فوضى التجارة وأزمة الاستيراد

لم تصبح الأخطاء والأزمات  التي يعرفها عالم التجارة في بلادنا، حالات عابرة متحملة، بل صارت حالات مزمنة دائمة، الخطأ يتلوه الخطأ، والأزمة تتلوها الأزمة، أزمة السيارات، أزمة الحافلات، أزمة قطع غيار السيارات، أزمة زيت المحركات، أزمة العجلات،  أزمة الموانئ، أزمة الرحلات الجوية ، أزمة المواد الطبية، أزمة مواد البناء، أزمة مواد الجراحة العامة وجراحة الأسنان، أزمة المواد الأولية للقطاع الصناعي والفلاحي،  أزمة الحليب، أزمة البطاطا، أزمة البقوليات،  أزمة المواد الطبية ….. وأزمة مستدامة وفوضى عارمة في الاستيراد.

وفي كثير من الأحيان تَصنع هذه الأزمات التي تنشئها السلطات أزمات في المجتمع ثم يحاول المسؤولون إلصاق الأسباب بالمواطنين الذين ضغطت عليهم تلك الأزمات وجعلت بعضهم يقع في المخالفات، وما كان عليهم أن يكونوا على تلك المخالفات لو كان البلد تحكمه الكفاءة والرشد والحكمة. 

فلو تحدثت مثلا عن أزمة الاستيراد أقول  في هذا المقال ما قلته  لمسؤول في الدولة حين كنت رئيسا لحركة حمس. بيّنت له بالحجج العلمية  بأن المنع الموسع للاستيراد لا تقول به أي قاعدة في علم الاقتصاد ولا تنتهجه أي دولة في تجارب الناس.

إن منع الاستيراد لا تنتهجه الدول إلا لوقت محدد في فروع قليلة من فروع الإنتاج من أجل ترقية صناعة منتج من المنتجات أو حماية محصول محدد من محاصيل القطاع الفلاحي، بل إن التوجه الأفضل من هذا المنع المحدود في الحكومات الأكثر رشدا، أنه لا يتم منع الاستيراد ولكن تقوم الدولة بحماية خطتها الإنتاجية بالحوافز التي تمنحها للإنتاج الوطني وبالرسوم التي تفرضها على المواد المستوردة المنافسة للمنتج الوطني المحدد.

إنه لا يعقل البتة أن يُمنع الاستيراد بشكل موسع لمواد صناعية وفلاحية وتكنولوجية وحتى خدمية  لا ينتجها البلد. إن الحاكم الذي يفعل هذا يحرص على استمرار حكمه وليس على استمرار الدولة، يحرص على نفسه ولا يحرص على البلد. إنه يفعل ذلك للمحافظة على الميزان التجاري بمعزل عن أي رؤية أو خطة اقتصادية، ليحافظ على السيولة النقدية وليس على الاقتصاد الحقيقي، ليحافظ على احتياطي الصرف حتى لا يقع في التوقف عن الدفع في فترة حكمه.. دون اكتراث حقيقي بالرؤى والخطط والعمليات الاقتصادية الجادة التي تضمن توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات على أساس تصدير الإنتاج الوطني من الصناعة والفلاحة والخدمات،  وليس بالاعتماد بنسبة عالية جدا على تصدير المحروقات، التي توفر سيولة نقدية بالعملة الصعبة تتأثر تأثرا كبيرا بتقلبات السوق الطاقوية. 

ولا يمكن أن تنطلي على متوسط الثقافة في المجال الاقتصادي أن المقصود من التوسع في منع الاستيراد  هو حماية البلد من المديونية. لا شك أن البلد المدين ضعيف، ولكن سبب الضعف ليس المديونية ولكن العجز عن دفع الديون، إذ الدول ذات الاقتصاد المنتج تتحمل هامشا من المديونية الداخلية أو الخارجية لتحريك الإنتاج وصناعة الثروة، فما الديون عندئذ إلا رأس مال من أجل الاستثمار ولصالح ميزانيات التجهيز ، كمثل ذاك التاجر الناجح الذي يستلف من أجل الربح ثم رد الديون من أرباحه. أما إن كانت المديونية من أجل ميزانية التسيير،  كدفع أجور العمال ونحوه، فتلك هي المديونية القاتلة المدمرة للسيادة التي ينتهجها الحكام الفاشلون الفاسدون.

إن المنع الموسع للاستيراد، في غياب السلع في الأسواق يصنع أزمات متتالية وآفات متعاظمة، وأول هذه الأزمات الندرة، والندرة هي أم الآفات الاقتصادية الأخرى. ومن ذلك التضخم وارتفاع الأسعار، إذ السلعة الناقصة المطلوبة في السوق يرتفع سعرها ويعجز أغلب المستهلكين بعد مدة عن اقتنائها، وإذا انتهجت السلطات سياسة طبع النقود المزمنة الرعناء  من أجل الاستهلاك  لا يصبح ثمة قيد يوقف التضخم حتى تصبح العملة بعد فترة لا قيمة لها. ومما تصنعه الندرة كذلك التهريب، إذ التجارة كلها مغامرة، فيستغل التجار الفرصة ويغامرون لتوفير السلع عبر  شبكات التهريب، فإن طال أمد منع الاستيراد دون تطور  إنتاج السلع الممنوعة يصبح التهريب قاعدة التعامل فتضطر السلطات للتعامل معها ومحاولة تقنينها، وللتهرب من الرقابة على بيع المنتوجات محظورة الاستيراد يتوسع القطاع الموازي وينتج عنه التهرب الجبائي.

ولتوفير السلع للزبائن أو لرفع قيمتها تتطور المضاربة وتتوسع. ومن آثار منع الاستيراد الموسع انتشار الفساد وتهيكله، إذا لا تهريب بدون فساد، ولا تهرب جبائي بدون فساد، ولا مضاربة بدون فساد،  وإذا تم انتهاج سياسة رخص الاستيراد ووضعها في يد جهة محددة، تعاظم الفساد وأدى إلى صناعة عصابات ومافيا داخل الدولة تصبح مع تعاظمها مدمرة للاقتصاد الوطني، ومفسدة للحياة السياسية والاجتماعية، ومهلكة للقيم والأخلاق.

وحين تكثر هذه الآفات وتتعاظم يُحصَّنُ فيها كبار الفاسدين والمهربين والمضاربين ممن يسيّرون أمورهم بعلاقاتهم وشراكاتهم مع الموظفين الكبار  في الدولة في المستويات العليا، أو ممن يشرون رجال الأمن والقضاء ومدراء المصالح وأجهزة الرقابة في المستويات الدنيا.

إن الفوضى التي تعيشها الجزائر في مجال التجارة صنعتها الدولة ولا ضحايا لها سوى المواطنين، ولإظهار نشاط المصالح المختصة أو لابتزاز التجار  الذين يعملون في البيئة السيئة التي صنعتها الدولة يتم بين الحين والحين ضرب بعض صغار المهربين والـمضاربين والمتهربين جبائيا، والمتورطين في الفساد الصغير.

لقد رأينا فعلا كيف أن أناسا محترمين حكم عليهم بأحكام غليظة جدا من أجل عمليات تجارية خاطئة لا تستحق تلك الأحكام، وما كان لها أن تكون لو لا الأزمة التي صنعها المسؤولون، ومن أجل تصرفات إنما جعلتها البيئة الفاسدة مدانة، ولو كنا في بيئة مفتوحة سليمة لكانت تصرفات عادية، وبعض هؤلاء الذين دمرت حياتهم أصحاب شهادات عليا ومقامات اجتماعية مرموقة لا يوجد في سجلهم أي مخالفة قانونية أو أخلاقية  تذكر، وإنما هم ضحية بيئة صنعها غياب الرشد في الحكم والقرارات الخاطئة في الحكم.

إن الأبداع الذي كان مطلوبا من الحكام هو النجاح في التنمية الاقتصادية وتحقيق اقتصاد منتج يوفر السلع والخدمات التي تستطيع أن تنافس منتجات الدول الأخرى، بل تقتحم أسواقهم، وليس عرقلة الإنتاج بمنع استيراد المواد التي تحتاجها الصناعة والفلاحة في بلادنا، وليس بإرهاق المواطن بالندرة وغلاء الأسعار بالتوسع في منع الاستيراد، وليس خلق الفوضى والتهريب والمضاربة والفساد، وليس بظلم التجار بوضعهم في حالة خسران مؤكد تضطرهم لمخالفة القواعد الخاطئة المفروضة.