ملتقى مراكز التفكير في الشرق الأوسط
أنقرة : 15 – 17 سبتمبر 2015
العلاقات التركية المغاربية
د. عبد الرزاق مقري
مدير مركز الصيرة للبحوث
والاستشارات والخدمات التعلمية
السيد الرئيس،
السادة الحضور مسؤولو مراكز الدراسات في الشرق الأوسط،
تحية طيبة السلام عليكم ورحمة الله،
حينما نريد أن نتحدث عن العلاقات التركية المغاربية ترتسم أمام أعيننا ملامح متعددة لتلك العلاقات يمتزج فيها البعد التاريخي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكلما استطعنا أن نقرن بين هذه الأبعاد المتنوعة بكفاءة واقتدار استطعنا أن نبني علاقات متينة ودائمة ومثمرة للجميع.
أما عن البعد التاريخي فقد اقترن مصير الأتراك بالمغاربة وبشكل خاص بالجزائر لمدة ثلاثة قرون، كانت البداية مشرقة رسمتها روح النجدة الإسلامية حينما استدعى الجزائريون أسدين من أسود البحار الأتراك هما عروج وخير الدين بربروس وذلك حينما بلغت التهديدات الأوربية وخاصة الإسبانية منها مبلغا خطيرا بعد أن تمكن الإسبان من إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس سنة 1492م، فحاولوا مواصلة توسعهم لبلاد المغرب فاحتلوا العديد من المدن الساحلية بين سنوات 1505 و 1510، وكادوا أن يدخلوا مدينة الجزائر ذاتها. وحينما تحقق التحالف الإسلامي التركي العربي الأمازيعي على أرض الجزائر تمدد إلى أغلب الأراضي المغاربية وتشكلت دولة جزائرية قوية لها استقلالية كبيرة على الباب العالي أصبحت هي سيدة البحر الأبيض المتوسط فرضت إرادتها على كل الدول الأوربية لصالحها ولصالح الخلافة العثمانية، حتى أصبح كسر هذه الدولة القوية هو هدف مشترك للأوربيين اتفقوا عليه في مؤتمر إكس لاشابيل سنة 1819. وكانت نهاية هذا الوجود التاريخي المشترك بين الجزائريين والأتراك في هبة أخرى للنجدة الإسلامية حينما تحرك الأسطول الجزائري لدعم الأسطول التركي في وجه التحالف الأوربي في معركة نافرين سنة 1872 فوقعت الهزيمة وانكسر الأسطول الجزائري وأصبحت السواحل الجزائرية منكشفة مما ساعد الفرنسيين على غزو الجزائر سنة 1830 وبقي فيها 130 بعد ذلك سنة.
وأما عن البعد الثقافي والاجتماعي فقد ترك الاقتران التركي المغاربي لمدة ثلاثة قرون أثارا اجتماعية وثقافية عميقة، حيث يوجد في المغرب العربي أعداد كبيرة من السكان أصولهم تركية أو أصول مختلطة ويسمى هؤلاء بالكراغلة، كما أن التشابه المرفولوجي بارز جدا بين شرائح مهمة لدى الشعبين، حتى أنك حينما تتجول في تركيا أو الجزائر تشد انتباهَك الملامح المتقاربة إلى حد كبير، علاوة على وجود المفردات التركية بكثرة في اللهجة المغاربية، والأسماء تركية على مستوى العديد من العائلات الجزائرية، مثل كلمة شادي، طورشي، شاربات، كواغط، رايس إلخ، أو مثل إسم خوجة، صابونجي، الباي، بايلك، دواجي، باش جراح إلخ، وبخصوص الآثار العمرانية فأبرز شاهد لها هي أحياء القصبة، وهي أحياء تركية عريقة وعتيقة تسمى بهذا الإسم في العديد من مدن المغرب العربي. إضافة إلى العديد من الأثار العمرانية التركية الجميلة الأخرى التي يقصدها السواح مثل “دار السلطان” و”قصر لالا خداوج” و”قلعة الجزائر” و”جنان الحاكم” و”برج الأغا” و” السجن الأحمر” وغيرها. وفي المراحل المعاصرة استطاعت تركيا أن تجذب لها أعدادا هائلة من السواح المغاربة وما يتبعها من حركة تجارية كبيرة مما حرك الملاحة البحرية ونشطها بين تركيا والعديد من المدن المغاربية ويتجاوز معدل عدد الرحلات الجوية بيت تركيا والجزائر وحدها عشر رحلات يوميا حاليا ويأتي هذا الحجم من الرحلات في المرتبة الثانية بعد عدد الرحلات بين الجزائر وباريس. ثم جاءت الدرامة التركية فأدخلت كثيرا من ملامح الثقافة التركية القديمة والحديثة في الأوساط المغاربية بإجابياتها وسلبياتها.
وأما عن البعد السياسي فقد كانت السياسة الخارجية التركية السابقة وتماهيها ضمن السياسات الغربية قبل مجيء حكومة العدالة والتنمية يمثل سببا للتباعد السياسي بينها وبين بعض الدول المغاربية، غير أن الواقع السياسي التركي الجديد حمل مفارقة غريبة في الحكم عليها من قبل الشعوب والحكام، فقد مثل هذا الواقع الجديد مصدر إلهام واعتزاز للشعوب العربية المغاربية المسلمة، ولكنه مثل مصدر ريبة وحرج بالنسبة للحكام وذلك لسببين اثنين، أولهما أنه يمثل حالة نجاح تحرج سياسات الفشل للحكومات المغاربية، وثانيها أنها تعبر عن دعم معنوي كبير للتيارات الإسلامية، المنافس الأكبر لها، وذلك رغم أن الحكومة التركية تعلن صراحة تبنيها للعلمانية. غير أن برغماتية الحكومة التركية وتعاملها السلس مع الحكومات، بل وقدرتها على نسج صداقات وطيدة مع قيادات دكتاتورية قبل الربيع العربي، على رأسها معمر القذافي هون من ذلك الحذر وخفف تلك المخاوف.
وأما عن البعد الاقتصادي والمبادلات التجارية فلم تكن في المستوى المطلوب من قبل، رغم التاريخ المشترك والملامح الاجتماعية والثقافية المشتركة المشار إليها، وكذلك رغم الفرص الكبيرة الموجودة، حيث أن الغرب هو أكثر من بقي يستفيد من خيرات المنطقة عبر عقود طويلة، بذهنية أنانية بعيدا عن قاعدة “الكل رابح” وتحقيق المنافع المشتركة. غير أن وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا غير كثيرا من المعطيات حيث اتجه بجدية كبيرة لنسج واقعا جديدا في العلاقات البينية مع دول المغرب العربي حقق كثيرا من الامتيازات للطرفين.
حينما قررت تركيا الانفتاح على العالم وبناء جسور الصداقة مع الجميع، وبعد أن توجهت للتركيز على العلاقات العربية التركية ومع الدول الشرقية كفضاء طبيعي بديل، أو على الأقل مكمل، للعلاقات مع النادي الأوربي المسيحي الذي يصر على غلق أبوابه في وجه تركيا وجدت حكومة السيد أردوغان فضاءات اقتصادية واسعة أمامها في المغرب العربي تعاملت معها بمهارة كبيرة قبل الربيع العربي بوساطة البراغماتية السياسية التي أشرنا لها.
عرفت العلاقات الاقتصادية التركية المغاربية تطورا كبيرا ضمن هذه الأجواء حيث تشكلت لجان الصداقة البرلمانية ومنتديات الأعمال واللجان الحكومية المشتركة وزار السيد طيب رجب أردوغان دول المنطقة أكثر من مرة وأعلن إلغاء التأشيرة وأشرف بنفسه على إطلاق مشاريع اقتصادية كبرى، غير أن اندلاع أحداث الربيع العربي التي لم تكن تركيا تتوقعها أربكت السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية وخسرت بعض مصالحها خصوصا في ليبيا، وتعمق الريب بشأن دورها الجديد المساند للشعوب لدى العديد من السياسيين، بل أدى تعمق أزمة الربيع العربي إلى انتقال الحذر إلى كثير من النخب في المجتمع المدني. وبعد تجاوز فترة الإرباك عاودت الحكومة التركية لأخذ المبادرة في اتجاه المغرب العربي، لا سيما أن هذه المنطقة من العالم العربي بقيت مستقرة تتيح فرصا أفضل للتعاون الاقتصادي، وتوج هذا الاهتمام بزيارة أردوغان سنة 2013 لتونس والجزائر والمغرب ومما تم إنجازه قبل الربيع العربي ثم بعده ما يلي:
ـ معاهدة الصداقة والتعاون مع الجزائر سنة 2006 التي تطور ضمنها نسبيا حجم المبادلات التركية بين البلدين إلى 5 مليار دولار وحجم الاستثمارات التركية إلى 7 مليار دولار وتحتل تركيا المرتبة السادسة بين زبائن الجزائر خصوصا في مجال المحروقات ضمن اتفاقية استمرت إلى غاية 2014 والمرتبة السابعة بين الممونين، وتعمل أكثر من 200 مؤسسة تركية في الجزائر استثمرت 150 مليون دولار وأنشات 1000 منصب عمل. وقد أعلن أردوغان في زيارته الأخيرة بأنه يعمل على أن يتضاعف حجم المبادلات ليصل إلى 10 مليار دولار.
ـ اتفاقيات التجارة الحرة مع تونس والمغرب وبداية المفاوضات مع ليبيا قبيل الربيع العربي وقد بلغ حجم المبادلات مع ليبيا قبل الربيع العربي إلى 10 مليار دولار.
ـ قامت وكالة التعاون الدولي التركية المعروفة باسم (TIKA) بعدد من مشاريع التنمية في دول الساحل الأفريقي منها موريطانيا.
ـ وفي المجمل بلغ حجم الصادرات التركية إلى المنطقة حوالي 25 بالمائة وهي نسبة أكبر من مجمل الصادرات العربية من المشرق العربي.
لا يسمح الوقت المتاح أن أتطرق للفوائد الكبيرة للتعاون التركي المغاربي والفرص المتاحة لجميع الأطراف فهي معلومة وصدرت بشأنها دراسات كبيرة، وسأكتفي في الختام بتبين، من وجهة نظري، بعض العقبات التي تقف في وجه التعاون التركي المغاربي وأقدم بعده بعض التوصيات على ضوء ذلك:
العوائق:
1 ـ المنافسة الشرسة وغير العادلة التي يفرضها الغرب في المنطقة من خلال لوبياته وأدوات نفوذه ممثلا بأمريكا في مجال الطاقة وأوربا، وبالأساس فرنسا، في المجالات التجارية والمالية، علما بأن الغرب يعتبر المنطقة مجال نفوذ في مواجهة تعاظم دور القوى الصاعدة وعلى رأسها الصين والهند وقد تدخل تركيا ضمن هذا البعد.
2 ـ حذر بعض النخب ووسائل الإعلام حيال الدور التركي ضمن تحولات الربيع العربي.
3 ـ أثر تيارات الثورات المضادة في العالم العربي والمساندين لها في المغرب العربي الذي يعمل على شيطنة الدور التركي والتشكيك في طموحاته.
4 ـ مشكل اللغة مما يعيق التواصل ويقلص حجم التواصل والتعاون.
5 ـ تعثر الطموح التركي في المنطقة بسبب عدم الاستقرار في ليبيا، وحجم تيار الثورة المضادة في تونس، وحجم البيروقراطية والفساد في الجزائر.
6 ـ تردد كثير من رجال الأعمال في توسيع وتنويع مجالات الاستثمار في الجزائر وعدم تقديرهم للفرص الكبيرة المتاحة وعدم استعدادهم لتحمل هوامش الأخطار المطلوبة للاستفادة من الفرص.
7 ـ ضعف الاهتمام التركي بالموروث الثقافي والتاريخي المشترك وضعف استغلاله لتعميق الوشائج بين الشعبين وتحقيق التعاون المطلوب.
8 ـ ضعف اهتمام الدبلوماسية التركية الرسمية والشعبية ومنها الحزبية بالنسبة للحزب الحاكم الحالي بتطوير علاقاته الحزبية مع الأحزاب السياسية الأساسية في المنطقة خلافا للدبلوماسية الغربية التي رغم علاقاتها الوطيدة مع الحكومات فإنها لا تفرط أبدا في الحوار مع الأحزاب المعارضة الأساسية والمجتمع المدني احتياطا للتحولات المستقبلية.
التوصيات:
1 ـ بناء قاعدة اجتماعية وثقافية تؤدي إلى تحسين العلاقات السياسية وتمتين وتطوير التعاون الاقتصادي ويكون ذلك بالتوجه إلى بناء الجسور على مستوى المجتمع المدني المشترك في مختلف المجالات الثقافية والفنية والرياضية والدينية وغير ذلك.
2 ـ قيام الحكومة التركية بفتح مراكز ثقافية تركية في المدن الكبرى في المغرب العربي للتعريف الدائم والمنهجي بالثقافة والإنجازات الحضارية التركية القديمة والحديثة، على أن تقوم الحكومات المغاربية بعمل مماثل في مختلف المدن التركية.
3 ـ تسهيل تعلم اللغة التركية في بلدان المغرب العربي، وتوفير فرص تعلم اللغة العربية بالنسبة للأتراك.
4 ـ تعميق مجال البحث والدراسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية لتثمين الميراث المشترك والبحث عن الوسائل المناسبة لتعميق التعاون عل أسس علمية.
4 ـ التركيز على التعاون بين الجامعات التركية والجامعات المغاربية وتكثيف البعثات الطلابية وخصوصا على مستوى البحث العلمي.
5 ـ ضرورة اهتمام تركيا بتسويق نفسها والتعريف بنجاحاتها وشرح سياساتها من خلال وسائل الإعلام وأنشطة المجتمع المدني.
6 ـ تطوير الدبلوماسية الشعبية بين تركيا ودول المغرب العربي.
7 ـ المساعدة على المحافظة على استقرار المنطقة من خلال المساهمة في حل الأزمة في ليبيا وحسن إدارة المرحلة الانتقالية في تونس وبعث التنمية في الجزائر والمغرب وموريطانيا، علما بأن الخطر الكبير يتهدد المنطقة هو الانهيارات الاقتصادية، خصوصا في الجزائر التي تعرف تراجعا كبيرا في ميزانها التجاري وحتى في ميزان المدفوعات بسبب تراجع إنتاج النفط والغاز وارتفاع استهلاكهما الداخلي وانهيار أسعارهما مع ارتفاع خطير للواردات بسبب التبعية التامة في تمويل الأسواق واحتياجات الأسر والمؤسسات للمنتجات الخارجية. إن هذه الحالة تمثل فرصة كبيرة لتركيا إذا سارعت قبل غيرها في تنويع الاقتصاد الجزائري وتحملت هوامش المخاطرة المحسوبة كما أنها يمكن أن تُحجّم صادراتها وتُعطل استثماراتها بسبب انقطاعات السيولة المتوقعة وتراجع القدرة الشرائية واهتزاز الأوضاع الاجتماعية وربما الأمنية.