رداءة في المطار.

في كل مرة يجب أن تكون مشكلة في المطار تذكرنا بأننا على مسافة بعيدة من التطور والتحضر، وفي كل مرة أقول: “لِأصبر كغيري من المسافرين ولا داعي للتفاعل!” حتى لا يُقال بأننا نبحث عن السلبيات.

لم أكن في فترة شبابي أثناء أسفاري بهذا الهدوء. كنت دائما أحتجّ عن التأخر الطويل للرحلات، وعن تدهور الخدمات وسوء التعامل. اذكر أنني قدت مسيرة كبيرة للحجاج في مطار جدة، وكنت يومئذ نائباً في البرلمان، احتجاجا على تأخر عدة رحلات ليلا كاملا تم التخلي فيه عن الحجاج تخليا تاما، بلا أكل ولا ماء، ولا مكان للنوم، حتى أخذنا حقوقنا كلها. وفعلت ذات الشيء في رحلة عادية في مطار بدولة أجنبية أخرى، وكثيرا ما كان الناس يطلبون مني أن أتدخل، يحدث أحيانا أن يؤدي الاحتجاج إلى التلاسن مع المسؤولين في المطار أو الخطوط ولكن في  أغلب الأحيان تكون ردود الأفعال من المسؤولين جيدة، إذ أغلب الناس محترمون، ولكن فساد المنظومة هي التي تفسد الناس.

مع التقدم في السن، وبسبب حالة من السأم، وشيء من اليأس في أن تصلح أمور البلد، لم أصبح أتحمس للاحتجاج،  وأصبحت أوطّد نفسي على الصبر، لا سيما أنه لم تصبح لي أي مسؤولية نيابية أو رسمية أو حتى حزبية، فلم أصبح أشعر  بالمسؤولية تجاه غيري لما أراه  أثناء أسفاري، بالرغم من أنني أعلم في قرارة نفسي بأنه شعور شيء  وغير مقبول! ولكن الله غالب، الأمر أصبح هكذا.

ولكن في هذا اليوم بالذات حدث شيء لم أعهده حرّك فيّ الغضب وجعلني أحصي كل المظاهر الخائبة التي عشتها في المطار في نفس الرحلة.

أما الأمر الذي استفزني وأغضبني هذه الصبيحة في المطار فهو تكرار الإعلانات الصوتية بالفرنسية دون  العربية لمدة معتبرة، لم يكن هذا يحدث من قبل، أو ربما لم أكن أنتبه إليه، أو ربما حدث بسبب شخص ما على غير العادة، غضبت غضبا شديدا عن ضياع السيادة وهيبة البلد في مكان يرمز الى السيادة وهو المطار.

لا يتوقف امتعاضي من غلبة اللغة الفرنسية في شوارع عاصمة البلد على لافتات الأغلبية الساحقة من المحلات، وغياب مذهل للغة الوطنية في المحيط، دون أي اهتمام من السلطة الحاكمة ( التي لا تفهم معنى السيادة وهيبة الدولة إلا في الأمور الأمنية والتحكم في أنفاس أصحاب الرأي المخالف)، ولكن أن يكون هذا في المطار فهو لعمري أمر غير مقبول، ولو لوهلة من الزمن، وهذا دون الإشارة الى حصرية اللغة الفرنسية على لسان الموظفين في شركة الطيران الجزائرية حين يتحركون بين المسافرين ينبهونهم للتوجه للركوب وفي حديثهم مع المسافرين أثناء تقديم الطعام في الطائرة، وعن لافتات محلات المطار التي تشعرك وكأنك في فرنسا وليس الجزائر، وأسوء ما في الأمر هو تحول كثير من المسافرين إلى الحديث باللغة الفرنسية، لغة فرنسية رديئة جدا جدا!

أما عن العيوب الأخرى التي صبرت عليها مرات عديدة ولكن اذكرها اليوم بدافع ما أصابني من افتزاز بسبب قهر اللغة الفرنسية لمشاعري فمنها:

  • الوقوف في طابور لم يتحرك أثناء التسجيل لأقول بلا مبالغة بأنني لم أتقدم لساعة كاملة بضع  سنتيمترات، وحين تكدس الناس في الطابور جاء أحدهم يوجّهنا إلى مكتب تسجيل آخر، وكان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك منذ البداية.
  • وكإجراء اعتدت عليه، كان على الشرطي الذي يطبع الجواز أن يوقفني اكثر من المسافرين الآخرين ثم عليه أن يستشير ضابطا أعلى منه قبل الختم، لم يزعجني الانتظار فلم يكن طويلا، ولكن ما يزعجني في كل مرة هو إشعاري  وكأنني شخص خارج القانون دون جريرة اقترفتها طول حياتي بحمد الله، ولا يخفف عني هذا الشعور بالظلم سوى الأدب الجم الذي يتعامل به معي رجال الشرطة، خصوصا المسؤولون،  جزاهم الله خيرا، فالمشكلة ليست فيهم ولكن في المنظومة.
  • وعند وصول وقت دخول الطائرة أخبرونا بأن الرحلة متأخرة لمدة ساعتين، وبعد الساعتين تأخرت ساعة أخرى، ويا ليتهم أعطوا المسافرين شيئا من الإكراميات والماء تطييبا لخواطرهم كما تفعل شركات الطيران في العالم حين يتسببون في التأخر.
  • وحين يطول بك المقام فتقرر أن تتجه لأحد المقاهي من أجل فنجان قهوة تقابلك قارورات الخمر، فتبحث عن مقهى آخر لا يبيع الخمر، معتقدا بأنهم “ربما قد فكروا في الأقليات مثلنا ! فجعلوا لهم مكانا لشرب القهوة لا يباع فيه الخمر” فلا تجد، والغريب في الأمر هو أنني تأملت من بعيد هل هناك من يطلب الخمر من هذه الأماكن فلم يظهر لي أحد يفعل ذلك، مما جعلني أشعر بأنني ربما لست من الأقليات في المطار، والحمد لله، وسألت نفسي: حتى وإن تجاوزوا المحذور الشرعي في بلد مسلم، لماذا إذن يضعون قارورات الخمر، إنه لا يطلبها أحد!
  • حين تزور أماكن الحاجة والوضوء تستغرب كيف يتدهور المكان بسرعة مقارنة بالمطارات الأخرى في العالم ولماذا لا يتم إصلاح ما يُكسر أو يتعطل بسرعة وإتقان، مع الاعتراف بأن التنظيف على قدم وساق والحمد لله.
  • وعندما حان وقت الركوب غيّر الموظف تسجيل بطاقة الركوب رقم مقعدي بالقلم، فبعد أن تحركت لمكتب التسجيل ثلاث ساعات قبل الوقت لآخذ مكانا مناسبا في المقدمة حتى أتجنب الطابور عند الوصول إذا بالموظف يرجعني إلى آخر رقم في مؤخرة الطائرة، والحجة كانت أنهم غيروا الطائرة فتغيرت الأرقام، ولا أدري كيف لم يراعوا تسلسل التسجيل.
  • ولا يفوتني أن أذكر بما هو معتاد كذلك وهو الانتظار الطويل عند تسلم الأمتعة في العودة وهو ما لا أراه في أغلب مطارات الدول الكثيرة التي زرتها بما جعلني أضيّق على نفسي فلا أحمل في أسفاري إلا حقيبة اليد حتى أتجنب الانتظار الطويل.
  • بعد طول انتظار وفوضى تغيير أرقام المقاعد، خاصة أرقام العائلات، وبسبب التعب، وقلق الأطفال، وعدم تشغيل المكيف بدأ المسافرون يرفعون أصواتهم، وتكلمت امرأة حرة أشجع مني تقول: “اتكلموا يا ناس، لاه ساكتين!” فتكلمت امرأة أخرى: “عيطولنا للمسؤول نهدرو معاه” والغريب في الأمر أن كل من احتج نساء، كلهن نساء، لم يحتج أحد من الذكور. حاولت أن أكون رجلا حين غضب موظف الطائرة من تصاعد الاحتجاجات محذرا من تجاوز الحدود فقلت:” لا تغضب، انت بالذات عليك أن تصبر”، بمعنى اديت “زعما” دور “الرجل الحكيم” خلافا لغضب النسوة وتميزا عن سكوت الذكور.  

تمنيت لو بقيت هادئا مستسلما تاركا لحقي في المطالبة بالحقوق وتحسين الأوضاع كما هو حال أغلب الجزائريين، فلا أكتب هذا المقال ولا أحاول محاولة محتشمة تهدئة مضيف الطائرة، ولكن للأسف غلب استفزازي معنويا حالة السكوت المعتادة عن الحقوق المادية، فأرجو أن يسامحني من أزعجته بمقالي هذا! وأرجو أن يساهم هذا المقام في التحسين ولو شيئا قليلا … على كل حال هذا ما يجب أن يفعله التدافع منطقيا حين نكون أسوياء.