبب الضعف ليس المديونية ولكن العجز عن دفع الديون، إذ الدول ذات الاقتصاد المنتج تتحمل هامشا من المديونية الداخلية أو الخارجية لتحريك الإنتاج وصناعة الثروة، فما الديون عندئذ إلا رأس مال من أجل الاستثمار ولصالح ميزانيات التجهيز ، كمثل ذاك التاجر الناجح الذي يستلف من أجل الربح ثم رد الديون من أرباحه. أما إن كانت المديونية من أجل ميزانية التسيير،  كدفع أجور العمال ونحوه، فتلك هي المديونية القاتلة المدمرة للسيادة التي ينتهجها الحكام الفاشلون الفاسدون.

إن المنع الموسع للاستيراد، في غياب السلع في الأسواق يصنع أزمات متتالية وآفات متعاظمة، وأول هذه الأزمات الندرة، والندرة هي أم الآفات الاقتصادية الأخرى. ومن ذلك التضخم وارتفاع الأسعار، إذ السلعة الناقصة المطلوبة في السوق يرتفع سعرها ويعجز أغلب المستهلكين بعد مدة عن اقتنائها، وإذا انتهجت السلطات سياسة طبع النقود المزمنة الرعناء  من أجل الاستهلاك  لا يصبح ثمة قيد يوقف التضخم حتى تصبح العملة بعد فترة لا قيمة لها. ومما تصنعه الندرة كذلك التهريب، إذ التجارة كلها مغامرة، فيستغل التجار الفرصة ويغامرون لتوفير السلع عبر  شبكات التهريب، فإن طال أمد منع الاستيراد دون تطور  إنتاج السلع الممنوعة يصبح التهريب قاعدة التعامل فتضطر السلطات للتعامل معها ومحاولة تقنينها، وللتهرب من الرقابة على بيع المنتوجات محظورة الاستيراد يتوسع القطاع الموازي وينتج عنه التهرب الجبائي.

ولتوفير السلع للزبائن أو لرفع قيمتها تتطور المضاربة وتتوسع. ومن آثار منع الاستيراد الموسع انتشار الفساد وتهيكله، إذا لا تهريب بدون فساد، ولا تهرب جبائي بدون فساد، ولا مضاربة بدون فساد،  وإذا تم انتهاج سياسة رخص الاستيراد ووضعها في يد جهة محددة، تعاظم الفساد وأدى إلى صناعة عصابات ومافيا داخل الدولة تصبح مع تعاظمها مدمرة للاقتصاد الوطني، ومفسدة للحياة السياسية والاجتماعية، ومهلكة للقيم والأخلاق.

وحين تكثر هذه الآفات وتتعاظم يُحصَّنُ فيها كبار الفاسدين والمهربين والمضاربين ممن يسيّرون أمورهم بعلاقاتهم وشراكاتهم مع الموظفين الكبار  في الدولة في المستويات العليا، أو ممن يشرون رجال الأمن والقضاء ومدراء المصالح وأجهزة الرقابة في المستويات الدنيا.

إن الفوضى التي تعيشها الجزائر في مجال التجارة صنعتها الدولة ولا ضحايا لها سوى المواطنين، ولإظهار نشاط المصالح المختصة أو لابتزاز التجار  الذين يعملون في البيئة السيئة التي صنعتها الدولة يتم بين الحين والحين ضرب بعض صغار المهربين والـمضاربين والمتهربين جبائيا، والمتورطين في الفساد الصغير.

لقد رأينا فعلا كيف أن أناسا محترمين حكم عليهم بأحكام غليظة جدا من أجل عمليات تجارية خاطئة لا تستحق تلك الأحكام، وما كان لها أن تكون لو لا الأزمة التي صنعها المسؤولون، ومن أجل تصرفات إنما جعلتها البيئة الفاسدة مدانة، ولو كنا في بيئة مفتوحة سليمة لكانت تصرفات عادية، وبعض هؤلاء الذين دمرت حياتهم أصحاب شهادات عليا ومقامات اجتماعية مرموقة لا يوجد في سجلهم أي مخالفة قانونية أو أخلاقية  تذكر، وإنما هم ضحية بيئة صنعها غياب الرشد في الحكم والقرارات الخاطئة في الحكم.

إن الأبداع الذي كان مطلوبا من الحكام هو النجاح في التنمية الاقتصادية وتحقيق اقتصاد منتج يوفر السلع والخدمات التي تستطيع أن تنافس منتجات الدول الأخرى، بل تقتحم أسواقهم، وليس عرقلة الإنتاج بمنع استيراد المواد التي تحتاجها الصناعة والفلاحة في بلادنا، وليس بإرهاق المواطن بالندرة وغلاء الأسعار بالتوسع في منع الاستيراد، وليس خلق الفوضى والتهريب والمضاربة والفساد، وليس بظلم التجار بوضعهم في حالة خسران مؤكد تضطرهم لمخالفة القواعد الخاطئة المفروضة.

رداءة في المطار.

في كل مرة يجب أن تكون مشكلة في المطار تذكرنا بأننا على مسافة بعيدة من التطور والتحضر، وفي كل مرة أقول: “لِأصبر كغيري من المسافرين ولا داعي للتفاعل!” حتى لا يُقال بأننا نبحث عن السلبيات.

لم أكن في فترة شبابي أثناء أسفاري بهذا الهدوء. كنت دائما أحتجّ عن التأخر الطويل للرحلات، وعن تدهور الخدمات وسوء التعامل. اذكر أنني قدت مسيرة كبيرة للحجاج في مطار جدة، وكنت يومئذ نائباً في البرلمان، احتجاجا على تأخر عدة رحلات ليلا كاملا تم التخلي فيه عن الحجاج تخليا تاما، بلا أكل ولا ماء، ولا مكان للنوم، حتى أخذنا حقوقنا كلها. وفعلت ذات الشيء في رحلة عادية في مطار بدولة أجنبية أخرى، وكثيرا ما كان الناس يطلبون مني أن أتدخل، يحدث أحيانا أن يؤدي الاحتجاج إلى التلاسن مع المسؤولين في المطار أو الخطوط ولكن في  أغلب الأحيان تكون ردود الأفعال من المسؤولين جيدة، إذ أغلب الناس محترمون، ولكن فساد المنظومة هي التي تفسد الناس.

مع التقدم في السن، وبسبب حالة من السأم، وشيء من اليأس في أن تصلح أمور البلد، لم أصبح أتحمس للاحتجاج،  وأصبحت أوطّد نفسي على الصبر، لا سيما أنه لم تصبح لي أي مسؤولية نيابية أو رسمية أو حتى حزبية، فلم أصبح أشعر  بالمسؤولية تجاه غيري لما أراه  أثناء أسفاري، بالرغم من أنني أعلم في قرارة نفسي بأنه شعور شيء  وغير مقبول! ولكن الله غالب، الأمر أصبح هكذا.

ولكن في هذا اليوم بالذات حدث شيء لم أعهده حرّك فيّ الغضب وجعلني أحصي كل المظاهر الخائبة التي عشتها في المطار في نفس الرحلة.

أما الأمر الذي استفزني وأغضبني هذه الصبيحة في المطار فهو تكرار الإعلانات الصوتية بالفرنسية دون  العربية لمدة معتبرة، لم يكن هذا يحدث من قبل، أو ربما لم أكن أنتبه إليه، أو ربما حدث بسبب شخص ما على غير العادة، غضبت غضبا شديدا عن ضياع السيادة وهيبة البلد في مكان يرمز الى السيادة وهو المطار.

لا يتوقف امتعاضي من غلبة اللغة الفرنسية في شوارع عاصمة البلد على لافتات الأغلبية الساحقة من المحلات، وغياب مذهل للغة الوطنية في المحيط، دون أي اهتمام من السلطة الحاكمة ( التي لا تفهم معنى السيادة وهيبة الدولة إلا في الأمور الأمنية والتحكم في أنفاس أصحاب الرأي المخالف)، ولكن أن يكون هذا في المطار فهو لعمري أمر غير مقبول، ولو لوهلة من الزمن، وهذا دون الإشارة الى حصرية اللغة الفرنسية على لسان الموظفين في شركة الطيران الجزائرية حين يتحركون بين المسافرين ينبهونهم للتوجه للركوب وفي حديثهم مع المسافرين أثناء تقديم الطعام في الطائرة، وعن لافتات محلات المطار التي تشعرك وكأنك في فرنسا وليس الجزائر، وأسوء ما في الأمر هو تحول كثير من المسافرين إلى الحديث باللغة الفرنسية، لغة فرنسية رديئة جدا جدا!

أما عن العيوب الأخرى التي صبرت عليها مرات عديدة ولكن اذكرها اليوم بدافع ما أصابني من افتزاز بسبب قهر اللغة الفرنسية لمشاعري فمنها:

  • الوقوف في طابور لم يتحرك أثناء التسجيل لأقول بلا مبالغة بأنني لم أتقدم لساعة كاملة بضع  سنتيمترات، وحين تكدس الناس في الطابور جاء أحدهم يوجّهنا إلى مكتب تسجيل آخر، وكان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك منذ البداية.
  • وكإجراء اعتدت عليه، كان على الشرطي الذي يطبع الجواز أن يوقفني اكثر من المسافرين الآخرين ثم عليه أن يستشير ضابطا أعلى منه قبل الختم، لم يزعجني الانتظار فلم يكن طويلا، ولكن ما يزعجني في كل مرة هو إشعاري  وكأنني شخص خارج القانون دون جريرة اقترفتها طول حياتي بحمد الله، ولا يخفف عني هذا الشعور بالظلم سوى الأدب الجم الذي يتعامل به معي رجال الشرطة، خصوصا المسؤولون،  جزاهم الله خيرا، فالمشكلة ليست فيهم ولكن في المنظومة.
  • وعند وصول وقت دخول الطائرة أخبرونا بأن الرحلة متأخرة لمدة ساعتين، وبعد الساعتين تأخرت ساعة أخرى، ويا ليتهم أعطوا المسافرين شيئا من الإكراميات والماء تطييبا لخواطرهم كما تفعل شركات الطيران في العالم حين يتسببون في التأخر.
  • وحين يطول بك المقام فتقرر أن تتجه لأحد المقاهي من أجل فنجان قهوة تقابلك قارورات الخمر، فتبحث عن مقهى آخر لا يبيع الخمر، معتقدا بأنهم “ربما قد فكروا في الأقليات مثلنا ! فجعلوا لهم مكانا لشرب القهوة لا يباع فيه الخمر” فلا تجد، والغريب في الأمر هو أنني تأملت من بعيد هل هناك من يطلب الخمر من هذه الأماكن فلم يظهر لي أحد يفعل ذلك، مما جعلني أشعر بأنني ربما لست من الأقليات في المطار، والحمد لله، وسألت نفسي: حتى وإن تجاوزوا المحذور الشرعي في بلد مسلم، لماذا إذن يضعون قارورات الخمر، إنه لا يطلبها أحد!
  • حين تزور أماكن الحاجة والوضوء تستغرب كيف يتدهور المكان بسرعة مقارنة بالمطارات الأخرى في العالم ولماذا لا يتم إصلاح ما يُكسر أو يتعطل بسرعة وإتقان، مع الاعتراف بأن التنظيف على قدم وساق والحمد لله.
  • وعندما حان وقت الركوب غيّر الموظف تسجيل بطاقة الركوب رقم مقعدي بالقلم، فبعد أن تحركت لمكتب التسجيل ثلاث ساعات قبل الوقت لآخذ مكانا مناسبا في المقدمة حتى أتجنب الطابور عند الوصول إذا بالموظف يرجعني إلى آخر رقم في مؤخرة الطائرة، والحجة كانت أنهم غيروا الطائرة فتغيرت الأرقام، ولا أدري كيف لم يراعوا تسلسل التسجيل.
  • ولا يفوتني أن أذكر بما هو معتاد كذلك وهو الانتظار الطويل عند تسلم الأمتعة في العودة وهو ما لا أراه في أغلب مطارات الدول الكثيرة التي زرتها بما جعلني أضيّق على نفسي فلا أحمل في أسفاري إلا حقيبة اليد حتى أتجنب الانتظار الطويل.
  • بعد طول انتظار وفوضى تغيير أرقام المقاعد، خاصة أرقام العائلات، وبسبب التعب، وقلق الأطفال، وعدم تشغيل المكيف بدأ المسافرون يرفعون أصواتهم، وتكلمت امرأة حرة أشجع مني تقول: “اتكلموا يا ناس، لاه ساكتين!” فتكلمت امرأة أخرى: “عيطولنا للمسؤول نهدرو معاه” والغريب في الأمر أن كل من احتج نساء، كلهن نساء، لم يحتج أحد من الذكور. حاولت أن أكون رجلا حين غضب موظف الطائرة من تصاعد الاحتجاجات محذرا من تجاوز الحدود فقلت:” لا تغضب، انت بالذات عليك أن تصبر”، بمعنى اديت “زعما” دور “الرجل الحكيم” خلافا لغضب النسوة وتميزا عن سكوت الذكور.  

تمنيت لو بقيت هادئا مستسلما تاركا لحقي في المطالبة بالحقوق وتحسين الأوضاع كما هو حال أغلب الجزائريين، فلا أكتب هذا المقال ولا أحاول محاولة محتشمة تهدئة مضيف الطائرة، ولكن للأسف غلب استفزازي معنويا حالة السكوت المعتادة عن الحقوق المادية، فأرجو أن يسامحني من أزعجته بمقالي هذا! وأرجو أن يساهم هذا المقام في التحسين ولو شيئا قليلا … على كل حال هذا ما يجب أن يفعله التدافع منطقيا حين نكون أسوياء.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (6)

أولا – الرد على الشبهات

5 – الدولة الجزائرية قائمة بواجبها تجاه فلسطين:  الحقيقة ومعيار الحكم

كثير من القاعدين عن القيام بواجبهم تجاه المأساة الجارية في غزة والعدوان العظيم على الضفة والقضية الفلسطينية كلها، يواجهون كل من يدعو إلى رفع سقوف الدعم في مختلف جوانبه، بأن الدولة الجزائرية قائمة بواجبها كاملا خلافا – في ظنهم – لكل دول العالم! وفي محاججتهم المزهوين بها هذه لا يجدون أكثر من موقفين للجزائر يتحدثون بهما وهما عدم وجود التطبيع في بلادنا، وبعض التصريحات السياسية، وخاصة مواقف ممثل الجزائر في مجلس الأمن  في العضوية المؤقتة، ويضيف بعض المكتفين بالعمل الخيري أن السلطات الجزائرية متساهلة مع المساهمين في العمل الإغاثي والإنساني المتميز في بلادنا.

لا شك أن هذه المواقف مشرفة وهي في رصيدنا جميعا كجزائريين وأسأل الله أن يتقبل من كل جزائري صادق مخلص بذل جهده على هذه المسارات الثلاثة، وصمد في المحافظة عليها، غير أن ثلاثة أمور تنسف هذا الجهد وتجعله في المراتب الدنيا من مواقف وسياسات وأفعال الدعم والنصرة، وذلك ضمن معايير موضوعية نبيُّنها بعد ذكر الأمور الثلاثة.

أما الأمر الأول فهو أن الاكتفاء بعدم التورط في التطبيع وبالمواقف السياسية والدبلوماسية الجيدة وحرية العمل الخيري لصالح سكان غزة، التي هي تقاليد راسخة في الدولة والمجتمع بالجزائر ، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المأساة وعمق الكارثة وخطورة المصير الذي يهدد القضية الفلسطينية ومستقبل العالم العربي والإسلامي كله. فهل يكفي الزهو بهذه الأعذار الثلاثة للتنصل من مسؤولية الخذلان تجاه الإبادة الجماعية وصور الهياكل العظمية والموت بالمجاعة؟ هل نفعت تلك المواقف وذلك البذل، على أهميتها، في وقف العدوان وإدخال المساعدات ليُقال عن الدولة الجزائرية أنها أدت ما عليها ولا يُطلب منها أن تزيد أكثر من هذا، وأنه على النخب الجزائرية وكل الشعب الجزائري أن يستريحوا  وأن ينعموا بحياتهم ولا يساهموا بأي شيء فاعل آخر؟ وهل تصُدّ تلك المواقف خطر تصفية القضية الفلسطينية إذا تم كسر المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني، ثم السيطرة الكاملة على كل العالم العربي بعدئذ لجعله تابعا ذليلا مستدام الضعف والتخلف وربما التقسيم بلدا بلدا؟

أما الأمر الثاني هو أن الجزائر ليست وحدها في العالم التي تتميز بتلك المساهمات الثلاث، فثمة دول عربية وإسلامية أخرى غير مطبعة مع الكيان منها تونس وموريتانيا وليبيا واليمن والكويت والعراق وسوريا ولبنان، دون أن أتحدث عن دول أخرى غير هذه تطبع في السر أو لها علاقات تجارية ورياضة وثقافية دون علاقات دبلوماسية.  كما أن ثمة دول أخرى تتحدث بجرأة عظيمة ضد الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة وداخل بلدانها وفي مؤسساتها الرسمية والشعبية، وبعض هذه الدول غير مطبع، وبعضها الآخر مطبع، وبالإمكان أن نجمع تصريحات من هؤلاء أشد بكثير من تصريحات المسؤولين الجزائريين، بل إن تصريحات بعض هؤلاء المسؤولين الجزائريين كانت مخيبة تجعلنا نحذر كثيرا في إمكانية صمود الموقف الرسمي الجزائري مستقبلا بخصوص المقاومة والقضية الفلسطينية عموما، خصوصا حينما يقول أحدهم أنه إذا قبل الفلسطينيون أي حل يعرض عليهم يمكننا أن نطبع مع الكيان، والخوف ها هنا أن يكون المقصود بالشعب الفلسطيني هو محمود عباس المنكر للمقاومة المسلحة، خلافا لما كانت عليه الثورة التحريرية، ومنظمة التحرير التي لا تمت بصلة بالرسالة  الثورية لجبهة وجيش التحرير الوطني إلى غاية التحرير الكامل وهزيمة فرنسا.

والأمر الثالث هو أن تاريخ الجزائر أعظم بكثير من هذه المواقف الثلاثة التي يزايد بها العاجزون أو المتخاذلون، فالجزائر لم تشكلها مخططات سايكس بيكو، أو تفاهمات بين الاستعمار ونخب صنعها على عينه، وهبها الاستقلال لتكون تابعة له. لقد افتك الجزائريون استقلالهم بثورة عظيمة من أعظم ثورات التحرير  ضد الاستعمار في التاريخ وقدموا في سبيل ذلك مليون ونصف من الشهداء دون الحديث عن شهداء ما قبل الثورة النوفمبرية  الذين يصل بهم عدد الشهداء إلى أكثر من سبع ملايين، كما أن الاحتلال الذي واجهوه كان  احتلالا استيطانيا إحلاليا كالاحتلال الذي يواجهه أشقاؤنا الفلسطينيون، فلا يوجد في الأرض من يفهم الحالة الفلسطينية كالجزائريين. علاوة على أن ثورتنا نالت دعما سخيا عظيما من أشقائنا العرب، بالمال والسلاح والمظاهرات في كل العواصم، وبالسياسة والدبلوماسية والفن وغير ذلك، فلا يمكن لمجرد منع التطبيع والمواقف السياسية والتساهل مع جمع المساعدات أن تقف أمام التاريخ وطبيعة الدولة التي بناها الكفاح الثوري، أو أن تكافئ حجم المساعدات التي استفادت منها الثورة من الأشقاء. فلا يمكن البتة أن تقارَن الجزائر نفسها بغيرها من البلدان في حجم النصرة والدعم الذي عليها أن تقدمه، والذي به تحفظ تاريخها، وتميزها وكرامتها ومكانتها.

أما عن معايير مستوى النصرة والدعم التي نحكم بها على أنفسنا ونقارن بها موقف الجزائر بالنسبة لغيرها فهي خمسة معايير.

  • المعيار الأول: وهو عدم وجود تطبيع مع الكيان، والجزائر موفّقة بفضل الله في التمثل بهذا المعيار، هي وعدد من الدول الأخرى على نحو ما ذكرنا أعلاه.
  • المعيار الثاني: وهو المواقف السياسية والدبلوماسية الرسمية والجزائر كذلك موفقة في هذا الجانب. والذي ساعد في إظهار الموقف المنصب الرسمي المؤقت في مجلس الأمن، ولكن ثمة من يماثلها في قوة المواقف والتصريحات والبيانات وهناك من يتجاوزها بكثير كما قلنا.
  • المعيار الثالث: المساهمة المجتمعية في النصرة والدعم، وما تتميز به الجزائر في هذا الجانب هو توفر هامش حرية جيد للدعم الإنساني الشعبي، مع أن هذا الدعم يتميز بالهشاشة المؤسسية بسبب الأوضاع القانونية الصعبة، بل المستحيلة في كثير من الأحيان،  للمجتمع المدني وقد يتعرض الهامش المتاح  إلى مضايقات مستقبلا لأسباب مزاجية أو حسابات سياسية أو أيديولوجية أو ضغط خارجي، ولا حافظ لدوامه سوى الله. وغير هذا لا يوجد شيء استثنائي منظم يذكر في المجتمع الجزائري، فالمسيرات ممنوعة رغم ما فيها من فوائد عظيمة في رفع معنويات أشقائنا في غزة وفي إظهار الموقف الصلب تجاه الاحتلال وحلفائه الأمريكيين والغربيين بما يجعلهم يفهمون بأن مصالحهم مهددة بسبب غضبة الشعوب، كما أن العمل المنظم لدعم القضية الفلسطينية في مختلف ملفاتها الأخرى يكاد يكون منعدما بسبب التكبيل التام  للمجتمع المدني والعمل المنظم بشكل عام، ولا يعتد بالأنشطة الفردية في الوسائط الاجتماعية، ولا بالبيانات وبالاجتماع داخل القاعات بالعشرات أو بضع المئات من الناس التي تقوم بها بعض الأحزاب والمنظمات والتي لا يسمع بها لا الفلسطينيون المنكوبون ولا الصهاينة ولا القوى المتحالفة معها.
  • المعيار الرابع: وهو الدعم المالي المباشر للفعل المقاوم أو الإنفاق المباشر وإقامة المؤسسات الخدمية لصالح أهل غزة، وهذا الأمر غير متوفر، فقبل الطوفان كانت الجزائر تسلم مساهمتها لعباس، ولا تزيد على ذلك. فرغم تشريف حركة حماس للجزائر بتسهيل نجاح ” إعلان الجزائر للم الشمل الفلسطيني” لم يُقدّم لها أي دعم مادي ولا أي مساعدة،  سواء قبل الطوفان أو بعده، سوى بعض الزيارات التي لم ترق إلى الاحتفاء الرسمي في أعلى مستوى  التي نالتها حركة فتح التي خرّب قادتها المبادرة الجزائرية ( باعتراف مسؤولين جزائريين)، وكأن الذي كان مقصودا من المبادرة هو الاعتراف بالشرعية الدولية الذي طُلب منها فحسب. كما لا نكاد نجد، على الصعيد الإنساني، مؤسسة قائمة في أي مجال من المجالات شيدتها الدولة الجزائرية في غزة، خلافا لمؤسسات كثيرة ( مستشفيات، مدارس، سكنات…) ظهرت باسم دولها، ولا يُعتد ببعض المنشآت البسيطة التي أقامها محسنون جزائريون عن طريق جمعيات خيرية بميزانيات محدودة إذا قورنت بمنشآت الدول. وبعد الطوفان لم تستفد غزة المقاوِمة وغزة المنكوبة من الجزائر الرسمية، وكان السبب أن الجزائر ملتزمة بالدعم عن طريق  منظمة التحرير فقط وأن المساعدات الإغاثية الرسمية المباشرة ممنوعة من الدخول بسبب غلق معبر رفح، مع العلم بأنه لو كانت ثمة إرادة يحركها حجم المأساة وخطورة التحديات لوجد المسؤولون ألف طريقة للوصول، على شاكلة  الطرق التي كانت تُستعمل أثناء ثورة التحرير الجزائرية.  
  • المعيار الخامس: وهو ما يتعلق بالدعم العسكري بالسلاح والتكنولوجيا والخبرات لصالح المقاومة، وهذا المجال كما هو معلوم لم تقدمه سوى ايران في وقت سابق وقد انتهى الآن ولم يخلفه الذين كانوا يلومون المقاومة عن علاقتها بإيران.

حسب هذه المعايير تجد الجزائر نفسها في المستويين الأولين وشيء من المستوى الثالث، ومن حق أي جزائري أن يفتخر بهذا المستوى، خصوصا عدم التطبيع مع الكيان الذي يعبر عن توجه عام أصيل للجزائريين  في الدولة والمجتمع، مع ما يكتنف هذا الموقف من مخاطر تمثلها أقليات كامنة في الداخل وضغوطات أمريكية مستقبلا، حسب ما يقع من تطورات في غزة. ولكن ليس من حق أي جزائري، داخل السلطة أو في المجتمع، أن يحتج على أي جزائري آخر يطلب رفع مستوى المناصرة وفق كل المعايير المذكورة أعلاه وحسب ما يتطابق مع قيمة الجزائر الثورية.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (5)

أولا – الرد على الشبهات

4 – شبهة “السلاح أو لا شيء”:

لا شك أن القتال في سبيل الله هو ذروة الجهاد ، وبغيره لا يكون التحرير ، ولكن ليس هو وحده المطلوب، وحين يوجب ولا يكون متاحا لا يُعفى المؤمنون من العمل في غيره لذات المقصد، أو مما يدخل في الإعداد له. قبل أن تندلع الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954 كان ثمة نضال وطني وعمل إصلاحي علني لإعداد الإنسان لأكثر من ثلاثة عقود (الإنسان الذي كان قد طحن الاستعمار إرادته بعد فشل المقاومة الشعبية)، ثم إعداد سري للثورة من 1947 إلى 1954. وحين اندلعت الثورة النوفمبرية لم تقتصر على القتال بالسلاح، بل اعتمدت على جمع المال والاشتراكات، والمسيرات والمظاهرات، والعمل السياسي والدبلوماسي، والعمل الفني والغناء والمسرح، والرياضة، وغير ذلك. وذلك شأن كل الثورات ضد الاحتلال في تاريخ البشرية. إنه من حالات التخاذل الخطيرة التي بيّنها مالك بن نبي في مسيرة النهضة وبعث الحضارة الزيادة على الشيء من أجل تمييعه وإنهاء أثره. كالذي يدعوك إلى ما ليس بيدك لكي يصرفك عمّا تقدر عليه، أو كالذي يدعوك بالبدء بالنتيجة لكي يصرفك عمّا يُحقق النتيجة. ومن هؤلاء، أولئك الذين كلما دعوتهم لعمل شيء ما لصالح القضية الفلسطينية، كالمساعدات وجمع المال، أو المقاطعة، أو العمل السياسي والدبلوماسي والإعلامي، أو المسيرات والوقفات، يقول لك أن كل هذا مضيعة للوقت ولا حل مع الصهاينة إلا السلاح.

وفي العادة هؤلاء ضد القضية أصلا فيكون هدفهم التثبيط وتعظيم الحمل لكي تموت القضية، أو أنهم لا يعملون شيئا للقضية فيحاولون تسكين أوجاع ضمائرهم وإعاقة أي عمل بالزيادة غير الممكنة فيه للتغطية على قعودهم وعجزهم.ولو سألت هؤلاء كيف نوصل ما تقصدونه إلى غزة، في ظل الغلق الكامل من الصهاينة والدول العربية يعجزون عن الجواب، وإذا سئلوا هل لكم اقتراحات في ذلك لا يجيبون.وثمة من هؤلاء من إذ جد الجد في ما يَدعون إليه غيرَهم تخلّفوا، ويحق فيهم ما قاله الله تعالى في بني إسرائيل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [ البقرة: 246] وأتذكر حادثة طريفة قصّها لنا الإخوة من مدينة بجنوب البلاد وقعت في بداية الثمانينات مع أحد مؤسسي وقادة الحركة رحمه الله، من الجنوب ، بالغ أحد الشباب في لومه على عدم إرساله إلى الجهاد في أفغانستان فحاك له سيناريو وهميا لكي يتوقف عن المزايدة إذ أرسل إليه ليلا أحدا يقول له بأن الشيخ محفوظ وصله حرصُك على الجهاد وهو يريدك أن تصعد فورا الى العاصمة ليرسلوك إلى أفغانستان فاضطرب الرجل وأسقط في يده وقدم ألف عذر ثم لم يعد يزايد على أحد. وإني لأظن، من خلال معرفتي ببعض من يثبطون على العمل لفلسطين بدعوى “القتال أو لا شيء” أنهم مثل صاحبنا لو ابتلوا.

والله نسأله لنا ولهم العافية.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (4)

أولا – الرد على الشبهات

3 – شبهة المزايدات:

هناك من لا يكتفي أن يكون متخاذلا بخصوص الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، ومخططات تصفية القضية الفلسطينية كلها، بل يعمل على تخذيل الآخرين، فهو بمثابة تلك المرأة التي دخلت النار في قطة حبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب هؤلاء أنهم يتهمون النشطاء في القضية الفلسطينية بسقوف عالية، بما يتناسب مع حجم المأساة بقدر استطاعتهم، بأنهم يزايدون على غيرهم بما يقومون به، بعضهم يتهمونهم بأن مزايداتهم سياسية حزبية، بعضهم يتهمونهم بالرياء والنوايا السيئة، وبعضهم يتهمونهم بأنهم يقصدون الإساءة لمن لا يقتنع بآرائهم ومن لا يعمل بعملهم. وهذه الاتهامات قديمة استعملها دوما الذين يعادون ثوابت الأمة باتهام المدافعين عنها بأنهم يحتكرون الإسلام ويستعملون الدين واللغة العربية للمزايدة السياسية والحزبية، ولإظهار أنفسهم بأنهم أفضل من الآخرين ولتغليط عوام الناس. وكان جوابنا المُسكت لضلالهم: “اعملوا انتم كذلك لصالح الثوابت حتى لا نحتكرها”. إن مقاصد هؤلاء المُخذّلين شتى، منهم من يعادي الثوابت ويحاربها ويريد أن لا يعمل أحد لها، ومنهم من لا يعاديها ولكن لا يلتزم بها وبالدفاع عنها، انحرافا أو عجزا أو خوفا ممن يعاديها، فينظر إلى من يعمل لها بأنه يكشفه حتى وإن كان هذا المجتهد لا يقصده البتة. وكذلك الشأن في القضية الفلسطينية، هناك من يحارب القضية الفلسطينية ومن يعادي المقاومة ومن يقودها فيحارب تبعا لذلك من يعمل لها بأساليب شتى منها الاتهام بالمزايدة، وهناك من يقصر في العمل للقضية الفلسطينية فيشكك في من يعمل لها، فإن تخلف في بذل المال لصالح القضية يشكك في من يجمع لها، وإن كان مقصرا في المقاطعة يشكك في جدواها، وإن كان مقصرا في المسيرات والوقفات أمام السفارات يشكك في أهميتها ويتهم من يقوم بها بالمزايدة. وهناك من يرغب في مناصرة القضية ولكن في الحدود السهلة المتاحة للجميع التي لا تحّمله التضحية بأي شيء، أو في إطار ما تقبل به السلطات الرسمية فقط، فإن أصرّ غيرهم على القيام بما لا يقومون به شككوا كذلك في عملهم واتهموهم بالمزايدة حتى وإن علموا في قرارة أنفسهم بأن تلك الأعمال نافعة جدا لفلسطين. لا يهمنا هنا الذين يبغضون القضية الفلسطينية والمقاومة وقادتها، من المدخليين الموالين لأنظمة الظلم والخيانة والعلمانيين المتطرفين الموالين للغرب، فهؤلاء الصراع معهم مبدئي، والصراع معهم يندرج ضمن صراع أهل الحق ضد باطلهم. ولكن الذي نوجّه لهم اللوم وندعوهم للتوبة والإنابة هم أؤلئك الذين يعلنون التزامهم بالعمل للقضية الفلسطينية ولكن يخذلّون العاملين ضمن السقوف التي لا يقدرون عليها، كالمسيرات والوقفات امام سفارات الأعداء والعملاء، فيتهمونهم بالمزايدة لا لشيء إلا للتغطية على عجزهم وكسلهم وأهوائهم وخوفهم وتقصيرهم، وتزداد حساسيتهم ويكثفون اتهام المجتهدين بالمزايدة حين يدعوهم هؤلاء إلى رفع سقف النضال من أجل القضية وركوب المخاطر من أجلها، كما يفعل أي داعية إلى الخير ضمن ما يراه خيرا، وكان يكفي أن يقول العاجزون عن المسيرات والوقفات أمام السفارات “لا نستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، فالذي يحاسبهم حقا ليس الذي يدعوهم إلى الخير ولكن الله وحده هو الحسيب الرقيب الذي يعرف دون غيره مقدار الوسع وحدود الاستطاعة. كان يكفي هؤلاء أن يدعوا لمن يعمل بالمستويات العليا للاستطاعة في القضية، لعل الله يعذرهم، أو يفرحوا فقط بأعمال العاملين حتى يأخذوا معهم الأجر، ولا يتهموا الناس في النوايا التي لا يعلمها إلا الله العليم السميع البصير، كان عليهم أن يسكتوا فقط، حتى لا يأثموا!

المسيرات من أجل فلسطين : الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (3)

أولا – رد الشبهات

2 – شبهة الخوف من الانفلات الأمني:

هذه شبهة مردودة على أصحابها، فقد بقينا في الشارع لمدة عامين في الجزائر العاصمة وفي أغلب الولايات أثناء الحراك الشعبي ولم يحدث أي انفلات أمني، بل حتى حين خرج الحراك عن أهدافه الشعبية وتحول إلى ميدان صراع بين أجنحة داخل السلطة بقي هادئا، وقمنا بمسيرات عديدة غير مرخصة، ضد غزو العراق ولمناصرة القضية الفلسطينية وضد التزوير وضد استغلال الغاز الصخري، ولمقاطعة الانتخابات الرئاسية عام 20014، ومن أجل الانتقال الديمقراطي عدة مرات، وشارك في مختلف هذه المسيرات زعماء سياسيون كبار من مختلف التيارات والأحزاب، ومنهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في بعض منها، وفي إحداها ضربنا بالعصي على مقربة منه، وحتى حينما كانت تكون المواجهة بين النشطاء والأجهزة الأمنية قوية ( كما في الصورة المرفقة التي يظهر فيها المتحدث والشيخ ابو جرة وعدد من قادة الحركة) لم يحدث في أي مرة انفلات بل تم التعامل من قبل جميع الأطراف بالمسؤولية وضبط النفس. كما أننا شاركنا كنواب في البرلمان في العهد السابقة بوقفات احتجاجية غير مرخصة أمام السفارة الأمريكية وأوصلنا رسالتنا لهم وكان لها تأثير جيد، سواء على مستوى التوعية الشعبية أو الرسالة التي وصلت للمعنيين، أو الأجر والرمزية وراحت الضمير التي كسبها النشطاء.

وفي كل هذه الفترات كانت الأوضاع الأمنية سيئة جدا، وكان الإرهاب لا يزال كائنا، وصراعات الأجنحة داخل السلطة على أشدها، والتحرشات الأجنبية أخطر من الوقت الحالي، في عهد زروال وفي عهد بوتفليقة. فكيف يعقل أن تكون المسيرات البارحة، عند أغلب النخب، مطلوبة وعمل مشرف لأصحابه، ولا تتعامل معها السلطات بحساسية مفرطة، وتصبح اليوم تحمل كل المخاطر وتتعامل معها السلطات كمعادلة صفرية يجرّم من يدعو لها ويشارك فيها، وتشكل له ملفات أمنية ويلاحق بعدها، وتبالغ بعض النخب المتزلفة للسلطة في إنكارها والتهوين منها أو التخويف بها.والعجب كل العجب أن كل الأسباب التي خرجنا من أجلها للشارع نبين للعالم مواقفنا تجاهها لا تساوي في شيء الأوضاع المهولة التاريخية التي تحدث لأهلنا في غزة، وإنما الذي تغير أمران: تغوّل الاستبداد في العالم العربي وطأطأة أغلب النخب لرؤوسهم أمامه، خوفا أو طمعا، ولكن هيهات أن يستمر الحال على ما هو عليه، فسيتشكل تيار شعبي يكسر السقوف المفروضة وتظهر أجيال قيادية جديدة ترفع رأسها للمعالي، وستَبِين أساليب متعددة لقهر الاستبداد وكسر غروره، وما رأيناه من بطولات رجال أحرار وشباب أبطال في سفن كسر الحصار وقافلة الصمود، وما نراه من عبقرية الشباب في غلق السفارات المصرية في العديد من دول العالم، وما نلحظه من إصرار أجيال جديدة في فرض إرادتها في الساحات إلا شاهد على ذلك. ولن يكون غدا كاليوم وأمس أبدا. مقولة: “حين تكبر الأمور يكبر لها رجال ويصغر بها آخرون”.